مائدة يوغرطة : الحصن المعلق في السماء
مائدة يوغرطة
فــــي أثــــر كنوز الملك يوغرطة: حصن معلق في السماء بمساحة 80 هكتارا وعلو 1272 مترا
كان لابد أن أعود إلى «مائدة يوغرطة» وحيدا، أن أقطع الدرجات المائة وسبع وأربعين وحيدا مدفوعا أساسا بأسطورة الملك المغدور في هذا المكان الحصين المعلق في السماء مثل عش النسر، وأي عش وأي نسر، فهو يمتد على مساحة 80 هكتارا وعلى علو يبلغ 1272 مترا، حيث ما تزال جدران البيوت والمعابد في حراسة مقام الولي الصالح سيدي عبد الجواد، الذي ورث المكان.
قبل ذلك، أقف مذهولا أمام «بيت العروسة وبيت العريس»: صخرتان عظيمتان متقابلتان، كل واحدة منهما بحجم بيت. نقش القدماء في كل صخرة بابا مستقيما، كأنما قطع بأشعة الليزر وغرفة ذات جمال أخاذ في قلب الصخرة. يقول أهل المنطقة إن تقاليد القدماء كانت تقتضي أن العريس والعروس في تلك الغرفتين في إطار طقوس الزفاف.
نمشي في أثر أبطال التاريخ وصناع الأساطير حيث نكاد نسمع صليل السلاح وصهيل الخيول في هذه السفوح ونحن نصعد نحو القمة. عند السفح، تبدو المائدة مثل «جزيرة معلقة في السماء». أما في أعلاها فتبعث في النفس إحساسا عميقا بالحصانة، بالانتماء إلى الأبطال الذين عاشوا هنا، حيث تبدو الأحداث في الأسفل تفاصيل يومية. مكان حصين يحيط به بحر من الفراغ السحيق، تحوم الطيور الكواسر تحت أقدامنا ويمتد البصر أكثر من 50 كم، إلى الآفاق الغارقة في الضباب والغموض، وتبدو لنا البيوت والدواوير صغيرة كما لو كانت ترى من الطائرة.
قصة كنز
قبل ذلك، كنا نحن المغرمون بتاريخ المنطقة قد قضينا أوقاتا شيقة ننصت للدكتور محمد التليلي يحدثنا عن تفاصيل «الملك يوغرطة» وكنوزه المخفية في هذا المكان الذي سوف يحمل اسمه إلى الأبد، بيد أنه كان يفاجئنا بأن لديه فهما خاصا لمفهوم هذه الكنوز. ثمة أساطير عديدة تحيط بهذه الكنوز التي يقال إنها تفوق الحصر وأن الملك النوميدي قد حملها معه إلى حصنه المعلق في السماء، لكنها ظلت مستعصية على مدى القرون عن الجميع: مغامرون ولصوص وخبراء آثار ومشعوذون على مدى القرون فاستمر سحر الأسطورة بدءا بالجندي الروماني آكل الحلزون وصولا إلى تأثير هذه المائدة في تاريخ البلاد الحديث. لقد حاول كثيرون النبش في مائدة الملك وحولها، غير أنه لا أحد فاز بشيء سوى الضنى والخيبية مما يعيدنا إلى نظرية الدكتور محمد التليلي حول حقيقة كنز ملك نوميديا.
عن آكل الحلزون
يجد علماء التاريخ والآثار أصلا لمسألة «كنوز يوغرطة» في كتابات المؤرخ والحاكم الروماني «ساليست»، الذي ترك سيلا كبيرا من المعلومات عن مملكة البربر التي كانت عاصمتها «سيرتا» وصراع يوغرطة ضد سيطرة إمبراطورية الرومان في القرنين اللذين سبقا ميلاد المسيح عليه السلام. وأثناء الاستعمار الفرنسي، عمل مؤرخون استعماريون على فرض نظرية تقول إن عاصمة النوميديين سيرتا هي قسنطينة الجزائرية، لأجل تحريض «القبايل» على استعادة ملك وهمي في الجزائر ضد هويتها العربية الإسلامية. غير أن مؤرخين قلائل عارضوا هذه النظرية اعتمادا على نصوص «ساليست» نفسه الذي يقول إن يوغرطة تحصن بقلعة معلقة كأنما نحتت بأيدي بشرية تقع قرب وادي اسمه «مالوكا»، وهو ما قاد المؤرخين المعاصرين إلى تعريف هذا الوادي الذي سماه العرب الفاتحون بعد ذلك «ملاق».
ولئن انتهى النزاع الاستعماري حول عاصمة مملكة يوغرطة «سيرتا» وهي الكاف حاليا، فإن المائدة ظلت تحتفظ بتاريخ مثير كان له الأثر الكبير في صناعة تاريخ البلاد كلها منذ أن فقد الجنرال الروماني «ماريوس» أمله في اقتحامها بعد أشهر من الحصار عندما تحصن بها يوغرطة. وتقول أسطورة المؤرخ «ساليست» إن جنديا رومانيا كان يبحث عن الحلزون لطبخه وأكله فاكتشف طريقا غير معروفة متعرجة بين الصخور حتى أعلى المائدة.
أيا كانت حقيقة القصة، فإن ساليست يحب أن يقول إن ماريوس أعد فرقتي تدخل لاقتحام المائدة المحصنة من جهتين ففاجأ النوميديين واحتل المائدة في غياب يوغرطة وهو ما اشتغل عليه علماء فرنسيون في القرن العشرين أثبتوا إمكانية هذه النظرية من الناحية العملية. غير أن أهم ما في الأسطورة المتكررة مع الزمن هي حصانة المكان واستحالة أخذ من تحصن به إلا بالخديعة، وسوف تتكرر الخديعة في التاريخ كما سنرى.
متمردون وثوار
ارتبطت المائدة بتاريخ مثير ومتضارب، فقد احتمى بها البربر من الفاتحين المسلمين حتى اضطر موسى بن نصير لأن يخصص لهم جيشا لمحاصرتهم، وتحب الأسطورة أن تقول إن المسلمين لم يقدروا عليها إلا بمعجزة إلهية. ومع مرور القرون أصبحت المائدة ملجأ لكل من يخرج على السلطة، ذكرها ابن خلدون في تاريخه لأن والده احتمى بها مع أمير حفصي في القرن الثالث عشر حيث بايعته فوقها قبيلة «أبو الليل» ومن هناك استعاد حكم بني حفص. ظلت المائدة حصنا للثورات والمتمردين، فقيل إن دعاة الدولة الشابية قد لجأوا إليها في حماية قبيلة «الحنانشة» ذات النفوذ الواسع هناك. ثم نجد بعد ذلك أن حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية قد لجأ إليها قريبا من أخواله في قبلية «شارن». ويروي حفاظ القصص الشعبية أن صالح باي قدم من الجزائر لمحاصرة سكان الجهة الذين تحصنوا بالمائدة. وبعد مرور أشهر على الحصار غير المجدي، أخذوا كلبة سمينة ورموا بها إليه لكي يدرك أن كلابهم رغم الحصار سمينة وأنهم في حالة رخاء فلا أمل له في إخضاعهم فانصرف عنهم.
وفي القرن التاسع عشر هرب أولاد أبو غانم إلى المائدة من جيش الاستعمار الفرنسي بعد أن ساعدوا ثوار الجزائر، فحاصر الجنرال «ماكماهون» المكان بمدافعه بلا جدوى.
القرب من السماء
ما تزال المائدة محصنة على الزوار حتى أن الوصول إلى البوابة الوحيدة الضيقة من جهة الشمال يتطلب سيارة دفع رباعي قوية وسائقا فطنا وخبيرا. بعد ذلك يتطلب الأمر عزيمة جيدة للسير في الطريق التي هي شق ضيق في الصخر نحو سفح المائدة وخصوصا حبا حقيقيا للتاريخ والطبيعة. قال لي الدكتور التليلي: «أحب هذه المشقة، إذ أن لهذا المكان التاريخي ثمنا يجب أن يدفعه الزائر».
ما يزال المدرج المحفور في الصخر كما هو، حيث يمكن رؤية أثر حوافر الخيل في الغرانيت علامة مرور الآلاف من الخيول عليها رغم أننا نجد صعوبة في تسلق الدرجات 147 المؤدية إلى القمة. ما يزال الصعود يتطلب الكثير من الحذر والجهد البدني، حتى أن أحدهم حدثنا عن مسؤولة حكومية مهمة فقدت كعب زوج حذائها الفاخر منذ الدرجات الأولى فنصحها بنزع كعب الزوج الثاني. ورغم ذلك فإن كل شيء يغري بالاستمرار في الصعود، فقد وقعنا مثل كل مرة في حب المكان الذي لا يقاوم.
عودة إلى الكنز
في الظاهر يبدو المكان قفرا، بيد أنه عليك أن تبدأ بالحذر من الوقوع في واحدة من مئات الفوهات التي تملأ المكان، لا يحميك منها إلا جهود بعض عشاق المائدة الذين أحاطوها بالحجارة للتحذير. لا يتجاوز قطر الفوهة مترا واحدا، لكنها متناثرة في كل مكان، تطل على فراغات كبيرة ندخلها لنكتشف عالما كاملا تحت الأرض، مغارات وكهوف مكيفة طبيعيا، إنما على علو 1270 مترا. يقول المؤرخون إن النوميديين حفروها في الصخر لتخزين المؤن مستغلين التكييف الطبيعي فيها. كما توجد مغارات فسيحة للسكن والاحتماء من عوادي الطبيعية. حفر النوميديون أيضا مواجل ذات حواف دقيقة لجمع مياه الأمطار وهو ما ساعد من احتمى بها على احتمال الحصار أعواما.
لا يقدر الزائر أن يمنع نفسه من التساؤل عن الأسطورة القديمة التي تقول إن الملك يوغرطة قد أخفى كنوزه التي تضيق عن الحصر في مكان ما في المائدة. أيا كانت الإثارة التي تبعثها الفكرة لدى لصوص الكنوز، فقد قال لي الدكتور محمد التليلي بصرامة الأستاذ الجامعي: «فعلا، لقد ترك يوغرطة كنوزا كبيرة، بيد أننا نحتاج إلى شيء من الذكاء لكي نقدر مفهوم هذا الكنز». وفي وقت آخر قال لي بتأثر كبير: «حسنا، ها أنا أكتشف كل يوم شكلا جديدا من أشكال كنز يوغرطة، أعتقد أن هذا الملك قد ترك لورثته رصيدا لا يمكن تقديره في هذا العصر وهو مستقبل الماضي، إن الماضي الذي تركه هذا الملك يمكن أن يصنع في المستقبل ثراء الجهة كلها».
يقول الدكتور محمد التليلي بثقة: «الكنز أمامنا ولا يحتاج إلى الحفر أو البحث. ماذا لو نطور من تاريخ يوغرطة والمائدة مسارات سياحية ذات محاور في المنطقة تستثمر قصة هذا الملك وصراعه ضد الإمبراطورية الرومانية ؟ ماذا لو نجمع بين التاريخ والطبيعة لنبعث سياحة بيئية ثقافية متميزة ؟ ماذا لو يتولى خبراء الإعلامية تحويل قصة هذا الملك إلى لعبة إعلامية أو عروض لتفاصيل الحروب والحصارات اعتمادا على الصور الرقمية؟».
كان الدكتور التليلي قدم مداخلات عديدة حول أوجه الاستثمار السياحي في الجهة، يضيف لنا: «خلاصة الأمر أن كنز يوغرطة كما أراه هي الآلاف من مواطن الشغل للشباب الحامل للشهائد يستقبل الزوار من مختلف الفئات في مسارات سياحية ومنشآت تساهم في النهوض بالمنطقة وفي إنشاء حركة اقتصادية كبيرة».
كان لابد أن أعود إلى «مائدة يوغرطة» وحيدا، أن أقطع الدرجات المائة وسبع وأربعين وحيدا مدفوعا أساسا بأسطورة الملك المغدور في هذا المكان الحصين المعلق في السماء مثل عش النسر، وأي عش وأي نسر، فهو يمتد على مساحة 80 هكتارا وعلى علو يبلغ 1272 مترا، حيث ما تزال جدران البيوت والمعابد في حراسة مقام الولي الصالح سيدي عبد الجواد، الذي ورث المكان.
قبل ذلك، أقف مذهولا أمام «بيت العروسة وبيت العريس»: صخرتان عظيمتان متقابلتان، كل واحدة منهما بحجم بيت. نقش القدماء في كل صخرة بابا مستقيما، كأنما قطع بأشعة الليزر وغرفة ذات جمال أخاذ في قلب الصخرة. يقول أهل المنطقة إن تقاليد القدماء كانت تقتضي أن العريس والعروس في تلك الغرفتين في إطار طقوس الزفاف.
نمشي في أثر أبطال التاريخ وصناع الأساطير حيث نكاد نسمع صليل السلاح وصهيل الخيول في هذه السفوح ونحن نصعد نحو القمة. عند السفح، تبدو المائدة مثل «جزيرة معلقة في السماء». أما في أعلاها فتبعث في النفس إحساسا عميقا بالحصانة، بالانتماء إلى الأبطال الذين عاشوا هنا، حيث تبدو الأحداث في الأسفل تفاصيل يومية. مكان حصين يحيط به بحر من الفراغ السحيق، تحوم الطيور الكواسر تحت أقدامنا ويمتد البصر أكثر من 50 كم، إلى الآفاق الغارقة في الضباب والغموض، وتبدو لنا البيوت والدواوير صغيرة كما لو كانت ترى من الطائرة.
قصة كنز
قبل ذلك، كنا نحن المغرمون بتاريخ المنطقة قد قضينا أوقاتا شيقة ننصت للدكتور محمد التليلي يحدثنا عن تفاصيل «الملك يوغرطة» وكنوزه المخفية في هذا المكان الذي سوف يحمل اسمه إلى الأبد، بيد أنه كان يفاجئنا بأن لديه فهما خاصا لمفهوم هذه الكنوز. ثمة أساطير عديدة تحيط بهذه الكنوز التي يقال إنها تفوق الحصر وأن الملك النوميدي قد حملها معه إلى حصنه المعلق في السماء، لكنها ظلت مستعصية على مدى القرون عن الجميع: مغامرون ولصوص وخبراء آثار ومشعوذون على مدى القرون فاستمر سحر الأسطورة بدءا بالجندي الروماني آكل الحلزون وصولا إلى تأثير هذه المائدة في تاريخ البلاد الحديث. لقد حاول كثيرون النبش في مائدة الملك وحولها، غير أنه لا أحد فاز بشيء سوى الضنى والخيبية مما يعيدنا إلى نظرية الدكتور محمد التليلي حول حقيقة كنز ملك نوميديا.
عن آكل الحلزون
يجد علماء التاريخ والآثار أصلا لمسألة «كنوز يوغرطة» في كتابات المؤرخ والحاكم الروماني «ساليست»، الذي ترك سيلا كبيرا من المعلومات عن مملكة البربر التي كانت عاصمتها «سيرتا» وصراع يوغرطة ضد سيطرة إمبراطورية الرومان في القرنين اللذين سبقا ميلاد المسيح عليه السلام. وأثناء الاستعمار الفرنسي، عمل مؤرخون استعماريون على فرض نظرية تقول إن عاصمة النوميديين سيرتا هي قسنطينة الجزائرية، لأجل تحريض «القبايل» على استعادة ملك وهمي في الجزائر ضد هويتها العربية الإسلامية. غير أن مؤرخين قلائل عارضوا هذه النظرية اعتمادا على نصوص «ساليست» نفسه الذي يقول إن يوغرطة تحصن بقلعة معلقة كأنما نحتت بأيدي بشرية تقع قرب وادي اسمه «مالوكا»، وهو ما قاد المؤرخين المعاصرين إلى تعريف هذا الوادي الذي سماه العرب الفاتحون بعد ذلك «ملاق».
ولئن انتهى النزاع الاستعماري حول عاصمة مملكة يوغرطة «سيرتا» وهي الكاف حاليا، فإن المائدة ظلت تحتفظ بتاريخ مثير كان له الأثر الكبير في صناعة تاريخ البلاد كلها منذ أن فقد الجنرال الروماني «ماريوس» أمله في اقتحامها بعد أشهر من الحصار عندما تحصن بها يوغرطة. وتقول أسطورة المؤرخ «ساليست» إن جنديا رومانيا كان يبحث عن الحلزون لطبخه وأكله فاكتشف طريقا غير معروفة متعرجة بين الصخور حتى أعلى المائدة.
أيا كانت حقيقة القصة، فإن ساليست يحب أن يقول إن ماريوس أعد فرقتي تدخل لاقتحام المائدة المحصنة من جهتين ففاجأ النوميديين واحتل المائدة في غياب يوغرطة وهو ما اشتغل عليه علماء فرنسيون في القرن العشرين أثبتوا إمكانية هذه النظرية من الناحية العملية. غير أن أهم ما في الأسطورة المتكررة مع الزمن هي حصانة المكان واستحالة أخذ من تحصن به إلا بالخديعة، وسوف تتكرر الخديعة في التاريخ كما سنرى.
متمردون وثوار
ارتبطت المائدة بتاريخ مثير ومتضارب، فقد احتمى بها البربر من الفاتحين المسلمين حتى اضطر موسى بن نصير لأن يخصص لهم جيشا لمحاصرتهم، وتحب الأسطورة أن تقول إن المسلمين لم يقدروا عليها إلا بمعجزة إلهية. ومع مرور القرون أصبحت المائدة ملجأ لكل من يخرج على السلطة، ذكرها ابن خلدون في تاريخه لأن والده احتمى بها مع أمير حفصي في القرن الثالث عشر حيث بايعته فوقها قبيلة «أبو الليل» ومن هناك استعاد حكم بني حفص. ظلت المائدة حصنا للثورات والمتمردين، فقيل إن دعاة الدولة الشابية قد لجأوا إليها في حماية قبيلة «الحنانشة» ذات النفوذ الواسع هناك. ثم نجد بعد ذلك أن حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية قد لجأ إليها قريبا من أخواله في قبلية «شارن». ويروي حفاظ القصص الشعبية أن صالح باي قدم من الجزائر لمحاصرة سكان الجهة الذين تحصنوا بالمائدة. وبعد مرور أشهر على الحصار غير المجدي، أخذوا كلبة سمينة ورموا بها إليه لكي يدرك أن كلابهم رغم الحصار سمينة وأنهم في حالة رخاء فلا أمل له في إخضاعهم فانصرف عنهم.
وفي القرن التاسع عشر هرب أولاد أبو غانم إلى المائدة من جيش الاستعمار الفرنسي بعد أن ساعدوا ثوار الجزائر، فحاصر الجنرال «ماكماهون» المكان بمدافعه بلا جدوى.
القرب من السماء
ما تزال المائدة محصنة على الزوار حتى أن الوصول إلى البوابة الوحيدة الضيقة من جهة الشمال يتطلب سيارة دفع رباعي قوية وسائقا فطنا وخبيرا. بعد ذلك يتطلب الأمر عزيمة جيدة للسير في الطريق التي هي شق ضيق في الصخر نحو سفح المائدة وخصوصا حبا حقيقيا للتاريخ والطبيعة. قال لي الدكتور التليلي: «أحب هذه المشقة، إذ أن لهذا المكان التاريخي ثمنا يجب أن يدفعه الزائر».
ما يزال المدرج المحفور في الصخر كما هو، حيث يمكن رؤية أثر حوافر الخيل في الغرانيت علامة مرور الآلاف من الخيول عليها رغم أننا نجد صعوبة في تسلق الدرجات 147 المؤدية إلى القمة. ما يزال الصعود يتطلب الكثير من الحذر والجهد البدني، حتى أن أحدهم حدثنا عن مسؤولة حكومية مهمة فقدت كعب زوج حذائها الفاخر منذ الدرجات الأولى فنصحها بنزع كعب الزوج الثاني. ورغم ذلك فإن كل شيء يغري بالاستمرار في الصعود، فقد وقعنا مثل كل مرة في حب المكان الذي لا يقاوم.
عودة إلى الكنز
في الظاهر يبدو المكان قفرا، بيد أنه عليك أن تبدأ بالحذر من الوقوع في واحدة من مئات الفوهات التي تملأ المكان، لا يحميك منها إلا جهود بعض عشاق المائدة الذين أحاطوها بالحجارة للتحذير. لا يتجاوز قطر الفوهة مترا واحدا، لكنها متناثرة في كل مكان، تطل على فراغات كبيرة ندخلها لنكتشف عالما كاملا تحت الأرض، مغارات وكهوف مكيفة طبيعيا، إنما على علو 1270 مترا. يقول المؤرخون إن النوميديين حفروها في الصخر لتخزين المؤن مستغلين التكييف الطبيعي فيها. كما توجد مغارات فسيحة للسكن والاحتماء من عوادي الطبيعية. حفر النوميديون أيضا مواجل ذات حواف دقيقة لجمع مياه الأمطار وهو ما ساعد من احتمى بها على احتمال الحصار أعواما.
لا يقدر الزائر أن يمنع نفسه من التساؤل عن الأسطورة القديمة التي تقول إن الملك يوغرطة قد أخفى كنوزه التي تضيق عن الحصر في مكان ما في المائدة. أيا كانت الإثارة التي تبعثها الفكرة لدى لصوص الكنوز، فقد قال لي الدكتور محمد التليلي بصرامة الأستاذ الجامعي: «فعلا، لقد ترك يوغرطة كنوزا كبيرة، بيد أننا نحتاج إلى شيء من الذكاء لكي نقدر مفهوم هذا الكنز». وفي وقت آخر قال لي بتأثر كبير: «حسنا، ها أنا أكتشف كل يوم شكلا جديدا من أشكال كنز يوغرطة، أعتقد أن هذا الملك قد ترك لورثته رصيدا لا يمكن تقديره في هذا العصر وهو مستقبل الماضي، إن الماضي الذي تركه هذا الملك يمكن أن يصنع في المستقبل ثراء الجهة كلها».
يقول الدكتور محمد التليلي بثقة: «الكنز أمامنا ولا يحتاج إلى الحفر أو البحث. ماذا لو نطور من تاريخ يوغرطة والمائدة مسارات سياحية ذات محاور في المنطقة تستثمر قصة هذا الملك وصراعه ضد الإمبراطورية الرومانية ؟ ماذا لو نجمع بين التاريخ والطبيعة لنبعث سياحة بيئية ثقافية متميزة ؟ ماذا لو يتولى خبراء الإعلامية تحويل قصة هذا الملك إلى لعبة إعلامية أو عروض لتفاصيل الحروب والحصارات اعتمادا على الصور الرقمية؟».
كان الدكتور التليلي قدم مداخلات عديدة حول أوجه الاستثمار السياحي في الجهة، يضيف لنا: «خلاصة الأمر أن كنز يوغرطة كما أراه هي الآلاف من مواطن الشغل للشباب الحامل للشهائد يستقبل الزوار من مختلف الفئات في مسارات سياحية ومنشآت تساهم في النهوض بالمنطقة وفي إنشاء حركة اقتصادية كبيرة».