الحقاوي اخطر من بنكيران
×××××
بقلم
في كل خطبة جمعة يسألني الناس عن قضاياهم ومشاكلهم، ويطلبون أجوبة عن أسئلتهم المتنوعة، وكنت أقول لهم إني لست مخولا بذلك، فالفتوى لها أهلها ولها مؤسساتها، ولا أملك إلا التوجيه والإرشاد إلى مصادرها وأصحابها.
لكن أشد ما أثارني، وظل يثيرني، في عدة منابر خطبت فيها سؤال ثابت ولكنه شائك، معقد غير بسيط ولا يسير. إنه سؤال العلاقة بين المرء وزوجه، ولنقل إنه سؤال الأسرة، وما أدراك ما سؤال الأسرة. في مسجد واحد، تشرفت بإلقاء خمس خطب للجمعة في شهر رمضان الفائت في مسجد بحي الرياض بالرباط، وعقب كل صلاة جمعة كان يأتي أحدهم فيسألني عن آية الزوجية.
قال الأول إن امرأة فاضلة تسألك أن تدعو لها وتثير قضيتها. إنها سيدة ذات منصب وعلم بوزارة مهمة، وهي تعاني أشد العنت من زوجها الذي يقسو عليها حتى أنه يضربها الضرب العنيف. ولما نفذ صبرها توجهت للقضاء، وما أن علم بأن الأمر حتى احتال عليها بالاعتذار والمسكنة، متوسطا في ذلك بأهله وعشيرته. ثم غدر بها وقدم بها دعوى قضائية متهما إياها بأنها هي المعتدية الضاربة، وهو الضحية المعتدى عليه.
وفي المرة الثانية جاءني شاب لما يكمل به شهر العسل مع عروسه، حتى أخذ أهل الزوجة يثيرونها ضده، ويسعون للتفريق بينه وبينها بكل ما أوتوا من مكر وخديعة، وضغط وترهيب، والزوج الشاب متمسك بها محب لها غير راغب في فراقها، فيستغيث ويقول "أدركني سيدي الإمام وأخرجني من هذه العائلة الظالم أهلها وكن لي وليا ونصيرا".
وأما الثالث فاشتكى من تغير مزاج زوجته بعد أن تجاوزت الأربعين، وولدت له البنات والبنين، إذ بين الفينة والأخرى تنتابها حالة اكتئاب قوية فتخاصمه وتتهجم عليه وتدعو قائلة "اللهم باعد بيني وبينه كما باعدت بين المشرق والمغرب"، وهو مشدوه لا يعرف ماذا يفعل ولا بماذا يجيب ولا كيف ينقذ مؤسسته من انفراط عقدها بعد عشرة عمر طويلة. مسكين والله. لم يدرك أن سن اليأس تفعل الأفاعيل وتغير الأقاويل.
وأما رابعهم فجاء مستشيرا في خطبة بنته الكبرى، هل يوافق ويبرم الأمر دون مشاورتها أم يخبرها ويسمع رأيها؟
وأكاد أجزم أن نسبة كبيرة من الأسئلة التي تلقيتها طيلة ثلاثين عاما من المنبر كانت الأسرة هي المحور والمدار فيها.
دعوني أيها السادة أعترف لكم أن أي خطيب يحترم دينه وأمانته لا يستطيع أن يجيب عن تلك الأسئلة الخاصة والمحرجة أحيانا كثيرة، وهو واقف يرد على الناس تحياتهم، أو وهو مستعجل أمره. فالأمر يحتاج لروية وتريث وتقليب نظر وتكثيف الأسئلة، إذ أن سؤالا واحد من المستشير يقابله عشرة أسئلة من المستشار. فلا يمكن التأكد من صحة المعطيات التي تقدم عن أحوال الزوج وزوجه في غياب أحد الطرفين. هذا أولا. وثانيا لأن قضية الأسرة من أشد القضايا تعقيدا وتحليلا وتركيبا، ولذلك فصل القرآن الكريم في أمورها تفصيلا لا نظير له، حتى تجاوز قضية الحكم والنظام السياسي أمدا بعيدا.
لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم من حديث موجز أو مفصل عن الزوجية التي جعلها الله في كل شيء، بل جعلها آية بينة دالة رادة هادية. فلا يدرك معظم المتزوجين أنهم عندما يختارون ويعقدون إنما يؤمنون ويعبدون، سواء فيهم المؤمنون أو الغافلون. فلا تبديل لسنة الله ولا تحويل.
لقد كانت الأسرة هي أول مؤسسة خلقها الله في الجنة قبل أن يبث منها الرجال والنساء بكثرة، ثم الجماعات والمجتمعات قبل الأنظمة والإمبراطوريات. وكانت هذه المؤسسة لخطورتها وأهميتها هي أول ما شن عليه الشيطان هجومه الكاسح، قبل غيرها من المؤسسات.
واليوم تتعرض الأسرة لهجوم شامل في الدنيا بأسرها، وقد حقق المهاجمون قدرا كبيرا من الدمار الذي أرادوه لها، أولئك الذين قال الله عنهم في سورة عظيمة في اسمها وموضوعها وهي سورة النساء (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)، أولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، بعد أن أشاعوها في العالمين.
وإنكم لا تدرون أيها المسلمون الملتزمون أنكم الوحيدون في العالم المحافظون على النوع والزوجية والنسل والحياة، أما غيركم فقد انتحر انتحارا كبيرا. ولهذه القيمة العالية الحكيمة جعل رسول الإسلام معيار خيرية الإنسان في أسرته لا في عمله ووظيفته فقال "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
وبناء على ما سبق، فإن الأسرة أهم من بنكيران رئيس الحكومة المغربية بعد الربيع العربي، ولذلك أقول لكل متهجم على بنكيران ومنتقد له، سيدي الكريم قبل أن تنظر إلى بنكيران والذين معه سواء كانوا من حزب العدالة والتنمية أو من حزب التقدم والاشتراكية أو من حزب الحركة الشعبية أو من حزب الاستقلال، أنظر إلى بنكيران الذي يترأس حكومتك المنزلية، وهو أنت لا غيرك، وحاسبه هل قام بواجبه، وهل أدرك أي مسؤولية ضخمة ألقيت على عاتقه طيلة عمره بعد زواجه، وهل حقق فيها الخيرية أم الشرية. دع عنك بنكيران السياسي إلى حين، وحاسب، قبل أي أحد، بنكيران الأسري، وماذا فعل في صاحبته وبنيه، وأمه وأبيه، وفصيلته التي تؤويه، فهؤلاء ستلقاهم يوم الحساب وسوف تفر منهم خائفا مذعورا.
من أجل ذلك فإن أثقل مسؤولية لدى وزراء بنكيران هي التي تتحملها بسيمة الحقاوي لأن الأسرة ألقيت على كاهلها وتركت لحالها، فهي التي تستحق كل عناية واهتمام ومساعدة ورعاية، فتلك في نظري أهم وزارة، وأما الآخرون فيأتون بعدها، وهم لها خدم وحشم. وتلك حكاية أخرى. والله أعلم.