الكاف الدخيلة
الكاف الدخيلة الاستعمارية
......
أما تسميتها دخيلة فلا إشكال فيه، لأنها لا توجد في الإنشاء العربي الذي قبل هذا الزمان. وأما تسميتها استعمارية، فلأنها دخلت في الإنشاء العربي مع دخول الاستعمار البلدان العربية، فإن جهلة المترجمين تحيروا في ترجمة كلمة تجيء في هذه اللغات قبل الحال، وهي في الإنكليزية (AS.) وفي الفرنسية (Comme) وفي الألمانية (ALS) مثال ذلك: فلان كوزير لا ينبغي له أن يتعاطى التجارة. وفلان يشتغل في الجامعة كمحاضر، وفلان مشهور ككاتب.
وهذا الاستعمال دخيل لا تعرفه العرب، ولا يستسيغه ذوق سليم، وليس له في قواعد اللغة العربية موضع، ودونك البيان.
قال ابن مالك:
شبه بكاف وبها التعليل قد: يعني وزائداً لتوكيد ورد
(واستعمل اسما).
تأتي الكاف في كلام العرب لأربعة أمور:
1- التشبيه كقول المتنبي في ممدوحه:
كالبحر يقذف للقريب جواهر : جوداً، ويبعث للبعيد سحائباَ
كالشمس في كبد السماء وضوئها : يغشى البلاد مشارقاً ومغارباَ
وأركان التشبيه أربعة - المشبه - والمشبه به، وأداة التشبيه - ووجه الشبه. فالمشبه في البيتين المذكورين هو الممدوح، والمشبه به، الشمس والبحر، وأداة التشبيه، الكاف، ووجه الشبه، حصول النفع للقريب والبعيد. فالشمس على فرط بعدها من الأرض، ينتفع أهل الأرض بضوئها ودفئها، وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك، فكذلك الممدوح يصل إحسانه إلى من كان بعيداً منه، ولا يقتصر على من كان قريباً منه.
والمشبه في البيت الأول هو الممدوح، والمشبه به هو البحر، وأداة التشبيه هي الكاف، ووجه الشبه، وصول الإحسان إلى القريب والبعيد. فالقريب يستخرج الجواهر من البحر، والبعيد ينتفع بمطر السحائب الناشئة من البحر، فكذلك الممدوح يعطي – من كان حاضراً عنده – الجوائز والصلات، ويبعث بها إلى من كان بعيداً عنه.
وبهذا تعلم أن (الكاف) الاستعمارية لا يجوز أن تكون للتشبيه البتة لعدم وجود أركانه.
2- هو التعليل: تجيء الكاف للتعليل، كقوله تعالى ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ )سورة البقرة: 198. أي واذكروا الله، لأنه هداكم.
3- أن تكون زائدة إذا دخلت على كلمة بمعناها، وجعل منه قوله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) سورة الشورى: 11 فإن قلت: إن كانت زائدة لا فائدة في ذكرها، فلماذا جاءت في القرآن؟ فالجواب، أن فائدتها التوكيد، وإنما سميت زائدة، لأن الكلام يتم بدونها، كما تزاد (من) للتوكيد كقوله تعالى في ( أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ) سورة المائدة: 19
فمن هنا زيدت لتوكيد النفي، ولو حذفت لكان الكلام تاماً.
4- أن تكون اسما بمعنى مثل، كقول الشاعر:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
الاستفهام هنا إنكاري. يقول الشاعر لأعدائه: كيف تنتهون عن ظلمكم وبغيكم، ولن ينهي ذوي الظلم شيء مثل الطعن المبيد، المهلك الذي لا يترك لهم شيئاً، لا أنفساً ولا أموالاً، فإن ذهاب الزيت والفتيلة كناية عن الهلاك التام، وهذا ينبغي أن يقال للمستعمرين، إذا كانت الرماح التي يطعن بها حاضرة، وهي في هذا الزمان القنابل المحرقة التي لا تبقي ولا تذر. فهذه معاني الكاف عند العرب، وما سواها شاذ لم يجيء في الكلام البليغ.
وإنما وقع جهلة المترجمين في هذا الاستعمال الفاسد لضعفهم في اللغتين أو إحداهما، فلا يستطيعون إدراك معنى الجملة مجتمعة ليصوغوا في اللغة الأخرى جملة تؤدي المعنى المطلوب بألفاظ جيدة الاستعمال، واقعة في مواضعها التي يقتضيها النظم الفصيح. وهذا العجز هو الذي يلجئهم إلى أن يبدلوا كل مفرد في إحدى اللغتين بمفرد آخر في اللغة الأخرى، فيجيء التركيب فاسداً معوجاً، لا تستسيغه أذواق الفصحاء في اللغة التي ينقل إليها المعنى: وستأتي في هذه المقالات، إن شاء الله، أمثلة عديدة توضح ذلك.
وليس المترجمون العرب وحدهم هم الذين يقعون في أخطاء الترجمة، بل يقع فيها كبار العلماء الأوربيين.وقد أحصيت الأخطاء الموجودة في ترجمة (جورج سيل) للقرآن الكريم بالإنكليزية، فوجدت في الجزء الأول وحده، وهو حزبان بتجزئة المغاربة ستين خطأ. و(جورج سيل) مستشرق انكليزي كبير، وقد تبعه من بعده من المترجمين في أخطائه، حتى الأستاذ محمد (مار ماديوك بكثال) المسلم الإنجليزي، رحمه الله، تبعه في أول خطأ كبير ارتكبه وقد ناظرته في ذلك مناظرة طويلة حتى اقتنع ورجع عن خطئه، وكان ذلك في ترجمة قوله تعالى في ( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ) سورة البقرة 13. فإنهما ترجماها بما معناه (أليسوا سفهاء؟) وسبب وقوعهما في هذا الخطأ عدم التمييز بين (ألا) الاستفتاحية البسيطة، و(ألا) المركبة من همزة الاستفهام ولا النافية فإن (ألا) في قوله تعالى ) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ? استفتاحية خالية من النفي، يجب أن تترجم بلفظ إنكليزي يدل على التوكيد. ومثال المركبة الذي أوردته على الأستاذ الانكليزي المذكور فاقتنع بوجود الفرق بين الكلمتين قوله تعالى ( ألَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) سورة الملك: 14
وليس كل الكُتَّاب البلغاء في العصر الحاضر، يتورطون في استعمال الكاف الاستعمارية، فإن فيهم طائفة من عليتهم، لا تشين إنشاءها بذلك الاستعمال.
........
تقويم اللسانين
العلامة تقي الدين الهلالي - رحمه الله -