لعبة الانتخابات الامريكية
في كل سنة كبيسة، قابلة للقسمة على أربعة، يحبس العالم أنفاسه في انتظار الفائز في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة الأمريكية، التي تدور بين الحزبين العتيدين الديمقراطي و الجمهوري. فتمتلئ شوارع أمريكا و جدرانها بصور "الحمار" و "الفيل".
إنها لعبة السنة الكبيسة...
هذه اللعبة تقدم لنا كما لو كانت أروع نماذج الديمقراطية.
ألا تتم الانتخابات دائماً في وقتها المحدد؟
ألا تجرى وفقاً لضوابط دقيقة مستنبطة من دستور عمره أزيد من قرنين؟
ألا تتاح لكل مرشح فرصة كاملة لكي يعرض برنامجه على الناخبين، دون أي تمييز بين رئيس يمسك بزمام السلطة و منافس يريد أن ينتزعها منه؟
أليس الناخب ذاته حراً في الاختيار، بلا ضغط أو تزييف في عملية الانتخاب أو في نتائجها؟
هل سمع أحد أن رئيساً أمريكياً اقترب من نسبة التسعين بالمائة، التي هي نعمة خالصة، خص الله حكام العالم العربي بها دون غيرهم؟
هل شكا أحدهم أن صندوقاً وضع محل صندوق، أو أن ناخبين من الأموات قد قالوا "نعم" ؟
رغم كل هذا، و رغم الشكل الخارجي للعبة، الذي يوحي بتوفر كامل شروط الحرية و الاختيار السليم و تكافؤ الفرص، فإن خللاً ما يجعل الأمور لا تسير كما لو كان كل شيء على ما يرام.
مؤشرات الخلل:
الثابت الوحيد في أمريكا هو التغيير المستمر. فنادراً جداً ما يتم تجديد الولاية الرئاسية. و يفسر تأرجح الناخب الأمريكي بين جناح الليبراليين الديمقراطيين و المحافظين الجمهوريين، عن استيائه من ممارسات الرئيس القديم، وليس إعجاباً ببرنامج المرشح الجديد و المبادئ التي يبشر بها.
فيظل المواطن الأمريكي حبيس سياسة تنادي بالانفتاح و توسيع مجال الحريات، و بين أخرى محافظة تنادي بتخليق المجتمع الأمريكي و ترسيخ فكرة التفوق العسكري.
و هذا التذبذب من رئيس إلى نقيضه، يجعلنا نشك في مدا الخيارات المتاحة أمام المواطن ليكون صوته ممثلاً في شخص الرئيس. فهذا النوع من الانتخابات يعبر، حسب الإحصائيات الأخيرة، عما لا يريده الناخبون أكثر مما يعبر عما يريدونه.
إن المواطن الأمريكي العادي ضعيف الوعي من الناحية السياسية، و أستطيع أن أجزم أن وعي الإنسان العادي في عالمنا الثالث المتخلف أنضج من نظيره الأمريكي بكثير، نظراً للآفات التي يتخبط فيها و الشعور الحاد بالمشكلات المحيطة التي تعطيه الإحساس بالأخطاء التي ترتكبها أنظمة الحكم. الشيء الذي لا يملكه المواطن الأمريكي المنغمس في مجتمع يتسم عموماً بالوفرة، و اقتصاد تدور فيه عجلة الإنتاج بسرعة لا تمنحه مجرد فرصة التفكير في الجذور العميقة للعبة الانتخابية.
فماذا في وسع هذا المواطن الذي يعي فقط أن الرئيس قد خيب أمله و أخلف وعوده، و لكنه لا يملك من الوعي و الإدراك لكي يعترض عن اللعبة بأكملها و ما تنطوي عليه من عناصر الخداع؟
إن كل ما بوسع هذا الشخص أن يفعله هو أن يغير الرؤساء في كل مرة، و يأتي برئيس جديد يقدم وعوداً مضادة للسياسات التي كانت سائدة طوال السنوات الأربع السابقة. إنه لا يملك أن يعبر عن سخطه إلا باختيار ما يعتقد أنه نقيضه. و سيظل يدور في هذه الحلقة بلا انقطاع، إلى أن يدرك يوماً ما- و ما أظن أن هذا اليوم سيحل قريباً- أن هناك شيئاً ما غير صحيح.
ساعتها سيفهم أنه من العبث التصور بأن شخص الرئيس يلعب أي دور أساسي في سياسة بلاده، فهو ليس إلا ناطقاً بلسان قوى و مصالح ضخمة لها سياسات و استراتيجيات واضحة المعالم، لا يتغير منها كل مرة سوى بعض التكتيكات التفصيلية.
ألا تظنون مثلي، أن هناك خللاً ما في تلك الديمقراطية، التي توهم الناس، كل سنة قابلة للقسمة على أربعة، أنهم يمارسون حريتهم المطلقة في الاختيار، حيث لا يكون أي اختيار حقيقي، و حيث يتشابه المرشحان في كل شيء ما عدا بعض التفاصيل الفرعية؟
و على ما كل هذا الهرج و المرج، اللذان لا أول لهما و لا آخر، و اللذان يوهمان العالم بأسره أن الحرية تعيش أعظم أيامها؟
ألا يحتاج هذا المجتمع العظيم إلى وعي جديد يقنعه بأن اللعبة لا تستحق كل هذه الجدية، و بأن قواعدها الأساسية في حاجة إلى تغيير شامل؟
هذا، على أي حال، شأن الشعب الأمريكي، و كل ما يعنينا هنا هو أن لا ننجرف وراء هذه اللعبة، و نقطع أنفاسنا و نقف على أطراف أصابعنا في انتظار السادس من نونبر، و أن لا نربط مستقبلنا و قضايانا المصيرية بنتائج الانتخابات الأمريكية.
و لكن في مقابل كل هذا الخلل الذي ذكرته، ألا تضرب لنا الإدارة الأمريكية مثالاً يقتدى به في تسيير شؤون البلاد، رغم الهزات العنيفة التي يتعرض لها؟ أليست أمريكا القوة العسكرية و الاقتصادية رقم واحد في العالم، بغض النظر عن ذهاب رئيس و مجيء آخر؟ ألا يخرج من البيت الأبيض قرارات تغير وجه الكرة الأرضية، شئنا أم أبينا؟
فما سر هذا النجاح و التفوق على العالم بأسره؟
يجيبنا المفكر " ميلتون فريدمان " الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، من خلال كتابه القنبلة "Free to choose / حرية الاختيار " فيقول : ما دام ناتج "الحرية+المساواة" يضمن لنا تكافؤ الفرص أمام الجميع، فإن صعود النخبة إلى قمة الهرم أمر حتمي... هناك، في القمة، ستعطى لها الفرصة الكاملة لاستثمار قدراتها في تسيير البلاد. إنه شرط حيوي و لكنه غير كاف. بل يجب توفر عامل أهم لدى هذه النخبة إنه الإخلاص للأمة. أما الرئيس فما عليه إلا أن يختم خطابه في كل مرة بعبارة " فليبارك الرب أمريكا / God bless America " .
قال فريدمان هذا الكلام و تحت جناحه ثلاثة تلاميذ مباشرين، يحكمون في ثلاثة بلدان: ريجان في أمريكا، مرجريت تاتشر في بريطانيا، و مناحيم بيجن في إسرائيل...
السؤال الجوهري الذي يخصنا : هل النخبة هي التي تسير بلداننا ؟؟؟
إذا كان الجواب نعم، فلما هذا التخبط اللانهائي في المخططات الفاشلة؟ هل يا ترى إخلاصها للأمة مشكوك فيه، فهي تعمل من أجل المصلحة الفردية؟ أم أنها لا تزيد عن كونها نخباً مزيفة، استبدلت مكان النخب الحقيقية المكبوتة الطاقات و المشتتة داخل البلاد و خارجه؟
أخشى أن يكون الأمران معاً: نخبة مزيفة تعمل لمصالحها الذاتية.
كما في أمريكا، تقام عندنا، كل خمس سنوات، انتخابات تشريعية، نحاول تقليدها قدر الإمكان و حسب الميزانية المتوفرة، غير أن العدد خمسة يسمى في علم الرياضيات: عدد أولي، أي أنه لا يقبل القسمة إلا على نفسه.
فحذارٍ أن تصدقوا هذه اللعبة... إنها ترفض القسمة.
omar_ben.omar@yahoo.com
www.facebook.com/omar.benomar.771