مجاهدون عايشوا مجازر 8 ماي 1945 بخراطة في بجاية
مجاهدون عايشوا مجازر 8 ماي 1945 بخراطة في بجاية
''الفرنسيون ألقوا بآلاف المدنيين في نهر شعبة الآخرة''*******الخبر******
08-05-2012 بجاية: زهية لخضاري / قالمة: إبراهيم غمري
''وادي أفريون تحولت مياهه إلى دم ولم تصف إلا بعد 20 يوما''
هناك من أبادوا عائلته أمام عينيه وآخر مجنّد كان يحتفل بباريس
''كان يوما للهول... جهنم حمراء... حشر جنود اللفيف الأجنبي الآلاف منا في ملعب خراطة، رجال، نساء، أطفال وشيوخ، قبل أن يشرعوا في تكبيل العديد منا بسلاسل من حديد... نقلت النساء والأطفال إلى أسفل جسر شعبة الآخرة، فيما وضع أغلبية الرجال والشبان في شاحنات ليصطفوا
على حافته، حيث تم ''تفريغهم'' على مرأى الجميع إلى أسفل النهر، وكأنهم قمامة يراد التخلص منها... كانوا يعدون بالآلاف... لم تجد الإدارة الفرنسية من وسيلة لدفنهم، سوى إفراغ الخرسانة عليهم استعدادا لإلقاء آخرين... حتى تحولت مياه وادي ''أفريون'' إلى دم ولم تصف إلا بعد مرور 20 يوما. بهذه العبارات لخّص المجاهدون الثلاثة المتبقون، ما عايشوه في مجازر 8 ماي 1945.
لم يبق من المجاهدين الذين عايشوا مجازر 8 ماي 1945 بخراطة في بجاية سوى ثلاثة، بخوش لحسن الذي حكمت عليه السلطات الفرنسية بالإعدام وعليك سعيد، مسبل أبيدت عائلته وخالف عبد القادر. في وقت احترق فيه كل الأرشيف الثوري لبلدية خراطة في أحداث جانفي 2011 وانعدام إحصاءات رسمية عن عدد القتلى، ليظل المكان الذي كان مسرحا للجريمة التي ارتكبها الاستعمار ضد الإنسانية دون ذاكرة ملموسة، ما عدا ما نحتته الإدارة الفرنسية تمجيدا لجرائمها، حيث ما زالت صخور ''شعبة الآخرة''، تحتفظ إلى غاية اليوم بما نقشته قوات اللفيف الأجنبي (légion étranger)، تخليدا لذكرى 8 ماي 1945 على صخورها، وكأنه شيء عزيز عليها يستحق تذكير الأجيال اللاحقة به. وبما أنه لم يبق في الذاكرة سوى ما يحتفظ به المجاهدون الثلاثة، لم نجد من حل سوى الاتصال بهم، ليقصوا علينا ما عايشوه من أحداث، أجمعوا على أنهم لن ينسوها، بل أكدوا أنهم مازالوا يتذكرون كل تفاصيلها، حيث عاد بنا المجاهد بخوش لحسن إلى استعداداتهم لمشاركة الحلفاء انتصارهم على الألمان، بالقول: ''كنا نتلقى تكوينا سياسيا على يد الدكتور حنوز، مساعد طبي، وفرحات عباس الذي يزور المنطقة من حين لآخر في مدرسة العلماء المسلمين في خراطة، وكنا نلتقي بهؤلاء في مقهى سي الحسين، الذي يجاور مركز تعذيب المايدة، الكائن في بلدية ذراع القائد، نموّه السلطات الفرنسية بلعب الدومينو إلى غاية ساعة متأخرة من الليل''. ويضيف السيد بخوش، الذي عاش 17 سنة كسجين سياسي محكوم عليه بالإعدام بعد أحداث 8 ماي 5,194 ''عرفت السلطات الفرنسية بمكان تجمعنا أياما فقط قبل مجازر 8 ماي، حيث أرسلت إلينا جنودا على الساعة الثانية صباحا، كنا رفقة فرحات عباس، الذي نجا بنفسه بالهروب نحو أعالي بوعنداس، حيث التقينا به تخطيطا للاحتفال بنصر الحلفاء''.
وفي ظل التحضيرات، يقول محدثنا، ''تنقل أول شهيد للمجازر، بوزيد سعال، يوم 8 ماي من مسقط رأسه جرمونة في خراطة، رفقة العديد من الراغبين بالمشاركة في احتفالات الفرنسيين لانتصارهم على النازيين إلى سطيف، ميدان الشرف، حيث أطلق عليه محافظ شرطة النار، بعد رفعه العلم الجزائري ليهتف بالاستقلال''، الأمر الذي سرعان ما تم تبليغه لسكان خراطة بعد انفلات الأوضاع في سطيف. ''شكلنا فرقا تنقلت إلى المداشر، دعونا للجهاد في سبيل الله وتحرير الوطن وتنظيم مسيرة للمطالبة بالاستقلال في وسط خراطة، وهو ما استجاب له كل السكان في اليوم الموالي''، يقول السيد بخوش.
بداية المجازر والإبادة الجماعية
ويصف المجاهد عليك سعيد الذي لم يكن يتجاوز عمره، آنذاك، 13 سنة، ما حدث بعدها ''وإثر ذلك، قام القياد بتبليغ الدرك والإدارة الفرنسية لإجلاء رعاياها، لنستيقظ في السادسة صباحا على وقع المظاهرات، رفعنا العلم الجزائري، وهتفنا بجزائر حرة مستقلة، وبحياة الحلفاء، طمعا في الاستقلال.. ولم تشارك في المسيرة سوى امرأة واحدة، تدعى بولغزوة محجوبة، كانت تطلق الزغاريد''. ويضيف محدثنا وعيناه تغمرهما الدموع ''سرعان ما انقلب الوضع، حيث خرج أحد المشاركين في المسيرة المدعو شيباني الخير عن الصف إلى الرصيف، ليطلق عليه قابض بريد خراطة آنذاك النار (فرنسي) ليلفظ أنفاسه في عين المكان، ليكون أول شهيد للمجازر في خراطة، الأمر الذي أثار غضب المتظاهرين الذين قاموا بإضرام النار بواسطة البنزين في مركز البريد، نجا إثرها الفاعل''. لكن الأوضاع لم تكن لتتوقف عند هذا الحد بتدخل قوات اللفيف الأجنبي، يقول المجاهدان ''الكل يحاول النجاة بنفسه، لأن جنود اللفيف كانوا يطلقون النار عشوائيا على السكان وعلى كل من وجدوه في طريقهم مهما كان سنه، ليقتلوا بذلك 20 شخصا دفعة واحدة، فيما تمكن المجاهدون من قتل 7 فرنسيين في الرد على الهجمات التي شنوها على السكان''.
وأمام انفلات الوضع، يقول السيد عليك الذي يقع منزل عائلته في وسط خراطة: ''هربت رفقة إخوتي إلى المنزل، لكن ذات القوات لاحقتنا مع مترجم فرنسي معتمد من طرف القضاء، يدعى جورج فادلان، قامت والدتي بإخفائي وراء صخرة صغيرة عند مدخل البيت، فيما كان والدي طريح الفراش، يدخل أفراد القوات بعنف، يقف والدي بصعوبة (عليك موسى)، فيطلقوا عليه وابلا من الرصاص، ليسقط شهيدا على أخ لي، لم ينتبهوا له بأنه حي، ليأتي دور والدتي (عكاش محجوبة) وأختي الصغرى التي كانت تحملها على ظهرها وعمرها لا يتجاوز 4 أشهر، ثم شقيقي سليمان، 17 سنة و أخي الأصغر 3 سنوات، ولم يغادروا المكان، حتى أمر أحدهم بالمغادرة بالقول إنهم ماتوا جميعا''.
مجند أبادوا عائلته بينما كان يحتفل في باريس
محدثنا الذي أبيد كل أفراد عائلته على مرأى عينيه ولم تكن له القوة للنظر في جثثهم، قرر الهرب رفقة شقيقه، الذي نجا في المجزرة بأعجوبة، والسكان الذين كانوا يركضون في كل الاتجاهات، يقول ''لنحتمي في الجبال''. ويضيف المجاهدون الثلاثة: ''في اليوم الموالي، ترسل إلينا الإدارة الفرنسية القياد بدعوى أن فرنسا عفت عنا، وكأننا ارتكبنا جرائم، لنتفاجأ بجنود عند مداخل القرى، يقومون بحشرنا في شاحنات عسكرية تحت الحراسة للزج بنا في ملعب خراطة، الذي كان يضم على الأقل 4 آلاف شخص من شتى الأعمار، ومن كل الدواوير المتاخمة، جرمونة، قلعون، بني مرعي ووسط خراطة.. كان شبيها بيوم الحشر، يضعون النساء والأطفال تحت الجسر، ويكبلون أغلبية الرجال والشبان بسلاسل من حديد ليصفوهم على حافة جسر شعبة الآخرة، الذي وجدناه مليئا بالجثث، يلقون بـ4 إلى 5 شاحنات مملوءة بالبشر إلى أسفله دفعة واحدة أو بالدفع بأوامر ضابط من قوات اللفيف الأجنبي''.
يصف المشهد الرهيب السيد بخوش الذي كان من بين المصطفين على حافة الجسر: ''جاء دوري، ليتم إلقائي إلى أسفل النهر، لكن الضابط رفض إعطاء الأمر، فقرروا حبسي، لصغر سني ولبنيتي الضعيفة، حيث لم أكن أتجاوز 16 سنة، ليقول لي فيما بعد إنه أنقذ حياتي، قبل أن يأتيني برغيف خبز، ابتلعته في لحظات من شدة جوعي و هولي''. ولكون الآلة الاستعمارية لم تكن لترحم أحدا، فقد كانت عائلة محمد أعراب حنوز، المساعد الطبي، المنحدر من بني يعلى، إحدى العائلات التي تمت إبادتها، حيث كان الأخير رفقة أبنائه الثلاثة: حنافي، الطيب وعبد المجيد، أول الذين تم إلقاؤهم في شعبة الآخرة، بينما كان ابنه لوناس ضمن صفوف الجيش الفرنسي يحتفل في باريس بنصر الحلفاء، يقول هؤلاء.
نهب وسلب وحمام دم تحت الهتاف بحياة فرنسا
وسط الهول وشناعة الجريمة المرتكبة ضد الإنسانية بحضور أطفال أبرياء وعزل ضعفاء، يؤكد السيد عليك، ''لم يجد الجنود الذين كانوا يحاصروننا بزي مدني وآخر رسمي وبالطائرات، سوى أمرنا بالهتاف لحياة فرنسا والتصفيق وتكرار عبارة فليسقط مصالي الحاج وفرحات عباس، ولم يخلُوا سبيلنا سوى بعد الغروب، وبقيت القوات تواصل مجازرها على نفس النحو لمدة 10 أيام متتالية، لتلقي بالخرسانة والاسمنت على الجثث التي انتشرت رائحتها في كل مكان، استعدادا لرمي شحنات أخرى''. ولم تتوقف الجرائم عند هذا الحد، بل عملت ذات القوات على زرع الرعب في كل مكان، ''حرق المنازل، سلب الأغنام وحلي النساء، بل حتى الأغطية، وكل ما له ثمن.. مجاعة، أمراض، نفترش الأرض وتغطينا السماء، ولم يكن نصيبنا من الشعير سوى 3 كيلوغرام في الشهر، حتى طريحو الفراش في مستشفى خراطة، لم يسلموا من بطش الجنود الذين أبادوهم''، يقول المجاهد عبد القادر خالف الذي ما زال يتذكر كل ما جرى من مجازر رغم تجاوز عمره 90 سنة ''سنأكل أنعامكم ونقتلكم في ميدان الشرف احتفالا بنصرنا هكذا كان يقول لنا الجنود''.
ويضيف كل من المجاهدين عليك وخالف ''تحولت مياه وادي أفريون إلى دم... وبقي لونه أحمر لمدة تفوق الـ 20 يوما لكثرة من تمّ إلقاؤهم في نهر شعبة الآخرة، وبقي جنود الاحتلال يسجنوننا ويتلذذون بتعذيبنا لسبب أو لدونه إلى غاية اندلاع ثورة التحرير''.
المؤرخ والحقوقي الفرنسي ''جيل مونسيرون'' من فالمة
''تيار فرنسي ينشط لإرغام السلطات على الاعتراف بجرائمها''
أكد المؤرّخ والحقوقي الفرنسي ''جيل مونسيرون''، صباح أمس، خلال افتتاح أشغال الملتقى الدولي حول مجازر 08 ماي بالمجمع الجامعي سويداني بوجمعة بفالمة، بأنّه لا مفرّ لفرنسا الحالية من قضية الاعتراف بجرائم أسلافها المقترفة في حق الشّعب الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية، وفي مقدمتها مجازر 08 ماي.
وقال نائب رابطة حقوق الإنسان الفرنسية، خلال مداخلته، بأنّ هناك تيارا فرنسيا، وإن كان لا يشكّل أغلبية، ينشط من أجل إقناع السلطات الفرنسية بقضية الاعتراف بجرائم ''فرنسا الاستعمارية''، التي اقترفتها في حق الشعب الجزائري، والمسارعة للاعتذار للجزائريين عن ذلك. وأشار مونسيرون إلى العهدتين القاتمتين للرّئيس المهزوم ''نيكولا ساركوزي''. مؤكدا على مواقفه حيال مسألة الاعتذار التي ينشدها الجزائريون ويلحّون عليها لإبرام صداقة بين البلدين، حيث ذكّر بقانون تمجيد الاستعمار الذي أفرزته أولى عهدتيه التي تميزت بـ''بالعنصرية ورفض الإسلاموفونيا''، مؤكدا بـ''أن الطريق الذي يرفض العنصرية هو الطريق السوي''. وأبدى ارتياحا لفوز ''هولاند'' في الرئاسيات، والأفراح التي قابله بها الفرنسيون مساء أول أمس. ونبّه الحقوقي الفرنسي إلى ما يتداول من صور مزيفة لأشرطة عبر ''الأنترنت''، تسعى إلى تشويه الحقائق التاريخية بشأن فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وما يشوبها من تداخل بين الأحداث ومواقعها.
وخلص إلى التأكيد على العمل العلمي الكبير الذي ينتظر الباحثين والمؤرخين الجزائريين والفرنسيين، للكشف عن الحقيقة وعن الجريمة ضد الإنسانية التي اقترفتها فرنسا الاستعمارية. للإشارة تميّزت أشغال اليوم الأول من الملتقى الدولي حول مجازر 08 ماي 1945 المتواصل، بالتركيز على الجرائم الفظيعة في حق الشعب الجزائري، والتي كان مبيتا لها من فرنسا الاستعمارية، سواء قبل المجازر أو خلال السنوات التي أعقبتها، كما ركّزت الأشغال على الجانب النضالي التعبوي للجزائريين الذين حصدتهم آلة التقتيل في تلك المجازر الدامية بمدن وأرياف ومشاتي فالمة، سطيف وخراطة.
تقييم:
0
0
''الفرنسيون ألقوا بآلاف المدنيين في نهر شعبة الآخرة''*******الخبر******
08-05-2012 بجاية: زهية لخضاري / قالمة: إبراهيم غمري
''وادي أفريون تحولت مياهه إلى دم ولم تصف إلا بعد 20 يوما''
هناك من أبادوا عائلته أمام عينيه وآخر مجنّد كان يحتفل بباريس
''كان يوما للهول... جهنم حمراء... حشر جنود اللفيف الأجنبي الآلاف منا في ملعب خراطة، رجال، نساء، أطفال وشيوخ، قبل أن يشرعوا في تكبيل العديد منا بسلاسل من حديد... نقلت النساء والأطفال إلى أسفل جسر شعبة الآخرة، فيما وضع أغلبية الرجال والشبان في شاحنات ليصطفوا
على حافته، حيث تم ''تفريغهم'' على مرأى الجميع إلى أسفل النهر، وكأنهم قمامة يراد التخلص منها... كانوا يعدون بالآلاف... لم تجد الإدارة الفرنسية من وسيلة لدفنهم، سوى إفراغ الخرسانة عليهم استعدادا لإلقاء آخرين... حتى تحولت مياه وادي ''أفريون'' إلى دم ولم تصف إلا بعد مرور 20 يوما. بهذه العبارات لخّص المجاهدون الثلاثة المتبقون، ما عايشوه في مجازر 8 ماي 1945.
لم يبق من المجاهدين الذين عايشوا مجازر 8 ماي 1945 بخراطة في بجاية سوى ثلاثة، بخوش لحسن الذي حكمت عليه السلطات الفرنسية بالإعدام وعليك سعيد، مسبل أبيدت عائلته وخالف عبد القادر. في وقت احترق فيه كل الأرشيف الثوري لبلدية خراطة في أحداث جانفي 2011 وانعدام إحصاءات رسمية عن عدد القتلى، ليظل المكان الذي كان مسرحا للجريمة التي ارتكبها الاستعمار ضد الإنسانية دون ذاكرة ملموسة، ما عدا ما نحتته الإدارة الفرنسية تمجيدا لجرائمها، حيث ما زالت صخور ''شعبة الآخرة''، تحتفظ إلى غاية اليوم بما نقشته قوات اللفيف الأجنبي (légion étranger)، تخليدا لذكرى 8 ماي 1945 على صخورها، وكأنه شيء عزيز عليها يستحق تذكير الأجيال اللاحقة به. وبما أنه لم يبق في الذاكرة سوى ما يحتفظ به المجاهدون الثلاثة، لم نجد من حل سوى الاتصال بهم، ليقصوا علينا ما عايشوه من أحداث، أجمعوا على أنهم لن ينسوها، بل أكدوا أنهم مازالوا يتذكرون كل تفاصيلها، حيث عاد بنا المجاهد بخوش لحسن إلى استعداداتهم لمشاركة الحلفاء انتصارهم على الألمان، بالقول: ''كنا نتلقى تكوينا سياسيا على يد الدكتور حنوز، مساعد طبي، وفرحات عباس الذي يزور المنطقة من حين لآخر في مدرسة العلماء المسلمين في خراطة، وكنا نلتقي بهؤلاء في مقهى سي الحسين، الذي يجاور مركز تعذيب المايدة، الكائن في بلدية ذراع القائد، نموّه السلطات الفرنسية بلعب الدومينو إلى غاية ساعة متأخرة من الليل''. ويضيف السيد بخوش، الذي عاش 17 سنة كسجين سياسي محكوم عليه بالإعدام بعد أحداث 8 ماي 5,194 ''عرفت السلطات الفرنسية بمكان تجمعنا أياما فقط قبل مجازر 8 ماي، حيث أرسلت إلينا جنودا على الساعة الثانية صباحا، كنا رفقة فرحات عباس، الذي نجا بنفسه بالهروب نحو أعالي بوعنداس، حيث التقينا به تخطيطا للاحتفال بنصر الحلفاء''.
وفي ظل التحضيرات، يقول محدثنا، ''تنقل أول شهيد للمجازر، بوزيد سعال، يوم 8 ماي من مسقط رأسه جرمونة في خراطة، رفقة العديد من الراغبين بالمشاركة في احتفالات الفرنسيين لانتصارهم على النازيين إلى سطيف، ميدان الشرف، حيث أطلق عليه محافظ شرطة النار، بعد رفعه العلم الجزائري ليهتف بالاستقلال''، الأمر الذي سرعان ما تم تبليغه لسكان خراطة بعد انفلات الأوضاع في سطيف. ''شكلنا فرقا تنقلت إلى المداشر، دعونا للجهاد في سبيل الله وتحرير الوطن وتنظيم مسيرة للمطالبة بالاستقلال في وسط خراطة، وهو ما استجاب له كل السكان في اليوم الموالي''، يقول السيد بخوش.
بداية المجازر والإبادة الجماعية
ويصف المجاهد عليك سعيد الذي لم يكن يتجاوز عمره، آنذاك، 13 سنة، ما حدث بعدها ''وإثر ذلك، قام القياد بتبليغ الدرك والإدارة الفرنسية لإجلاء رعاياها، لنستيقظ في السادسة صباحا على وقع المظاهرات، رفعنا العلم الجزائري، وهتفنا بجزائر حرة مستقلة، وبحياة الحلفاء، طمعا في الاستقلال.. ولم تشارك في المسيرة سوى امرأة واحدة، تدعى بولغزوة محجوبة، كانت تطلق الزغاريد''. ويضيف محدثنا وعيناه تغمرهما الدموع ''سرعان ما انقلب الوضع، حيث خرج أحد المشاركين في المسيرة المدعو شيباني الخير عن الصف إلى الرصيف، ليطلق عليه قابض بريد خراطة آنذاك النار (فرنسي) ليلفظ أنفاسه في عين المكان، ليكون أول شهيد للمجازر في خراطة، الأمر الذي أثار غضب المتظاهرين الذين قاموا بإضرام النار بواسطة البنزين في مركز البريد، نجا إثرها الفاعل''. لكن الأوضاع لم تكن لتتوقف عند هذا الحد بتدخل قوات اللفيف الأجنبي، يقول المجاهدان ''الكل يحاول النجاة بنفسه، لأن جنود اللفيف كانوا يطلقون النار عشوائيا على السكان وعلى كل من وجدوه في طريقهم مهما كان سنه، ليقتلوا بذلك 20 شخصا دفعة واحدة، فيما تمكن المجاهدون من قتل 7 فرنسيين في الرد على الهجمات التي شنوها على السكان''.
وأمام انفلات الوضع، يقول السيد عليك الذي يقع منزل عائلته في وسط خراطة: ''هربت رفقة إخوتي إلى المنزل، لكن ذات القوات لاحقتنا مع مترجم فرنسي معتمد من طرف القضاء، يدعى جورج فادلان، قامت والدتي بإخفائي وراء صخرة صغيرة عند مدخل البيت، فيما كان والدي طريح الفراش، يدخل أفراد القوات بعنف، يقف والدي بصعوبة (عليك موسى)، فيطلقوا عليه وابلا من الرصاص، ليسقط شهيدا على أخ لي، لم ينتبهوا له بأنه حي، ليأتي دور والدتي (عكاش محجوبة) وأختي الصغرى التي كانت تحملها على ظهرها وعمرها لا يتجاوز 4 أشهر، ثم شقيقي سليمان، 17 سنة و أخي الأصغر 3 سنوات، ولم يغادروا المكان، حتى أمر أحدهم بالمغادرة بالقول إنهم ماتوا جميعا''.
مجند أبادوا عائلته بينما كان يحتفل في باريس
محدثنا الذي أبيد كل أفراد عائلته على مرأى عينيه ولم تكن له القوة للنظر في جثثهم، قرر الهرب رفقة شقيقه، الذي نجا في المجزرة بأعجوبة، والسكان الذين كانوا يركضون في كل الاتجاهات، يقول ''لنحتمي في الجبال''. ويضيف المجاهدون الثلاثة: ''في اليوم الموالي، ترسل إلينا الإدارة الفرنسية القياد بدعوى أن فرنسا عفت عنا، وكأننا ارتكبنا جرائم، لنتفاجأ بجنود عند مداخل القرى، يقومون بحشرنا في شاحنات عسكرية تحت الحراسة للزج بنا في ملعب خراطة، الذي كان يضم على الأقل 4 آلاف شخص من شتى الأعمار، ومن كل الدواوير المتاخمة، جرمونة، قلعون، بني مرعي ووسط خراطة.. كان شبيها بيوم الحشر، يضعون النساء والأطفال تحت الجسر، ويكبلون أغلبية الرجال والشبان بسلاسل من حديد ليصفوهم على حافة جسر شعبة الآخرة، الذي وجدناه مليئا بالجثث، يلقون بـ4 إلى 5 شاحنات مملوءة بالبشر إلى أسفله دفعة واحدة أو بالدفع بأوامر ضابط من قوات اللفيف الأجنبي''.
يصف المشهد الرهيب السيد بخوش الذي كان من بين المصطفين على حافة الجسر: ''جاء دوري، ليتم إلقائي إلى أسفل النهر، لكن الضابط رفض إعطاء الأمر، فقرروا حبسي، لصغر سني ولبنيتي الضعيفة، حيث لم أكن أتجاوز 16 سنة، ليقول لي فيما بعد إنه أنقذ حياتي، قبل أن يأتيني برغيف خبز، ابتلعته في لحظات من شدة جوعي و هولي''. ولكون الآلة الاستعمارية لم تكن لترحم أحدا، فقد كانت عائلة محمد أعراب حنوز، المساعد الطبي، المنحدر من بني يعلى، إحدى العائلات التي تمت إبادتها، حيث كان الأخير رفقة أبنائه الثلاثة: حنافي، الطيب وعبد المجيد، أول الذين تم إلقاؤهم في شعبة الآخرة، بينما كان ابنه لوناس ضمن صفوف الجيش الفرنسي يحتفل في باريس بنصر الحلفاء، يقول هؤلاء.
نهب وسلب وحمام دم تحت الهتاف بحياة فرنسا
وسط الهول وشناعة الجريمة المرتكبة ضد الإنسانية بحضور أطفال أبرياء وعزل ضعفاء، يؤكد السيد عليك، ''لم يجد الجنود الذين كانوا يحاصروننا بزي مدني وآخر رسمي وبالطائرات، سوى أمرنا بالهتاف لحياة فرنسا والتصفيق وتكرار عبارة فليسقط مصالي الحاج وفرحات عباس، ولم يخلُوا سبيلنا سوى بعد الغروب، وبقيت القوات تواصل مجازرها على نفس النحو لمدة 10 أيام متتالية، لتلقي بالخرسانة والاسمنت على الجثث التي انتشرت رائحتها في كل مكان، استعدادا لرمي شحنات أخرى''. ولم تتوقف الجرائم عند هذا الحد، بل عملت ذات القوات على زرع الرعب في كل مكان، ''حرق المنازل، سلب الأغنام وحلي النساء، بل حتى الأغطية، وكل ما له ثمن.. مجاعة، أمراض، نفترش الأرض وتغطينا السماء، ولم يكن نصيبنا من الشعير سوى 3 كيلوغرام في الشهر، حتى طريحو الفراش في مستشفى خراطة، لم يسلموا من بطش الجنود الذين أبادوهم''، يقول المجاهد عبد القادر خالف الذي ما زال يتذكر كل ما جرى من مجازر رغم تجاوز عمره 90 سنة ''سنأكل أنعامكم ونقتلكم في ميدان الشرف احتفالا بنصرنا هكذا كان يقول لنا الجنود''.
ويضيف كل من المجاهدين عليك وخالف ''تحولت مياه وادي أفريون إلى دم... وبقي لونه أحمر لمدة تفوق الـ 20 يوما لكثرة من تمّ إلقاؤهم في نهر شعبة الآخرة، وبقي جنود الاحتلال يسجنوننا ويتلذذون بتعذيبنا لسبب أو لدونه إلى غاية اندلاع ثورة التحرير''.
المؤرخ والحقوقي الفرنسي ''جيل مونسيرون'' من فالمة
''تيار فرنسي ينشط لإرغام السلطات على الاعتراف بجرائمها''
أكد المؤرّخ والحقوقي الفرنسي ''جيل مونسيرون''، صباح أمس، خلال افتتاح أشغال الملتقى الدولي حول مجازر 08 ماي بالمجمع الجامعي سويداني بوجمعة بفالمة، بأنّه لا مفرّ لفرنسا الحالية من قضية الاعتراف بجرائم أسلافها المقترفة في حق الشّعب الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية، وفي مقدمتها مجازر 08 ماي.
وقال نائب رابطة حقوق الإنسان الفرنسية، خلال مداخلته، بأنّ هناك تيارا فرنسيا، وإن كان لا يشكّل أغلبية، ينشط من أجل إقناع السلطات الفرنسية بقضية الاعتراف بجرائم ''فرنسا الاستعمارية''، التي اقترفتها في حق الشعب الجزائري، والمسارعة للاعتذار للجزائريين عن ذلك. وأشار مونسيرون إلى العهدتين القاتمتين للرّئيس المهزوم ''نيكولا ساركوزي''. مؤكدا على مواقفه حيال مسألة الاعتذار التي ينشدها الجزائريون ويلحّون عليها لإبرام صداقة بين البلدين، حيث ذكّر بقانون تمجيد الاستعمار الذي أفرزته أولى عهدتيه التي تميزت بـ''بالعنصرية ورفض الإسلاموفونيا''، مؤكدا بـ''أن الطريق الذي يرفض العنصرية هو الطريق السوي''. وأبدى ارتياحا لفوز ''هولاند'' في الرئاسيات، والأفراح التي قابله بها الفرنسيون مساء أول أمس. ونبّه الحقوقي الفرنسي إلى ما يتداول من صور مزيفة لأشرطة عبر ''الأنترنت''، تسعى إلى تشويه الحقائق التاريخية بشأن فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وما يشوبها من تداخل بين الأحداث ومواقعها.
وخلص إلى التأكيد على العمل العلمي الكبير الذي ينتظر الباحثين والمؤرخين الجزائريين والفرنسيين، للكشف عن الحقيقة وعن الجريمة ضد الإنسانية التي اقترفتها فرنسا الاستعمارية. للإشارة تميّزت أشغال اليوم الأول من الملتقى الدولي حول مجازر 08 ماي 1945 المتواصل، بالتركيز على الجرائم الفظيعة في حق الشعب الجزائري، والتي كان مبيتا لها من فرنسا الاستعمارية، سواء قبل المجازر أو خلال السنوات التي أعقبتها، كما ركّزت الأشغال على الجانب النضالي التعبوي للجزائريين الذين حصدتهم آلة التقتيل في تلك المجازر الدامية بمدن وأرياف ومشاتي فالمة، سطيف وخراطة.
تقييم:
0
0