التضحية في الإسلام
التضحية تعني البذل، وفي الإسلام ليس هناك أيّ بذل بأيّة صورة دون مُقابل! بل لا نبالغ إذا قلنا إنَّ الإسلام كله مُقابل وبَدَل دون بذل!.
والأدلة على ذلك كثيرة.. منها قوله تعالى ووعده وتأكيده، ومَن أصدق منه وعدًا وَمن أجود وأعظم وأخيَر عطاءً: ?وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)? (سبأ)، والذي قال فيه الإمام ابن كثير في تفسيره: ".. أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبَدَل وفي الآخرة بالجزاء والثواب.. وهو خير الرازقين..".
فأيّ شيء ينفقه المسلم، صغر أم كبُر، عظم أم حقر، سواء أكان فكرًا أم جهدًا أم مالاً أم علمًا أم عملاً أم علاقات ٍأم غيره، لا بُدّ سيجد مُقابلاً له، سيجد بحياته سعادة فكرية ومشاعرية وجسدية وعلمية ومالية ومنصبية وعلاقاتية وغيرها، إضافة بالتأكيد إلى سعادة واستبشار انتظار أعلى درجات الآخرة وأفضل ثوابها.
ومنها قوله تعالى: ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)? (النحل: 97).. فأيّ عملٍ، دون تعريف أو تحديد، لا بُدّ أن يقابله مُقابل وتعويض أكبر وأحسن؛ لأنه سبحانه يُعَوّض على قدْر كرمه ومقامه!.. وبمجموع هذه التعويضات والمُقابلات، ستكون الحياة الطيبة الهانئة الهادئة المطمئنة السعيدة، كما قال الإمام الطبري في تفسيره: ".. عن ابن عباس قال: السعادة"، وكما قال الإمام الشوكاني في تفسيره "فتح القدير": ".. ترغيب كل مؤمن في كل عمل صالح ٍوتعميم ٍللوعد.. وأكثر المفسرين على أنَّ هذه الحياة الطيبة في الدنيا لا في الآخرة؛ لأنَّ حياة الآخرة قد ُذكِرَت بقوله: ?وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)?".
إنَّ الأعمال الحياتية تنحصر في علاقات مع الله والنفس والأهل والأبناء والجيران والأقارب والأنساب والأصدقاء والزملاء، والعلم والعمل والإنتاج والكسب والربح، وما شابه هذا.. فإن أحسنَ المسلم التعامُل معها، فلا بُدّ أن يجد إحسانًا، والعكس بالعكس، كما هو وَعْده عز وجل في قوله: ?إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا? (الإسراء: من الآية 7)، والذي جاء في تفسيره في "المنتخب": ".. إن أحسنتم فأطعتم الله كان إحسانكم لأنفسكم في الدنيا والآخرة، وإن أسأتم بالعصيان فإلى أنفسكم تُسيئون..".
فالإحسان للذات، يعني إحسانًا للعقل وللمشاعر وللجسد، فمَن أحْسنَ لعقله، بحُسْن التفكير والتخطيط والعلم والإبداع، أسعده، فأضفى بالتالي عليه وعلى مَن حوله وعلى الأرض كلها علمًا وتخطيطًا وإبداعًا، وسعادة.. وإذا أحسن إلى مشاعره، بالحب والتعاون والتفاؤل والأمل والاستبشار، أسعدها، فأضفت على ذاته سكينة واطمئنانًا، وسعادة.. وإذا أحسَنَ إلى جسده، بالتوازن في طعامه وشرابه ولبسه ورياضته وترويحه، أسعده، فأضفى عليه صحة وجُهدًا ونفعًا، وسعادة له ولغيره.
وإن أحْسَنَ لوالديه، أسعدهم فسَعِدَ بحنانهم وعونهم وُنصحهم ودعائهم.. وإن أحسنَ لزوجته، أسعدها فأخذ في المُقابل حُبًّا وسكينة وسعادة.. وإن أحسنَ لأبنائه، أسعدهم فسَعِدَ بتربيتهم وبنموّهم وببرّهم.. وإن أحسنَ لجيرانه وأقاربه وأصدقائه وزملائه، أسعدهم وسَعِدَ بدِفء علاقات الأخوّة والمحبة والمنافع المُتبَادَلة والتواصُل بالأفراح والأتراح بينهم.. وإن أحسنَ لعمله سَعِدَ بكسبه وربحه.. وإن أحسنَ لعلمه سَعِدَ بتطوره ورُقِيّه.. وهكذا في كل أعمال الحياة صغيرها وكبيرها.
ويُضاف لكل هذا بالتأكيد الاستبشار بانتظار المُقابل الهائل الأعظم الأدْوَم الأسعد، ثواب الله تعالى يوم القيامة، وأعلى درجات الجنات، لِمَن فعل ذلك مُستصحِبًا نوايا خير في عقله أنه يفعلها حُبًّا في خالقه الذي طلبها منه لمصلحته ولسعادته هو ومَن حوله، وطلبًا لحبه ولتوفيقه ولعونه في الدنيا، ولأجره العظيم في الآخرة، كما وعد سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة بالقرآن والسنَّة.
إذًا، فكلما أعطي الإنسان عمومًا والمسلم خصوصًا أخذ! (برجاء أيضًا مراجعة مقالة: "النفس بين الأخذ والعطاء" لمزيد ٍمن التفصيل والتوضيح).. فأين التضحية بلا مُقابل إذن؟!! بل لقد أخذ َكثيرًا!! وعلى قدْر ما قدَّمَ من جهد وأكثر.. وحتى الجهود المبذولة كانت متعة وسعادة له!! لأنه مُبَرْمَجٌ أصلاً من خالقه على حب وطلب وفعل هذا الجهد المُسْعِد المُمتِع!! على هذا الأخذ والعطاء المُبْهِج!! (برجاء أيضًا مراجعة مقالة: "حظ النفس حرام أم من الحلال" لمزيد من التفصيل والتوضيح).
حتى أقلّ الأعمال وأهونها، ليست مجانيَّة مع الله تعالى وكرمه وفضله الواسع وحبه لخلقه وإسعاده لهم!!.. فالذكر باللسان مثلاً، وهو الذي يُعتبَر من أخفّ العمل وأسرعه، له سعادته للعقل وللمشاعر فيه، ويدفع إلى الانطلاق في كل شئون الحياة بسعادة، مع سعادة انتظار ثوابه الأخروي الكبير.. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال لا الحصر: "مَن قال حين يُمسي: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، كان حقًّا على الله أن يُرضِيَه" (رواه الترمذي)، أي يُرضيه بالأمن والسعادة في الداريْن؟!.
وحتى فيما يظنه المسلم أحيانًا تضحيةً بلا مُقابل في ظاهره، هو في باطنه وحقيقته له أعظم المُقابل:
فمثلاً إنْ أنفق مالاً في خير ما، في علم أو عمل أو إنتاج أو برٍّ أو غيره، دون عائد عاجل ٍواضح، عادَ مؤكدًا هذا آجلاً بالنفع عليه وغيره بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لِوَعْد الله تعالى الأكيد: ?مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)? (البقرة).. فكل نفقة صغيرة أو كبيرة لا بُدَّ أن ُتقابَل بنفع هائل في الدنيا والآخرة، بخبرات وخيرات وعلاقات وماليَّات وسعادات، مثل الحبَّة الواحدة تُغرَس وتُزرَع فتنبت مئات ثم آلاف من الحَبَّات النافعات المُسْعِدات!!.
وحتى إنْ سُجنَ وأُعطيَ من حريته دفاعًا عن حقٍّ ما، فلا يُعَدّ ذلك تضحية مَحْضة!؛ لأنَّ في سجنه سينال الخلوة والقرْب والتواصُل مع ربه القوي الكريم، وسيجد فيه الأخوّة الصادقة والتلاحُم والانصهار، وفيه تبادُل الخبرات على أعلى المستويات وفي كل التخصّصات، وفيه المُراجَعات والتصويبات، وفيه الاعتبار بالآخرين وحُسْن العلاقات معهم ودعوتهم للصبر وكل خير، وفيه العلم، وفيه القرآن، وفيه الصلوات الجامعات أول الأوقات وأفضلها، وفيه قيام الليالي والاعتكافات، وفيه الرياضات والترويحات.. وفيه.. وفيه.. وفيه.
وحتى إنْ جادَ بروحه من أجل الحقوق، فهي ليست بلا مُقابل!! بل لقد قدَّمَ وباعَ أغلى ما يملكه، فلا بُدَّ أن يُقابله خالقه الكريم العظيم الذي اشترى سلعته بأغلى أجر وأعلى سعر، وهو الشكور الذي يحفظ لخلقه ويُقدِّرَ لهم ما يُقدِّمونه، كما يؤكد قائلاً: ?قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ? (التوبة: من الآية 52)، والذي فسَّرَه الإمام مقاتل في تفسيره: ".. إمَّا الفتح والغنيمة في الدنيا وإما شهادة لها الجنة في الآخرة.."، وكما يقول: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)? (التوبة).. فالأمر ما هو إلا بيع وشراء مُبَشِّر رابح فائز كما وعد الحقّ سبحانه!.
فأين التضحية بلا مُقابل إذن؟!! حتى فيما يُظنّ أنه غرْم وانتقاص وشرٌّ!! .. والله تعالى يَعِدُ بقوله: ?وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ? (البقرة: من الآية 216).. قال الإمام ابن عادل في تفسيره: "قال أبو عبيدة: عسى من الله إيجاب.. هو خير لكم.. تغلبون وتظفرون وتغنمون وتُؤجرون..".
إنَّ من المعاني اللطيفة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم المعروف: "لا يُدخل أحدًا منكم عمله الجنة"، قالوا: ولا أنت يارسول الله؟، قال: "ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل" (رواه البخاري ومسلم)، أنَّ المسلم إذا اتَّبَعَ أخلاق الإسلام كاملة، سَعِدَ بالمُقابل في الحياة سعادة كاملة، بربه وبعقله وعلمه وصحته وأهله وأحبائه وأمواله وأعماله وعلاقاته، فأخذ إذن أجره كاملاً في الدنيا، ويكون دخوله الجنة هو فضلٌ كاملٌ من الله تعالى وزيادة كاملة!.. جاء في "شرح العقيدة الطحاوية" لصالح آل الشيخ: ".. الأعمال وإن كان للعبد فيها أجور، فلو ُقوبلت بالنِّعَم.. لصار الشأن واضحًا في أنَّ العبد قد قُوبلت أعماله بالنِّعَم التي كرَّمَه الله عز وجلّ بها..".
وهذا هو ما يؤكده بعض معاني قوله تعالى: ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ? (يونس: من الآية 26)، والذي قال فيه الإمام الماوردي في "النكت والعيون": "فيه 5 تأويلات:... والرابع: أنَّ الحسنى الجزاء في الآخرة، والزيادة ما أُعطوا في الدنيا، قاله ابن زيد.. "ثم تكون فائدة الأعمال وإحسانها هي تحصيل الدرجات داخل الجنة بعد دخولها برحمة الله، كما يقول الإمام العيني في "عمدة القاري" عند شرحه للحديث: ".. كلّ الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله.. وأنَّ درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال..".
إنَّ أيَّ عمل ٍبلا مُقابل ٍيُعَدّ ظلمًا!! وقد نهَى تعالى عن الظلم، بين البشر، فما بالنا عند التعامُل مع الجواد العادل سبحانه!! وهو الذي يقول مؤكدًا: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)? (النساء)، ويُفسّره الإمام البغوي في تفسيره بقوله: ".. أي لا يبخس ولا ينقص أحدًا من ثواب عمله مثقال ذرة.. كما قال في آية أخرى: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا?.. قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لا يظلم المؤمن حسنة، يُعطى عليها في الدنيا، ويُثاب عليها في الآخرة، وأمَّا الكافر فيُطعَم بحسناته في الدنيا؛ حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُعطى بها خيرًا" (رواه مسلم وغيره).. "... فإذا كان الكافر بربه يُعطى في حياته مُقابلاً لأيِّ عمل حَسَن حتى لا يُظلم، أفلا يُعطى المؤمن المُقاِبل الأفضل دنيويًّا قبل أخرويًّا، وقد وَعَدَ ربنا والصادق الأمين صلى الله عليه وسلم بذلك؟!.
إنَّ لفظ التضحية- بلا مُقابل- لم يَرد ذكره في القرآن الكريم ولا في السنَّة النبويَّة الشريفة! بل كل مضمونهما العمل بمُقاِبل وعائد وأجر وثواب دنيويٍّ وأخرويّ!.. وإنما ما وَرَدَ فيهما هو لفظ الجهاد ومشتقاته، بكل صوره العلمية والعملية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدعوية والقتالية عند الاحتياج إليها لصدّ المعتدين ونحوها.. وكلها لها أجرها
المتنوِّع العظيم، عِزة ومكانة وربحًا ونعيمًا وبركةً وهناءً في الدنيا، وثوابا هائلا في الآخرة، كما يقول تعالى مثلاً: ?وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)? (النساء).
وحتى قوله تعالى: ?وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ? (الحج: من الآية 78)، فهو يعني بذل الجهد في كل عمل ِخير مُفيد مُسْعِد صغر أم كبُر، ونتيجته الحتميَّة هي الاجتباء والاصطفاء والتكريم والتعظيم والتيسير في الداريْن! كما يقول الإمام الرازي في تفسيره للآية الكريمة: ".. لمَّا خصَّكم بهذا التشريف فقد خصَّكم بأعظم التشريفات.. فأيّ رتبة أعلى من هذا، وأيّ سعادة فوق هذا.."، وكما يقول الإمام الخازن في تفسيره: ".. أي جاهدوا في سبيل الله أعداء الله، ومعنى حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه.. وقيل معناه اعملوا لله حقّ عمله واعبدوه حقّ عبادته..".
أمَّا قوله تعالى: ?قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)? (التوبة)، فإنه لا يعني مطلقًا ترك هذه النِّعَم والتضحية بها بلا مقابل! بل قد حثّ تعالى على التمتع بها في الخير ليسعد الخلق بذلك؛ لأنه سبحانه ما خلقهم إلا لهذا فقال: ?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ? (الأعراف: من الآية 32)، وقال: ?وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا? (القصص: من الآية 77) (برجاء أيضًا مراجعة مقالة: " الحياة دار عطاء أم بلاء" لمزيد من التفصيل والتوضيح).. وإنما تفسير الآية الكريمة يُفهَم من سياق الآيات قبلها وبعدها، فالآية السابقة لها تقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)? (التوبة)، وفسَّرَها الإمام البيضاوي في تفسيره بقوله: ".. والمعنى لا تتخذوا أولياء يمنعونكم عن الإيمان ويصدونكم عن الطاعة..".
فيكون بالتالي معنى ?أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ? هو انتبهوا واحذروا- لمصلحتكم ولسعادتكم- أن تأخذكم هذه المُتَع والنِعَم بعيدًا عن الإيمان وأخلاق الإسلام والدفاع عنهما حتى بالأنفس وإلا تعستم بها وشقيتم في الداريْن، كما يقول الإمام الخازن في تفسيره: ".. إذا كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أوْلى عندكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيله فتربَّصوا.. وهذا أمر تهديد وتخويف.."، وكما قال الإمام ابن عجيبة في تفسيره "البحر المديد":
".. ?أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ? أي من الإيمان به وصُحْبَة ِرسوله.."، وهذا معنى ?فَتَرَبَّصُوا?، أي مَن اتخذ أسباب التعاسة ببُعْده عن ربه ودينه، فلا بُدَّ أن يجد نتائج ذلك شقاءً وحسرة.. ?وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)? أي مَن يُرد ذلك، وفسَقَ، أي أصَرَّ على البُعْد والخروج عن الطريق المستقيم المُسْعِد، طريق الله والإيمان والإسلام، فلن يمنعه خالقه كما جاء في "أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري: "4- حرمان أهل الفسق المُتوغلين فيه من هداية الله تعالى إلى ما يُكملهم ويُسعدهم".
فكن أيها الداعي إلى الله والإسلام مِمَّن ُيَطمْئِنون الناس للإسلام، أنَّه كله مصلحة وأخذ مع أيِّ عطاء، وفرحة وسعادة، وأنَّ ذلك هو فضل الله وكرمه العظيم: ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)? (يونس).. حتى يُقبلوا على ربهم ودينهم أفواجًا بإذن الله.. وَتسعد ويَسعدون.. وتُثاب ويُثابون.. في دنياكم وأخراكم.
تقييم:
0
0
والأدلة على ذلك كثيرة.. منها قوله تعالى ووعده وتأكيده، ومَن أصدق منه وعدًا وَمن أجود وأعظم وأخيَر عطاءً: ?وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)? (سبأ)، والذي قال فيه الإمام ابن كثير في تفسيره: ".. أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبَدَل وفي الآخرة بالجزاء والثواب.. وهو خير الرازقين..".
فأيّ شيء ينفقه المسلم، صغر أم كبُر، عظم أم حقر، سواء أكان فكرًا أم جهدًا أم مالاً أم علمًا أم عملاً أم علاقات ٍأم غيره، لا بُدّ سيجد مُقابلاً له، سيجد بحياته سعادة فكرية ومشاعرية وجسدية وعلمية ومالية ومنصبية وعلاقاتية وغيرها، إضافة بالتأكيد إلى سعادة واستبشار انتظار أعلى درجات الآخرة وأفضل ثوابها.
ومنها قوله تعالى: ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)? (النحل: 97).. فأيّ عملٍ، دون تعريف أو تحديد، لا بُدّ أن يقابله مُقابل وتعويض أكبر وأحسن؛ لأنه سبحانه يُعَوّض على قدْر كرمه ومقامه!.. وبمجموع هذه التعويضات والمُقابلات، ستكون الحياة الطيبة الهانئة الهادئة المطمئنة السعيدة، كما قال الإمام الطبري في تفسيره: ".. عن ابن عباس قال: السعادة"، وكما قال الإمام الشوكاني في تفسيره "فتح القدير": ".. ترغيب كل مؤمن في كل عمل صالح ٍوتعميم ٍللوعد.. وأكثر المفسرين على أنَّ هذه الحياة الطيبة في الدنيا لا في الآخرة؛ لأنَّ حياة الآخرة قد ُذكِرَت بقوله: ?وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)?".
إنَّ الأعمال الحياتية تنحصر في علاقات مع الله والنفس والأهل والأبناء والجيران والأقارب والأنساب والأصدقاء والزملاء، والعلم والعمل والإنتاج والكسب والربح، وما شابه هذا.. فإن أحسنَ المسلم التعامُل معها، فلا بُدّ أن يجد إحسانًا، والعكس بالعكس، كما هو وَعْده عز وجل في قوله: ?إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا? (الإسراء: من الآية 7)، والذي جاء في تفسيره في "المنتخب": ".. إن أحسنتم فأطعتم الله كان إحسانكم لأنفسكم في الدنيا والآخرة، وإن أسأتم بالعصيان فإلى أنفسكم تُسيئون..".
فالإحسان للذات، يعني إحسانًا للعقل وللمشاعر وللجسد، فمَن أحْسنَ لعقله، بحُسْن التفكير والتخطيط والعلم والإبداع، أسعده، فأضفى بالتالي عليه وعلى مَن حوله وعلى الأرض كلها علمًا وتخطيطًا وإبداعًا، وسعادة.. وإذا أحسن إلى مشاعره، بالحب والتعاون والتفاؤل والأمل والاستبشار، أسعدها، فأضفت على ذاته سكينة واطمئنانًا، وسعادة.. وإذا أحسَنَ إلى جسده، بالتوازن في طعامه وشرابه ولبسه ورياضته وترويحه، أسعده، فأضفى عليه صحة وجُهدًا ونفعًا، وسعادة له ولغيره.
وإن أحْسَنَ لوالديه، أسعدهم فسَعِدَ بحنانهم وعونهم وُنصحهم ودعائهم.. وإن أحسنَ لزوجته، أسعدها فأخذ في المُقابل حُبًّا وسكينة وسعادة.. وإن أحسنَ لأبنائه، أسعدهم فسَعِدَ بتربيتهم وبنموّهم وببرّهم.. وإن أحسنَ لجيرانه وأقاربه وأصدقائه وزملائه، أسعدهم وسَعِدَ بدِفء علاقات الأخوّة والمحبة والمنافع المُتبَادَلة والتواصُل بالأفراح والأتراح بينهم.. وإن أحسنَ لعمله سَعِدَ بكسبه وربحه.. وإن أحسنَ لعلمه سَعِدَ بتطوره ورُقِيّه.. وهكذا في كل أعمال الحياة صغيرها وكبيرها.
ويُضاف لكل هذا بالتأكيد الاستبشار بانتظار المُقابل الهائل الأعظم الأدْوَم الأسعد، ثواب الله تعالى يوم القيامة، وأعلى درجات الجنات، لِمَن فعل ذلك مُستصحِبًا نوايا خير في عقله أنه يفعلها حُبًّا في خالقه الذي طلبها منه لمصلحته ولسعادته هو ومَن حوله، وطلبًا لحبه ولتوفيقه ولعونه في الدنيا، ولأجره العظيم في الآخرة، كما وعد سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة بالقرآن والسنَّة.
إذًا، فكلما أعطي الإنسان عمومًا والمسلم خصوصًا أخذ! (برجاء أيضًا مراجعة مقالة: "النفس بين الأخذ والعطاء" لمزيد ٍمن التفصيل والتوضيح).. فأين التضحية بلا مُقابل إذن؟!! بل لقد أخذ َكثيرًا!! وعلى قدْر ما قدَّمَ من جهد وأكثر.. وحتى الجهود المبذولة كانت متعة وسعادة له!! لأنه مُبَرْمَجٌ أصلاً من خالقه على حب وطلب وفعل هذا الجهد المُسْعِد المُمتِع!! على هذا الأخذ والعطاء المُبْهِج!! (برجاء أيضًا مراجعة مقالة: "حظ النفس حرام أم من الحلال" لمزيد من التفصيل والتوضيح).
حتى أقلّ الأعمال وأهونها، ليست مجانيَّة مع الله تعالى وكرمه وفضله الواسع وحبه لخلقه وإسعاده لهم!!.. فالذكر باللسان مثلاً، وهو الذي يُعتبَر من أخفّ العمل وأسرعه، له سعادته للعقل وللمشاعر فيه، ويدفع إلى الانطلاق في كل شئون الحياة بسعادة، مع سعادة انتظار ثوابه الأخروي الكبير.. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال لا الحصر: "مَن قال حين يُمسي: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، كان حقًّا على الله أن يُرضِيَه" (رواه الترمذي)، أي يُرضيه بالأمن والسعادة في الداريْن؟!.
وحتى فيما يظنه المسلم أحيانًا تضحيةً بلا مُقابل في ظاهره، هو في باطنه وحقيقته له أعظم المُقابل:
فمثلاً إنْ أنفق مالاً في خير ما، في علم أو عمل أو إنتاج أو برٍّ أو غيره، دون عائد عاجل ٍواضح، عادَ مؤكدًا هذا آجلاً بالنفع عليه وغيره بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لِوَعْد الله تعالى الأكيد: ?مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)? (البقرة).. فكل نفقة صغيرة أو كبيرة لا بُدَّ أن ُتقابَل بنفع هائل في الدنيا والآخرة، بخبرات وخيرات وعلاقات وماليَّات وسعادات، مثل الحبَّة الواحدة تُغرَس وتُزرَع فتنبت مئات ثم آلاف من الحَبَّات النافعات المُسْعِدات!!.
وحتى إنْ سُجنَ وأُعطيَ من حريته دفاعًا عن حقٍّ ما، فلا يُعَدّ ذلك تضحية مَحْضة!؛ لأنَّ في سجنه سينال الخلوة والقرْب والتواصُل مع ربه القوي الكريم، وسيجد فيه الأخوّة الصادقة والتلاحُم والانصهار، وفيه تبادُل الخبرات على أعلى المستويات وفي كل التخصّصات، وفيه المُراجَعات والتصويبات، وفيه الاعتبار بالآخرين وحُسْن العلاقات معهم ودعوتهم للصبر وكل خير، وفيه العلم، وفيه القرآن، وفيه الصلوات الجامعات أول الأوقات وأفضلها، وفيه قيام الليالي والاعتكافات، وفيه الرياضات والترويحات.. وفيه.. وفيه.. وفيه.
وحتى إنْ جادَ بروحه من أجل الحقوق، فهي ليست بلا مُقابل!! بل لقد قدَّمَ وباعَ أغلى ما يملكه، فلا بُدَّ أن يُقابله خالقه الكريم العظيم الذي اشترى سلعته بأغلى أجر وأعلى سعر، وهو الشكور الذي يحفظ لخلقه ويُقدِّرَ لهم ما يُقدِّمونه، كما يؤكد قائلاً: ?قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ? (التوبة: من الآية 52)، والذي فسَّرَه الإمام مقاتل في تفسيره: ".. إمَّا الفتح والغنيمة في الدنيا وإما شهادة لها الجنة في الآخرة.."، وكما يقول: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)? (التوبة).. فالأمر ما هو إلا بيع وشراء مُبَشِّر رابح فائز كما وعد الحقّ سبحانه!.
فأين التضحية بلا مُقابل إذن؟!! حتى فيما يُظنّ أنه غرْم وانتقاص وشرٌّ!! .. والله تعالى يَعِدُ بقوله: ?وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ? (البقرة: من الآية 216).. قال الإمام ابن عادل في تفسيره: "قال أبو عبيدة: عسى من الله إيجاب.. هو خير لكم.. تغلبون وتظفرون وتغنمون وتُؤجرون..".
إنَّ من المعاني اللطيفة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم المعروف: "لا يُدخل أحدًا منكم عمله الجنة"، قالوا: ولا أنت يارسول الله؟، قال: "ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل" (رواه البخاري ومسلم)، أنَّ المسلم إذا اتَّبَعَ أخلاق الإسلام كاملة، سَعِدَ بالمُقابل في الحياة سعادة كاملة، بربه وبعقله وعلمه وصحته وأهله وأحبائه وأمواله وأعماله وعلاقاته، فأخذ إذن أجره كاملاً في الدنيا، ويكون دخوله الجنة هو فضلٌ كاملٌ من الله تعالى وزيادة كاملة!.. جاء في "شرح العقيدة الطحاوية" لصالح آل الشيخ: ".. الأعمال وإن كان للعبد فيها أجور، فلو ُقوبلت بالنِّعَم.. لصار الشأن واضحًا في أنَّ العبد قد قُوبلت أعماله بالنِّعَم التي كرَّمَه الله عز وجلّ بها..".
وهذا هو ما يؤكده بعض معاني قوله تعالى: ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ? (يونس: من الآية 26)، والذي قال فيه الإمام الماوردي في "النكت والعيون": "فيه 5 تأويلات:... والرابع: أنَّ الحسنى الجزاء في الآخرة، والزيادة ما أُعطوا في الدنيا، قاله ابن زيد.. "ثم تكون فائدة الأعمال وإحسانها هي تحصيل الدرجات داخل الجنة بعد دخولها برحمة الله، كما يقول الإمام العيني في "عمدة القاري" عند شرحه للحديث: ".. كلّ الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله.. وأنَّ درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال..".
إنَّ أيَّ عمل ٍبلا مُقابل ٍيُعَدّ ظلمًا!! وقد نهَى تعالى عن الظلم، بين البشر، فما بالنا عند التعامُل مع الجواد العادل سبحانه!! وهو الذي يقول مؤكدًا: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)? (النساء)، ويُفسّره الإمام البغوي في تفسيره بقوله: ".. أي لا يبخس ولا ينقص أحدًا من ثواب عمله مثقال ذرة.. كما قال في آية أخرى: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا?.. قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لا يظلم المؤمن حسنة، يُعطى عليها في الدنيا، ويُثاب عليها في الآخرة، وأمَّا الكافر فيُطعَم بحسناته في الدنيا؛ حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُعطى بها خيرًا" (رواه مسلم وغيره).. "... فإذا كان الكافر بربه يُعطى في حياته مُقابلاً لأيِّ عمل حَسَن حتى لا يُظلم، أفلا يُعطى المؤمن المُقاِبل الأفضل دنيويًّا قبل أخرويًّا، وقد وَعَدَ ربنا والصادق الأمين صلى الله عليه وسلم بذلك؟!.
إنَّ لفظ التضحية- بلا مُقابل- لم يَرد ذكره في القرآن الكريم ولا في السنَّة النبويَّة الشريفة! بل كل مضمونهما العمل بمُقاِبل وعائد وأجر وثواب دنيويٍّ وأخرويّ!.. وإنما ما وَرَدَ فيهما هو لفظ الجهاد ومشتقاته، بكل صوره العلمية والعملية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدعوية والقتالية عند الاحتياج إليها لصدّ المعتدين ونحوها.. وكلها لها أجرها
المتنوِّع العظيم، عِزة ومكانة وربحًا ونعيمًا وبركةً وهناءً في الدنيا، وثوابا هائلا في الآخرة، كما يقول تعالى مثلاً: ?وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)? (النساء).
وحتى قوله تعالى: ?وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ? (الحج: من الآية 78)، فهو يعني بذل الجهد في كل عمل ِخير مُفيد مُسْعِد صغر أم كبُر، ونتيجته الحتميَّة هي الاجتباء والاصطفاء والتكريم والتعظيم والتيسير في الداريْن! كما يقول الإمام الرازي في تفسيره للآية الكريمة: ".. لمَّا خصَّكم بهذا التشريف فقد خصَّكم بأعظم التشريفات.. فأيّ رتبة أعلى من هذا، وأيّ سعادة فوق هذا.."، وكما يقول الإمام الخازن في تفسيره: ".. أي جاهدوا في سبيل الله أعداء الله، ومعنى حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه.. وقيل معناه اعملوا لله حقّ عمله واعبدوه حقّ عبادته..".
أمَّا قوله تعالى: ?قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)? (التوبة)، فإنه لا يعني مطلقًا ترك هذه النِّعَم والتضحية بها بلا مقابل! بل قد حثّ تعالى على التمتع بها في الخير ليسعد الخلق بذلك؛ لأنه سبحانه ما خلقهم إلا لهذا فقال: ?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ? (الأعراف: من الآية 32)، وقال: ?وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا? (القصص: من الآية 77) (برجاء أيضًا مراجعة مقالة: " الحياة دار عطاء أم بلاء" لمزيد من التفصيل والتوضيح).. وإنما تفسير الآية الكريمة يُفهَم من سياق الآيات قبلها وبعدها، فالآية السابقة لها تقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)? (التوبة)، وفسَّرَها الإمام البيضاوي في تفسيره بقوله: ".. والمعنى لا تتخذوا أولياء يمنعونكم عن الإيمان ويصدونكم عن الطاعة..".
فيكون بالتالي معنى ?أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ? هو انتبهوا واحذروا- لمصلحتكم ولسعادتكم- أن تأخذكم هذه المُتَع والنِعَم بعيدًا عن الإيمان وأخلاق الإسلام والدفاع عنهما حتى بالأنفس وإلا تعستم بها وشقيتم في الداريْن، كما يقول الإمام الخازن في تفسيره: ".. إذا كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أوْلى عندكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيله فتربَّصوا.. وهذا أمر تهديد وتخويف.."، وكما قال الإمام ابن عجيبة في تفسيره "البحر المديد":
".. ?أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ? أي من الإيمان به وصُحْبَة ِرسوله.."، وهذا معنى ?فَتَرَبَّصُوا?، أي مَن اتخذ أسباب التعاسة ببُعْده عن ربه ودينه، فلا بُدَّ أن يجد نتائج ذلك شقاءً وحسرة.. ?وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)? أي مَن يُرد ذلك، وفسَقَ، أي أصَرَّ على البُعْد والخروج عن الطريق المستقيم المُسْعِد، طريق الله والإيمان والإسلام، فلن يمنعه خالقه كما جاء في "أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري: "4- حرمان أهل الفسق المُتوغلين فيه من هداية الله تعالى إلى ما يُكملهم ويُسعدهم".
فكن أيها الداعي إلى الله والإسلام مِمَّن ُيَطمْئِنون الناس للإسلام، أنَّه كله مصلحة وأخذ مع أيِّ عطاء، وفرحة وسعادة، وأنَّ ذلك هو فضل الله وكرمه العظيم: ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)? (يونس).. حتى يُقبلوا على ربهم ودينهم أفواجًا بإذن الله.. وَتسعد ويَسعدون.. وتُثاب ويُثابون.. في دنياكم وأخراكم.
تقييم:
0
0