ماذا أحدثوا بعدك؟
ماذا أحدثوا بعدك؟
...................
كتبه الأستاذ بلال فضل
سيدي ومولاي وقُرّة عيني ومَنْ أرجو شفاعته يوم القيامة: حضرة النبي العربي أبوالقاسم محمد بن عبدالله ابن امرأة كانت تأكل الثريد بمكة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
سيدي ومولاي لولا أنني أستحضر إنسانيتك الطاهرة وهي ترفض أن تدعو بالهلاك على الذين أخرجوك من أحب بلاد الله إليك لعل الله يخرج من بين أصلابهم من يوحد الله ويعلي كلمته، لولا ذلك لما كنت قد جرؤت على أن أخط كلمة أضعها بين يديك ولو حتى مجازا، فأنا واحد من المنتسبين إلى أمتك التي لا تدري بَعدُ ماذا أحدثت بعدك، ستعرف يوم القيامة عندما تهرع برحمتك التي وسعت الكون كله هاتفا «يا رب أمتي أمتي»، فيجيبك الله عز وجل «يا محمد إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك»،
وأسأل الله ألا أكون من بين أولئك المخيبين لآمالك والحائدين عن طريقك، لست أدري إلى ماذا أستند في هذا الأمل، فقد أمرتنا فلم نتبع، ونهيتنا فلم نرتدع، وتركت لنا ما نسمو به فأبَيْنا إلا اتباع ما ننحط إليه وابتداع ما يبعدنا عن دربك، فكيف يكون لي قلب بعد ذلك كي أكتب جوابا لحضرتك أبثك فيه مواجعنا وأشكو لك فيه حالنا وأعترف لك بما أحدثناه من بعدك.
أشعر بخجل شديد وأنا أتصور، مجرد تصور، أن كلماتي قد تصل إليك، دون أن تعلم أنها كلمات شخص أثقلت المعاصي حُموله وسَوّدت الخطايا صحائفه، لكنه مازال آملاً في رحمة الله وشفاعة نبيه، ومعتذراً إلى الله بيقينه في مغفرته وسعيه لرحمته، لكنك يا سيدي ومولاي أرفق بنا من أنفسنا، وأرحم بنا ممن حولنا، ومازلنا نتلمس الأمل في قصص إنسانيتك ورحمتك وحنانك وعطفك على الخطاة وضعاف النفوس والمشمولين بستر الله عز وجل.
صدقني يا سيدي ومولاي إنني أشعر بخجل مُذِلٍّ مُضِنٍّ مُمِضٍّ عندما أفكر أنك تحملت بطش كفار مكة وتنكيلهم بك ووضعهم الشوك والروث والقاذورات على جسدك الطاهر وتسفيههم لك ومنعهم الناس عنك وتعذيب أصحابك وأحبابك وإخراجك من ديارك والتفريق بينك وبين من تحب، تحملت كل ذلك يا سيدي وأنت لا تعلم أنه سيأتي أناس ينتسبون إلى أمتك فيفعلون ما كان يُفعل بك بأناس آخرين مثلهم دون أن يرعوا فيهم إِلاًّّ ولا ذمة، يبلغ مني القهر كل مبلغ عندما أتذكر أنك تحملت شج رأسك وكسر رباعيتك ونزيف دمائك الطاهرة في غزوة «أُحد» دون أن تعلم أن دينك الذي حاربت من أجله سيتحول إلى وسيلة لقتل الأبرياء وترويع الآمنين وتكفير المفكرين وتثبيت عروش الطغاة، وكل ذلك على أيدى مَنْ يدّعون انتسابهم إليك وإليه.
لم يكن هذا يا سيدي ومولاي ما حلمت به، وما عشت ومُتَّ من أجله، وما غرسته في نفوس أصحابك، نحن نذكر اسمك في اليوم عشرات المرات، ونتوسل به لمن نحب، ونتقي به شر من نكره، ونتوعد به من نعادي، لكننا لا نذكر منك إلا اسمك، لا نذكر أبدا خصالك الحميدة ولا أفعالك الطيبة ولا أقوالك الحكيمة، ونتبجح بعد كل هذا فنعلن نسبتنا إليك ونصلي عليك بألسنتنا وأفعالنا خليقةٌ بأن تُصْلينا سواء الجحيم.
دعوتنا إلى العلم فجهلنا، وإلى أن تكون الحكمة ضالّتنا فأضللناها، وإلى أن نتراحم فتراجمنا وتعادينا وصِرنا شِيَعاً يضرب بعضها رقاب بعض، وكل ضارب يضرب محتمياً بحديث منسوب إليك أو أثر منحول عنك، نهيتنا عن الظلم فصار لنا شِرْعةً ومنهج حياة، وأمرتنا بتوقير الكبير فعبدناه من دون الله.
أمرتنا أن نزوج بناتنا لمن نرضى دينه وخلقه فلم نعد نزوجهن إلا لمن يرضينا ماله ونسبه وإن قل دينه وانعدم خلقه، نفيت صفة الإيمان عمن يبيت شبعان وجاره إلى جنبه جوعان وهو يعلم، فصرنا نحرص على ألا نعلم، يعيش بين ظهرانينا أفحش الناس غنى وأدقع الناس فقراً، تُنفَق الأموال بالملايين تحت أقدام الراقصات وعلى موائد القمار ولتأمين مواكب الحكام،
بينما ينتحر الناس مضحّين بكل شىء خجلا من أسئلة عيون أطفالهم، يسرق فينا الكبير فلا تُشاكه شوكة ويسرق الصغير فتُنشر صوره في صفحات الحوادث تشهيرا وتجريسا وعقابا، نقيم الحدود فقط على من يدعو للخروج على الحاكم والأخذ على يده، بأسنا بيننا شديد، وذِكْرنا خافٍ بين الأمم، أصبحنا عالة على الدنيا، وحقل تجارب لأقويائها، وهُنّا على أنفسنا فَهُنّا على الناس، أكبر علمنا الدنيا ومبلغ أملنا انقضاء اليوم دون خسائر، وغاية رغبتنا أن يكفينا الله بطش حكامنا بنا، تسلط علينا حكامنا بفضل علماء يُجرون سُنّتك على ألسنتهم فيكتمون منها ما شاؤوا ويجهرون منها بما شاء حكامنا،
أصبح أبناء أمتك يا سيدي ومولاي يُقتلون بأيدي بعضهم البعض، ولا يرعون في ضعيف أو مقهور إِلاًّ ولا ذمة، ولم يعد للضعفاء والمقهورين في أمتك إلا أن يتمثلوا سيرتك وأنت تجلس في بستان الطائف غريباً حزيناً مكسوراً دامياً ضعيفاً وحيداً شريداً طريداً، ترفع يديك إلى السماء وتقول دعاءك الذي صار لنا وَنَساً وأُنساً وبلسماً وشفاء من كل داء «يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي.. إلى مَنْ تكلني.. إلى قريب يتجهمني أم إلى عدو ملَّكته أمري.. إن لم يكن بك علىّ غضب فلا أبالى ولكن عافيتك أوسع لي.. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك.. لك العُتْبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله».
ذنوبنا كثيرة يا رسول الله، ومازلنا نتمادى فيها ومازلنا نؤجل التوبة طمعا في الدنيا واغترارا بطول الأجل، ولا ندري أنُدرك اليوم الذي نشرب فيه من يدك الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا، أم أننا لا قدر الله سنعيش بحسرتنا وحيرتنا وظمأ قلوبنا دنيا وآخرة، ولا ندري قبل ذلك أندرك اليوم الذي لا يُذكر فيه اسمك على لسان فاسد أو ظالم أو موالس أو لص بنوك أو مغتصب سلطة يدعي أنه ينتسب إليك، فاسمك أَجَلُّ من أن يتاجر به أحد هؤلاء، اسمك يخصنا نحن العصاة الراغبين في التوبة، والخطاة الحالمين برحمة الله، والحائرين اللائذين بأمانك لمن يحتار، والعاشقين عفة وطهراً، والمشتعلين عزما وعزيمة، والباحثين عن طريق يوصلنا إلى حوضك المرصود وِوِرْدِك المورود، والظالمين لأنفسهم المتظلمين بين يديك.. نحن أمتك يا رسول الله فاغفر لنا ما أحدثناه من بعدك، واسق العطاشِ تكرماً فالقلب طاش من الظمأ.