كيف تتحقق الخشية من الله؟
قال الله تعالى: ?إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ? (1).
روي أن العباس لما أسر وعير بالكفر وقطيعة الرحم قال: تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا. فقال علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فنزلت هذه الآية ردًّا عليه. فيجب إذًا على المسلمين تولي أحكام المساجد ومنع المشركين من دخولها(2).
وعمارة المساجد تطلق على بناء المساجد وتشييدها وإعدادها لإقامة الصلوات، وهذا المعنى غالبًا هو المتبادر في العرف عند إطلاق كلمة العمارة، كما أن العمارة يراد بها عمارتها بالرجال الذاكرين لله المحافظين على الصلاة، وهذا هو الأهم في العمارة.
?وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ?: معاهدته والقيام بمصالحه.
هذه يرتادون بيوت الله ويعمرون المساجد بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن والاعتكاف، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، كما أنها تجمع جواهر الصفات التي يتحلى بها عُمَّار بيوت الله، ويتصف بها من يحرصون على عمارتها، وعمار المساجد يتصفون بصفات كثيرة تندرج في الآتي:
الإيمان بالله والتصديق بوحدانيته.
هذه الصفة هي الأساس الأول في صفات عمَّار بيوت الله وذلك لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه، فما لم يكن مؤمنًا بالله امتنع أن يبني موضعًا يعبد الله فيه (3).
وأما العمارة بمعنى ملازمتها والطاعة فيها فذلك أيضًا لا يتأتى إلا ممن آمن بالله.
ويقول الإمام القرطبي: "قوله تعالى: ?إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ? دليل على أن الشهادة لعمَّار المساجد بالإيمان صحيحة لأن الله سبحانه ربطه بها وأخبر عنه بملازمتها.
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله تعالى يقول: ?إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ?"(4). وفي رواية: "يعتاد المسجد"(5).
والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى. والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن.
والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى. ونحن مؤمنون بذلك كله، لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاؤوا به"(6).
الإيمان باليوم الآخر
إن الإيمان باليوم الآخر، والتصديق ببعث الأموات يوم القيامة، الذي يحاسب الله فيه عباده ويجزي كل نفس بما كسبت، وذلك لأن الاشتغال بعبادة الله سبحانه وتعالى إنما تفيد في يوم القيامة، فمن أنكره لم يعبد الله ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى(7). واليوم الآخر هو يوم الدين الذي يكرره المسلم في اليوم عشرات المرات في قوله تعالى: ?مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ?(8)، وذلك في الصلاة.
وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر. وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير. وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمدًا على العوض الذي يلقاه فيها... وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل. فهما صنفان مختلفان من الخلق. وطبيعتان متميزتان لا تلقيان في الأرض عمل ولا تلقيان في الآخرة جزاء... وهذا هو مفرق الطريق"(9).
إقامة الصلاة
والمراد بإقامة الصلاة: إقامة الصلاة المكتوبة بحدودها، على وجه جامع بين أركانها وآدابها وتدبر تلاوتها وأذكارها وبذا تكسب من يقيمها مراقبة ربه وخشيته والخشوع له، وهذا من أسرار وصف عمار المساجد بإقامة الصلاة، وأيضًا لأن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات، فالإنسان ما لم يكن مقرًّا بوجوب الصلوات وفرضيتها امتنع أن يقدم على بناء المساجد(10).
يقول الأستاذ المودودي: "وما الصلاة في حقيقة الأمر إلا أن تعيد بلسانك وأعمالك، خمس مرات في الليل والنهار، ذكر ما آمنت به، فإذا استيقظت صباحًا، مثلت بين يدي ربك طاهرًا نظيفًا قبل أن تشتغل بشيء آخر، ثم أقررت بين يديه بعبوديتك له قائمًا وقاعدًا، وراكعًا وساجدًا، واستعنت به واستهديته، وجددت ما بينك وبينه من ميثاق الطاعة والعبودية، وأعدت درس كتابه، وشهدت بصدق رسوله، وذكرت يومًا ترجع فيه إلى محكمته لتسأل فيها عن أعمالك، ثم تنال عليها الجزاء الذي تستحقه... لهذا يبتدئ نهارك. ثم إذا اشتغلت ساعات بأعمالك، ناداك المؤذن أن هلم إلى ذكر الله، وأعد درسك مرة أخرى، لئلا تنساه وتكون من الغافلين، وهكذا..". "فالصلاة هي التي لا تنفك تدعم أساس إسلامك خمس مرات في كل يوم، وتعدك للعبادة الواسعة الحقيقية. وهي التي تذكرك دائمًا بالعقائد التي تنحصر فيها طهارة نفسك، وارتقاء روحك، وصلاح أخلاقك وأعمالك"(11).
إيتاء الزكاة
فالمسلم لا يقدم على عمارة المساجد إلا إذا أدى الزكاة الواجبة عليه في ماله، إلى من أوجبها الله لهم، يقول الإمام الفخر الرازي: "واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المساجد، كأنه يدل على أن المراد من عمارة المسجد الحضور فيه، وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيمًا للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد به، وإذا كان مؤتيًا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد.
وأما إذا ما حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضًا؛ لأن إيتاء الزكاة واجب، وبناء المسجد نافلة والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة، والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤديًا للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد"(12). ويقول الإمام ابن كثير: وآتي الزكاة التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق ولم يخف إلا من الله تعالى، ولم يخش سواه(13).
وعن حكمة الزكاة وأثرها على الفرد والمجتمع يقول المودودي: "إن الله تعالى قد افترض علينا هذه الزكاة، كما افترض علينا الصلاة والصيام، وهي ركن من أركان الإسلام، لأنها تحلي المسلمين بأوصاف التضحية والإيثار لوجه الله تعالى، وتزيل عن قلوبهم الأثرة وحب الذات وضيق الصدر وعبودية المال وما إليها من الصفات الدنيئة الأخرى. لا حاجة للإسلام إلى البخيل الشحيح، الذي يعبد المال ويتكالب عليه فإنه لا ينفعه في قليل ولا كثير. ولا يهتدي إلى الإسلام ويتبع طريقه المستقيم ويسلكه سلوكًا مستمرًا إلا من إذا جاءه أمر من أوامر الله ضحى في سبيله بماله الذي اكتسبه بعرق جبينه بدون أدنى غرض ذاتي. والزكاة تروض المسلم على هذه التضحية، وتجعله قابلاً لئلا يتثاقل إلى أمواله، ولا يجعل يده مغلولة إلى عنقه إذا بلغ مبلغ الجد، واقتضى بذل المال بل ينفقها بكل انشراح وطيب خاطر منه.
ومن فوائد الزكاة في الدنيا أن يتناصر المسلمون ويتكافلوا فيما بينهم، حتى لا يبقى فيهم عارٍ ولا جائع ولا مهين، ويكفل غنيهم فقيرهم، ويعاف فقيرهم أن يبسط يده إلى الغني بالاستمداد، ولا ينفق أحد أمواله في البذخ والترف، ويعلم أن في أمواله حقًّا لليتامى، والأيامى، والفقراء، والمساكين من أبناء أمته، وأن فيها حقًّا للذين يقدرون على العمل ولكن لا يجدون إليه سبيلاً لما يعوزهم من المال وأن فيها حقًّا للأطفال الذين فطروا على الذكاء والفطنة، ولكن لا يقدرون على تحصيل العلم بسبب فقرهم، وأن فيها حقًّا للعجزة الذين لم يعودوا قادرين على العمل.. فالمسلمون، يعلمهم دينهم أنه إذا وهب الله لكم من الرزق ما زاد عن حاجتكم، فلا تكنزوه، وأعطوا إخوانكم الذي يفقدونه، ليسدوا حاجاتهم ويعودوا قادرين على كسب معيشتهم كما تكسبون معيشتكم أنتم"(14).
الخشية من الله
والمعنى أن المسلم لا يخشى إلا الله، أي خشيته لله دون غيره مما لا ينفع ولا يضر كالأصنام وغيرها مما عبد من دون الله خوفًا من ضرره أو رجاء نفعه(15). يقول الطبري: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه، سوى الله(16). ويقول ابن كثير: ولم يخف إلا من الله تعالى، ولم يخش سواه(17).
فالمؤمن الصادق الإيمان الموصول بالله عن طريق إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والقيام بسائر الطاعات قلبه يكون مملوءًا بالخشية من الله، ولا يرهب أحدًا سواه، ويكون تطلعه إلى ما عند الله ويقطع نظره عن ما في يدي سواه، ووعيد الله وعذابه ماثل أمامه مما يجعله يستعذب عذاب من سواه، وهذا ما جاء في القرآن الكريم في أكثر من آية، يقول الله تعالى: ?الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ?(18).
وقال الله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً?(19).
وقال تعالى: ?فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ?(20).
قوة الإيمان تبعث الأمة
الإيمان الصادق يحمل في طياته عوامل البعث والإنقاذ كما أنه توجد معه كل عوامل النجاح إنه يمنح الأمم بما تحتاج إليه من نظم وقواعد تستقيم بها الحياة كما يمدها بالعواطف والمشاعر التي تجعل منها جسدًا واحدًا وبناءً متماسكًا لا يقدر الأعداء على النفوذ إليه، أو النيل منه.
"الإيمان هو الذي يمد الأمة الإسلامية بالقوة التي لا تردها عن غايتها وأهدافها، قوة لا تصدر عن مثل إيمانها، لأنه إيمان يحب المسلم الموت في ظله شهيدًا أشد من حبه للحياة: إيمان تصور أغوار رسوخه في داخل النفس المسلمة لله تعالى الكلمة التي عنون بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه إطار الجهاد في سبيل الله فقال: احرص على الموت توهب لك الحياة(21).
إيمان يصور قوته في نفس المسلم هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم"(22).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقرن أحد نفسه أن يرى أمرًا لله فيه مقال فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا، فيقول مخافة الناس، فيقول إياي أحق أن تخاف"(23).
وقد بينا أن هذا الإيمان الذي ربط الله تعالى به العزة الإسلامية، وربط به نصره للمعتصمين بعروته الوثقى له خصائص والتزامات، وهذه الخصائص والالتزامات هي القوة الدافعة للأمة الإسلامية إلى مكان القيادة الإنسانية في الحياة.
فإذا استطاعت الأمة الإسلامية أن تحقق في حياتها وسلوكها هذه الخصائص، فتتحول عن واقعها الضعيف الذليل، الجاهل المفرق، إلى واقع الإيمان العزيز الموحد، كانت حَرِيَّةً بخلافة الله في الأرض وكانت أحق بمكان القيادة الإنسانية، تأخذه غِلابًا ولا تستجديه استجداءً(24).
--------------
الهوامش:
(1) سورة التوبة، الآيات/ 17- 22.
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 8/57- 58.
(3) ابن عادل الدمشقي، اللباب في علوم الكتاب 14/45. دار الكتب العلمية بيروت لبنان- الطبعة الأولى سنة 1419هـ. 1998م.
(4) الترمذي، الجامع الصحيح، مرجع سابق 5/12/2617. الإيمان- ما جاء في حرمة الصلاة.
(5) الترمذي، الجامع الصحيح، مرجع سابق 5/777/3094. تفسير القرآن- ومن سورة التوبة..
(6) شرح العقيدة الطحاوية ص459- 523. عالم الكتب للطباعة والنشر، الرياض، ط 3، 1418هـ- 1997م.
(7) الفخر الرازي، التفسير الكبير، مرجع سابق 16/9. بتصرف يسير.
(8) سورة الفاتحة، الآية/4.
(9) قطب، سيد قطب، في ظلال القرآن، مرجع سابق 1/23- 24.
(10) المراغي، تفسير المراغي، مرجع سابق 4/61. بتصرف.
(11) المودودي، مبادئ الإسلام، مرجع سابق ص 118- 121.
(12) الفخر الرازي، التفسير الكبير، مرجع سابق 16/9. (13) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 2/326.
(14) المودودي، مبادئ الإسلام، مرجع سابق ص 125- 127.
(15) المراغي، تفسير المراغي، مرجع سابق 4/61.
(16) الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، مرجع سابق 9/335.
(17) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 2/326.
(18) سورة النساء الآية/ 3.
(19) سورة النساء الآية/44.
(20) سورة المائدة الآية/44.
(21) الميداني، أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم، مجمع الأمثال 4/48. دار الجيل، بيروت لبنان، الطبعة الثانية، سنة 1407هـ. 1987م.
(22) ابن حنبل، مسند الإمام أحمد، مرجع سابق 3/50.
الترمذي، الجامع الصحيح، مرجع سابق 4/483/2191. الفتن- ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن.
(23) ابن ماجه، سنن ابن ماجه، مرجع سابق 2/1328/ 4008. الفتن- الأمر بالمعروف.
ابن حنبل، مسند الإمام أحمد، مرجع سابق 3/ 47.
(24) عرجون الأمة الإسلامية كما يريدها القرآن العظيم، مرجع سابق ص52- 54.
بقلم: الشيخ محمد عبد الباسط محمد مصطفى