الصورة- الثورة
الصورة- الثورة
قراءة فًي وثائقٌيات ثورة ٌيناٌير 2011
- الصورة/ النضال
يقول الرسام المصري الراحل عدلي رزق الله "أن التصوير ما هو إلا طريقة للتفكير وللحب وللبغض وللكفاح والعيش"ونستطيع أن نضيف ذلك التعريف الكاشف إلى الجملة الشهيرة التي قالها الكاتب التشيكي"ميلان كونديرا"حين سئل عن النضال السياسي فأجاب"أن نضال الانسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان".
نستطيع عبر المزج الفكري لهذين التعريفين عن التصوير والنضال ان نبلور قوسين واضحين عما يمكن ان يكون قد حدث اثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر عام 2011 عندما خرج العشرات من السينمائيين ليشاركوا في الثورة عبر ايمانهم بأن"نضالهم الانساني"ضد"السلطة" مستخدمين كاميراتهم الصغيرة ذات التقنيات الرقمية هو طريقتهم في"المشاركة"و"الكفاح"واعلان بغضهم"للنسيان"الذي طالما طمس شعبا بأكلمه عبر تزييف"ذاكرته"طوال ثلاثين عاما.
في درساتها القصيرة "السينما التسجيلية من الثورة إلى الثورة" تقول الناقدة المصرية صفاء الليثي تحت فقرة بعنوان الوثيقة المصورة من الانتماء للمشاركة:
"تواجد السينمائيون منذ اللحظة الأولى فى الميدان...وفقط فى مسيرة السينمائيين قبل التنحى بيوم واحد التقيت الفنان علي الغزولى وهو سبعينى نشط لم يعرف فى حياته سوى عمل الأفلام...المخرج الكبير علي الغزولى الذى يلقب بشاعر السينما التسجيلية يسكن فى بناية تطل على ميدان عبد المنعم رياض، ومن شرفة منزله شاهد كل وقائع يوم الأربعاء الدامى(2 فبراير) وقام بتصويرها من موقعه...اجتمعت طفولته مع إبداعه ليتصرف بروح طفل مغامر فيتخفى فوق سطح بيته ليصور القناصة المترصدين فى سطح البناية المجاورة، يكتم أنفاسه ليتمكن من تصويرهم، هل كان خائفا؟ بالتأكيد.. ولكن رغبته فى المشاركة غلبت خوفه وتمكن من تصوير وثائق نادرة من موقعه الذى وجد فيه بالصدفة"
ويقول المخرج علي الغزولي نفسه عن تلك اللحظات في نفس الفقرة:
"وأمضيت أياما عدة أراقب من السطح، ثم أنزل عندما يتزايد أعداد المتظاهرين. ولاحظت ظهور اللجان التنظيمية التى تنظم الدخول إلى الميدان، وصيحة إسلامى طابور للحريم وطابور للرجال، عندما وجهت الكاميرا للتصوير منعونى، فجادلتهم"أمال عاوزين تغيروا إيه؟" وصورت، كنت منفعلا...صورت من سطح العمارة أيضا حريق مقر الحزب، كان قلبى يرتجف خوفا على المتحف المصرى القريب جدا من مبنى الحزب. كانت الصورة مفزعة. قيامى بالتصوير كانت طريقتى فى المشاركة ، كونى جزء من الناس وهذا ما أجيد عمله"
فيما بعد سوف يقوم على الغزولي باستخدام تلك الوثيقة التي قام بتصويرها أثناء فترة الثمانية عشر يوما كنواة لفيلمه التسجيلي الجديد"أيام التحرير", بالطبع لم يكن هناك نية من المخرج الكبير أن يقوم بصناعة فيلم في اللحظة التي كان يقوم فيها بالتصوير من فوق سطح منزله, كانت الرغبة في التصوير/النضال هي التي دفعته للتصوير/المشاركة وكان نتاج هذا النضال/المشاركة "الصورة/ المادة" التي ما ان وجدت حتى اصبحت هي"الذاكرة/الحدث", ونحتاج هنا إلى العودة إلى ذلك التعريف الأصيل للسينما الوثائقية"بأن الفيلم الوثائقي هو العمل المنجز انطلاقا من مادة محددة تشتمل على لقطات مصورة قريبة من التجربة المعاشة" أن تجربة"على الغزولي" وغيره من السينمائيين في ميدان التحرير تقوم باعادة صياغة هذا التعريف وتوسعته بأفق مختلف يتجاوز فكرة التحضير للتجربة/الفيلم إلى خوض"التجربة المعاشة" اولا ثم تأملها, انها اعادة تعريف لفكرة"المادة المحددة" التي لم تعد هي تلك المادة التي يتم التحضير مسبقا لها سواء عبر السيناريو أو الاعداد الأخراجي, ليس فقط نتيجة ان "الحدث"كان مفاجئا وغير متوقع وخاطف بل لأن الوسيط نفسه المستخدم في التصوير ونعني به"الديجيتال"الذي تم التوثيق/المشاركة/النضال من خلاله اصبح مختلفا وخاطفا تماما مثل الحدث ذاته أو كما يقول الناقد المصري امير العمري في درساته عن نقد الفيلم الوثائقي :
"أصبحت الكاميرات الرقمية"الديجيتال"التي تختزن الصور في ذاكرتها...الوسيلة السائدة اليوم أمام صناع الفيلم التسجيلي، ليس فقط بسبب رخص أسعارها، بل بسبب صغر حجمها وسهولة حملها وبالتالي القدرة على اقتحام العديد من الأماكن المزدحمة التي قد يشكل التصوير فيها مخاطرة ما، أو الأماكن الضيقة المرتفعة، أو غير ذلك من المواقف التي تشتعل فجأة بالأحداث المعقدة...لم يعد ينفع أن ينصب السينمائي كاميرا سينمائية واضحة كبيرة فوق حامل على الملأ ثم يقوم مساعدوه بضبط الإضاءة ووضع عاسات الضوء المناسبة، ثم استخدام العدسة المناسبة أكثر للحدث وضبط بؤرتها والتحكم في حجم اللقطة..إلخ فقد يكون الحدث قد بدأ وانتهى بينما المخرج ومساعدوه مازالوا يعدون العدة لتصويره!"
2- الصورة أنواع
بدأت الحديث عن تجربة المخرج على الغزولي لانها تمثل مدخل جيد لطرح فكرة ان الثورة انتجت الوثيقة المصورة قبل أن تنتج افلامها الخاصة او بمعنى اخر ان الوثيقة هي التي انتجت فيلمها وليس العكس.
وأن كان المخرج على الغزولي قد تواجد في الميدان بالصدفة بحكم كونه يسكن في التحرير فإن الكثير من صناع السينما ذهبوا إلى الميدان للمشاركة في الحدث دون ان يكون ثمة نية محددة للتوثيق او صناعة الأفلام, فالتوثيق يحتاج إلى دراية وشئ من اليقين وكلاهما كان غائبا عن الكل تقريبا, لا احد كان يدرك حجم الحدث ولا ابعاده الكل ذهب ليشارك/ يصور كما اتفق, البعض انتج من وراء هذا تجارب ذات قيمة والبعض الاخر كانت افرازاته التوثيقية اقرب للانفعال اللحظي الذي لم يلبث أن تجاوزته المادة الهائلة التي سجلتها كاميرات المحطات الفضائية.
ثمة ثلاثة انواع لطبيعة الوثيقة المصورة التي تم تسجيلها اثناء الثورة والتي تحولت فيما بعد إلى "المادة المحددة" التي شكلت المتن الرئيسي للأفلام التسجيلية التي انتجت عن الثورة.
النوع الاول: الوثيقة التي التقطتها عبر المصادفة كاميرات التليفونات المحمولة والكاميرات الخاصة لأشخاص ليسوا من صناع الأفلام ولكنهم حاولوا تسجيل اللحظة للاحتفاظ بها في أرشيفهم الخاص او تحميلها على مواقع الانترنت كنوع من المقاومة وتعرية الواقع.
هذا النوع من الوثائق اصبح من الصعب التعرف على الشخص الذي قام بتسجيلها او توثيقها بعد حجم التداول الهائل للوثيقة عبر شبكة الأنترنت بل واعتباره ارشيفا عاما تم استخدامه في عشرات الافلام الوثائقية والمواد التليفزيونية التي تحدثت عن الثورة.
ومن اشهر تلك اللقطات الوثائقية على سبيل المثال لا الحصر: لقطة الشاب الذي يتحدى خرطوم الماء المنطلق من سيارة فض الشغب, لقطة رش المتظاهرين بالماء فوق كوبري قصر النيل, لقطة مقتل احد المتظاهرين بالسويس, لقطة دهس سيارة السفارة الأمريكية المسرعة لعدد من المتظاهرين, لقطة دهس عربة مصفحة لاحد المتظاهرين اسفل كوبري الجلاء, وبالطبع اللقطة الشهيرة لعملية اقتحام الجمال للميدان ومواجهة المتظاهرين لأحد راكبي الأحصنة في"موقعة الجمل"وانزاله من فوق الحصان وضربه.
وللاسف فإن اعتبار هذه اللقطات جزء من الأرشيف العام المتاح للجميع او ما يعرف بفكرة"تحرير الوثيقة من سيطرة صانعها"جعلها تصبح تيمة كلاسيكية او نمطية في الكثير من الأفلام التسجيلية واستطاعت فقط افلام قليلة أن تنجو من فخ استخدامها المكرر والمفتعل.
النوع الثاني: الوثيقة المصورة التي سجلتها كاميرات صناع الافلام والسينمائيين الذين شاركوا او تواجدوا في الميدان اثناء وبعد الثورة.
هذا النوع هو الاكثر تمثيلا لاطروحتنا حول أنتاج الوثيقة لفيلمها وليس انتاج الفيلم لوثيقته الخاصة, حيث ان اغلب صناع الأفلام الذين اهتموا بالمشاركة عبر تصوير الحدث وتوثيقه اعتمدوا فيما بعد على المواد التي قاموا بتصويرها كمتن اساسي لصناعة افلامهم الوثائقية عن الثورة كل من وجهة نظره.
العناصر المشتركة بين اغلب هذه الوثائق هي:
1- ان قرائتها لم تتحدد سوى بعد انتهاء الحدث نفسه اي اكتمال الثمانية عشر يوما للثورة بتنحي الرئيس مبارك وهو ما نجده على سبيل المثال في افلام مثل "نصف ثورة" لكريم الحكيم وعمر الشرقاوي, ومولود في الخامس والعشرين من يناير لاحمد رشوان, وانا والاجندة لنيفين شلبي, فأغلب هذه المواد كانت مجرد ارشيف خاص بالمخرج لم يتم التعامل معه على اعتبار انه يمكن ان يشكل نواة او متن لفيلم وثائقي إلا عندما اتخذ الحدث شكل الثورة وأتخذت الاحداث تطورها المذهل والمفاجئ.
2- أنها تتنوع ما بين لقطات توثق وجهة نظر المخرج او السينمائي لما يحدث وقتما كان وأينما كان دون تخطيط منه او تتبع لمعلومة او شخص بعينه وانما مجرد جزء من حالة المشاركة/النضالية التي تحدثنا عنها او هي لقطات تم التقاطها له في الميدان وسط الحدث من خلال وجهة نظر اشخاص اخرين لكن كان هو محورها وبالتالي سعى للحصول عليها لضمها إلى ارشيفه مثلما فعل المخرج أحمد رشوان في فيلمه مولود في الخامس والعشرين من يناير, او هي لقطات قام المخرج بتصويرها لنفسه بنفسه كجزء من عملية قراءة الحدث عبر الذات.
3- عدد قليل جدا من الوثائق المصورة التي التقطت خلال احداث الثورة من قبل صناع الأفلام جاءت بشكل عالى الجودة تقينا أو محدد الزوايا والاحجام بصريا بل أن اغلب المادة المصورة والتي كانت نواة الافلام جاءت حركة الكاميرا خلالها اقرب لحركة الكاميرا التي تصور الاخبار أو "الهارد نيوز/ HARD NEWS" بالتعبير الانجليزي, حيث الكاميرا غير مستقرة والكادرات مهتزة والأضاءة شحيحة والقطعات المونتاجية حادة وغير منمقة ولا يوجد اهتمام بالتكوين أو الخط الوهمي او النور والظل, بل أنه في بعض الأحيان قامت الكاميرا بالتصوير دون دراية من المخرج او انتباه لما تقوم بتصويره!
وهو ما يحيلنا مرة أخرى لما قاله امير العمري عن وسيط الديجيتال والكاميرات الرقمية, حيث اثبت الديجيتال انه بالفعل احد الجنود المجهولة في هذه الثورة.
وكأن الكاميرات الديجيتال تجاوزت"المعضلة"التي تحدث عنها روبير بريسون قائلا :
"أنها معضلة أن تجعل ما تُرى يٌرى بواسطة ماكينة لا تراه كما تراه أنت!"
لقد اصبحت الكاميرا الديجيتال اثناء الثورة ترى الحدث كما تراه هي وليس كما يراه المخرج! وذلك بفضل الذاكرة الرقمية التي تحملها وصغر حجمها واحتياجها إلى مصادر اضاءة بسيطة وبقائها تعمل لساعات طويلة طالما لم يفرغ شحنها.
وسوف نجد ان نيفين شلبي على سبيل المثال قد قامت ببناء جزء كبير من فيلمها"انا والأجندة"على لقطات التقطتها الكاميرا بنفسها وليس بتوجيه من المخرجة ولم تتبين نيفين نفسها طبيعة المادة المصورة ومساحتها وحجمها إلا بعد ان قامت بتفريغ الذاكرة ومن هنا تولد لديها الشعور بوجود نواة تصلح لصناعة فيلم وثائقي عن احداث الثورة واتخذت من فكرة "الاجندة الخارجية" التي انتشرت كمصطلح في الأعلام الرسمي يشير إلى العمالة والخيانة اللذان كانا يوصف بهم ثوار الميدان اتخذت منها زاوية لتحليل الوضع السياسي بالميدان وقت الاحداث.
النوع الثالث: هي الوثيقة التي سجلها شخص اخر معلوم غير المخرج اثناء الاحداث بحكم طبيعة عمله(مصور صحفي او تليفزيوني)او تواجده في الاماكن التي شهدت المواجهات والوقائع الساخنة وقام المخرجين بأستخدام تلك الوثيقة كمتن اساسي في افلامهم او كجزء من المتن وليس مجرد ارشيف او مادة مساعدة وهو ما نراه جليا في تجربة المخرج تامر عزت في الجزء الاول من فيلم"الطيب والشرس والسياسي" عندما قام بتوظيف الصور التي التقطتها احد المصورين الصحفيين اثناء الصورة وصنع منها المتن الرئيسي لفيلمه "الطيب" عبر التركيز على الوثيقة المصورة وتكبيرها ودراستها وتحليل مشتملاتها.
يتبع_ رامي عبد الرازق