امتحانات الباكالوريا
امتحانات الباكالوريا
وجه آخر لاختلال منظومتنا التربوية
كشف المجلس الأعلى للتعليم عن اختلالات متعددة تشوب المنظومة التربوية ببلادنا مؤكدا ما ذهبت إليه المنظمات الدولية ذات الاهتمام بهذا الشأن.واستشعارا بخطورة الوضع,تم إقرار مخطط استعجالي على مدى ثلاثة سنوات 2009-2012 يرمي إلى تقويمها، واستدراك متأخرات الميثاق الوطني للتربية والتكوين.وتعتبر امتحانات الباكالوريا محطة مهمة لتقييم مؤشرات الإصلاح بشكل عام.والإنصات إلى وقع خطوات الاستعجال على الخصوص، باعتبارها وعاء تنتهي إليه مجهودات بشرية هائلة، وتدفقات مالية لم يتوان البعض عن نعتها بالمرهقة لميزانية الدولة.
فعلى مستوى النتائج,وكما كانت التوقعات,بثت الوزارة الوصية بلاغها الروتيني الذي حدد النسبة العامة للنجاح في امتحانات الباكالوريا برسم الدورة العادية من الموسم الدراسي 2009-2010 في 39.1?.وهي نسبة ضعيفة بمعيار معدل القبول أي 50 ? وبالمقارنة مع دول نركب وإياها نفس القطار.حيث بلغت هذه النسبة 50.2 ?بتونس و61 ?بالجزائر.وعمد البلاغ إلى الخوض في جزئيات تفصيلية تتعلق بتصنيف الناجحين حسب الجهات والأكاديميات والشعب الدراسية وحسب الجنس,والتعليم العمومي والخصوصي….الخ.على أن هذه المعطيات,على أهميتها,لا يمكن أن تحجب على أخرى مرتبطة بهذه النتائج وتتعلق بقيمة مصداقيتها.
أجل إن سلبية هذه النتائج لا تتوقف عند حد ضعف نسبة النجاح,بل الأنكى من ذلك ضعف مصداقية هذه النسبة ذاتها.ويكفي تدليلا على ذلك,أن التلميذ المغربي الحاصل على شهادة الباكالوريا ,حتى حدود نهاية السبعينات من القرن الماضي,كانت كل جامعات العالم مفتوحة أمامه من أجل متابعة دراسته,ما لم يعد ممكنا الآن.وهي إشارة واضحة إلى تدني قيمة الباكالوريا المغربية في بورصة القيم المعرفية العالمية.وتأكيد على تدني مستوى التعلمات المكتسبة لدى التلميذ المغربي.الحقيقة التي أكدها تقرير المجلس الأعلى للتعليم ووضعها المخطط الاستعجالي ضمن أجندته الإصلاحية .
ومن خلال سياق التحليل,يتضح أن تمت تلازما بين المشكلتين ? نسبة النجاح ومستوى التعلمات المكتسبة.ولا يمكن الانتصار في الأولى إلا بكسب الثانية.وإذا كان الأمر ليس مستحيلا, فهو ليس بالأمر الهين كذلك.لأن آفة ضعف مستوى التعلمات المكتسبة ترتقي إلى مستوى معضلة في منظومتنا التربوية,اذ تكتسب طابعا عاما,مركبا,ومزمنا.وبالتالي,فكل مقاربة استعجالية في الموضوع من شأنها أن تفاقم من الآفة بدل علاجها.
فالمخطط الاستعجالي الذي راهن على تحسين الوضعية باعتماد برنامج للدعم.توقف عند حدود الدعم الاجتماعي عبر مبادرة مليون محفظة و برنامج تيسير.فوفر فعلا العدة المدرسية الأساسية لجل التلاميذ.إلا أن الدعم التربوي,على أهميته القصوى,ظل أسير بعض المبادرات الفردية في غياب تصور عقلاني,يضع المشكلة في إطارها الحقيقي,فيحدد منهجية الاشتغال,ويوفر أدوات الفعل,ويتحكم في إيقاع التغيير,حيث تعثرت عملية تمرير الروائز لتشخيص التعلمات,وتعذرت بالتالي الاستفادة من نتائجها,على الرغم مما كلفت من غلاف زمني ومن مجهودات بشرية واعتمادات مادية,وضعتها في تعارض صريح مع مفهوم الحكامة.
هكذا اتضح من خلال النتائج,في شكلها وفي مضمونها,أن المخطط الاستعجالي لم يبصم على أي تغيير ملموس.حيث ظلت نسبة النجاح في امتحانات الباكالورليا دون معدل القبول,واستمرت عتبة الانتقال متدنية في باقي المستويات حيث سجلت 06/20 في بعض المؤسسات الإعدادية و08/20 في مؤسسات تأهيلية.بل إن استعجال اقتطاف النتائج بتحسين مؤشرات الأرقام كان من شأنه أن يفاقم من ضعف مصداقية الحصيلة على محدوديتها.بسبب ما ساد عمليات الامتحانات من غش,ما زلنا نتبادل الهمس بصدده,دون أن نمتلك الجرأة على مصارحة الذات بشأن الظاهرة.ومقاربتها بما يلزم من العقلانية.
أجل,إن الغش ظاهرة معقدة.إلا أن الإجماع قائم حول نبذها حيث تصنفها فلسفة الأخلاق ضمن الظواهر والسلوكيات السلبية التي تستوجب المقاومة في كل مجالات الحياة.ويعهد إلى المؤسسات التربوية التعليمية بتنشئة الأجيال على قيم النزاهة والشفافية,والابتعاد عن كل أشكال الغش,حرصا على سلامة واطمئنان الإنسان نفسه.إلا أن معطيات الواقع تشير بالواضح,إلى أن منظومتنا التربوية لم تعجز فقط عن تمرير القيم المناهضة للظاهرة,بل تقف مشلولة أمام تفشيها.لتتخذ أوضح تجلياتها في امتحانات الباكالوريا.
فمع اقتراب هذه الامتحانات,ينشط بعض أصحاب آلات النسخ بشكل متميز,حيث ترى طوابير من التلاميذ ينتظرون دورهم لاستنساخ دروس بطريقة مصغرة,تهيئا للنقل يوم الامتحان.حتى إذا ما حل الموعد وجدتهم يحلون تلابيبهم وينقلون خفية أو علانية ما يعتقدونه جوابا على السؤال,هذا علاوة على توظيف أحدث منتجات التكنولوجيا في عملية الغش.
وإذا كانت دوافع الغش بشكل عام متعددة وعميقة,فان الدافع إليه في الامتحانات يعود بالأساس إلى اهتزاز ثقة التلميذ بنفسه,بسبب ضعف تحصيله الذي أصبح مزمنا مع اعتماد إستراتيجية توازنات الخريطة المدرسية في عملية الانتقال.وفي ظل هذا النسق,يجد التلميذ نفسه خلال امتحانات الباكالوريا,أمام فرصة حسم مساره الدراسي أشبه بشخص يلقى به في البحر وهو لا يحسن السباحة.لذلك,يلجأ إلى استعمال كل الطرق المشروعة وغير المشروعة في محاولة الإفلات من غرق شبه مؤكد.وبالتالي,فدوافع الغش بالنسبة للتلميذ في هذا السياق دوافع موضوعية ذات ارتباط وثيق بفلسفة المنظومة التربوية كلا,وبإستراتيجية الانتقال على أساس توازنات الخريطة المدرسية بشكل خاص.
ومع ما تمت الإشارة إليه من اختلالا,يستوجب الانتصار فيها مقاربة علمية أعمق من طرف ذوي الاختصاص,وتعبئة أكبر في صفوف المعنيين مباشرة بالقطاع,وإشراكا أوسع لمكونات المجتمع.لا يمكن التغاضي عما شاب تنظيم هذه الامتحانات من ارتباك لا غرو في آثاره السلبية,نتيجة قرارات ارتجالية.فسعيا نحو توفير حظوظ أكبر لنزاهة وشفافية العملية,أصدرت الوزارة الوصية مذكرة تذكيرية في الموضوع,عملت الأكاديميات والنيابات على استنساخها وتعميمها على مراكز الامتحانات,مرفقة بدليل للمراقب,وعملا على أجرأتها,ساد نوع من الإجماع لدى أصحاب القرار أن زحزحة العنصر البشري,بتغيير مؤسسة الاختبار إما بالنسبة للتلميذ أو بالنسبة للمراقبين كفيل بتحقيق الغاية,وهي مقاربة أبعد ما تكون عن الصواب,بدليل أن العملية لم تحقق المتوخى منها كما شهدت بذلك الواقع,لأن قيم النزاهة والشفافية هي قيم وجدانية مرتبطة بطبيعة تكوين الإنسان, ولا تتغير بتغير المكان,فالمتمثل لها يتمسك بها ويجسدها في عمله وفي سلوكه حيثما حل أو ارتحل.
أضف إلى ذلك, أنه إذا جاز القبول بتحريك المراقبين تجاوزا,فان العملية غير سليمة مطلقا عندما تستهدف التلميذ,إذ تمس بحق من حقوقه الأساسية التي تؤكد عليها التعلمات التربوية,عندما توصي بأن تكون ظروف الامتحان بالنسبة إليه سليمة من أي تشويش,حتى فيما يتعلق بأسئلة الاختبار,وما بالك بعملية تحريكه إلى مؤسسة أخرى, التي تجعله في وضعية جديدة لم يكن مهيئا لها بشكل مطلق.فيفقد, جراء ذلك,التركيز حول موضوع الاختبار,وينصرف إلى التفكير في التأقلم مع الوضع الجديد,مع ما يرافق ذلك من أعباء مادية ليست هيئة التحمل بالنسبة للكثير من التلاميذ .
على أن تحريك المراقبين نفسه لم يسلم من علة,عندما استهدفت العملية إسناد مهمة المراقبة لأساتذة التعليم الإعدادي لأن التشريعات التنظيمية فصلت بالواضح بين الأسلاك التعليمية.ومكنت كل تلك من الإمكانات المادية والبشرية الكفيلة بانجاز مختلف المهام والأنشطة الخاصة به.فبأي منطق ينجز أستاذ التعليم الإعدادي كل العمليات المرتبطة بشكله,ويضاف إليه عناء المراقبة في امتحانات الباكالوريا في حينه,يحال أستاذ التعليم التأهيلي على الراحة? وهو الذي يشتغل أقل عدد من الساعات,ويرقى إلى أبعد الدرجات,بينما يحرم السابق من ذلك!? ما يسمح بالقول أن القرار لا يخلوا من ارتجالية,ويفتقر لأية دعامة قانونية أو قاعدة منطقية.بل يشتم منه رائحة تكريس دونية أستاذ التعليم الإعدادي وقد وجد المسؤولون,فعلا, صعوبة في تبرير القرار.فقد تعلل البعض بروح المواطنة التي يجب أن يتحلى بها الجميع في عملية الامتحانات التي تعتبر قضية وطنية.لكن كيف يطلب من أستاذ التعليم الإعدادي,في ظل الحيف الذي يستشعره,أن يكون أكثر مواطنة من غيره? ولجأ الآخرون إلى التلويح بالزجر,وهو أسوأ أشكال التدبير,حيث خلق حالة من التوتر والتصعيد في الرفض. أما الأسلوب الذي كان أنجع,فهو أسلوب الترغيب ومناشدة المخاطبين لفك مسؤوليهم من الورطة التي وضعوا فيها.لكن مع نجا عته, فهو أبعد ما يكون عن التدبير العقلاني,لأن امتحانات الباكالوريا هي استحقاقات وطنية متكررة بشكل منتظم.وتقتضي عقلنة تدبيرها ,استثمار تراكمات التجارب السابقة,ووضع تشريعات تنظيمية تغلق الأبواب أمام كل ارتجال وارتباك وتشويش.بالإضافة إلى ذلك,يمكن الحديث عن أوجه سلبية,ربما أعمق,لقرار زحزحة العنصر البشري,سواء التلاميذ أو المراقبين.إذ تمثل العملية نوعا من العنف الذي تمارسه الإدارة تجاه المعنيين,وكان طبيعيا أن يتولد عنه عنف مضاد, تجلى في تقاعس المراقبين عن القيام بمهامهم,وفي استفحال ظاهرة الغش التي ستنتقل مع هذه الأجيال إلى مختلف دواليب الحياة,وتهدد المجتمع في أمنه واستقراره,كما أن العملية تنهي الموسم الدراسي بالسلك الإعدادي قبل موعده الرسمي,في تعارض صريح مع مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين, والمراسيم والمذكرات الوزارية فيما يتعلق بتنظيم الزمن المدرسي .
خلاصة القول أن امتحانات الباكالوريا تمثل حلقة أساسية في منظومتنا التربوية. لذلك,فبقد ما الحاجة ماسة إلى إصلاحها دفاعا عن مصداقية دلالتها الإشهادية, فان ذلك قطعا يعزز حظوظ نجاح إصلاح المنظومة في شموليتها .
فاس في 17 7 2010
علي اليدري
وجه آخر لاختلال منظومتنا التربوية
كشف المجلس الأعلى للتعليم عن اختلالات متعددة تشوب المنظومة التربوية ببلادنا مؤكدا ما ذهبت إليه المنظمات الدولية ذات الاهتمام بهذا الشأن.واستشعارا بخطورة الوضع,تم إقرار مخطط استعجالي على مدى ثلاثة سنوات 2009-2012 يرمي إلى تقويمها، واستدراك متأخرات الميثاق الوطني للتربية والتكوين.وتعتبر امتحانات الباكالوريا محطة مهمة لتقييم مؤشرات الإصلاح بشكل عام.والإنصات إلى وقع خطوات الاستعجال على الخصوص، باعتبارها وعاء تنتهي إليه مجهودات بشرية هائلة، وتدفقات مالية لم يتوان البعض عن نعتها بالمرهقة لميزانية الدولة.
فعلى مستوى النتائج,وكما كانت التوقعات,بثت الوزارة الوصية بلاغها الروتيني الذي حدد النسبة العامة للنجاح في امتحانات الباكالوريا برسم الدورة العادية من الموسم الدراسي 2009-2010 في 39.1?.وهي نسبة ضعيفة بمعيار معدل القبول أي 50 ? وبالمقارنة مع دول نركب وإياها نفس القطار.حيث بلغت هذه النسبة 50.2 ?بتونس و61 ?بالجزائر.وعمد البلاغ إلى الخوض في جزئيات تفصيلية تتعلق بتصنيف الناجحين حسب الجهات والأكاديميات والشعب الدراسية وحسب الجنس,والتعليم العمومي والخصوصي….الخ.على أن هذه المعطيات,على أهميتها,لا يمكن أن تحجب على أخرى مرتبطة بهذه النتائج وتتعلق بقيمة مصداقيتها.
أجل إن سلبية هذه النتائج لا تتوقف عند حد ضعف نسبة النجاح,بل الأنكى من ذلك ضعف مصداقية هذه النسبة ذاتها.ويكفي تدليلا على ذلك,أن التلميذ المغربي الحاصل على شهادة الباكالوريا ,حتى حدود نهاية السبعينات من القرن الماضي,كانت كل جامعات العالم مفتوحة أمامه من أجل متابعة دراسته,ما لم يعد ممكنا الآن.وهي إشارة واضحة إلى تدني قيمة الباكالوريا المغربية في بورصة القيم المعرفية العالمية.وتأكيد على تدني مستوى التعلمات المكتسبة لدى التلميذ المغربي.الحقيقة التي أكدها تقرير المجلس الأعلى للتعليم ووضعها المخطط الاستعجالي ضمن أجندته الإصلاحية .
ومن خلال سياق التحليل,يتضح أن تمت تلازما بين المشكلتين ? نسبة النجاح ومستوى التعلمات المكتسبة.ولا يمكن الانتصار في الأولى إلا بكسب الثانية.وإذا كان الأمر ليس مستحيلا, فهو ليس بالأمر الهين كذلك.لأن آفة ضعف مستوى التعلمات المكتسبة ترتقي إلى مستوى معضلة في منظومتنا التربوية,اذ تكتسب طابعا عاما,مركبا,ومزمنا.وبالتالي,فكل مقاربة استعجالية في الموضوع من شأنها أن تفاقم من الآفة بدل علاجها.
فالمخطط الاستعجالي الذي راهن على تحسين الوضعية باعتماد برنامج للدعم.توقف عند حدود الدعم الاجتماعي عبر مبادرة مليون محفظة و برنامج تيسير.فوفر فعلا العدة المدرسية الأساسية لجل التلاميذ.إلا أن الدعم التربوي,على أهميته القصوى,ظل أسير بعض المبادرات الفردية في غياب تصور عقلاني,يضع المشكلة في إطارها الحقيقي,فيحدد منهجية الاشتغال,ويوفر أدوات الفعل,ويتحكم في إيقاع التغيير,حيث تعثرت عملية تمرير الروائز لتشخيص التعلمات,وتعذرت بالتالي الاستفادة من نتائجها,على الرغم مما كلفت من غلاف زمني ومن مجهودات بشرية واعتمادات مادية,وضعتها في تعارض صريح مع مفهوم الحكامة.
هكذا اتضح من خلال النتائج,في شكلها وفي مضمونها,أن المخطط الاستعجالي لم يبصم على أي تغيير ملموس.حيث ظلت نسبة النجاح في امتحانات الباكالورليا دون معدل القبول,واستمرت عتبة الانتقال متدنية في باقي المستويات حيث سجلت 06/20 في بعض المؤسسات الإعدادية و08/20 في مؤسسات تأهيلية.بل إن استعجال اقتطاف النتائج بتحسين مؤشرات الأرقام كان من شأنه أن يفاقم من ضعف مصداقية الحصيلة على محدوديتها.بسبب ما ساد عمليات الامتحانات من غش,ما زلنا نتبادل الهمس بصدده,دون أن نمتلك الجرأة على مصارحة الذات بشأن الظاهرة.ومقاربتها بما يلزم من العقلانية.
أجل,إن الغش ظاهرة معقدة.إلا أن الإجماع قائم حول نبذها حيث تصنفها فلسفة الأخلاق ضمن الظواهر والسلوكيات السلبية التي تستوجب المقاومة في كل مجالات الحياة.ويعهد إلى المؤسسات التربوية التعليمية بتنشئة الأجيال على قيم النزاهة والشفافية,والابتعاد عن كل أشكال الغش,حرصا على سلامة واطمئنان الإنسان نفسه.إلا أن معطيات الواقع تشير بالواضح,إلى أن منظومتنا التربوية لم تعجز فقط عن تمرير القيم المناهضة للظاهرة,بل تقف مشلولة أمام تفشيها.لتتخذ أوضح تجلياتها في امتحانات الباكالوريا.
فمع اقتراب هذه الامتحانات,ينشط بعض أصحاب آلات النسخ بشكل متميز,حيث ترى طوابير من التلاميذ ينتظرون دورهم لاستنساخ دروس بطريقة مصغرة,تهيئا للنقل يوم الامتحان.حتى إذا ما حل الموعد وجدتهم يحلون تلابيبهم وينقلون خفية أو علانية ما يعتقدونه جوابا على السؤال,هذا علاوة على توظيف أحدث منتجات التكنولوجيا في عملية الغش.
وإذا كانت دوافع الغش بشكل عام متعددة وعميقة,فان الدافع إليه في الامتحانات يعود بالأساس إلى اهتزاز ثقة التلميذ بنفسه,بسبب ضعف تحصيله الذي أصبح مزمنا مع اعتماد إستراتيجية توازنات الخريطة المدرسية في عملية الانتقال.وفي ظل هذا النسق,يجد التلميذ نفسه خلال امتحانات الباكالوريا,أمام فرصة حسم مساره الدراسي أشبه بشخص يلقى به في البحر وهو لا يحسن السباحة.لذلك,يلجأ إلى استعمال كل الطرق المشروعة وغير المشروعة في محاولة الإفلات من غرق شبه مؤكد.وبالتالي,فدوافع الغش بالنسبة للتلميذ في هذا السياق دوافع موضوعية ذات ارتباط وثيق بفلسفة المنظومة التربوية كلا,وبإستراتيجية الانتقال على أساس توازنات الخريطة المدرسية بشكل خاص.
ومع ما تمت الإشارة إليه من اختلالا,يستوجب الانتصار فيها مقاربة علمية أعمق من طرف ذوي الاختصاص,وتعبئة أكبر في صفوف المعنيين مباشرة بالقطاع,وإشراكا أوسع لمكونات المجتمع.لا يمكن التغاضي عما شاب تنظيم هذه الامتحانات من ارتباك لا غرو في آثاره السلبية,نتيجة قرارات ارتجالية.فسعيا نحو توفير حظوظ أكبر لنزاهة وشفافية العملية,أصدرت الوزارة الوصية مذكرة تذكيرية في الموضوع,عملت الأكاديميات والنيابات على استنساخها وتعميمها على مراكز الامتحانات,مرفقة بدليل للمراقب,وعملا على أجرأتها,ساد نوع من الإجماع لدى أصحاب القرار أن زحزحة العنصر البشري,بتغيير مؤسسة الاختبار إما بالنسبة للتلميذ أو بالنسبة للمراقبين كفيل بتحقيق الغاية,وهي مقاربة أبعد ما تكون عن الصواب,بدليل أن العملية لم تحقق المتوخى منها كما شهدت بذلك الواقع,لأن قيم النزاهة والشفافية هي قيم وجدانية مرتبطة بطبيعة تكوين الإنسان, ولا تتغير بتغير المكان,فالمتمثل لها يتمسك بها ويجسدها في عمله وفي سلوكه حيثما حل أو ارتحل.
أضف إلى ذلك, أنه إذا جاز القبول بتحريك المراقبين تجاوزا,فان العملية غير سليمة مطلقا عندما تستهدف التلميذ,إذ تمس بحق من حقوقه الأساسية التي تؤكد عليها التعلمات التربوية,عندما توصي بأن تكون ظروف الامتحان بالنسبة إليه سليمة من أي تشويش,حتى فيما يتعلق بأسئلة الاختبار,وما بالك بعملية تحريكه إلى مؤسسة أخرى, التي تجعله في وضعية جديدة لم يكن مهيئا لها بشكل مطلق.فيفقد, جراء ذلك,التركيز حول موضوع الاختبار,وينصرف إلى التفكير في التأقلم مع الوضع الجديد,مع ما يرافق ذلك من أعباء مادية ليست هيئة التحمل بالنسبة للكثير من التلاميذ .
على أن تحريك المراقبين نفسه لم يسلم من علة,عندما استهدفت العملية إسناد مهمة المراقبة لأساتذة التعليم الإعدادي لأن التشريعات التنظيمية فصلت بالواضح بين الأسلاك التعليمية.ومكنت كل تلك من الإمكانات المادية والبشرية الكفيلة بانجاز مختلف المهام والأنشطة الخاصة به.فبأي منطق ينجز أستاذ التعليم الإعدادي كل العمليات المرتبطة بشكله,ويضاف إليه عناء المراقبة في امتحانات الباكالوريا في حينه,يحال أستاذ التعليم التأهيلي على الراحة? وهو الذي يشتغل أقل عدد من الساعات,ويرقى إلى أبعد الدرجات,بينما يحرم السابق من ذلك!? ما يسمح بالقول أن القرار لا يخلوا من ارتجالية,ويفتقر لأية دعامة قانونية أو قاعدة منطقية.بل يشتم منه رائحة تكريس دونية أستاذ التعليم الإعدادي وقد وجد المسؤولون,فعلا, صعوبة في تبرير القرار.فقد تعلل البعض بروح المواطنة التي يجب أن يتحلى بها الجميع في عملية الامتحانات التي تعتبر قضية وطنية.لكن كيف يطلب من أستاذ التعليم الإعدادي,في ظل الحيف الذي يستشعره,أن يكون أكثر مواطنة من غيره? ولجأ الآخرون إلى التلويح بالزجر,وهو أسوأ أشكال التدبير,حيث خلق حالة من التوتر والتصعيد في الرفض. أما الأسلوب الذي كان أنجع,فهو أسلوب الترغيب ومناشدة المخاطبين لفك مسؤوليهم من الورطة التي وضعوا فيها.لكن مع نجا عته, فهو أبعد ما يكون عن التدبير العقلاني,لأن امتحانات الباكالوريا هي استحقاقات وطنية متكررة بشكل منتظم.وتقتضي عقلنة تدبيرها ,استثمار تراكمات التجارب السابقة,ووضع تشريعات تنظيمية تغلق الأبواب أمام كل ارتجال وارتباك وتشويش.بالإضافة إلى ذلك,يمكن الحديث عن أوجه سلبية,ربما أعمق,لقرار زحزحة العنصر البشري,سواء التلاميذ أو المراقبين.إذ تمثل العملية نوعا من العنف الذي تمارسه الإدارة تجاه المعنيين,وكان طبيعيا أن يتولد عنه عنف مضاد, تجلى في تقاعس المراقبين عن القيام بمهامهم,وفي استفحال ظاهرة الغش التي ستنتقل مع هذه الأجيال إلى مختلف دواليب الحياة,وتهدد المجتمع في أمنه واستقراره,كما أن العملية تنهي الموسم الدراسي بالسلك الإعدادي قبل موعده الرسمي,في تعارض صريح مع مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين, والمراسيم والمذكرات الوزارية فيما يتعلق بتنظيم الزمن المدرسي .
خلاصة القول أن امتحانات الباكالوريا تمثل حلقة أساسية في منظومتنا التربوية. لذلك,فبقد ما الحاجة ماسة إلى إصلاحها دفاعا عن مصداقية دلالتها الإشهادية, فان ذلك قطعا يعزز حظوظ نجاح إصلاح المنظومة في شموليتها .
فاس في 17 7 2010
علي اليدري