مستقبل الهويات الثقافية المحلية على ضوء مجتمع الإعلام والعولمة
مستقبل الهويات الثقافية المحلية على ضوء مجتمع الإعلام والعولمة"
يحيى اليحياوي
أبدأ أولا بتقديم الشكر للأخوة القائمين على جمعية زعير للتنمية وكذا الأخوة الحاضرين لتشريفهم لي في محاضرة قد تبدو من عنوانها من شأن المتخصصين أو لنقل تجاوزا المتتبعين.
"مستقبل الهويات الثقافية المحلية على ضوء مجتمع الإعلام والعولمة" هو أكثر من أن يكون موضوع محاضرة أو محاضرات، هو مشروع بحث ومشروع بحث جماعي على اعتبار أن اليوم لم يعد كل واحد يشتغل لوحده بل في مجموعات متكاملة.
ثم إن هذا الموضوع هو من تلك التي من الصعب أن نقاربه مقاربة منهجية دقيقة وموضوعية كون مكوناته (مجتمع الإعلام، العولمة، الهويات، المستقبل...الخ) لم تستقر بعد. بمعنى أنه من الضروري أن تستقر هذه المكونات وأن يضع الباحث بينه وبينها مسافة محددة حتى يستطيع ضبطها فرادى أو في جدلية بعضها البعض.
هذين الاعتبارين يجعلان من المجازفة بمكان الاقتراب من هذه المسألة مقاربة عميقة وصحيحة، لكن ما دام قد طلب مني أن أتحدث فيها، فسأحاول أن أطرح معكم هنا الإشكالية ليس إلا علنا نفكك العناصر والدينامية التي تحكمها.
ماذا نعني أولا بالعولمة التي كثر الحديث فيها وبها ومن حولها وسقطت في الميدان العام حتى قبل أن تستقر حمولتها وتصبح مادة للتداول المفاهيمي بعدما تكون قد أصبحت وحدة مفاهيمية.
أعتقد على هذا الأساس أنها ليست مفهوما، هي مصطلح، هي ظاهرة، هي عملية، هي صيرورة، هي كل هذا لكنها ليست مفهوما.
وهذا سر رواجها من لدن العام والخاص، العارف وقليل المعرفة، المثقف ومتوسط الثقافة وقس على ذلك. هذه نقطة أولى.
النقطة الثانية هو أن سر رواج الكلمة جاء أيضا من قابليتها لأن تتأسس على الإسقاطات: كأن نسقطها على الثقافة وعلى السياسة وعلى الإيديولوجيا وعلى طرق التدبير وعلى الاستراتيجيات والصراعات وما إلى ذلك.
بمعنى أن كل من له اختصاص في حقل معرفي ما من "مصلحته" أن يتحدث بخطاب ومصطلح العولمة وإلا فهو خارج العصر، خارج منطق العصر وهكذا.
النقطة الثالثة: قوة المصطلح على التوظيف. فهو مادة للخطاب التبريري (يجب أن نتأقلم لأن العولمة تفرض ذلك، يجب أن نتكيف...الخ) أو التجنيدي (يجب أن نعيد هيكلة مؤسساتنا كي نواجه العولمة...الخ).
هذه الأسباب هي التي جعلت من العولمة كل شيء ولا شيء في آن واحد. جعلتها موضع المزايدات الإيديولوجية بين من يتبناها وبين من يرفضها أو ما بينهما، وساهمت إلى حد كبير في تمييع مضمونها وتحريفه.
لو أردت أن أحسم الأمر، ولو مؤقتا، في الظاهرة، ظاهرة العولمة، بارتباط مع التحفظات السابقة لقلت: ظاهرة العولمة هي، في محدداتها الكبرى، في أصولها التاريخية، في جوهر طبيعتها، في أدوات اشتغالها وفي فضاء اشتغالها أيضا، هي ظاهرة اقتصادية بامتياز: فاعلوها اقتصاديون، منبعها التاريخي اقتصادي، صيرورتها اقتصادية، أدواتها اقتصادية، أهدافها ووسائلها اقتصادية...الخ.
ولبلوغ ذلك فهي توظف كل ما هو متاح لها من قوة عسكرية، من قوة إعلامية، من ممارسات سياسية وجيوسياسية ومن رسائل نتلقاها نحن كثقافة في حين هي لا تعدو كونها معلومات وأدوات رمزية لتعميق العولمة.
هذه نقطة أساسية يجب الانتباه إليها.
ثم يجب أن نميز ما بين العولمة والتدويل وتعدد الجنسية والشوملة:
+ التدويل هو تداخل لتيارات السلع والخدمات والمعارف والرساميل والمواد الأولية والوسيطة وغيرها بين الدول. والعولمة على هذا الأساس ليست جديدة.
+ تعدد الجنسية هو الظاهرة التي في ظلها تمكنت الشركات الكبرى، متعددة الجنسيات، من توسيع نشاطاتها التجارية والمالية والاقتصادية إلى كل بقاع العالم. لو اعتبرنا تعدد الجنسية هو عولمة لقلنا إنها ليست جديدة ولا حديثة العهد.
لكن لو كان لنا أن نعتبر أن الظاهرة جديدة وحديثة العهد، يجب أن تتوفر أربعة شروط هي التي من شأنها أن تحدد في نظري ما هي العولمة:
°- أولا: العولمة هي العملية التي من خلالها تنتج السلع والخدمات وتقيم وتوزع وتستهلك انطلاقا من هياكل تنظيم وإنتاج (مادية ولامادية) منظمة وفق قاعدة عالمية. هذا الشرط متوفر لأن الشركة أصبحت ذات تنظيم عالمي.
°- ثانيا: أن هذه السلع والخدمات تنتج وتوزع من أجل أسواق عالمية منظمة (أو في طريقها إلى ذلك...من لدن منظمة التجارة العالمية مثلا) وفق مقاييس ومعايير عالمية. بمعنى أن السلع والخدمات تخضع في إنتاجها وتقييمها وترويجها لمنطق سوق واحد عالمي لا لأسواق محددة جغرافيا.
°- ثالثا: هذه السلع والخدمات والرساميل والمعلومات والرموز تنتج وتقيم وتوزع من لدن مؤسسات تشتغل على قاعدة عالمية، وفق مقاييس عالمية وأيضا وفق استراتيجية عالمية،استراتيجية إنتاج واستهلاك عالمية:بمعنى أن الاستراتيجية تحدد وفق منظور عالمي لا قطري أو إقليمي أو بالأحرى محلي.
°- رابعا: أن هياكل التنظيم (لهذه الشركات والمؤسسات الإنتاجية) لا تخضع، في تحديد استراتيجيتها وفضاء اشتغالها وتصورها للفعل الاقتصادي، لأي مرجعية وطنية ولكن لمرجعية فوق وطنية يصعب تحديد إطارها القانوني والاقتصادي والتجاري والتكنولوجي بسبب التداخلات الكثيفة والتحالفات والاندماجات القطاعية...الخ.
هذه المعطيات الأربعة هي التي تحدد في تصوري ما هي العولمة وهل هي جديدة أم قديمة وهل لها حقا ارتباط بالسياسة أو بالإيديولوجيا أو بالثقافة أو بالهوية أو بغيرها.
ماذا نلاحظ بصرف النظر عن التحديد والماهية؟
نلاحظ أن هذه المسلسلات الثلاثة تصب مجتمعة في إفراز ثلاثة معطيات أخرى:
- تراجع النظام الوطني كمستوى استراتيجي ومركزي في تحديد السياسات الكبرى وضبط الاختيارات الأساسية. ماذا أعني؟
أعني أن الدولة-الأمة لم تعد هي مركز الاختيارات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والثقافية: الليبرالية والخوصصة واللاتقنين والتحرير حطمت دور الدولة-المستثمر، الدولة-المشغل، الدولة-المنتج، الدولة-الحامي...الخ. بالتالي فما دامت لا تقوم بهذا فإن الذي يقوم بها هو الذي يفرض الاختيارات... والدولة إما تساعده بمعونات (البحث والتطوير، البنى التحتية...الخ) أو بدبلوماسيتها...بالتالي فهي تابع وليس متبوعا.
- الشركات الكبرى (40000) وفروعها (170000) والمؤسسات الدولية ومراكز الأبحاث ومؤسسات التفكير هي التي أصبحت تحدد مضامين الاختيارات الاقتصادية والتكنولوجية وغيرها على مستوى الممارسة وعلى مستوى الخطاب والرمز...تتحكم في الدولة، في السوق ، في الفكر وفي النخب الحاكمة والمثقفة. من هنا أطروحة الفكر الواحد واقتصاد السوق الواحد والليبرالية الكونية التي ستتحول إلى شوملة عندما ينصهر كل هذا في ثقافة عالمية.
من يروج لكل هذا، إلى جانب هذه المؤسسات، من يسرع رواج العولمة ممارسة وخطابا: الإعلام وتكنولوجيا الاتصالات والمعلوميات ووسائل النشر.
ماذا نلاحظ على هذا المستوى؟
- نلاحظ أولا طفرة تكنولوجية عميقة طالت كل المنظومات المرتبة على شكل شبكي: البيولوجيا، العلوم الدقيقة، السكك الحديدية، الطيران وكذلك تكنولوجيا الإعلام والاتصال.
طفرة تكنولوجيا الإعلام والاتصال جاءت، على المستوى التقني، من تظافر مجموعة عوامل:
+ الرقمنة: كل المعلومات والمعارف أصبحت بتات رقمية من 0 و 1 عوض ذبذبات تشابهية. بمعنى أن كل المعلومات (صوت، صورة، معطى...الخ) أصبح بالإمكان تحويلها إلى بتات وإرسالها.
وهي طفرة جاءت بها ثورة الإلكترونيات الدقيقة.
+ تقنيات الضغط: تضغط المعلومات، تحولها إلى رزم حتى لا تأخذ مساحة كبيرة في ذاكرة الحاسوب ويمكن بالتالي إرسالها في حزم كبيرة.
+ وصول السعة العالية: التي مكنتها الألياف البصرية، بمعنى أن لفا صغيرا كالشعرة بإمكانه تمرير ما كان يمرر من خلال 33 طنا من كوابل النحاس.
ماذا أعطتنا هذه الطفرة؟
°- أعطتنا تداخل قطاعات ثلاثة كانت متنافرة فيما بينها ومهنها مستقلة...الخ. اليوم، جهاز تحويل الاتصالات أصبح معلوماتيا، التلفزة أصبحت تعمل بالتقنيات الرقمية المعلوماتية وبالأقمار الصناعية...الخ بالتالي فمن الصعب تحديد ما هو معلوماتي مما هو اتصالاتي مما هو سمعي- بصري مما هو نشر إلكتروني:تكنولوجيا الإعلام والاتصال أصبحت تتداخل لحد التماهي وتمييع الحدود.
°- وأعطتنا الطرق السيارة للإعلام والاتصال التي يعتبر الانترنيت جيلها الأول.
ماذا نعني بهذه الطرق؟
هي شبكات اتصالات عالية السعة تنتقل المعلومات بها على شكل بتات بعدما تكون قد ضغطت حتى يصبح بالإمكان إرسالها: تضغط في البداية ثم تمر عبر شبكات واسعة وعند الوصول تحول إلى صورتها الأولى مع نسبة للتفاعلية كبيرة بين المرسل والمرسل إليه.
لماذا الحديث هنا عن طرق الإعلام السيارة؟
لأنها هي القاعدة المادية التي من خلالها وعبرها سيتكرس ما يسمى بمجتمع الإعلام المستقبلي. أي أن هذا المجتمع الشبكي الذي سيصبح تداول المعلومات والمعارف و"الثقافات" والرموز يتم عبر شبكات تفاعلية موجهة للبحث العلمي، للمستشفيات، للمدارس، للجماعات المحلية، للإدارة المركزية، لممارسة الديموقراطية...الخ.
بمعنى أن المجتمع المزمع بناؤه لن يكون مجتمع مادة وسلع بقدر ما سيصبح النشاط الإعلامي والمعلوماتي والمعرفي هو النشاط الأساسي على عكس ما كان سائدا من ذي قبل.
لو ربطنا هذا البعد التقني ببعده الاقتصادي سنحال مباشرة على العولمة فنلاحظ أن:
°- العولمة تزامنت وانفجار ثورة المعلومات. كلاهما برز بداية الثمانينات،
°- العولمة تدفع باتجاه اتساع هذه الثورة: مايكروسوفت، آ ي ب م و أ ت ت هم فاعلو العولمة وفاعلو مجتمع الإعلام
°- وثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال تدفع بحدود العولمة لتشمل كل بقاع الأرض لتصبح شوملة، بالتالي فهما معا يلتقيان في أكثر من موضع: في دفاعهم عن الليبرالية الجديدة (الخوصصة والتحرير وغيرها)، في دفعهم بالفكر الواحد (المرونة، التكيف، الانخراط...الخ) وفي مطالبتهم بتكريس منطق اقتصاد السوق، الاتصال-العالم ومجتمع السوق.
هما يدفعان معا بضرورة تغيير المرجعيات وتغيير التمثلات، تمثلات الدول والشعوب، الجماعات والأفراد، المدن والجهات، الثقافات والهويات.
في هذه النقطة بالذات يأتي التساؤل: إلى أي حد يمكن القول بأن العولمة ومجتمع الإعلام سيطالان الثقافات الوطنية وبالتالي المحلية وعلى أي مستوى؟
هنا أيضا يطرح نفس التحفظ: كيف لنا أن نقيم إشكالات لم تستقر بعد حتى في تحديدها فما أدراك بتقييم آثارها وتبعاتها وما قد يترتب عنها؟
لهذا الاعتبار سأختصر القول هنا في طرح بعض عناصر النقاش الأولية التي يمكن اختزالها في خمس قضايا تتراءى لي كبرى:
- القضية الأولى: العولمة ومجتمع الإعلام تدفعان معا باتجاه تأسيس " ثقافة كونية" (على غرار السوق الكوني والاتصال الكوني ونظام الديموقراطية الليبرالية الكوني) وفق منطق الغلبة للأقوى...اقتصاديا وماليا وعسكريا وإعلاميا.
هذه مسلمة موضوعية حتى وإن كانت لا تخلو في تبعاتها من مزايدات كلامية: الثقافة الكونية (ذات المرجعية الغربية، الليبرالية البرلمانية واليهودية-المسيحية) هي وسيلة لا هدفا في حد ذاتها...هدفها مجتمع استهلاكي عالمي أو ما يسمى بمجتمع السوق الكوني.
بالتالي فكل الخصوصيات الثقافية والدينية واللغوية والإثنية والطائفية هي، في نظر هذا التصور، عائق يجب تحييده وإخضاعه لآلة السوق والاستهلاك ودورة رأس المال.
هذا معطى نلاحظه يوميا ببعض الدول المتقدمة، بمعظم دول العالم الثالث وببلادنا دون أدنى شك.
- القضية الثانية: هيمنة الفكر الواحد على كل ما سواه من منظومات أفكار، ليس لأنه مالك الحقيقة المثلى ولكن لأنه يملك الوسيلة لترويجها وفرضها على باقي الثقافات والهويات والخصوصيات. ولنا أن نلاحظ ما تنتجه مراكز الأبحاث الغربية من دراسات مستقبلية وغيرها وما نقوم به نحن إزاء هذه الظواهر من مواقف رد الفعل لا الفعل في حد ذاته كما كان الحال مع القنوات الفضائية أو الانترنيت وغيرها.
- القضية الثالثة وعلى النقيض من ذلك هو أننا نلاحظ ما يسمى ب"انتقام الفضاء"، بمعنى أن المحلي اليوم اصبح يتجاوز الوطني ليصل إلى الفضاء المعولم أو العالمي: مدن العالم بدأت تشتغل فيما بينها، جهات العالم تتعاون فيما بينها...الخ.
ثم هناك بزوغ ما يسمى ب" قوة الضمير العالمي" إزاء قضايا الإنسانية الكبرى (سياتل، دافوس، تكسير مطاعم الماكدونالد....الخ).
هناك انتفاضة ضد مد العولمة ومنظميها من سياسيين وأقطاب إعلامية ومفكرين وغيرهم.
الهويات الثقافية المحلية أصبحت تدفع بطرح المحلي- العالمي وبدأت تطالب بضرورة إشراكها في اتخاذ القرارات التي تحدد الحاضر وترهن المستقبل.
- القضية الرابعة هو أن العولمة ومجتمع الإعلام أسهما إلى حد كبير في تكريس نعرات التطرف ذو البعد الديني واللغوي والإثني والطائفي لدرجة يمكن الاصطلاح عليه في دول العالم ب" انفجار الهويات"، ولنا في إفريقيا ويوغوسلافيا وغيرها نماذج من ذلك حيث الحروب على خلفية عرقية أو طائفية أو لغوية أو غيرها.
هذه الاعتبارات أصبحت وسيلة لتحصين الذات ومواجهة الآخر وستزداد مع المستقبل.
- القضية الخامسة هو أن العولمة ومجتمع الإعلام قد يخدمان الهويات الثقافية المحلية وقد ينجحا في تكسيرها (إذا لم تكن لها المناعة الكافية)، لكني أزعم أن مستقبل الهويات الثقافية (وطنية كانت أم محلية) على ضوء مجتمع الإعلام والعولمة هو رهن بقدرة هذه الثقافات على ضمان إمكانية الوصول إلى هذين المعطيين وتملكهما...وهذه إشكالية نقطة بدايتها محلية ونقطة نهايتها عالمية لا العكس.
محاضرة، جمعية زعير للتنمية، الرماني، 8 دجنبر 2000.