فضاءات شنهور

شنهور

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
الطيب سيد أحمد محمد
مسجــل منــــذ: 2011-02-13
مجموع النقط: 1458.41
إعلانات


رمضان يتكلم

(رمضان يتكلم)
بقلم الشيخ الأديب السيد محب الدين بن أبي الفتح بن عبد القادر الخطيب،
المتوفى سنة 1389هـ، رحمة الله عليه.
................

رمضان ضيف قديم من ضيوف الإسلام: شهد عصر السعادة، وفيه هبط الوحي بكلام رب العزة على قلب الهادي الأعظم، فغيّر به وجهة التاريخ، وما زال هذا الضيف الكريم القديم يغادي المسلمين ويراوحهم شهراً كاملاً في كل عام؛ ليرى موضع الأمانة المحمدية من نفوسهم، وليراقب قيامهم عليها.
هو يزورنا الآن للمرة الثالثة والخمسين بعد الثلاثمائة والألف، وأن سائحاً يغشى أفقاً من الآفاق كل هذه المرات، ويراقب ما حدث فيه من أحداث، وما انصبغ به من ألوان، لجدير أن يكون خبيراً بدخائله، وأن يكون بمكنوناته جد عليم.
لقد جردت نفسي ليلة أمس من كل الشواغل، وخلوت برمضان أتلقى عنه العلم ببعض ما رأى، وأصغيت إليه بعقلي وقلبي وروحي، فسمعت منه كلاماً بيناً حمله إلي من وراء الأزمان، كالكلام البين الذي تنقله لنا آلة الراديو من وراء الآفاق، ورأيته يعرض على أهل البصيرة مشاهد العبر واضحة كوضوح المشاهد التي تعرضها آلة السينما على الشاشة البيضاء.
كان رمضان فيما مضى يزورنا ليرانا ويسمع بياننا، ويُدون مشاهداته وشهاداته في مذكراته، وقد أنعم الله عليّ ليلة أمس بأن أراني رمضان، وأسمعني بيانه، فدونت ما رأيته منه، وما سمعت في مذكرات لي.
كم كنت أتمنى لو أن جميع المسلمين سمعوا من رمضان ما سمعته منه ليلة أمس، ورأوا معي العبر التي استفدتها من علمه واختباره.
لقد كان ذلك شيئاً عظيماً من شأنه أن يطرح البركة في العمر، فيكون الإنسان كأنه عاش بضعة عشر قرناً.
سمعت رمضان يقول: إن فرق ما بين مسلمي اليوم ومسلمي العصر الذي نزل به القرآن يرجع إلى أمر واحد قريب المدى، ولكن الوقوع في هذا الأمر يبعد ما بين المسلم والإسلام إلى أقصى مدى.
كان مسلمو عصر القرآن إذا اعتقدوا العقيدة: امتزجت بدمائهم، وجرت في دمائهم مع أنفاسهم، وكانت معيار تصرفاتهم في الغضب والرضا، والفاقة والغنى، والحرب والسلم، والعسر واليُسر، وقبل أن يكونوا مسلمين كانوا مشركين، وكانوا يتوهمون أن تتغير ما هم عليه هدم ليكانهم الاجتماعي، وتقويض لبنيانهم القومي؛ فقاوموا الإسلام ببيانهم وعقولهم، وبأموالهم وأنفسهم، وبكل ما ذكر الله عنهم من دهاء ونكراء ولدد في الخصومة، وشجاعة في يوم الملحمة، حتى إذا رأوا الإسلام يبني في آفاقهم كياناً سامي الذرى عظيم الخطر خالد الأثر، ما غنموا أن أذعنوا لهدايته، فصار الواحد منهم كلما تبين له الحق واستنار به قلبه تقبله صادقاً مخلصاً، ووهب له لسانه وسيفه وخزائن أمواله.
إن الآية الواحدة من كتاب الله عز وجل كانت تكفي الواحد منهم لإنارة بصيرته وإيقاظه مما هو فيه، وتغير مجرى حياته تغييراً عملياً، فيخرج إلى قومه مبشراً بالهدى الذي ملأ قلبه، ثم يخرج بالمهتدين من قومه متلمساً آفاقاً أخرى يبشر أهلها بما أنعم الله به على الإنسانية من خير، ولم يكن يبشر بما نعرفه من صنوف الجدل، ولا بما نلقيه على منابر مساجدنا وجمعياتنا من خطب كثيرة ومحاضرات طويلة، بل كان يُبشر بأخلاقه الكريمة ووفائه الصادق وسيرته المثلى وفضائله المحمدية، فيرى الناس من صدق المسلمين الأولين، ووفائهم وإنصافهم واستقامتهم وعدلهم وعفتهم ونبل أخلاقهم، ما يفهمون به مقاصد دعوتهم فهماً عملياً لا يحتاج إلى محاضرات ولا إلى مناظرات ولا إلى مؤلفات، فلا تلبث الشعوب أن تدخل في دين الله بالألوف وبمئات الألوف وألوف الألوف.
قال رمضان: وأما مسلمو اليوم، فلا هم صادقو العداوة للإسلام، كما كان مشركو العرب صادقين في العداوة، ولا هم صادقو الولاية والنصرة للإسلام، كما كان مسلمو عصر السعادة صادقين في الولاية والنصرة.
إن أثر الإيمان بالشرك ثم بالتوحيد كان ظاهراً ملموساً في العصر الذي نزل به القرآن، فكان المشرك مشركاً صادقاً في شركه إلى أن يهديه الله، وكان المسلم مسلماً صادقاً في إسلامه إلى أن يلقى الله، وكان هذا الصدق في الحالتين واضحاً جلياً في الغضب والرضا، وفي الفاقة والغنى، وفي الحرب والسلم، وفي العسر واليسر، وأما الآن فتسمع من المسلم كلاماً كثيراً في محاسن الإسلام، وبراهين كثيرة على صحة الإسلام، وأخباراً كثيرة عن أمجاد الإسلام، ثم لا تلبث أن تراه يخون ذلك لمصلحة حقيرة من مصالح الدنيا، أو لدرجة وضيعة من درجات الجاه القذر، أو لرآسة ذليلة على عشرات قليلة من الناس يخدعهم بأنه يرشدهم إلى الله وهو لا يبتغي منهم إلا أن ينعم بهم في دنياه.
لقد ترك أهل الصدر الأول أمانة الإسلام بين أيدي الأجيال الآتية، فخلفهم عليها في هذا العصر خلف اتخذوا من هذه الأمانة صندوقاً لأمانة أخرى هي المصالح الذاتية، فأمانة الإسلام وسيلة إليها، وصندوق يراد منه حفظ تلك المصالح، فهم يحرصون على صندوق الدين ما دامت فيه أمانة الدنيا، فإذا نقلتها يد القوة من صندوق الدين إلى صندوق آخر من صناديق الشيطان، رمى القائمون على صندوق الدين هذا الصندوق في الفرن ليكون وقوداً، وعكفوا على أمانتهم الدنيوية في صندوقها الجديد مهما كان نوعه.
آيات قليلة من كلام الله الحكيم كانت كافية لنقل ابن الخطاب من عدو لدود للإسلام إلى صديق صادق الإيمان، وفينا مئات وألوف ممن يحفظون كتاب الله جميعاً عن ظهر قلب، ما نزل منه قبل إسلام عمر، وما لم يكن قد سمع به عمر، ويرتلونه بقراءاته السبع والعشر، ولا يخطر على بالهم أن بين هدايته وبين تصرفاتهم اليومية رابطة، فهم حفظوا القرآن ليعيشوا في الدنيا على حساب معرفتهم به، ولم يحسبوا أنفسهم في ساعة من ساعات تلاوته على مبلغهم من التخلق بأخلاق القرآن، وعلى أثرهم في حمل الناس على هدايته.
لما كنت صبياً في المدرسة الثانوية خلوت بنفسي في ليلة من ليالي رمضان، وجعلت أتأمل في معاني الآيات القرآنية، ثم تمنيت لو يتاح للمسلمين تأسيس نادٍ عظيم كثير الغرف تخصص كل غرفة من غرفة لخلق من أخلاق القرآن، فيكون شعار الفرقة الأولى آية من آيات الحض على الصدق أو الزجر عن الكذب، وما أكثر ذلك في كتاب الله، فتحفر آية من تلك الآيات على باب تلك الغرفة، وتتألف جمعية تتعاهد على الصدق، وتكون من أهل هذه الغرفة، ويربي أعضاؤها أنفسهم على ألا يكذبوا، ولو عُرضوا على السيف، وهكذا كل غرفة من الغرف، ثم تكون الغرفة التي في جوف هذا النادي خاصة بصادقي الإيمان، فيحفر على بابها قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
إن الإسلام لا يقوم بكثرة عدد المسلمين الذين يتلون هذه الآية وسائر آيات القرآن؛ بل يقوم بالمسلمين الذين يربون أنفسهم على العمل بها، ويتمرنون على ذلك حتى يظهر أثره في أخلاقهم وتصرفاتهم، كما يتمرن المشتركون في الأندية الرياضية على الحركات البدنية إلى أن يظهر أثر ذلك في عضلاتهم ومجموع بدنهم.
لقد حل شهر رمضان لعامنا هذا، فكان مما قيده في مذكراته أننا نحن المحسوبين على الإسلام قد زاد عددنا على ثلاثمائة مليون، وأن الثلاثمائة الذين شهدوا بدراً مع الهادي الأعظم صلوات الله عليه كان الواحد منهم خيراً من مليون إنسان من أمثالنا، أولئك كانوا صادقين في شركهم قبل أن يسلموا، ثم صاروا صادقين في إسلامهم بعد أن أسلموا، وأما نحن فغثاء السيل، ولست أدري كيف لا نستحي عندما نطمع أن يدخلنا الله الجنة.


..... .....

المصدر: كتاب (الحديقة مجموعة أدب بارع وحكمة بليغة)،
الجزء الثالث عشر، المجلد الثالث، صفحة 1546.



تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة