شبهات وردود... اللحية
من الموضوعات الخلافية بين العلماء اللحية؛ منهم من يرى أنها واجبة وحلقها حرام، ومنهم من يرى أنها سنة وحلقها مكروه، ومنهم من يرى أنها سنة عادة ولا شىء فى حلقها، وسأذكر الأحاديث التى وردت فيها ثم أتبعها بأقوال العلماء0
من الموضوعات الخلافية بين العلماء اللحية؛ منهم من يرى أنها واجبة وحلقها حرام، ومنهم من يرى أنها سنة وحلقها مكروه، ومنهم من يرى أنها سنة عادة ولا شىء فى حلقها، وسأذكر الأحاديث التى وردت فيها ثم أتبعها بأقوال العلماء0
أولا: الأحاديث:
(1) عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r: (عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، قال زكرياء: قال مصعب (أحد الرواة) ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، زاد قتيبة قال وكيع: انتقاص الماء يعنى الاستنجاء" رواه مسلم ح (261)0
(2) عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبى ـ rقال: (خالفوا المشركين ، ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب)، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل أخذه. رواه البخارى ح (5892)0
(3) عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله r:(أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى) رواه البخارى ح(5893).
(4) عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبى ـ rقال: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى) رواه مسلم ح(259)0
(5) عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله r:" خالوا المشركين أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى" رواه مسلم ح(259) مكرر0
(6) عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله r (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس) رواه مسلم ح(260)0
ثانيا: أقوال العلماء:
قبل ذكر أقوال العلماء فى اللحية وحكمها لا بد أن نعرف ما المقصود بالفطرة ؟ يقول ابن حجر: " قال الخطابى ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالفطرة السنة، وكذا قاله غيره، قالوا: والمعنى أنها من سنن المرسلين0 وقالت طائفة: المعنى بالفطرة الدين، وبه جزم أبو نعيم فى المستخرج0 وقال النووى فى شرح المهذب: جزم الماوردى والشيخ أبو إسحق بأن المراد بالفطرة فى هذا الحديث الدين، واستشكل ابن الصلاح ما ذكره الخطابى وقال: معنى الفطرة بعيد من معنى السنة0
لكن لعل المراد أنه على حذف مضاف أى سنة الفطرة وتعقبه النووى بأن الذى نقله الخطابى هو الصواب"([1])0 فالمقصود بالفطرة السنة؛ وهى "الطريقة لا التى تقابل الواجب، وقد جزم بذلك الشيخ أبو حامد والماوردى وغيرهما وقالوا: هو كالحديث الآخر "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين"([2])0
وسنن الفطرة يتعلق بها مصالح دينية ودنيوية يقول ابن حجر: "ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع؛ منها تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن، بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: ( وصوركم فأحسن صوركم) لما فى المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك وكأنه قيل: قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفى المحافظة عليها محافظة على المروءة، وعلى التآلف المطلوب؛ لأن الإنسان إذا بدا فى الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه، فيقبل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس"([3])0
وخصال الفطرة يرى بعض العلماء أنها واجبة، ويرى آخرون أنها مندوبة، يقول ابن حجر: " وأغرب القاضى أبو بكر بن العربى فقال: عندى أن الخصال الخمس المذكورة فى هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف من جملة المسلمين، كذا قال فى شرح الموطأ، وتعقبه أبو شامة بأن الأشياء التى مقصودها مطلوب لتحسين الخلق؛ وهى النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعى الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه قال: دل الخبر على أن الفطرة بمعنى الدين، والأصل فيما أضيف إلى الشىء أنه منه أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه، وقد ورد الأمر باتباع إبراهيم عليه السلام، وثبت أن هذه الخصال أمر بها إبراهيم عليه السلام، وكل شىء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به، وتعقب بأن وجوب الاتباع لا يقتضى وجوب كل متبوع فيه، بل يتم الاتباع بالامتثال فإن كان واجبا على المتبوع كان واجبا على التابع أو ندبا فندب، فيتوقف ثبوت وجوب هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السلام"([4])0
حكم حلق اللحية:
يقول الإمام النووى عن أحاديث اللحية وحكمها: "فحصل خمس روايات: أعفوا وأوفوا وأرخوا وأرجوا ووفروا، ومعناها كلها تركها على حالها ، هذا هو الظاهر من الحديث الذى تقتضيه ألفاظه، وهو الذى قاله جماعه من أصحابنا (أى الشافعية) وغيرهم من العلماء وقال القاضى عياض رحمه الله تعالى: يكره حلقها وقصها وتحريقها [أى تقصيرها وتسويتها] وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، وتكره الشهرة فى تعظيمها كما تكره فى قصها وجزها"([5])0
ويقول:"وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها، وهو معنى أوفوا اللحى فى الرواية الأخرى وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك، وقد ذكر العلماء فى اللحية عشر خصال مكروهة.00 الرابعة: نتفها أو حلقها أول طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة.00"([6])0
ويرى بعض علماء العصر أن اللحية من سنن العادة يقول الإمام محمد أبو زهرة فى أفعال النبى r: " لقد قسم العلماء أفعال النبى rإلى ثلاثة أقسام:
أولها: أعمال تتصل ببيان الشريعة؛ كصلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصومه وحجه، أو مزارعته واقتراضه؛ فإن هذا النوع يكون شرعا متبعا.00 وعلى ذلك نقول: إن أفعال النبى r التى تكون بيانا للشريعة قسمان: أفعال هى بيان لمجملها، وأفعال فعلها يدل على إباحتها، وكلا القسمين يفيد العموم فى أحكامه، فلا يختص بالنبى r0
القسم الثانى: أفعال من النبى r قام الدليل على أنها خاصة به، ومن ذلك التزوج بأكثر من أربع زوجات.
القسم الثالث: أعمال يعملها بمقتضى الجبلة البشرية أو بمقتضى العادات الجارية فى بلاد العرب، كلبسه r وأكله،وما يتناوله من حلال، وطرق تناوله، وغير ذلك فهذه أفعال كان يتولاها بمقتضى البشرية، والطبيعة الإنسانية، وعادات قومه0
ومن الأمور ما اختلف فيه بعض العلماء، من حيث كون فعل النبى r أو تلبسه به كان من قبيل بيان الشرع أو من قبيل العادات؛ كتربية لحيته عليه السلام بمقدار قبضة اليد، فكثيرون على أنه من السنة المتبعة، وزكوا ذلك بأن النبى r قال: (قصوا الشارب وأعفوا اللحى) فقالوا: هذا دليل على أن بقاء اللحية لم يكن عادة، بل كان من قبيل حكم شرعى ـ والذين قالوا: إنه من قبيل العادة لا من قبيل البيان الشرعى قرروا أن النهى لا يفيد اللزوم بالإجماع، وهو معلل بمنع التشبه باليهود والأعاجم الذين كانوا يطيلون شواربهم ويحلقون لحاهم؛ وهذا يزكى أنه من قبيل العادة، وذلك ما نختاره"([7])0
ويقول الشيخ محمود شلتوت (شيخ الأزهر الأسبق): " تكلم الفقهاء على حلق اللحى، فرأى بعضهم أنه محرم، ورأى آخرون أنه مكروه" ويقول عن خصال الفطرة: " وقد أخذت هذه الخصال عند كثير من الفقهاء الباحثين عن أحكام الشريعة حكم السنية أو الاستحباب، وأخذ حكم الكراهة، وإعفاء اللحية واحدة من هذه الخصال لا يعدو حكمه حكمها وهو السنية والاستحباب.00 نعم، جاء فى أحاديث خاصة باللحية الأمر بالإعفاء والتوفير وعللت ذلك بمخالفة المجوس والمشركين، ومن هنا فقط أخذ بعض العلماء أن حلق اللحية حرام أو منكر.00 ونحن لو تمشينا مع التحريم لمجرد المشابهة فى كل ما عرف عنهم من العادات والمظاهر الزمنية لوجب علينا الآن تحريم إعفاء اللحى لأنه شأن الرهبان فى سائر الأمم التى تخالفنا فى الدين.00 والحق أن أمر اللباس والهيئات الشخصية ومنها حلق اللحى من العادات التى ينبغى أن ينزل المرء فيها على استحسان البيئة، فمن درجت بيئته على استحسان شىء منها كان عليه أن يساير بيئته، وكان خروجه عما ألف الناس فيها شذوذا عن البيئة000"([8])0
مما سبق نرى أن فى حلق اللحية ثلاثة أقوال " لعل أوسطها أقربها وأعدلها ـ وهو الذى يقول بالكراهة ـ فإن الأمر لا يدل على الوجوب جزما، وإن علل بمخالفة الكفار، وأقرب مثل على ذلك هو الأمر بصبغ الشيب مخالفة لليهود والنصارى، فإن بعض الصحابة لم يصبغوا، فدل على أن الأمر للاستحباب، صحيح أنه لم ينقل عن أحد من السلف حلق اللحية، ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها، وهى عادتهم"([9])0
لماذا يحلق شباب الدعوة الإسلامية لحاهم ؟
عرفنا أن موضوع اللحية موضوع خلافى، ومن المقرر المعروف أن الفتوى تختلف زمانا ومكانا وشخصا، والأحكام فيها العزيمة والرخصة، والأحوال فيها السعة وفيها الضرورة0
والقارئ لسيرة النبى r يجد أنه r أباح الكذب فى الحرب علما بأن الكذب حرام ومن الأدلة على ذلك ما أباحه النبى r لمحمد بن مسلمة عندما خرج لقتل كعب بن الأشرف، حيث وعد الصحابى الجليل محمد بن مسلمة رسول الله r أن يقتل كعبا؛ فقال له النبى r: " فافعل إن قدرت على ذلك، فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله r فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال: يا رسول الله، قلت لك قولا لا أدرى هل أفين لك به أم لا ؟ فقال: إنما عليك الجهد، فقال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا من أن نقول، قال: قولوا ما بدالكم فأنتم فى حل من ذلك"([10])0
فأباح النبى r لهذا الصحابى ومن معه الكذب، والقول فى حق النبى r وهذا من الأمور المحرمة التى أبيحت للضرورة.
ولا بد من التفريق بين مرحلتى الدعوة والدولة؛ ففى مرحلة الدعوة كان الأمر للمسلمين ]كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ[[ النساء:77]، ولم يؤمروا بالدفاع عن النفس ورد العدوان إلا فى مرحلة الدولة ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[[الحج:39]، والآن يعيش الشباب المسلم فى أكثر البلدان الإسلامية التى تطبق النظام العلمانى الذى يكره الإسلام وأهله، ويفعل بالشباب المسلم مالا يفعل بغير المسلم؛ فالشاب المسلم من أجل لحيته يتأخر تسلمه لوظيفته أو يحرم منها، وإن عين نحى عن الأعمال الفنية إلى أعمال إدارية إلى غير ذلك، فهذا يفتى بجواز حلق اللحية، وقد قال النبى r لعمار بن ياسر عندما أكره على النطق بكلمة الكفر (إن عادوا فعد) أى إن عادوا إلى التعذيب فعد إلى النطق بها؛ فالفتوى لا بد أن تتلاءم مع واقع الناس ورفع الحرج عنهم يقول ابن تيمية فى موضوع مخالفة أهل الكتاب فى الهدى الظاهر: " إن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه؛ كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار ـ فلما كان المسلمون فى أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك ـ ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم فى الهدى الظاهر، لما عليه فى ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا فى هديهم الظاهر، إذا كان فى ذلك مصلحة دينية؛ من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم؛ لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة"([11])0
ومن المقاصد الصالحة دفع الأذى عن الشباب المسلم والمتتبع للأحاديث الواردة عن النبى r بإعفاء اللحية يجد أنها لم تقل فى المرحلة المكية (مرحلة الدعوة) وإنما قيلت فى المرحلة المدنية (مرحلة الدولة)، ثم إن هذا الحكم (حلق اللحية) حكم استثنائى ألجأت علماء الجماعة للقول به الظروف والأحوال الاستثنائية؛ ويوم تقوم الدولة المسلمة يصبح ـ فى حق الجميع ـ إطلاق اللحية واجبا.
نخلص مما سبق إلى أن اللحية فيها ثلاثة أقوال: قول يقول بأنها واجبة ويحرم حلقها0 وقول يقول بسنيتها ويكره حلقها، وقول يقول بأنها سنة عادة، وقد أخذت بالرأى الوسط وهو أنها سنة يكره حلقها0
وعرضت لقضية جواز حلق اللحية لشباب الدعوة الإسلامية، وبينت أن هذا حكم استثنائى اقتضته ظروف استثنائية، ويوم يحكم شرع الله عز وجل ـ وتصير الظروف عادية نقول: إن حلق اللحية حرام وإطلاقها واجب. والله تعالى أعلى وأعلم.
-----
([1] ) فتح البارى 10/398.
([2] ) فتح البارى 10/399.
([3] ) فتح البارى 10/398.
([4] ) فتح البارى 10/399 وانظر: شرح النووى على صحيح مسلم 3/494 على حديث (الفطرة خمس: الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط ) ح(257)0
([5] ) شرح صحيح مسلم 3/498.
([6] ) شرح صحيح مسلم 3/496.
([7] ) أصول الفقه للإمام محمد أبو زهرة ـ ط/ دار الفكر العربى ـ القاهرة 1417 هـ/1997م ص 103.
([8] ) قراءات لا فتاوى فى فرعيات مثارة للشيخ حمدى أحمد إبراهيم، ط1/القاهرة 1424هـ 105، 106 ، نقلا عن الفتاوى للشيخ شلتوت ص 208.
([9] ) الحلال والحرام فى الإسلام للدكتور يوسف القرضاوى ـ ط17/ مكتبة وهبة ـ القاهرة 1408 هـ/1988م، 94، وانظر: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية = = للدكتور يوسف القرضاوى ط3/مكتبة وهبة ـ القاهرة 1418 هـ/1997م ص 86.
([10] ) الروض الأنف ـ للسهيلى 3/233 ط1/دار الكتب العلمية ـ بيروت ، وفى البخارى ح(4037): (فأذن لى أن أقول شيئا، قال: قل)0
([11] ) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية بتحقيق محمد حامد الفقى ط2/ مكتبة السنة المحمدية ـ القاهرة ـ 176، 177.
تقييم:
0
0