فضاءات الاحراز

الاحراز

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
ناصر قطب محمد سليمان
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 52
إعلانات


إني جاعلك للناس إمامًا


عناصر الخطبة:
- لماذا جعل الله تعالى إبراهيم إمامًا؟
- من هو الإمام العادل؟ وما حاجة الأمة إليه الآن؟
- مقومات الإمام العادل وأمثلة من روائع تاريخنا الإسلامي.
إن الحمد لله تعالى، أحمده، وأستعين به، وأستهديه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهد الله فهو المُهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لهذه الأمة؛ حتى كشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فصلِّ اللهم وسلم عليه تسليمًا كثيرًا عدد ما أحاط به علمك، وخطَّ به قلمك، وأحصاه كتابك، وارض اللهم عن سادتنا أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
أيها الأحباب الكرام.. سيكون حديثنا بإذن الله تعالى وقوته وتوفيقه حول قوله تعالى: ?وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)? (البقرة)، ونحن نعيش هذه المناسبة العطرة، ونشهد الناس وهم يتوافدون على بيت الله الحرام نتذكر إبراهيم الخليل عليه السلام، ذاك النبي الرحيم والرسول الكريم الذي دعا الله تعالى أن يجعل من ذريته أمةً تعبد ربها وتسلم له أمرها، كما دعا لها ربها أن يتفضل عليها بنبي يعلِّمها ويهديها، وينير لها طريقها، ونحن يطيب لنا الحديث عن هذا النبي العظيم؛ لنتعلم من سيرته، ونستلهم طريقته، ونسير على نهجه، قال الله تعالى: ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)? (النحل)، ونحن ثمرة دعوته الكريمة، فنحن أحق الناس به، وأقرب الخلق إليه، وأجدر العالمين بأن نحمل دعوته، قال تعالى: ?إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)? (آل عمران).
أيها الأحباب الكرام.. لماذا جعل الله تعالى إبراهيم إمامًا؟ لقد نال الخليلُ إبراهيم- عليه السلام- وصف الإمامة عن جدارة، فقد فرض الله عليه فرائض وأمره بأمور، وكلَّفه بأدائها، فقام بها حقَّ القيام، وأتمها كما أرادها ومن ذلك:
* ابتلاه بمحاجة النمروذ، ومخالفة أمره، وكان رجلاً جبارًا عنيدًا، وحاكمًا مستبدًا، غرَّه امتداد ملكه وسلطانه وكثرة جنده وحاشيته، حاوره إبراهيم- عليه السلام- وألزمه الحجة فانتقم منه، وأوقد له نارًا عظيمةً، وألقاه فيها، فصبر وتحمَّل وأظهر من التجلد ما لا يقدر عليه بشر، واهتزت السماء لهذا الموقف العصيب، ونزل جبريل عليه السلام يقول له: ألك حاجة؟ فقال له بلسان الواثق في وعد ربه: "أما منك فلا!! وأما من الله فحالي يغني عن سؤالي!! فقال الله تعالى: ?يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)? (الأنبياء).
* ثم أُمر بمفارقة قومه وترك وطنه فخرج إلى الشام.
* ثم ابتلاه بأمر عظيم، ابتلاه بذبح ابنه إسماعيل بنفسه، فلذة كبده، وثمرة سعيه، فلم يتراجع أو يتوانى مع حبِّه الشديد له وتعلقه به ?فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)? (الصافات)، لقد كان- عليه السلام- مثالاً رائعًا ونموذجًا فريدًا في الامتثال الكامل لأمر الله تعالى، والتسليم المطلق لحكمه ?إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)? (البقرة)، واستحق أن ينال هذه الشهادة الإلهية ?فَأَتَمَّهُنَّ? وقوله تعالى: ?وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)? (النجم)، أيها الأحباب الكرام: إن الخليل إبراهيم- عليه السلام- ما نجح في الاختبار ولا قام بأداء التكليف الرباني إلا بعد أن تمكَّنت من نفسه صفتان عظيمتان هما:
* الصبر وقوة التحمل، فلا يجزع عند الشدائد، ولا يضعف في الملمات.
* اليقين وعظيم الثقة في الله تعالى؛ حيث إنه لا يكلِّف العبد ما لا يطيق، وإن أمره وقضاءه وقدره كله خير ومنفعة، وإن الله تعالى سينصر أولياءه ويعز أحبابه، وبهذا يندفع عن نفس المؤمن أسباب اليأس والإحباط والقعود، "ها هو رجل يركب البحر وتنكسر به السفينة، فيسبح في جزيرة وسط البحر ويمكث ثلاثة أيام لم يذق طعامًا ولا شرابًا ويئس من الحياة فقال ينشد:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب
فهو يعلق لحاقه بأهله ونجاته من الموت إذا تغيَّر لون الغراب ولحقه الشيب، وانقلب القار الأسود إلى لون الحليب الأبيض، ومعنى هذا أنه فقد الأمل في النجاة، فالغراب لا يشيب ولا يتغير القار الأسود إلى لبن أبيض، وإذا بهاتف يهتف ويقول: عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب، وبينما هو يسمع هذا النداء، إذ بسفينة تمر فيلوح لها فتأتي وتحمله، وإذا على ظهر السفينة أحدهم يردد منشدًا:
عسى فرج يأتي به الله إنه له في كل يوم في خليقته أمر
إذا لاح عسر فارتج اليسر إنه الله قضى أن العسر يتبعه اليسر
وقال الشاعر: ولنا بيوسف أسوة في صبره وقد ارتمى في السجن بضع سنين لا يأس يسكننا، فإن كبر اليأس وطغى فإن يقين قلبي أكبر
في منهج الرحمن أمن مخاوفي وإليه في ليل الشدائد نجأر
ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين"، فبالصبر تندفع الشهوات، وباليقين تزول الشبهات، وفي هذا يقول ربنا تعالى: ?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)? (السجدة): بعد أن وفى الخليل- عليه السلام- بالعهد وأتم كلمات التكليف نال الجائزة الكبرى والمنحة العظمى، نال بجدارة واستحقاق الإمامة، قال تعالى: ?إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا? (البقرة: من الآية 124).
فمن هو الإمام؟ الإمام هو من يتولى أمور الناس في الدين والدنيا، وقد جعل الله الخليل- عليه السلام- إمامًا وقدوةً ومثلاً للناس فيهما، فاللفظ عام يتسع لإمامة الدين والعلم وسياسة أمور الناس على الوجه الذي يحقق لهم المصلحة، ويدفع عنهم المفسدة، ويحفظ عليهم أموالهم، ويصون أعراضهم وحياتهم، وقد كان في نسل إبراهيم- عليه السلام- من الأنبياء والملوك أئمة عدول وحكام صالحون، قادوا الناس إلى خيري الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ?فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا? (النساء: من الآية 54)، ومن هؤلاء داود- عليه السلام- الذي حكم بني إسرائيل ثلاثين عامًا، والذي قال له ربه تعالى: ?يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)? (ص)، وفي الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة- رضي الله عنه-: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا قال: ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم.."، قال ابن حجر- رحمه الله تعالى-: "قوله: "تسوسهم الأنبياء" أي: إنهم كانوا إذا ظهر فيهم فسادٌ بعث الله لهم نبيًّا، يقيم لهم أمرهم ويزيل ما غيَّروا من أحكام التوراة"، وقال الإمام النووي- رحمه الله تعالى-: "أي يتولون أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه" وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- مقتديًا بأبيه الخليل ومتَّبعًا له، فكان إمامًا في الدين والدنيا نبيًّا رسولاً وسائسًا حكيمًا وقائدًا عظيمًا ومصلحًا فذًّا فريدًا، وهو بهذا سائر على نهج القرآن القائل له: ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ? (الأنعام: من الآية90)، وأيضًا قوله تعالى: ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (123)? (النحل: من الآية 123)، ومن بعده خلفاؤه الراشدون العدول.
أهم صفات الإمام العادل:
1- الأمانة والكفاءة: وبهما استحق يوسف الصديق- عليه السلام- الوزارة ?قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)? (يوسف)، والحفيظ هو الذي يرعى جميع الأمانات، والعليم هو الكفء القادر على تحمُّل المسئوليات الجسام، ومن دواعي الأمانة والحفظ:
* أن يتولى الإمام القيادة باختيار الأمة ورضاها، فمن تولى عن طريق القوة وتحت ضغط السلاح والتهديد بالقتل، أو الإبعاد، أو السجن، أو مصادرة الأموال، والوظائف، أو تزوير إرادة الأمة عبر انتخابات مزيفة تُشترى فيها أصوات الناس ضعاف النفوس فليس إمامًا عادلاً، ولا واليًا تجب طاعته، وقد روي البخاري- رحمه الله تعالى- عن الحسن البصري قال: أتينا معقل بن يسار نعوده فدخل علينا عبيد الله بن زياد- أمير البصرة في زمن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد- فقال له: معقل: أحدثُّك حديثًا سمعته من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من والي يلي رعية من المسلمين وهو غاش لهم إلا حرَّم الله عليه الجنة"، وعملاً بموقف وقول الخليفة الأوّل لرسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصدّيق- رضي الله عنه- في أوّل خطبة له عند تَوَلّيه الخلافة: "أمَّا بَعدُ أيّها النَاسُ فَإنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَليْكُم ولَسْتُ بخيرِكُم.." بالبناء للمجهول، فالأمة هي التي اختارته وولته بكامل إرادتها وحريتها، ولم يول نفسه بالقوة، أو الكيد والحيلة، وهؤلاء الحكام أو النواب الذين يتولون المناصب رغمًا عنَّا، وبدون ترشيح الأمة لهم هم ظالمون معتدون أخذوا حقًّا ليس لهم، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: ?لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ? (البقرة: من الآية 124)، للإمام الطبري، أن بعض السلف فسَّر العهد بالإمامة والولاية ومعنى الآية "لا أجعل من كان من ذرّيتك بأسرهم ظالـمًا إمامًا لعبـادي يُقتدَى به"، وعن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال في معنى قوله تعالى: ?لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ? (البقرة: من الآية 124)، "لا عهد لظالـم علـيك فـي ظلـمه أن تطيعه فـيه" ومعنى هذا أن من أشد أنواع الظلم وأفحشه أخذ الولاية مهما كان حجمها بغير طريقها وهو اختيار الأمة ورضاها، ومن أوجب الواجبات على الناس أن لا يرضوا بهذا ويستسلموا للأمر الواقع ويؤثروا السلامة، بل عليهم أن يفعلوا كل ما من شأنه أن يرفع هذا الظلم، ويعيد هؤلاء المغتصبين للسلطة من حيث جاءوا، وسكوتهم إثم كبير وذنب عظيم؛ لأنه إقرار بالظلم ورضا به، وقد أبطل بعض الفقهاء الصلاة في الأرض المغصوبة، وقال آخرون بصحة الصلاة مع إثم فاعلها؛ حتى لا يُعَد هذا إقرارًا للمغتصب، واعترافًا بملكيته لهذه الأرض.
* ومن مقتضيات الأمانة والكفاءة: ألا يقدِّم الإمام للمسئولية مهما كانت إلا ذوي الأمانة والكفاءة، ولا يكون اختياره على أساس القرابة، أو الصداقة، أو الحزب، أو الطائفة، وقد حذَّر النبي- صلى الله عليه وسلم- من هذه الآفةِ في حديث صحيح نقله الإمام السيوطي- رحمه الله- في الجامع الصغير عن الإمام الحاكم- رحمةُ الله عليه- عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: "مَنْ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِن عِصَابَةٍ وفِيهِم مَنْ هُوَ أَرْضى للهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللهَ ورَسُولَه والمؤمنين".
* ومن مقتضيات الأمانة والحفظ: أن لا يتخذ الوالي منصبه لاستغلال ثروة الأمة لنفسه وأهله وحاشيته أو حزبه أو عرشه، وخير نموذج يُقتدَى به في هذا المجال موقف عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- مع زوجتِه فاطمَة بنتِ عبد الملك بنِ مروان في شأن "جوْهَر عظيمٍ" كان والدُها الخليفةُ عبدُ الملك أهْدَاهُ إليها، فقال لها: "اختاري، إمَّا أن تَرُدّي حَلْيَكِ إلى بيتِ المالِ، وإمّا أن تَأذَنِي لي في فِراقِكِ، فإني أكْرَهُ أن أكونَ أنا وأنتِ وهُوَ في بيتٍ واحد"، قالت: لا بل أختارُكَ عليه وعلى أضعافِه. فَأَمَرَ بِهِ فَحُمِلَ حَتَّى وُضِعَ في بيتِ مالِ المسلمين. فَلَمَّا مات عُمَرُ واسْتُخْلِفَ يزيدُ بنُ عبدِ الملِك- أخو فاطمة- قال لها: إنْ شِئْتِ رَدَدْتُهُ إليكِ قَالَتْ: لاَ، واللهِ لا أطِيبُ به نفسًا في حياتِه، وأَرْجَعُ فيه بعد مَوْتِه" تاريخ الخلفاء للسيوطي في ترجمته لعمر بن عبد العزيز.
2- الإمام العادل يرد الظلم عن المظلومين، ويعين المقهورين ويغيث الملهوفين، وعندما وقف الخليفة الأول أبو بكر أمام من اختاروه كان أول عهد قطعه على نفسه "الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه"، ومما يعين الناس على نيل حقهم، ويشجعهم على رفض الظلم، وعدم الاستسلام للضيم، والقهر أن يكون الإمام منصفًا لهم ساعيًا بكل ما أوتي من أسباب القوة لرفعه عنهم، ومحاسبة الظالمين، وتأديبهم وجعلهم عبرة لكل من تسول له نفسه أن يعتدي على غيره، وفي هذ القصة ما يعبِّر عن هذا كله "الشاب القبطي الذي سابق محمد بن عمرو بن العاص الذي كان أبوه حاكمًا لمصر وواليًا عليها، فسبق القبطي ابن حاكم مصر فضربه محمد بن عمرو بالسوط ضربًا شديدًا وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين! خذها وأنا ابن الأكرمين! خذها وأنا ابن الأكرمين! فانطلق هذا القبطي إلى مدينة المصطفى، ويدخل القبطي على عمر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا أمير المؤمنين! هذا مقام العائذ بك فيقول عمر: ما القضية؟ ومن أنت؟ فيقول: أنا قبطي من أهل مصر فيقول عمر: ما القضية؟ فيقول القبطي: سابقت محمد بن عمرو فسبقته فضربني بالسوط ضربًا شديدًا وهو يقول لي: خذها وأنا ابن الأكرمين! فقال له عمر: اجلس هنا، وأمر الصحابة أن يكرموا هذا القبطي، وكتب عمر كتابًا إلى والي مصر بعد ما حمد الله وأثنى عليه قال: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى والي مصر، سلام الله عليك وبعد: فإن انتهيت من قراءة كتابي هذا فاركب إلي مع ولدك محمد فدخل عمرو بن العاص وفي خلفه ولده محمد على أمير المؤمنين عمر، فقال فاروق الأمة: أين قبطي مصر؟ فقال: هآنذا يا أمير المؤمنين! قال: خذ السوط واضرب محمد بن عمرو، فضربه على رأسه، فقال له: اجعلها على صلعة عمرو، فقال: لا يا أمير المؤمنين لقد ضربت من ضربني، قال: والله لو فعلت ذلك ما حلنا بينك وبين ذلك، فما تجرأ عليك ولده إلا بسلطان أبيه، ثم قال عمر قولته الخالدة التي ترن في أذن الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال عمر: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!" وفي عصرنا يا ابن الخطاب:
قطيع نحن والجزار راعينا
ومنفيون نمشي في أراضينا
ونحمل نعشنا قسرًا بأيدينا
ونعرب عن تعازينا لنا فينا
فوالينا أدام الله والينا
رآنا أمة وسطًا فما أبقى لنا دنيا، وما أبقى لنا دينًا.
3- من أقوى علامات العدل أن يكون الكل أمام القانون والقضاء سواء فلا تُعطَى حصانة لأحد مهما علت رتبته، ولا يميزون في إجراءات التقاضي، وما خربت البلاد، وفسدت العباد إلا عندما أحس أصحاب السلطة والمقربين منهم أنهم فوق المحاسبة، وأن العقوبة لا تطول إلا صغار المذنبين، وصدق الله العظيم القائل في كتابه ?وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)? (الإسراء)، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- حريصًا منذ أقام دولته أن يرسخ هذا المعنى، فرفض أن تُعطَّل الحدود وتُهدَر الأحكام بحجة أن أصحابها ذوو مكانة في قومهم واعتبر ذلك بداية تحلل الدولة وفسادها "قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلِّم فيها رسول الله؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله، فكلَّمه أسامة فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب، ثم قال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، ومن أحسن ما جاء في هذا في تاريخنا الإسلامي "أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ابتاع فرسًا من رجل من الأعراب، ونقده ثمنه، ثم امتطى صهوته ومضى به لكنه ما كاد يبتعد بالفرس طويلاً حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري، فانعطف به عائدًا من حيث انطلق، وقال للرجل: خذ فرسك فإنه معطوب، فقال الرجل: لا آخذه يا أمير المؤمنين، وقد بعته لك سليمًا صحيحًا، فقال عمر اجعل بيني وبينك حكمًا، فقال الرجل: يحكم بيننا شريح بن الحارث الكندي، فقال عمر: رضيت به، احتكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وصاحب الفرس إلى شريح، فلما سمع شريح مقالة الأعرابي، التفت إلى عمر بن الخطاب وقال: هل أخذت الفرس سليمًا يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: نعم، فقال شريح: احتفظ بما اشتريت- يا أمير المؤمنين- أو رد كما أخذت، فنظر عمر إلى شريح معجبًا وقال: وهل القضاء إلا هكذا؟! قول فصل وحكم عدل، سر إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها"، وقد تكرر هذا المشهد مع الإمام علي أمير المؤمنين- رضي الله عنه- حيث رأى درعه الذي فقده مع يهودي يبيعه في السوق، فقال علي: إن هذا الدرع درعي وأنا أعرف علاماته، فقال اليهودي: بل هو درعي، فتوجها إلى القضاء. فوقف أمير المؤمنين بجانب اليهودي أمام شريح القاضي (خصمان أحدهما أمير المؤمنين يقفان لا فرق بينهما أمام القاضي العادل)، فقال شريح: البينة على من ادّعى، قال علي: إن الدرع درعي وعلامته كيت.. كيت..، وهذا هو الحسن بن علي شاهدي على ذلك. فقال شريح يا أمير المؤمنين إني أعلم أنك صادق ولكن ليس عندك بينه وشهادة الحسن لا تنفعك؛ لأنه ابنك وقد حكمنا بالدرع لليهودي، فهزَّ هذا الموقف اليهودي، وقال: والله إن هذا الدين الذي تحتكمون إليه لهو الناموس الذي أنزل على موسى- عليه السلام- وإنه لدين حق، ألا إن الدرع درع أمير المؤمنين، وأني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله. وأسلم.
وأخيرًا نسأل الله أن يرزقنا الإمام العادل الذي يقودنا بكتاب الله إلى خيري الدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
-------------
بقلم: الشيخ محمد عبد الباسط محمد مصطفى

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة