المبتوتة
[ شرط رجعة المبتوتة ]
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا قَالَتْ : (( جَاءَت امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى النَّبِيِّ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ، فَقَالَتْ : كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلاَقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الزُّبيْرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ- فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ - وقالَ : ((أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رفَاعَةَ ؟ لاَ، حتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)) قالَتْ : وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: ((يَا أَبا بَكْرٍ، أَلاَ تَسْمَعُ هذِهِ ما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ؟)) .
عبد العزيز الداخل
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى عبد العزيز الداخل
زيارة موقع عبد العزيز الداخل المفضل
البحث عن المشاركات التي كتبها عبد العزيز الداخل
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الثاني: التصحيح اللغوي)
عبدُ الرحمنِ بنُ الزُّبَيْرِ
هو بفتْحِ الزايِ وكسْرِ الباءِ ثانيةِ الحروفِ ونُقِلَ السُّهيليِّ عن البخاريِّ ضَمُّه في الزبيرِ بنِ عبدِ الرحمنِ وفي الأسماءِ عبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ الأَسَدِيُّ بزايٍ مفتوحةٍ أيضًا له أخبارٌ مع عبدِ اللهِ بنِ الزبيرِ بالضمِّ ابنِ العَوَّامِ .
وذَكَرَ الوزيرُ المغربيُّ في كتابِ ( الإيناسِ في علْمِ الأنسابِ ) : ذهَبَ أحمدُ بنُ يَحيَى الأزديُّ وحدَه إلى أن عَمَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الزبيرُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ بفتْحِ الزايِ والباقون كلُّهم على ضمِّها .
قولُه : هُدْبَةُ الثوبِ بضَمِّ الهاءِ وإسكانِ الدالِ المهمَلةِ .
طرَفُه الذي لم يُنْسَجْ شبَّهُوه بهُدْبِ العينِ وهو شعْرُ جَفْنِها، قالَه النوويُّ .
وقالَ ابنُ دقيقِ العيدِ : فيه وجهان :
أحدُهما : أنه شبَّهَه بذلك لصِغَرِه .
وثانيهما: لاسترخائِه وعدَمِ انتشارِه .
محمد أبو زيد
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى محمد أبو زيد
البحث عن المشاركات التي كتبها محمد أبو زيد
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
خلاصة الكلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام
بابٌ: لا يَنْكِحُ مُطَلَّقَتَهُ ثَلَاثًا
حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةٍ
عنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا قَالَتْ: ((جَاءَت امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ- فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالَ: ((أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رفَاعَةَ؟ لَا، حتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)) قالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: ((يَا أَبا بَكْرٍ، أَلَا تَسْمَعُ هذِهِ ما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)).
المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (فَبَتَّ طَلَاقِي). بتشديدِ التاءِ، أصلُهُ القَطْعُ، والمرادُ طَلَّقَ الطلقةَ الأخيرةَ.
قَوْلُهُ: (الزَّبِيرُ). بفتحِ الزايِ وكَسْرِ الياءِ.
قَوْلُهُ: (هُدْبَةِ). بِضَمِّ الهاءِ وسكونِ الدالِ، هيَ طَرفُ الثوبِ الذي لم يُنْسَجْ، شَبَّهُوهَا بِهُدَبِ العَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عُسَيْلَتَهُ). بِضَمِّ العَيْنِ تَصْغِيرُ عَسَلَةٍ، وهيَ كنايةٌ عن الجِمَاعِ، شَبَّهَ لَذَّتَهُ بِلَذَّةِ العَسَلِ وحلاوتِهِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أنَّ المُرَادَ بِبَتِّ الطَّلَاقِ هنا الطَّلْقَةُ الأخيرةُ من الثلاثِ.
الثَّانِيَةُ: أنْ لا يَحِلَّ بعدَ الطلقةِ المُكَمِّلَةِ للثلاثِ أنْ يَنْكَحِهَا زَوْجُهَا الباتُّ إلَّا بعدَ أنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ وَيَطَأَهَا الثَّانِي، وهيَ العُسَيْلَةُ المَذْكُورَةُ.
الثَّالِثَةُ: أنْ لا بَأْسَ منْ ذِكْرِ الأشياءِ التي يُسْتَحْيَى فيها للحَاجَةِ.
محمد أبو زيد
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى محمد أبو زيد
البحث عن المشاركات التي كتبها محمد أبو زيد
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
تيسير العلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام
بَابُ لاَ يَنْكِحُ مُطَلَّقَتَهُ ثَلاثاً حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
الحَديثُ السادِسُ بَعْدَ الثلَاثِمِائَةٍ
306- عن عائِشَةَ رضي اللهُ عنها قالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَتْ: كنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظَيِّ فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلاَقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحمنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وقالَ :((أَتُرِيدينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)). فَقَالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبا بَكْرٍ، أَلاَ تَسْمَعُ إِلى هذِهِ ما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟!(125).
_________
(125) الْغَرِيبُ:
فَبَتَّ طَلَاقي: بِتَشْدِيدِ التَّاءِ المُثَنَّاةِ.أَصْلُهُ: القَطْعُ، والمُرَادُ طَلَّقَها الطَّلْقَةَ الأخِيرَةَ مِن الطَّلَقاتِ الثَّلاثِ، كَما في صَحيحِ مُسْلِمٍ: ((فَطَلَّقَها آخِرَ ثَلاثِ تَطْليقاتٍ )).
الزَّبِيرُ : بِفَتْحِ الزَّاي، بَعدَها بَاءٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ ياءٌ، ثُمَّ رَاءٌ.
هُدْبَةِ : بِضَمِّ الهاءِ، وإسْكانِ الدَّالِ، بَعْدَها مُوَحَّدَةٌ: هِيَ طَرَفُ الثَّوبِ الَّذي لم يُنْسَجْ، شَبَّهوها بِهُدْبِ العَينِ.
أَرادَتْ أنَّ ذَكَرَهُ يُشْبِهُ الهُدْبَةَ في الاسْتِرخاءِ وعَدَمِ الانْتِشارِ.
عُسَيْلَتَهُ: بِضَمِّ العَيْنِ، وفَتْحِ السِّينِ، تَصْغيرُ ((عَسَلَة))، وهِيَ كِنايَةٌ عن الجِماعِ، شَبَّهَ لَذَّتَهُ بِلذَّةِ العَسَلِ وحَلَاوَتِهِ.
المَعْنى الإجْمالِيُّ:
جاءَت امْرَأةُ رِفاعَةَ القُرَظِيِّ شاكِيَةً حَالَها إلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
فَأخْبَرَتْهُ أنَّها كانَتْ زَوْجًا لِرِفاعَةَ، فَبَتَّ طَلاقَها بالتَّطْليقَةِ الأخيرَةِ، وهِيَ الثَّالِثَةُ مِن طَلَقَاتِها، وأنَّها تَزَوَّجَتْ بَعدَهُ ((عَبدَ الرَّحْمَنِ بنَ الزَّبِيرِ ))، فَلمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَمَسَّها؛ لِأنَّ ذَكَرَهُ ضعيفٌ رَخْوٌ، لا يَنتَشِرُ.
فَتَبسَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن جَهْرِها وتَصْريحِها بِهذا الَّذي تَسْتَحِي منهُ النِّساءُ عَادَةً، وفَهِمَ أنَّ مُرادَها الحُكْمُ لها بالرُّجوعِ إلى زَوْجِها الأوَّلِ رِفَاعَةَ، حَيثُ ظَنَّتْ أنَّها بِعَقْدِ النِّكاحِ مِن عِبْدِالرَّحْمَنِ قدْ حلَّتْ لهُ.
ولَكنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَبَى عليها ذلكَ، وأخْبَرَها بِأنَّهُ لابُدَّ ـ لِحِلِّ رُجوعِها إلى رِفَاعَةَ ـ مِن أنْ يَطَأَها زَوْجُها الأخِيرُ.
وكانَ عِندَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبو بَكْرٍ، وخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بالْبابِ يَنْتَظِرُ الإذْنَ بالدُّخولِ، فَنَادى خَالِدٌ أبا بَكْرٍ مُتَذَمِّرًا مِن هذه المَرْأَةِ الَّتي تَجْهَرُ بِمِثلِ هذا الكَلامِ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كُلُّ هذا لِمَا لَهُ في صُدورِهِمْ مِن الهَيْبَةِ والإجْلالِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورضي اللهُ عنهم وأرْضاهُم ، وَرَزقَنَا الأدَبَ معه، والاتِّباعَ لهُ.
ما يُؤخَذُ مِن الحَديثِ:
1- أنَّ المُرادَ بِبَتِّ الطَّلاقِ هُنا الطَّلْقَةُ الأخيرَةُ مِن الثَّلاثِ، كما بَيَّنَتْهُ الرِّوايَةُ الأُخْرى، كما تَقدَّمَ في شَرْحِ ((الغَريبِ)).
2- أنَّهُ لا يَحِلُّ بَعدَ هذا الْبَتِّ المَذْكورِ هُنا أنْ يَنْكِحَها زَوجُها الَّذي بَتَّ طَلاقَها، إلَّا بَعدَ أنْ تَتزَوَّجَ غَيرَهُ، ويَطَأَها الزَّوجُ الثَّاني، فيَكُونُ المُرادُ بقولِهِ تعالى : ( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) الوَطْءَ، لا مُجرَّدَ العَقْدِ. قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ العُلَماءُ على اشْتِراطِ الجِماعِ لِتَحِلَّ للأوَّلِ ، فَلا تَحِلُّ لهُ حتَّى يُجامِعَها الثَّاني.
3- المُرادُ بالعُسَيْلَةِ اللَّذَّةُ الحاصِلَةُ بِتَغْييبِ الحَشَفَةِ، ولو لم يَحْصُلْ إنْزالُ مَنِيٍّ، وعليهِ إجْماعُ العُلَماءِ، فلابُدَّ مِن الإيلَاجِ؛ لِأنَّهُ مَظِنَّةُ اللَّذَّةِ.
4- أنَّهُ لابُدَّ مِن الانْتِشارِ، وإلَّا لم تَحْصُلِ اللَّذَّةُ المُشْترَطَةُ.
5- أنَّهُ لا بَأْسَ مِن التَّصْريحِ بالأشْياءِ الَّتي يُسْتَحَى مِنْها للحاجَةِ، فقَدْ أقرَّها النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلكَ، وتَبَسَّمَ مِن كَلَامِها.
6- حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وطِيبُ نَفْسِهِ ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنا اتِّباعَهُ، والاقْتِداءَ بهِ. آمينَ.
اخْتِلافُ العُلَماءِ فيمَن أوْقَعَ الطَّلاقَ دُفْعَةً واحِدَةً:
مَوضِعُ ذِكرِ هذا الخِلافِ هُوَ (بابُ الطَّلاقِ )، وبِما أنَّ المُؤلِّفَ لم يأتِ هناكَ بِما يُشيرُ إليهِ، وجاءَتْ مُناسَبَتُهُ هنا، فإنِّي أذْكُرُهُ لِقُوَّتهِ، وللحاجَةِ إليهِ.
فَقدِ اخْتَلفَ العُلَماءُ فيمَن أوْقَعَ الطَّلاَقَاتِ الثَّلاثَ دُفعَةً واحِدةً، أو أوْقَعَها بِكَلماتٍ ثَلاثٍ لم يَتَخلَّلْها رَجْعَةٌ، فهلْ تَلْزَمُهُ الطَّلَقاتُ الثَّلاثُ، فلا تَحِلُّ لهُ زَوْجتُهُ إلَّا بَعدَ أنْ تَنْكِحَ زَوجًا غَيْرَهُ، وتَعْتَدَّ منهُ، أَمْ أنَّها تَكونُ طَلْقَةً واحِدةً، لهُ رجْعَتُها ما دامَتْ في العِدَّةِ، وبَعدَ العِدَّةِ يَعْقِدُ عَلَيْها، ولو لم تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَهُ؟
اخْتلَفَ العُلَماءُ في ذلكَ اخْتِلافًا طَويلًا عَريضًا، وعُذِّبَ مِن أجْلِ القولِ بالرَّجْعةِ بها جَماعةٌ مِن الأئِمَّةِ والعُلماءِ، مِنهم شَيخُ الإسلامِ ((ابْنُ تَيْمِيَّةَ )), وبَعضُ أتْباعِهِ.
وما ذلكَ إلَّا لِأنَّ القولَ بِوقُوعِها، هُوَ المَشْهورُ مِن المَذاهِبِ الأرْبَعةِ, وكأنَّ مَن خَرَجَ عنْها لِقُوَّةِ دَلِيلٍ أو لاتِّباعِ إمامٍ مِن سَلَفِ الأُمَّةِ لَيسَ على حَقٍّ، قاتَلَ اللهُ التَّعَصُّبَ والهَوَى، وهِيَ مَسألَةٌ طَويلَةٌ.
ولكِنَّنا نَسُوقُ هُنا مُلخَّصًا، فيهِ الكِفايَةُ .
ذَهبَ جُمهورُ العُلَماءِ، ومِنهم الأئِمَّةُ الأرْبَعةُ، وجُمْهُورُ الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ إلى وقُوعِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ إذا قالَ : (أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا ) ونَحْوَهُ ، أو ((بِكَلماتٍ )) ولو لم يكُنْ بَينَهُنَّ رجْعَةٌ.
ودَليلُهمْ حَديثُ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِاللهِ (أنَّهُ طَلَّقَ امْرأتَهُ البَتَّةَ ) ، فَأخبَرَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِذلكَ, فقالَ : ((واللهِ ما أردْتَ إلَّا واحِدَةً ؟)).
قالَ رُكَانَةُ: ((واللهِ ما أرَدْتُ إلَّا واحِدَةً )). يَسْتَحْلِفُهُ ثَلاثًا.
وهذا الحَديثُ أخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ ، وأبو دَاودَ ، والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وابْنُ حِبَّانَ، والحَاكِمُ.
ووَجْهُ الدَّلَالَةِ مِن الحَديثِ، اسْتِحلافُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِلمُطَلِّقِ أنَّهُ لمْ يُرِدْ بالبَتَّةِ إلَّا واحِدَةً، فَدَلَّ على أنَّهُ لو أَرادَ بها أكْثَرَ لوقَعَ ما أرادَهُ.
واسْتدَلُّوا أيْضًا بِما في صَحيحِ البُخارِيِّ ، عن عائِشَةَ ، أنَّ رجُلًا طَلَّقَ امْرأتَهُ ثلاثًا، فَتَزوَّجَتْ فَطُلِّقَتْ,
فَسُئِلَ رسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟
قالَ :((لا ، حَتَّى يَذوقَ عُسَيْلَتَها كَما ذاقَ الأوَّلُ )) . ولو لم تَقَعِ الثَّلاثُ لم يَمنَعْ رُجوعَها إلى الأوَّلِ إلَّا بَعدَ ذَوقِ الثَّاني عُسَيْلَتَها.
واسْتدَلُّوا أيْضًا بِعَملِ الصَّحابَةِ، مِنهم عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنهم على إيقاعِ الثَّلاثِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ ثلاثاً، كَما نَطَقَ بِها المُطَلِّقُ، وكَفَى بِهم قُدْوَةً وأُسْوَةً.
ولَهُم أدِلَّةٌ غَيرُ ما سُقْنا ، ولكِنْ ما ذَكَرْنا هُوَ الصَّريحُ الواضِحُ لَهُم.
وذَهَبَ جَماعةٌ مِن العُلماءِ إلى أنَّ مُوقِعَ الطَّلاقِ الثَّلاثِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ ، أو بِكَلِماتٍ لم يَتَخَلَّلْها رَجْعَةٌ، لا يَقعُ علَيهِ إلا طَلْقَةٌ واحِدَةٌ, وهُوَ مَروِيٌّ عن الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ ، وأرْبابِ المَذاهِبِ.
فمِن الصَّحابَةِ القائِلينَ بهذا القولِ: أبو مُوسى الأشْعَرِيُّ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وعَبْدُاللهِ بنُ مَسْعُودٍ، وعَلِيٌّ، وعَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، والزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ، ومِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ، وعَطَاءٌ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وغَالِبُ أتْباعِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وعَبْدُاللهِ بنُ مُوسى، ومُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ.
ومِن أرْبابِ المَذاهِبِ ، دَاودُ وأكْثَرُ أصْحابِهِ، وبَعضُ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ، وَبعضُ أصْحابِ مالِكٍ، وبَعضُ أصْحابِ أَحْمَدَ، مِنهم المَجْدُ عَبْدُالسَّلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ، وكانَ يُفْتِي بِها سِرًّا، وحَفيدُهُ شَيخُ الإسلامِ ((ابنُ تَيْمِيَّةَ)) يَجْهَرُ بها, ويُفْتي بها في مَجالِسِهِ، وقدْ عُذِّبَ مِن أجْلِ القولِ بها، هُوَ وكَثيرٌ مِن أتْباعِهِ.
ومِنهُم ابنُ القَيِّمِ الَّذي نَصَرَها نَصْرًا مُؤَزَّرًا في كِتابَيْهِ: [الهَدْيُ ] و[إِعْلامُ المُوَقِّعِينَ ], فقدْ أطالَ البْحثَ فيها، واسْتَعْرَض نُصوصَها ، ورَدَّ على المُخالِفينَ بِما يَكْفي ويَشْفِي, واسْتَدلَّ هَؤلاءِ بالنَّصِّ، والقِياسِ.
فأمَّا النَّصُّ فما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحيحِهِ [ أنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قالَ لابنِ عَبَّاسٍ: ألمْ تَعْلَمْ أنَّ الثَّلاثَ كانَتْ تُجْعَلُ واحِدَةً على عَهْدِ رَسُو لِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبي بَكْرٍ، وفي صَدْرٍ مِن إمارَةِ عُمَرَ؟ قالَ : نَعَمْ ] وفي لَفْظٍ: [تُرَدُّ إلى واحِدَةٍ ؟ قالَ: نَعَمْ].
فهذا نَصٌّ صَحيحٌ صَريحٌ، لا يَقْبَلُ التَّأْويلَ والتَّحْويلَ.
وأمَّا القِياسُ فإنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ مُحَرَّمٌ وبِدْعَةٌ، والنَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ :((مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). وإيقاعُ الثَّلاثِ دُفعَةً واحِدَةً لَيْسَ مِن أمْرِ الرَّسولِ ، فَهُوَ مَردودٌ مَسْدودٌ.
وأجابَ هؤلاءِ عن أدِلَّةِ الجُمهورِ بِما يَأتي:
أمَّا حديثُ رُكَانَةَ فقدْ وَرَدَ في بَعضِ ألفاظِه:ِ (أنَّهُ طَلَّقَها ثَلاثًا). وفي لَفْظٍ: (واحِدَةً). وفي لَفْظ:ٍ (البَتَّةَ). ولِذا قالَ البُخَارِيُّ : إنَّهُ مُضْطَرِبٌ.
وقالَ الإمامُ أَحْمَدُ: طُرُقُهُ كُلُّها ضَعيفَةٌ. وقالَ بَعْضُهُمْ: في سَنَدِهِ مَجْهولٌ، وفيه مَن هُوَ ضَعيفٌ مَتْروكٌ.
قالَ شيخُ الإسلامِ: وحَديثُ رُكانَةَ ضَعيفٌ عِندَ أئِمَّةِ الحَديثِ, ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، والبُخَارِيُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وابْنُ حَزْمٍ, بِأَنَّ رُواتَهُ لَيْسُوا مَوصُوفِينَ بالعَدْلِ والضَّبْطِ, وأمَّا حَديثُ عَائِشَةَ فالاسْتِدْلالُ بهِ غَيْرُ وَجيهٍ، إذْ مِن المُحتَمَلِ أنَّ مُرادَها بالثَّلاثِ نِهايَةُ ما للمُطَلِّقِ مِن الطَّلقَاتِ الثَّلاثِ ، وإذا وُجِدَ الاحْتِمالُ بَطَلَ الاسْتِدْلالُ، وهُوَ مُجْمَلٌ يُحْمَلُ على حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ المُبَيَّنِ, كَما جاءَ في الأُصُولِ.
وأمَّا الاسْتِدلالُ بِعَمَلِ الصَّحابَةِ، فما أوْلَاهُمْ بالاقْتِداءِ والاتِّباعِ.
ونَحنُ نقولُ : إنَّهُمْ يَزيدونَ عن مِائَةِ ألْفٍ، وكُلُّ هذا الجَمْعِ الغَفيرِ - وأَوَّلُهُمْ نَبِيُّهُمْ - يَعُدُّونَ الثَّلاثَ واحِدَةً حتَّى إذا تُوُفِّيَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم, وهِيَ على ذلكَ ، وجاءَ خَليفَتُهُ الصِّدِّيقُ, فاسْتَمرَّت الحالُ على ذلكَ حتَّى تُوُفِّيَ، وخَلَفَهُ عُمَرُ رضي اللهُ عنه، فَمَضى صَدْرُ خِلافَتِه,ِ والأمْرُ كَما هُوَ على عَهْدِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَهْدِ الصِّدِّيقِ، بَعدَ ذَلكَ جُعِلَت الثَّلاثُ واحِدةً, كما بيَّنَّا سَببَهُ وبَيانَهُ .
فَصارَ جُمْهورُ الصَّحابَةِ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ قَبلَ خِلافَةِ عُمَرَ، أو نَزَحَتْ بِهِ الفُتوحاتُ قَبلَ مَجلِسهِ الَّذي عَقَدَهُ لِبَقيَّةِ أصْحابِهِ المُقيمينَ عِندَهُ في المَدينَةِ.
فَعَلِمْنا - حِينَئذٍ - أنَّ الاسْتِدْلالَ بِعَمَلِ الصَّحابَةِ مَنْقوضٌ بِما يُشْبِهُ إجْماعَهُمْ في عَهْدِ الصِّدِّيقِ على خِلافِهِ.
وعَمِلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عنه, حاشَاهُ وحاشَا مَن مَعهُ أنْ يَعْمَلوا عَمَلًا يُخالِفُ ما كانَ على عَهْدِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم, وإنَّما رَأَى النَّاسَ تَعجَّلوا، وأَكْثَروا مِن إيقاعِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ, وهُوَ بِدْعَةٌ مُحرَّمَةٌ، فَرَأَى أنْ يُلزِمَهُمْ بِما قالُوهُ؛ تَأْدِيبًا وتَعْزِيرًا على ما ارْتَكَبوهُ مِن إثْمٍ، وما أَتَوْهُ عن ضِيقٍ, هُمْ في غِنًى عَنْهُ ويُسْرٍ وسَعَةٍ.
وهذا العَمَلُ مِن عُمَرَ رضي اللهُ عنه اجْتِهادٌ مِن اجْتِهادِ الأئِمَّةِ، وهُوَ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الأزْمِنَةِ والأمْكِنَةِ، ولا يَسْتَقِرُّ تَشْرِيعًا لازِمًا لا يتَغَيَّرُ، بَل المُستَقِرُّ اللَّازِمُ هُوَ التَّشْريعُ الأصْلِيُّ لهذه المَسأَلَةِ.
قالَ شَيخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ اللهُ : وإنْ طَلَّقَها ثَلاثًا في طُهْرٍ واحِدٍ بِكَلِمةٍ واحِدَةٍ أوْ كَلِماتٍ ، مِثْل:ِ ((أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا)). أو: ((أنْتِ طالِقٌ، وطالِقٌ، وطالِقٌ)). أو: ((أنْتِ طالِقٌ، ثُمَّ طالِقٌ، ثُمَّ طالِقٌ)). أو يقولُ : أنْتِ طالِقٌ. ثُمَّ يقولُ : أنْتِ طالِقٌ. ثُمَّ يقولُ : أنْتِ طالِقٌ. أوْ عَشْرَ طَلَقاتٍ ، أوْ مِائَةَ طَلْقَةٍ، ونَحْوَ ذلكَ مِن العِباراتِ. فهذا لِلعُلَماءِ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ فيه ثَلَاثَةُ أقوالٍ، سَوَاءٌ كانَتْ مَدْخولًا بها, أوْ غَيْرَ مَدْخولٍ بها.
أَحدُهَا : أنَّهُ طَلَاقٌ مُباحٌ لَازِمٌ. وهُوَ قولُ الشَّافِعِيِّ وأَحْمَدَ في الرِّوَايَةِ القَديمَةِ عنهُ، اخْتارَها الخِرَقِيُّ.
الثَّانِي : أنَّهُ طَلاقٌ مُحرَّمٌ لَازِمٌ . وهُوَ قولُ مالِكٍ وأبي حَنيفَةَ، وأَحْمَدَ ، اخْتارَها أكْثَرُ أصْحابِهِ، وهذا القَوْلُ مَنْقُولٌ عن كَثيرٍ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ مِن الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ.
الثَّالِثُ : أنَّهُ مُحرَّمٌ, ولا يَلْزَمُ مِنه إلَّا طَلْقَةٌ واحِدَةٌ، وهذا القولُ مَنْقولٌ عن طائِفَةٍ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ مِن الصَّحابَةِ، وهُوَ قولُ كَثيرٍ مِن التَّابِعينَ ومَن بَعدَهُمْ، وهُوَ قولُ بَعضِ أصْحابِ أبي حَنِيفَةَ، ومالِكٍ، وأَحْمَدَ.
وهذا القولُ ((الثَّالِثُ)) هُوَ الَّذي يَدُلُّ عليهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ, ولَيْسَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ ما يُوجِبُ الإلْزامَ بالثَّلاثِ بمَن أوْقَعَها جُمْلَةً بِكَلِمَةٍ أو كَلِماتٍ بِدونِ رَجْعَةٍ أو عَقْدٍ, بَلْ إنَّما في الكِتابِ والسُّنَّةِ الإلْزامُ بذلكَ مَن طَلَّقَ الطَّلاقَ الَّذي أباحَهُ اللهُ ورَسولُهُ, وعلى هذا يَدُلُّ القياسُ والاعْتِبارُ بِسائِرِ أُصولِ الشَّرْعِ ... (و) لَا نِزاعَ بَيْنَ المُسْلِمينَ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعْصومٌ فيما يُبَلِّغُهُ عن اللهِ تعالى ، فَهُوَ مَعْصومٌ فيما شَرَعَهُ لِلأُمَّةِ بإجْماعِ المُسْلِمينَ، وكذلكَ الأُمَّةُ أيْضًا مَعْصومَةٌ أنْ تَجْتَمِعَ على ضَلالَةٍ.
وقالَ رَحِمهُ اللهُ تعالى في مَوْضِعٍ آخَرَ: والفَرْقُ ظاهِرٌ بَيْنَ الطَّلاقِ والحَلِفِ بِهِ، وبَيْنَ النَّذْرِ والحَلِفِ بالنَّذْرِ، فإذا كانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ مِن اللهِ حاجَةً, فقالَ : إنْ شَفَى اللهُ مَريضِي أو قَضَى دَيْنِي أوْ خَلَّصَني مِن هذه الشِّدَّةِ فَلِلَّهِ عَليَّ أنْ أَتَصَدَّقَ بِألْفِ دِرْهَمٍ، أو أَصومَ شَهْرًا، أو أُعْتِقَ رَقَبَةً، فهذا تَعْليقُ نَذْرٍ يَجِبُ عليهِ الوَفاءُ بهِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجْماعِ, وإذا عَلَّقَ النَّذْرَ على وَجْهِ اليَمينِ, فقالَ : إنْ سافَرْتُ مَعكُمْ، أو إنْ زَوَّجْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ الحَجُّ، أو فَمالِي صَدَقَةٌ. فهذا عِندَ الصَّحابَةِ وجُمْهُورِ العُلَماءِ هُوَ حالِفٌ بالنَّذْرِو. لَيْسَ بِناذِرٍ، فإذا لم يَفِ بِما التَزَمَهُ أجْزَأهُ كَفَّارَةُ يَمينٍ.
هذه خُلَاصَةٌ سُقْناها في بَيانِ هذه المَسْألَةِ الشَّهيرَةِ الطَّويلَةِ الأطْرافِ.
وعلى كِلَا القَولَينِ، فالقولُ بهِ لا يُوجِبُ هذه الثَّوْراتِ الَّتي قَسَّمَت المُسْلِمينَ طَالَما, أنَّها مَسْأَلَةٌ فَرْعِيَّةٌ خِلَافِيَّةٌ. واللهُ أعْلمُ.
محمد أبو زيد
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى محمد أبو زيد
البحث عن المشاركات التي كتبها محمد أبو زيد
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
إحكام الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد
311 الحديثُ العاشرُ : عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا, قَالَتْ : "جاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ فقالتْ : كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ ، فَطَلَّقَنِي ، فَبَتَّ طَلاَقِي . فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ الزَّبِيرِ . وإِنَّما مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ . فَتَبَسَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ، وقال : أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعيِ إلَى رِفَاعَةَ ؟ لاَ ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ، قالتْ : وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ ، فَنَادَى أَبَا بَكْرٍ : أَلاَ تَسْمَعُ إلَى هذِهِ ما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ؟". تَطْلِيقُهُ إيَّاهَا بالْبَتَاتِ مِن حيثُ اللفظِ : يَحْتَمِلُ : أن يكونَ بإرسالِ الطَّلَقَاتِ الثلاثِ ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ بإيِقَاعِ آخرِ طَلْقَةٍ ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ بإحدى الكِنَايَاتِ التي تُحْمَلُ على الْبَيْنُونَةِ عندَ جَمَاعَةٍ مِن الفقهاءِ ، وليسَ في اللفظِ عُمُومٌ ولا إشعارٌ بأحدِ هذه المعاني وإنما يُؤْخَذُ ذلك مِن أحاديثَ أُخَرَ تُبَيِّنُ المرادَ، ومَن احْتَجَّ على شيءٍ مِن هذه الاحْتِمَالَاتِ بالحديثِ فلم يُصِبْ ؛لأنَّه إنَّمَا دلَّ على مُطْلَقِ الْبَتِّ، والدالُّ على المُطْلَقِ لا يَدُلُّ على أحدِ قَيْدَيْهِ بِعَيْنِهِ.
وقولُها "فتزوَّجْتُ" بعدَه عبدَ الرحمنِ بنَ الزَّبِيرِِ "هو بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الباءِ ثاني الحروفِ ، وثالثُه ياءٌ آخِرُ الحرفِ.
وقولُها : "إنمَّا معَهُ مثلُ هُدْبةِ الثَّوبِ" فيه وجْهانِ . أحُدُهما : أنْ تكونَ شبَّهَتْه بذلِكَ لِصِغَرِه .
والثاني : أن تكونَ شبَّهَتْه به لاسْتِرْخَائِهِ ، وعدَمِ انْتِشَارِهِ.
وقولُه عليه السَّلامُ : "لاَ ،حتَّى تَذُوِقِي عُسَيْلَتَهُ" يدلُّ على أنَّ الإِحْلالَ للزَّوجِ الثَّاني يَتَوَقَّفُ على الوطْءِ ، وقدْ يستَدِلُّ به َمن يَرىَ الانْتِشارَ في الإحْلالِ شرْطًا من حيثُ إنَّهُ يُرجِّحُ حمْلَ قولِها : "إنَّما مَعهُ مثلُ هُدْبَةِ" على الاسترْخَاءِ ، وعدمِ انتشارِه ، لاستبعادِ أن يكونَ الصِّغَرُ قد بلغَ إلى حدٍّ لا تَغِيبُ منه الْحَشَفَةُ ، أو مِقْدَارُهُا الَّذي يَحْصُلُ به التحليلُ.
وقولُه عليه السـلامُ : "أَتُرِيدِينَ أن تَرْجِعي إلى رِفَاعَةَ ؟" كأنَّه بسبَبِ أنَّه فهِمَ عنها إرادةَ فِرَاقِ عبدِ الرَّحمنِ ، وإِرَادَةَ أنْ يكونَ فِراقُه سببًا للرُّجوعِ إلى رِفَاعَةَ. وكأنَّه قِيلَ لها : إنَّ هذا المقصودَ لا يَحْصُلُ إلا بالدُّخُولِ. ولم يُنْقَلْ فيه خِلافٌ إلا عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ فيما نَعْلَمُه . واسْتِعْمَالُ لفْظِ "الْعُسَيْلَةِ" مجازٌ عنِ اللَّذَّةِ ، ثَّم عن مَظِنَّتِِها ، وهو الإيلاجُ، فهو مجازٌ على مذهبِ جمهورِ الفقهاءِ الَّذين يَكْتَفُونَ بتغْيِيبِ الحَشَفَةِ.
محمد أبو زيد
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى محمد أبو زيد
البحث عن المشاركات التي كتبها محمد أبو زيد
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (مفرغ)
المتن:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال المؤلف، رحمه الله تعالى: في (كتاب النكاح)
وعن عائشة، رضي الله عنها أن زوجة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: (إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي وإنما معه مثل هدبة الثوب))، فلما سمع كلامها تبسم عليه الصلاة والسلام،: (( لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا.. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته))
عن أنس، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثم قسم.
عن ابن عباس قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا)).
الشرح:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه الأحاديث الثلاثة في النكاح، فالحديث الأول: حديث عائشة فيه دلالة على أن المرأة إذا طلقت طلاقا بائنا بثلاث، فإنها لا تحل لزوجها الأول، حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة، ويدخل بها يعني يطؤها، لقوله تعالى: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يعني: الثالثة، ولحديث عائشة في قصة زوجة رفاعة القرظي، (بَتَّ) طلاقها وفي الرواية الأخرى: أنه طلقها الطلقة الأخيرة الثالثة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم تستفتيه، وأخبرته أنها نكحت بعد رفاعة شخصا يقال له عبدالرحمن بن الزبير بفتح الزاي (وليس عنده إلا مثل هدبة الثوب) ليس عنده إلا ذكر ضعيف، ما استطاع أن يجامعها، فلما سمع كلامها تبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: ((أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لاحتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك)) يعني حتى يجامعك الزوج الجديد، والعُسيلة كناية عن حلاوة الجماع، والمعنى أنها لا تحل للزوج الأول المُطلِّق الطلقة الأخيرة الثالثة، حتى يجامعها الزوج الثاني في نكاح صحيح، ثم يفارقها بموته أو طلاقه وتخرج من العدة، وفيه من الفوائد:
أنه لا بأس بالسؤال عن مثل هذا، ولا حياء في هذا، وعند المفتي من يسمع من الرجال يستفيد الجميع؛ لأنها استفت والصديق وخالد بن الوليد حاضران
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا قَالَتْ : (( جَاءَت امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى النَّبِيِّ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ، فَقَالَتْ : كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلاَقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الزُّبيْرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ- فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ - وقالَ : ((أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رفَاعَةَ ؟ لاَ، حتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)) قالَتْ : وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: ((يَا أَبا بَكْرٍ، أَلاَ تَسْمَعُ هذِهِ ما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ؟)) .
عبد العزيز الداخل
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى عبد العزيز الداخل
زيارة موقع عبد العزيز الداخل المفضل
البحث عن المشاركات التي كتبها عبد العزيز الداخل
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الثاني: التصحيح اللغوي)
عبدُ الرحمنِ بنُ الزُّبَيْرِ
هو بفتْحِ الزايِ وكسْرِ الباءِ ثانيةِ الحروفِ ونُقِلَ السُّهيليِّ عن البخاريِّ ضَمُّه في الزبيرِ بنِ عبدِ الرحمنِ وفي الأسماءِ عبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ الأَسَدِيُّ بزايٍ مفتوحةٍ أيضًا له أخبارٌ مع عبدِ اللهِ بنِ الزبيرِ بالضمِّ ابنِ العَوَّامِ .
وذَكَرَ الوزيرُ المغربيُّ في كتابِ ( الإيناسِ في علْمِ الأنسابِ ) : ذهَبَ أحمدُ بنُ يَحيَى الأزديُّ وحدَه إلى أن عَمَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الزبيرُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ بفتْحِ الزايِ والباقون كلُّهم على ضمِّها .
قولُه : هُدْبَةُ الثوبِ بضَمِّ الهاءِ وإسكانِ الدالِ المهمَلةِ .
طرَفُه الذي لم يُنْسَجْ شبَّهُوه بهُدْبِ العينِ وهو شعْرُ جَفْنِها، قالَه النوويُّ .
وقالَ ابنُ دقيقِ العيدِ : فيه وجهان :
أحدُهما : أنه شبَّهَه بذلك لصِغَرِه .
وثانيهما: لاسترخائِه وعدَمِ انتشارِه .
محمد أبو زيد
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى محمد أبو زيد
البحث عن المشاركات التي كتبها محمد أبو زيد
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
خلاصة الكلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام
بابٌ: لا يَنْكِحُ مُطَلَّقَتَهُ ثَلَاثًا
حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةٍ
عنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا قَالَتْ: ((جَاءَت امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ- فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالَ: ((أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رفَاعَةَ؟ لَا، حتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)) قالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: ((يَا أَبا بَكْرٍ، أَلَا تَسْمَعُ هذِهِ ما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)).
المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (فَبَتَّ طَلَاقِي). بتشديدِ التاءِ، أصلُهُ القَطْعُ، والمرادُ طَلَّقَ الطلقةَ الأخيرةَ.
قَوْلُهُ: (الزَّبِيرُ). بفتحِ الزايِ وكَسْرِ الياءِ.
قَوْلُهُ: (هُدْبَةِ). بِضَمِّ الهاءِ وسكونِ الدالِ، هيَ طَرفُ الثوبِ الذي لم يُنْسَجْ، شَبَّهُوهَا بِهُدَبِ العَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عُسَيْلَتَهُ). بِضَمِّ العَيْنِ تَصْغِيرُ عَسَلَةٍ، وهيَ كنايةٌ عن الجِمَاعِ، شَبَّهَ لَذَّتَهُ بِلَذَّةِ العَسَلِ وحلاوتِهِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أنَّ المُرَادَ بِبَتِّ الطَّلَاقِ هنا الطَّلْقَةُ الأخيرةُ من الثلاثِ.
الثَّانِيَةُ: أنْ لا يَحِلَّ بعدَ الطلقةِ المُكَمِّلَةِ للثلاثِ أنْ يَنْكَحِهَا زَوْجُهَا الباتُّ إلَّا بعدَ أنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ وَيَطَأَهَا الثَّانِي، وهيَ العُسَيْلَةُ المَذْكُورَةُ.
الثَّالِثَةُ: أنْ لا بَأْسَ منْ ذِكْرِ الأشياءِ التي يُسْتَحْيَى فيها للحَاجَةِ.
محمد أبو زيد
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى محمد أبو زيد
البحث عن المشاركات التي كتبها محمد أبو زيد
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
تيسير العلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام
بَابُ لاَ يَنْكِحُ مُطَلَّقَتَهُ ثَلاثاً حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
الحَديثُ السادِسُ بَعْدَ الثلَاثِمِائَةٍ
306- عن عائِشَةَ رضي اللهُ عنها قالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَتْ: كنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظَيِّ فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلاَقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحمنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وقالَ :((أَتُرِيدينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)). فَقَالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبا بَكْرٍ، أَلاَ تَسْمَعُ إِلى هذِهِ ما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟!(125).
_________
(125) الْغَرِيبُ:
فَبَتَّ طَلَاقي: بِتَشْدِيدِ التَّاءِ المُثَنَّاةِ.أَصْلُهُ: القَطْعُ، والمُرَادُ طَلَّقَها الطَّلْقَةَ الأخِيرَةَ مِن الطَّلَقاتِ الثَّلاثِ، كَما في صَحيحِ مُسْلِمٍ: ((فَطَلَّقَها آخِرَ ثَلاثِ تَطْليقاتٍ )).
الزَّبِيرُ : بِفَتْحِ الزَّاي، بَعدَها بَاءٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ ياءٌ، ثُمَّ رَاءٌ.
هُدْبَةِ : بِضَمِّ الهاءِ، وإسْكانِ الدَّالِ، بَعْدَها مُوَحَّدَةٌ: هِيَ طَرَفُ الثَّوبِ الَّذي لم يُنْسَجْ، شَبَّهوها بِهُدْبِ العَينِ.
أَرادَتْ أنَّ ذَكَرَهُ يُشْبِهُ الهُدْبَةَ في الاسْتِرخاءِ وعَدَمِ الانْتِشارِ.
عُسَيْلَتَهُ: بِضَمِّ العَيْنِ، وفَتْحِ السِّينِ، تَصْغيرُ ((عَسَلَة))، وهِيَ كِنايَةٌ عن الجِماعِ، شَبَّهَ لَذَّتَهُ بِلذَّةِ العَسَلِ وحَلَاوَتِهِ.
المَعْنى الإجْمالِيُّ:
جاءَت امْرَأةُ رِفاعَةَ القُرَظِيِّ شاكِيَةً حَالَها إلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
فَأخْبَرَتْهُ أنَّها كانَتْ زَوْجًا لِرِفاعَةَ، فَبَتَّ طَلاقَها بالتَّطْليقَةِ الأخيرَةِ، وهِيَ الثَّالِثَةُ مِن طَلَقَاتِها، وأنَّها تَزَوَّجَتْ بَعدَهُ ((عَبدَ الرَّحْمَنِ بنَ الزَّبِيرِ ))، فَلمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَمَسَّها؛ لِأنَّ ذَكَرَهُ ضعيفٌ رَخْوٌ، لا يَنتَشِرُ.
فَتَبسَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن جَهْرِها وتَصْريحِها بِهذا الَّذي تَسْتَحِي منهُ النِّساءُ عَادَةً، وفَهِمَ أنَّ مُرادَها الحُكْمُ لها بالرُّجوعِ إلى زَوْجِها الأوَّلِ رِفَاعَةَ، حَيثُ ظَنَّتْ أنَّها بِعَقْدِ النِّكاحِ مِن عِبْدِالرَّحْمَنِ قدْ حلَّتْ لهُ.
ولَكنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَبَى عليها ذلكَ، وأخْبَرَها بِأنَّهُ لابُدَّ ـ لِحِلِّ رُجوعِها إلى رِفَاعَةَ ـ مِن أنْ يَطَأَها زَوْجُها الأخِيرُ.
وكانَ عِندَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبو بَكْرٍ، وخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بالْبابِ يَنْتَظِرُ الإذْنَ بالدُّخولِ، فَنَادى خَالِدٌ أبا بَكْرٍ مُتَذَمِّرًا مِن هذه المَرْأَةِ الَّتي تَجْهَرُ بِمِثلِ هذا الكَلامِ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كُلُّ هذا لِمَا لَهُ في صُدورِهِمْ مِن الهَيْبَةِ والإجْلالِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورضي اللهُ عنهم وأرْضاهُم ، وَرَزقَنَا الأدَبَ معه، والاتِّباعَ لهُ.
ما يُؤخَذُ مِن الحَديثِ:
1- أنَّ المُرادَ بِبَتِّ الطَّلاقِ هُنا الطَّلْقَةُ الأخيرَةُ مِن الثَّلاثِ، كما بَيَّنَتْهُ الرِّوايَةُ الأُخْرى، كما تَقدَّمَ في شَرْحِ ((الغَريبِ)).
2- أنَّهُ لا يَحِلُّ بَعدَ هذا الْبَتِّ المَذْكورِ هُنا أنْ يَنْكِحَها زَوجُها الَّذي بَتَّ طَلاقَها، إلَّا بَعدَ أنْ تَتزَوَّجَ غَيرَهُ، ويَطَأَها الزَّوجُ الثَّاني، فيَكُونُ المُرادُ بقولِهِ تعالى : ( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) الوَطْءَ، لا مُجرَّدَ العَقْدِ. قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ العُلَماءُ على اشْتِراطِ الجِماعِ لِتَحِلَّ للأوَّلِ ، فَلا تَحِلُّ لهُ حتَّى يُجامِعَها الثَّاني.
3- المُرادُ بالعُسَيْلَةِ اللَّذَّةُ الحاصِلَةُ بِتَغْييبِ الحَشَفَةِ، ولو لم يَحْصُلْ إنْزالُ مَنِيٍّ، وعليهِ إجْماعُ العُلَماءِ، فلابُدَّ مِن الإيلَاجِ؛ لِأنَّهُ مَظِنَّةُ اللَّذَّةِ.
4- أنَّهُ لابُدَّ مِن الانْتِشارِ، وإلَّا لم تَحْصُلِ اللَّذَّةُ المُشْترَطَةُ.
5- أنَّهُ لا بَأْسَ مِن التَّصْريحِ بالأشْياءِ الَّتي يُسْتَحَى مِنْها للحاجَةِ، فقَدْ أقرَّها النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلكَ، وتَبَسَّمَ مِن كَلَامِها.
6- حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وطِيبُ نَفْسِهِ ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنا اتِّباعَهُ، والاقْتِداءَ بهِ. آمينَ.
اخْتِلافُ العُلَماءِ فيمَن أوْقَعَ الطَّلاقَ دُفْعَةً واحِدَةً:
مَوضِعُ ذِكرِ هذا الخِلافِ هُوَ (بابُ الطَّلاقِ )، وبِما أنَّ المُؤلِّفَ لم يأتِ هناكَ بِما يُشيرُ إليهِ، وجاءَتْ مُناسَبَتُهُ هنا، فإنِّي أذْكُرُهُ لِقُوَّتهِ، وللحاجَةِ إليهِ.
فَقدِ اخْتَلفَ العُلَماءُ فيمَن أوْقَعَ الطَّلاَقَاتِ الثَّلاثَ دُفعَةً واحِدةً، أو أوْقَعَها بِكَلماتٍ ثَلاثٍ لم يَتَخلَّلْها رَجْعَةٌ، فهلْ تَلْزَمُهُ الطَّلَقاتُ الثَّلاثُ، فلا تَحِلُّ لهُ زَوْجتُهُ إلَّا بَعدَ أنْ تَنْكِحَ زَوجًا غَيْرَهُ، وتَعْتَدَّ منهُ، أَمْ أنَّها تَكونُ طَلْقَةً واحِدةً، لهُ رجْعَتُها ما دامَتْ في العِدَّةِ، وبَعدَ العِدَّةِ يَعْقِدُ عَلَيْها، ولو لم تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَهُ؟
اخْتلَفَ العُلَماءُ في ذلكَ اخْتِلافًا طَويلًا عَريضًا، وعُذِّبَ مِن أجْلِ القولِ بالرَّجْعةِ بها جَماعةٌ مِن الأئِمَّةِ والعُلماءِ، مِنهم شَيخُ الإسلامِ ((ابْنُ تَيْمِيَّةَ )), وبَعضُ أتْباعِهِ.
وما ذلكَ إلَّا لِأنَّ القولَ بِوقُوعِها، هُوَ المَشْهورُ مِن المَذاهِبِ الأرْبَعةِ, وكأنَّ مَن خَرَجَ عنْها لِقُوَّةِ دَلِيلٍ أو لاتِّباعِ إمامٍ مِن سَلَفِ الأُمَّةِ لَيسَ على حَقٍّ، قاتَلَ اللهُ التَّعَصُّبَ والهَوَى، وهِيَ مَسألَةٌ طَويلَةٌ.
ولكِنَّنا نَسُوقُ هُنا مُلخَّصًا، فيهِ الكِفايَةُ .
ذَهبَ جُمهورُ العُلَماءِ، ومِنهم الأئِمَّةُ الأرْبَعةُ، وجُمْهُورُ الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ إلى وقُوعِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ إذا قالَ : (أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا ) ونَحْوَهُ ، أو ((بِكَلماتٍ )) ولو لم يكُنْ بَينَهُنَّ رجْعَةٌ.
ودَليلُهمْ حَديثُ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِاللهِ (أنَّهُ طَلَّقَ امْرأتَهُ البَتَّةَ ) ، فَأخبَرَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِذلكَ, فقالَ : ((واللهِ ما أردْتَ إلَّا واحِدَةً ؟)).
قالَ رُكَانَةُ: ((واللهِ ما أرَدْتُ إلَّا واحِدَةً )). يَسْتَحْلِفُهُ ثَلاثًا.
وهذا الحَديثُ أخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ ، وأبو دَاودَ ، والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وابْنُ حِبَّانَ، والحَاكِمُ.
ووَجْهُ الدَّلَالَةِ مِن الحَديثِ، اسْتِحلافُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِلمُطَلِّقِ أنَّهُ لمْ يُرِدْ بالبَتَّةِ إلَّا واحِدَةً، فَدَلَّ على أنَّهُ لو أَرادَ بها أكْثَرَ لوقَعَ ما أرادَهُ.
واسْتدَلُّوا أيْضًا بِما في صَحيحِ البُخارِيِّ ، عن عائِشَةَ ، أنَّ رجُلًا طَلَّقَ امْرأتَهُ ثلاثًا، فَتَزوَّجَتْ فَطُلِّقَتْ,
فَسُئِلَ رسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟
قالَ :((لا ، حَتَّى يَذوقَ عُسَيْلَتَها كَما ذاقَ الأوَّلُ )) . ولو لم تَقَعِ الثَّلاثُ لم يَمنَعْ رُجوعَها إلى الأوَّلِ إلَّا بَعدَ ذَوقِ الثَّاني عُسَيْلَتَها.
واسْتدَلُّوا أيْضًا بِعَملِ الصَّحابَةِ، مِنهم عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنهم على إيقاعِ الثَّلاثِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ ثلاثاً، كَما نَطَقَ بِها المُطَلِّقُ، وكَفَى بِهم قُدْوَةً وأُسْوَةً.
ولَهُم أدِلَّةٌ غَيرُ ما سُقْنا ، ولكِنْ ما ذَكَرْنا هُوَ الصَّريحُ الواضِحُ لَهُم.
وذَهَبَ جَماعةٌ مِن العُلماءِ إلى أنَّ مُوقِعَ الطَّلاقِ الثَّلاثِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ ، أو بِكَلِماتٍ لم يَتَخَلَّلْها رَجْعَةٌ، لا يَقعُ علَيهِ إلا طَلْقَةٌ واحِدَةٌ, وهُوَ مَروِيٌّ عن الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ ، وأرْبابِ المَذاهِبِ.
فمِن الصَّحابَةِ القائِلينَ بهذا القولِ: أبو مُوسى الأشْعَرِيُّ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وعَبْدُاللهِ بنُ مَسْعُودٍ، وعَلِيٌّ، وعَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، والزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ، ومِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ، وعَطَاءٌ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وغَالِبُ أتْباعِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وعَبْدُاللهِ بنُ مُوسى، ومُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ.
ومِن أرْبابِ المَذاهِبِ ، دَاودُ وأكْثَرُ أصْحابِهِ، وبَعضُ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ، وَبعضُ أصْحابِ مالِكٍ، وبَعضُ أصْحابِ أَحْمَدَ، مِنهم المَجْدُ عَبْدُالسَّلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ، وكانَ يُفْتِي بِها سِرًّا، وحَفيدُهُ شَيخُ الإسلامِ ((ابنُ تَيْمِيَّةَ)) يَجْهَرُ بها, ويُفْتي بها في مَجالِسِهِ، وقدْ عُذِّبَ مِن أجْلِ القولِ بها، هُوَ وكَثيرٌ مِن أتْباعِهِ.
ومِنهُم ابنُ القَيِّمِ الَّذي نَصَرَها نَصْرًا مُؤَزَّرًا في كِتابَيْهِ: [الهَدْيُ ] و[إِعْلامُ المُوَقِّعِينَ ], فقدْ أطالَ البْحثَ فيها، واسْتَعْرَض نُصوصَها ، ورَدَّ على المُخالِفينَ بِما يَكْفي ويَشْفِي, واسْتَدلَّ هَؤلاءِ بالنَّصِّ، والقِياسِ.
فأمَّا النَّصُّ فما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحيحِهِ [ أنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قالَ لابنِ عَبَّاسٍ: ألمْ تَعْلَمْ أنَّ الثَّلاثَ كانَتْ تُجْعَلُ واحِدَةً على عَهْدِ رَسُو لِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبي بَكْرٍ، وفي صَدْرٍ مِن إمارَةِ عُمَرَ؟ قالَ : نَعَمْ ] وفي لَفْظٍ: [تُرَدُّ إلى واحِدَةٍ ؟ قالَ: نَعَمْ].
فهذا نَصٌّ صَحيحٌ صَريحٌ، لا يَقْبَلُ التَّأْويلَ والتَّحْويلَ.
وأمَّا القِياسُ فإنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ مُحَرَّمٌ وبِدْعَةٌ، والنَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ :((مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). وإيقاعُ الثَّلاثِ دُفعَةً واحِدَةً لَيْسَ مِن أمْرِ الرَّسولِ ، فَهُوَ مَردودٌ مَسْدودٌ.
وأجابَ هؤلاءِ عن أدِلَّةِ الجُمهورِ بِما يَأتي:
أمَّا حديثُ رُكَانَةَ فقدْ وَرَدَ في بَعضِ ألفاظِه:ِ (أنَّهُ طَلَّقَها ثَلاثًا). وفي لَفْظٍ: (واحِدَةً). وفي لَفْظ:ٍ (البَتَّةَ). ولِذا قالَ البُخَارِيُّ : إنَّهُ مُضْطَرِبٌ.
وقالَ الإمامُ أَحْمَدُ: طُرُقُهُ كُلُّها ضَعيفَةٌ. وقالَ بَعْضُهُمْ: في سَنَدِهِ مَجْهولٌ، وفيه مَن هُوَ ضَعيفٌ مَتْروكٌ.
قالَ شيخُ الإسلامِ: وحَديثُ رُكانَةَ ضَعيفٌ عِندَ أئِمَّةِ الحَديثِ, ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، والبُخَارِيُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وابْنُ حَزْمٍ, بِأَنَّ رُواتَهُ لَيْسُوا مَوصُوفِينَ بالعَدْلِ والضَّبْطِ, وأمَّا حَديثُ عَائِشَةَ فالاسْتِدْلالُ بهِ غَيْرُ وَجيهٍ، إذْ مِن المُحتَمَلِ أنَّ مُرادَها بالثَّلاثِ نِهايَةُ ما للمُطَلِّقِ مِن الطَّلقَاتِ الثَّلاثِ ، وإذا وُجِدَ الاحْتِمالُ بَطَلَ الاسْتِدْلالُ، وهُوَ مُجْمَلٌ يُحْمَلُ على حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ المُبَيَّنِ, كَما جاءَ في الأُصُولِ.
وأمَّا الاسْتِدلالُ بِعَمَلِ الصَّحابَةِ، فما أوْلَاهُمْ بالاقْتِداءِ والاتِّباعِ.
ونَحنُ نقولُ : إنَّهُمْ يَزيدونَ عن مِائَةِ ألْفٍ، وكُلُّ هذا الجَمْعِ الغَفيرِ - وأَوَّلُهُمْ نَبِيُّهُمْ - يَعُدُّونَ الثَّلاثَ واحِدَةً حتَّى إذا تُوُفِّيَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم, وهِيَ على ذلكَ ، وجاءَ خَليفَتُهُ الصِّدِّيقُ, فاسْتَمرَّت الحالُ على ذلكَ حتَّى تُوُفِّيَ، وخَلَفَهُ عُمَرُ رضي اللهُ عنه، فَمَضى صَدْرُ خِلافَتِه,ِ والأمْرُ كَما هُوَ على عَهْدِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَهْدِ الصِّدِّيقِ، بَعدَ ذَلكَ جُعِلَت الثَّلاثُ واحِدةً, كما بيَّنَّا سَببَهُ وبَيانَهُ .
فَصارَ جُمْهورُ الصَّحابَةِ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ قَبلَ خِلافَةِ عُمَرَ، أو نَزَحَتْ بِهِ الفُتوحاتُ قَبلَ مَجلِسهِ الَّذي عَقَدَهُ لِبَقيَّةِ أصْحابِهِ المُقيمينَ عِندَهُ في المَدينَةِ.
فَعَلِمْنا - حِينَئذٍ - أنَّ الاسْتِدْلالَ بِعَمَلِ الصَّحابَةِ مَنْقوضٌ بِما يُشْبِهُ إجْماعَهُمْ في عَهْدِ الصِّدِّيقِ على خِلافِهِ.
وعَمِلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عنه, حاشَاهُ وحاشَا مَن مَعهُ أنْ يَعْمَلوا عَمَلًا يُخالِفُ ما كانَ على عَهْدِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم, وإنَّما رَأَى النَّاسَ تَعجَّلوا، وأَكْثَروا مِن إيقاعِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ, وهُوَ بِدْعَةٌ مُحرَّمَةٌ، فَرَأَى أنْ يُلزِمَهُمْ بِما قالُوهُ؛ تَأْدِيبًا وتَعْزِيرًا على ما ارْتَكَبوهُ مِن إثْمٍ، وما أَتَوْهُ عن ضِيقٍ, هُمْ في غِنًى عَنْهُ ويُسْرٍ وسَعَةٍ.
وهذا العَمَلُ مِن عُمَرَ رضي اللهُ عنه اجْتِهادٌ مِن اجْتِهادِ الأئِمَّةِ، وهُوَ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الأزْمِنَةِ والأمْكِنَةِ، ولا يَسْتَقِرُّ تَشْرِيعًا لازِمًا لا يتَغَيَّرُ، بَل المُستَقِرُّ اللَّازِمُ هُوَ التَّشْريعُ الأصْلِيُّ لهذه المَسأَلَةِ.
قالَ شَيخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ اللهُ : وإنْ طَلَّقَها ثَلاثًا في طُهْرٍ واحِدٍ بِكَلِمةٍ واحِدَةٍ أوْ كَلِماتٍ ، مِثْل:ِ ((أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا)). أو: ((أنْتِ طالِقٌ، وطالِقٌ، وطالِقٌ)). أو: ((أنْتِ طالِقٌ، ثُمَّ طالِقٌ، ثُمَّ طالِقٌ)). أو يقولُ : أنْتِ طالِقٌ. ثُمَّ يقولُ : أنْتِ طالِقٌ. ثُمَّ يقولُ : أنْتِ طالِقٌ. أوْ عَشْرَ طَلَقاتٍ ، أوْ مِائَةَ طَلْقَةٍ، ونَحْوَ ذلكَ مِن العِباراتِ. فهذا لِلعُلَماءِ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ فيه ثَلَاثَةُ أقوالٍ، سَوَاءٌ كانَتْ مَدْخولًا بها, أوْ غَيْرَ مَدْخولٍ بها.
أَحدُهَا : أنَّهُ طَلَاقٌ مُباحٌ لَازِمٌ. وهُوَ قولُ الشَّافِعِيِّ وأَحْمَدَ في الرِّوَايَةِ القَديمَةِ عنهُ، اخْتارَها الخِرَقِيُّ.
الثَّانِي : أنَّهُ طَلاقٌ مُحرَّمٌ لَازِمٌ . وهُوَ قولُ مالِكٍ وأبي حَنيفَةَ، وأَحْمَدَ ، اخْتارَها أكْثَرُ أصْحابِهِ، وهذا القَوْلُ مَنْقُولٌ عن كَثيرٍ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ مِن الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ.
الثَّالِثُ : أنَّهُ مُحرَّمٌ, ولا يَلْزَمُ مِنه إلَّا طَلْقَةٌ واحِدَةٌ، وهذا القولُ مَنْقولٌ عن طائِفَةٍ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ مِن الصَّحابَةِ، وهُوَ قولُ كَثيرٍ مِن التَّابِعينَ ومَن بَعدَهُمْ، وهُوَ قولُ بَعضِ أصْحابِ أبي حَنِيفَةَ، ومالِكٍ، وأَحْمَدَ.
وهذا القولُ ((الثَّالِثُ)) هُوَ الَّذي يَدُلُّ عليهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ, ولَيْسَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ ما يُوجِبُ الإلْزامَ بالثَّلاثِ بمَن أوْقَعَها جُمْلَةً بِكَلِمَةٍ أو كَلِماتٍ بِدونِ رَجْعَةٍ أو عَقْدٍ, بَلْ إنَّما في الكِتابِ والسُّنَّةِ الإلْزامُ بذلكَ مَن طَلَّقَ الطَّلاقَ الَّذي أباحَهُ اللهُ ورَسولُهُ, وعلى هذا يَدُلُّ القياسُ والاعْتِبارُ بِسائِرِ أُصولِ الشَّرْعِ ... (و) لَا نِزاعَ بَيْنَ المُسْلِمينَ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعْصومٌ فيما يُبَلِّغُهُ عن اللهِ تعالى ، فَهُوَ مَعْصومٌ فيما شَرَعَهُ لِلأُمَّةِ بإجْماعِ المُسْلِمينَ، وكذلكَ الأُمَّةُ أيْضًا مَعْصومَةٌ أنْ تَجْتَمِعَ على ضَلالَةٍ.
وقالَ رَحِمهُ اللهُ تعالى في مَوْضِعٍ آخَرَ: والفَرْقُ ظاهِرٌ بَيْنَ الطَّلاقِ والحَلِفِ بِهِ، وبَيْنَ النَّذْرِ والحَلِفِ بالنَّذْرِ، فإذا كانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ مِن اللهِ حاجَةً, فقالَ : إنْ شَفَى اللهُ مَريضِي أو قَضَى دَيْنِي أوْ خَلَّصَني مِن هذه الشِّدَّةِ فَلِلَّهِ عَليَّ أنْ أَتَصَدَّقَ بِألْفِ دِرْهَمٍ، أو أَصومَ شَهْرًا، أو أُعْتِقَ رَقَبَةً، فهذا تَعْليقُ نَذْرٍ يَجِبُ عليهِ الوَفاءُ بهِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجْماعِ, وإذا عَلَّقَ النَّذْرَ على وَجْهِ اليَمينِ, فقالَ : إنْ سافَرْتُ مَعكُمْ، أو إنْ زَوَّجْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ الحَجُّ، أو فَمالِي صَدَقَةٌ. فهذا عِندَ الصَّحابَةِ وجُمْهُورِ العُلَماءِ هُوَ حالِفٌ بالنَّذْرِو. لَيْسَ بِناذِرٍ، فإذا لم يَفِ بِما التَزَمَهُ أجْزَأهُ كَفَّارَةُ يَمينٍ.
هذه خُلَاصَةٌ سُقْناها في بَيانِ هذه المَسْألَةِ الشَّهيرَةِ الطَّويلَةِ الأطْرافِ.
وعلى كِلَا القَولَينِ، فالقولُ بهِ لا يُوجِبُ هذه الثَّوْراتِ الَّتي قَسَّمَت المُسْلِمينَ طَالَما, أنَّها مَسْأَلَةٌ فَرْعِيَّةٌ خِلَافِيَّةٌ. واللهُ أعْلمُ.
محمد أبو زيد
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى محمد أبو زيد
البحث عن المشاركات التي كتبها محمد أبو زيد
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
إحكام الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد
311 الحديثُ العاشرُ : عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا, قَالَتْ : "جاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ فقالتْ : كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ ، فَطَلَّقَنِي ، فَبَتَّ طَلاَقِي . فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ الزَّبِيرِ . وإِنَّما مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ . فَتَبَسَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ، وقال : أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعيِ إلَى رِفَاعَةَ ؟ لاَ ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ، قالتْ : وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ ، فَنَادَى أَبَا بَكْرٍ : أَلاَ تَسْمَعُ إلَى هذِهِ ما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ؟". تَطْلِيقُهُ إيَّاهَا بالْبَتَاتِ مِن حيثُ اللفظِ : يَحْتَمِلُ : أن يكونَ بإرسالِ الطَّلَقَاتِ الثلاثِ ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ بإيِقَاعِ آخرِ طَلْقَةٍ ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ بإحدى الكِنَايَاتِ التي تُحْمَلُ على الْبَيْنُونَةِ عندَ جَمَاعَةٍ مِن الفقهاءِ ، وليسَ في اللفظِ عُمُومٌ ولا إشعارٌ بأحدِ هذه المعاني وإنما يُؤْخَذُ ذلك مِن أحاديثَ أُخَرَ تُبَيِّنُ المرادَ، ومَن احْتَجَّ على شيءٍ مِن هذه الاحْتِمَالَاتِ بالحديثِ فلم يُصِبْ ؛لأنَّه إنَّمَا دلَّ على مُطْلَقِ الْبَتِّ، والدالُّ على المُطْلَقِ لا يَدُلُّ على أحدِ قَيْدَيْهِ بِعَيْنِهِ.
وقولُها "فتزوَّجْتُ" بعدَه عبدَ الرحمنِ بنَ الزَّبِيرِِ "هو بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الباءِ ثاني الحروفِ ، وثالثُه ياءٌ آخِرُ الحرفِ.
وقولُها : "إنمَّا معَهُ مثلُ هُدْبةِ الثَّوبِ" فيه وجْهانِ . أحُدُهما : أنْ تكونَ شبَّهَتْه بذلِكَ لِصِغَرِه .
والثاني : أن تكونَ شبَّهَتْه به لاسْتِرْخَائِهِ ، وعدَمِ انْتِشَارِهِ.
وقولُه عليه السَّلامُ : "لاَ ،حتَّى تَذُوِقِي عُسَيْلَتَهُ" يدلُّ على أنَّ الإِحْلالَ للزَّوجِ الثَّاني يَتَوَقَّفُ على الوطْءِ ، وقدْ يستَدِلُّ به َمن يَرىَ الانْتِشارَ في الإحْلالِ شرْطًا من حيثُ إنَّهُ يُرجِّحُ حمْلَ قولِها : "إنَّما مَعهُ مثلُ هُدْبَةِ" على الاسترْخَاءِ ، وعدمِ انتشارِه ، لاستبعادِ أن يكونَ الصِّغَرُ قد بلغَ إلى حدٍّ لا تَغِيبُ منه الْحَشَفَةُ ، أو مِقْدَارُهُا الَّذي يَحْصُلُ به التحليلُ.
وقولُه عليه السـلامُ : "أَتُرِيدِينَ أن تَرْجِعي إلى رِفَاعَةَ ؟" كأنَّه بسبَبِ أنَّه فهِمَ عنها إرادةَ فِرَاقِ عبدِ الرَّحمنِ ، وإِرَادَةَ أنْ يكونَ فِراقُه سببًا للرُّجوعِ إلى رِفَاعَةَ. وكأنَّه قِيلَ لها : إنَّ هذا المقصودَ لا يَحْصُلُ إلا بالدُّخُولِ. ولم يُنْقَلْ فيه خِلافٌ إلا عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ فيما نَعْلَمُه . واسْتِعْمَالُ لفْظِ "الْعُسَيْلَةِ" مجازٌ عنِ اللَّذَّةِ ، ثَّم عن مَظِنَّتِِها ، وهو الإيلاجُ، فهو مجازٌ على مذهبِ جمهورِ الفقهاءِ الَّذين يَكْتَفُونَ بتغْيِيبِ الحَشَفَةِ.
محمد أبو زيد
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى محمد أبو زيد
البحث عن المشاركات التي كتبها محمد أبو زيد
محمد أبو زيد
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 18,308
شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (مفرغ)
المتن:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال المؤلف، رحمه الله تعالى: في (كتاب النكاح)
وعن عائشة، رضي الله عنها أن زوجة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: (إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي وإنما معه مثل هدبة الثوب))، فلما سمع كلامها تبسم عليه الصلاة والسلام،: (( لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا.. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته))
عن أنس، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثم قسم.
عن ابن عباس قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا)).
الشرح:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه الأحاديث الثلاثة في النكاح، فالحديث الأول: حديث عائشة فيه دلالة على أن المرأة إذا طلقت طلاقا بائنا بثلاث، فإنها لا تحل لزوجها الأول، حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة، ويدخل بها يعني يطؤها، لقوله تعالى: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يعني: الثالثة، ولحديث عائشة في قصة زوجة رفاعة القرظي، (بَتَّ) طلاقها وفي الرواية الأخرى: أنه طلقها الطلقة الأخيرة الثالثة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم تستفتيه، وأخبرته أنها نكحت بعد رفاعة شخصا يقال له عبدالرحمن بن الزبير بفتح الزاي (وليس عنده إلا مثل هدبة الثوب) ليس عنده إلا ذكر ضعيف، ما استطاع أن يجامعها، فلما سمع كلامها تبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: ((أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لاحتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك)) يعني حتى يجامعك الزوج الجديد، والعُسيلة كناية عن حلاوة الجماع، والمعنى أنها لا تحل للزوج الأول المُطلِّق الطلقة الأخيرة الثالثة، حتى يجامعها الزوج الثاني في نكاح صحيح، ثم يفارقها بموته أو طلاقه وتخرج من العدة، وفيه من الفوائد:
أنه لا بأس بالسؤال عن مثل هذا، ولا حياء في هذا، وعند المفتي من يسمع من الرجال يستفيد الجميع؛ لأنها استفت والصديق وخالد بن الوليد حاضران