بقلم: د. محمد منصور
بقلم: الشيخ محمد عبد الباسط محمد مصطفى
الانتماء يعني أن ينتمي الإنسان وينتسب ويرتبط ويرجع إلى مَن يُذكِّره بكل خيرٍ ويعينه عليه وينهاه عن أيِّ شرٍّ ويمنعه منه، فينطلق في الحياة بهذه التذكرة، وبهذا الانتساب، وبهذا الارتباط وبهذه المرجعية، أي بهذا الانتماء، بأقوى وأفضل وأكمل صورةٍ للانطلاق، وبازدياد ٍونمُوٍّ مستمرّ ودائم، فيسعد فيها أتمّ سعادة، عقليًّا وفكريًّا ومشاعريَّا وجسديًّا، ثم أعظم وأخلد وأدْوَمَ في آخرته، وهذا هو ما يتفق مع أصل الانتماء لغويًّا؛ حيث هو من مادة نما نُمُوًّا، وهو يُقارب أو يُساوي معني الهُويَّة، أي بطاقة التعريف الشخصية، أي مَن هو؟ سواء أنا أم مَن حولي، مَن يكون وما أصله وما مرجعياته؟
إنَّ صفة الانتماء فطرية، وضعها خالق الإنسان سبحانه فيه ضمن صفاته الحسنة، لمصلحته ولسعادته، ليظل متواصلاً معه، كالحبل السّرِّي بين الجنين وأمه- ولله المثل الأعلى وليس كمثله شيء- يُغذيه ويُنمِّيه ويُسعده! وبدونه يشقيَ ويَنهار ويَهلك، يقول الإمام حقي في تفسيره لقوله تعالى: ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ? (ق: من الآية 16): ".. يُشير به إلى أنه تعالى أقرب إلى العبد من نفس العبد إلى العبد، فكما أنه في كل وقتٍ يطلب نفسه يجدها لأنها قريبة منه فكذلك كل وقتٍ يطلب ربه يجده لأنه قريب منه.."، ويقول الإمام القشيري في تفسيرها: "... روْح وسكون وأُنْس قلب.."، فليعتبر بذلك، وليُحسن استخدام هذه الصفة حتى يُنَمِّيها ويُرَبِّيها، ليستمرَّ هكذا مرتبطًا بربه وبمَن حوله وليس انفراديًّا، وإلا ضعفَ وضمرَ وهلكَ وتعس، في دنياه وأخراه.
فالإنسان ينتمي أولاً إلى دينه الذي يعرف من خلاله خالقه ومُرَبِّيه ورازقه ومُعينه وُمَوّفقه، وهو أشرف وأقوى وأضمن وأسعد انتماء وانتساب ٍوإضافةٍ وارتباط ٍومَرْجع، وهو بهذه المرجعية، ولو استمرَّ مُحافِظًا عليها، هو دائم الأمان والاطمئنان والشرف والجلال والعظمة والعُلوِّ والتكريم والهناء والاستقرار والسعادة، كما يُفهَم من قوله تعالى: ?وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي? (ص: من الآية 72)، والذي قال في تفسيره الإمام ابن عطية في "المحرر الوجيز": "هي إضافة ملك إلى مالك؛ لأنَّ الأرواح كلها هي ملك لله تعالى، وأضافه إلى نفسه تشريفًا.."، وجاء في "تيسير التفسير" للقطان (الحجر: 29): ".. هذه النفخة العلوية تَصِلُه بالملأ الأعلي وتجعله أهلاً للاتصال بالله"، وقال الإمام ابن عجيبة في "البحر المديد" عند تفسيره لقوله تعالى: ?خَلَقْتُ بِيَدَيَّ? (ص: من الآية 75): ".. لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام المُسْتدعِي لإجلاله وإعظامه..".
بينما إنْ قطعَ هذا الحبل، بأنْ كفرَ مثلاً بخالقه، أو أساءَ التعامُل معه، أو أهمل تشريعه ونظامه، أصابه العكس، القلق والتوتر والشقاء والتعاسة، وكثيرًا أو غالبًا ما يُصيب غيره بها بمُعايَشتهم، كما يقول الأستاذ سيد قطب في تفسيره "في ظلال القرآن" في تفسير الآية الكريمة السابقة (ص: 72): "... إنه بهذا السرّ كريم، فإذا تخليّ عنه أو انفصم منه ارتدَّ إلى أصله الزهيد، من طين!".
ثمَّ ينتمي الإنسان ثانيًا للأرض التي يعيش عليها، فيُحبُّها، حيث هي بَعْدَ ربه مصدر تغذيته وتنميته وعمله وكسبه، وسعادته بكل ذلك، كما يُفهَم من قوله تعالى: ?مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ? (طه: من الآية 55)، والذي قال فيه الإمام الرازي في تفسيره: ".. إنَّ الله تعالى عَدَّدَ في هذه الآيات منافع الأرض، وهي أصلهم الذي منه يتفرّعون..".
ثمّ ينتمي ثالثًا للبشر الذين يعيشون معه وحوله، فالكل آدميون، ينتمون وينتسبون وينتهون ويرجعون إلى أبيهم آدم، يسعدون سويًّا بحياتهم وبحبهم فيما بينهم، بإنسانيتهم (وأصل معني كلمة "إنسان" في اللغة هو من باب "أَنِسَ"، أي من الأنْس والتلاطف وإزالة الوحشة والفرح)، كما يُفهَم من قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً? (النساء: من الآية 1)، والذي قال فيه الإمام السعدي في تفسيره: ".. ليناسبها فيسكن إليها وتتمّ بذلك النعمة ويحصل السرور.. وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة وأنه بثهم في أقطار الأرض مع رجوعهم إلى أصل ٍواحدٍ ليعطف بعضهم علي بعض ويَرقّ بعضهم على بعض..."، ويؤكده قول الرسول (صلى الله عليه) في بعض خُطبه: "يأيها الناس: ألا إنَّ ربكم واحد وإنَّ أباكم واحد.." (جزء من حديث رواه أحمد).
ثمّ رابعًا ينتمي ويرجع عقليًّا وفكريًّا للنظام وللتشريع الذي وضعه خالق الأرض لها، لدين الإسلام (ولرسله ولأخلاقهم وهم الذين أتوا به على مَرّ العصور متدرجًا حتى اكتمل وهم َأمْيَز وأشمل وأسعد قدوة عملية تُتَّبَع)، ليكون أعظم وأتمّ وأنسب نظام يُسعدها السعادة التامَّة، ببساطة- وعُمْق- لأنه هو الذي خلقها وهو الأعلم بما يُصلحها ويُسعدها من أنظمة! كما يُفهَم من قوله تعالى: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ? (النحل: من الآية 89)، فالهدي والرحمة والبشرى هي بالتأكيد السعادة الكاملة والأمان التامّ
إنَّ الانتماء الفكري والرجوع لنظام الإسلام يُفهَم ضمنًا من قوله تعالى: ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ? (الحج: من الآية 78)، ومَن يتمسك به وبهذا الانتماء يأمَن ويَسعد في حياته وآخرته، ويُضفي تلقائيًّا أمنًا وسعادةً على كل مَن يَتعايَِِِِشَ معهم، كما جاء في تفسير "المنتخب": ".. اختاركم، جعلكم أمة وسطًا، يَسَّرَ عليكم، فالزموا دين أبيكم إبراهيم في مبادئه وأسُسه، وهو سبحانه الذي سمَّاكم المسلمين في الكتب المُنزلة السابقة وبإذعانكم لِمَا شرعه الله لكم تكونون كما سمَّاكم الله... فتسعدوا..".
أمَّا مَنْ لا ينتمي إليه أو يُفرّط فيه، جزئيًّا بتقصيره، أو كُليّا بالكفر به، يتوتَّر ويَتعس فيهما، كما يقول تعالى: ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا? (طه: من الآية 124)، ويقول: " فأمَّا الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ?فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)? (آل عمران)، وقد يَسْري تأثيره لِمَن حوله إنْ لم ينصحوه بالحسنى، كما يُثبت الواقع ذلك، وكما يُفهَم من قوله (صلى الله عليه وسلم)، في الحديث المعروف: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامِل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحًا خبيثة" (رواه البخاري ومسلم).
ثمّ يبدأ بعد ذلك، بعد هذا الانتماء العام، لله وللأرض وللإنسانية وللدين، يبدأ بعض التخصيص تدريجيًّا، فتبدأ درجات من الانتماء الخاص، لمزيد ٍمن القرُبْ ِوالتواصُل والتجانس والتلاحُم، فتزداد وتنصهر وتكتمل العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، بل بينه وبين غيره من جميع المخلوقات، فتزداد المشاعر الجميلة والتي ينبني عليها المنافع الكثيرة، وتعُمّ بالتالي السعادات.
فينتمي الإنسان بعدها لدولته ووطنه، لمساحته الجغرافية التي يحيا بها واتفق مجموعة من البشر على تسميتها باسم ٍما وجَعْل نظام ٍلها لا يتعارض مع الأسُس والنظم والأخلاقيات العامَّة لعموم الإنسانية، والتي علمّها خالقها لخلقه منذ خلق أبيهم الأول آدم كما يُفهَم من قوله تعالى: ?وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا? (البقرة: من الآية 31)، فهذا الانتماء لها ولِمَن يعيشون عليها، والذين لهم ذات الأهداف، والأعمال والأرباح المُتقاربَة ويتعاونون فيها، يزيده ويزيدهم حبَّا لها وانتفاعًا بها فيما بينهم وسعادة فيها، فيزدادون فكرًا وعملاً وكسبًا وربحًا، ويزدادون حبًّا والتحامًا، ويزدادون بالتالي هناءً.
وهذا هو ما يُفهَم ضمنًا من قول ابن عباس رضي الله عنهما: لمَّا خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مكة تلقاء الغار نظر إلى مكة قال: "أنت أحب بلاد الله إليّ..." (جزء من حديث رواه أبو يعلى)، ومِمَّا جاء في السيرة النبوية لابن كثير عند حديثه عن غزوة أحُد: ".. وفي الصحيح قال (صلى الله عليه وسلم): " أحُد جبل نحبّه ويحبّنا"، قيل: معناه أهله، وقيل: على ظاهره، ومن قول الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" عند شرحه لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا: ".. وذلك فِعْل مَن يُحبّ بمَن يحبّه.."، ومن دعائه (صلى الله عليه وسلم) لبلده وأهلها وبركتها وبركتهم لتسعد ويَسعدون: ".. اللهمّ بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدِّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين.." (جزء من حديث رواه مسلم).
ثمّ يكون بعد الانتماء للوطن وللدولة ومُدُنِها، الانتماء للعائلة، ذات الصلات والدماء المُتقاربَة من أرحامٍ وأنسابٍ وأصهار، حيث التحام أفرادها له مذاقه السعيد، لأنهم سيُشكلّون كتلة ًبشريةً مُتقاربَة، بينها التراحُم والحب والتعاون والتكاتُف، في الحوار والعلم والعمل والإنتاج والأفراح والأحزان ونحوها، فيَنمون أكثر، ويُنتجون أكثر، ويَربحون أكثر، ويتلاحمون أكثر، فيَسعدون أكثر... في الداريْن.
وهذا هو ما يُفهَم من قوله (صلى الله عليه وسلم) المعروف: "مَن أحبَّ أن يُبسَط له في رزقه وأن يُنسَأ له في أثره فليصل رحمه"
(رواه البخاري ومسلم)، ومن قوله في الحديث القدسي: "قال الله عز وجل: أنا الله وأنا الرحمن، خلقتُ الرحم وشققتُ لها اسمًا من اسمي، فمَن وصلها وصلته ومَن قطعها قطعته" أو قال "بَتتّه" (رواه الترمذي وأبو داود) والذي قال فيه الإمام العيني في "عمدة القاري": "... والمعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها فالقاطِع لها مُنقطع من رحمة الله..."، ومن قوله (صلى الله عليه وسلم): "إنَّ أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم حتى إنَّ أهل البيت ليكونوا فجَرَة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصَلوا وما مِن أهل بيت ٍمتواصلون فيحتاجون" (رواه ابن حبَّان في صحيحه).
ثمّ تضيق دائرة الانتماء أكثر، لمزيدٍ من الانصهار، فيكون الانتماء للأسرة، حيث الودّ والرحمة والسكينة والتكامُل والتعاون والتسامح والتصافِي والانطلاق والإنتاج والربح، بين الآباء والأمهات والأبناء، كما يُفهَم من قوله تعالى: ?وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً? (الروم: من الآية 21).
ثمّ تضيق الدائرة أكثر فأكثر، حيث الانتماء للنفس، بمعني الرجوع إليها والاهتمام بها وإصلاح حالها ومحاولة تحقيق كمالها ونفعها وإسعادها، كما يُفهَم ضمنًا من قوله تعالى: ?عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ? (المائدة: من الآية 105)، والذي قال فيه الإمام أبو السعود في تفسيره: ".. أي الزموا أمر أنفسكم وإصلاحها، وُقرِئ بالرفع على الابتداء أي واجبة عليكم أنفسكم.."، ومن قوله (صلى الله عليه وسلم): "ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها..." (جزء من حديث رواه مسلم)، والذي قال فيه الإمام النووي في "شرح مسلم": "... في هذا الحديث فوائد: منها الابتداء في النفقة بالمذكور علي هذا الترتيب، ومنها أنَّ الحقوق والفضائل إذا تزاحَمَت ُقدِّمَ الأوْكدَ فالأوْكد.."، وكما يُفهَم أيضًا من قوله (صلى الله عليه وسلم) في حديثه المعروف: "المؤمن القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ ٍخير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز..." (جزء من حديث رواه مسلم)، والذي جاء في شرحه في "شرح كتاب التوحيد": "... قال الإمام ابن القيِّم: سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده..".
إنَّ الانتماء للذات هو أوَّل نقطة ٍللانطلاق الصحيح المُسْعِد بالحياة، وإذا صلح انصلح كل أنواع الانتماء بعدها، وإذا فسد فسدوا، لأنه ليس من المقبول، لا عقلاً ولا منطقًا ولا فطرةً، ولا شرعًا بالأدلة السابق ذكرها، أن يكون انتماء الإنسان لذاته ضعيفًا أو منعدمًا ثمَّ يتمكن بعد ذلك أن ينتميَ لأسرته أو لعائلته أو لجيرانه أو لبلدته أو لدولته أو لأرضه أو لإنسانيته! إذ بالعقل والمنطق والفطرة فإنَّ الانتماء يكون دائمًا للأقرب ثمّ للأبعد! فهذا هو الانتماء الفطريّ الطبيعيّ التدرجيّ المنطقيّ العقليّ المقبول، أمَّا الانتماء للأبعد قبل الأقرب فقد يشوبه شبهة عدم الصدق وعدم الاستمرارية لأنه مُخالِفٌ للفطرة وللعقل وللمنطق وغالبًا ما يكون ثقيلاً على النفس لا يُمكنها أن تكون مستمرّة أو صادقة فيه!! (برجاء مراجعة أيضًا مقالة: "النفس بين الأخذ والعطاء" لمزيدٍ من التفصيل والتوضيح).
ويؤكد هذا- إضافة إلى ما سبق ذكره من أدلة- بعض ما يُفهَم من الترتيب المنطقيّ للاهتمام وللانتماء في قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا? (التحريم: من الآية 6)، والذي قال فيه الإمام القشيري في تفسيره: ".. ودّلت الآية على وجوب الأمر بالمعروف في الدين للأقرب فالأقرب.."، وما يُفهَم أيضًا من قوله (صلى الله عليه وسلم): "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" (صححه الألباني)، والذي قال فيه الإمام السيوطي في "شرح سنن النسائي" في معرض شرحه لحديث: ".. وجُعِلت قُرَّة عيني في الصلاة": "... وأوْلىَ الخلق بالشفقة إلى كل واحدٍ من الناس، نفسه وبدنه..".
إنَّ كلَّ نوع ٍمن هذه الانتماءات لا يتعارَض مع الآخر أو يُضادّه! بل هو مُكمِّلٌ له ومُتمِمّ، ليتحقق أكمل تعاون، ويتحقق للبشرية الكمال، فتتحقق أكمل سعادة، في الدنيا والآخرة.
فحُسْن الانتماء للذات هو الأصل الخيريّ الذي يُمَهِّد لكل انتماء ٍخيريٍّ آخر، فمَن اهتمَّ بنفسه ونفعَها وأسعدها كاملاً، أضفىَ تلقائيًّا وبأقل مجهود نفعًا وسعادة ًعلى أسرته ثم عائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه ثم بلدته ثم وطنه ودولته ثم أمَّته ثم للأبْعَد فالأبعد حتي تسعَدَ الأرض كلها وكلّ مَن عليها.. والعكسُ صحيحٌ بكل تأكيد!
أمَّا إنْ تعارَضت هذه الانتماءات، بسبب قطع الصِلة بأهمّ وأقوى وأفضل انتماء أو قطعها مع الدين، أو النفس، أو الأسرة، أو العائلة، أو الجيرة، أو الزمالة، أو الصداقة، أو البلدة، أو الدولة، أو الأمَّة، أو الأرض، بسبب سوء العلاقة بين العقل وأيّ منها، بسبب جهلٍ أو تفكيرٍ شرّيٍّ أو مخالَفة لوصايا الخالق بتعاون ٍعلى إثم أو عدوان رغم تحذيره وقوله: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? (المائدة: من الآية 2)، أو بسبب تعصّبٍ في غير حقٍّ ولِمَا هو باطل على عكس وصية الرسول (صلى الله عليه وسلم): "ليس منا مَن دعا إلى عَصَبيَّة، وليس منا من قاتل عصبيةً، وليس منا مَن مات على عصبية" (رواه أبو داود)، أو بمحو عدلٍ ونشر ظلم ٍوالله تعالى يؤكد ?اعْدِلُوا? (المائدة: من الآية 8)، أو بتخريب إحسان ٍوإتقانٍ وتعميم إفساد وربنا يقول ناهيا: ?وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ? (الأعراف: من الآية 85)، أو بما شابَهَ هذا من الشرور والسيئات.. عَمَّ حينئذ ٍالتباغض والتباعُد والتشاحُن والتناحُر وحتى التقاتل، وهلك الجميع، وشقوا وتعسوا.
فأحْسِن أيها الداعي إلى الله والإسلام ترتيب انتماءاتك، لربك ثم لدينك ثم لنفسك ثم لأسرتك ثم لعائلتك ثم لجيرانك ثم لزملائك وأصدقائك ثم لبلدتك ووطنك ثم لدولتك ثم لأمّتك ثم لأرضك كلها بكل مخلوقاتها، وأحْسِن جَعْلها مُتكامِلة مُتعاونة لا مُتعارضة مُتصارعَة، وأحْسِن دعوة غيرك لمثل ذلك وتربيتهم عليه بالحسنى منذ صغرهم في بيوتهم وأماكن تجمعهم.. تسعَد ويَسعدون، وتُثاب ويُثابون، في دنياكم وأخراكم.