حياة مي زيادة وصالونها الأدبي
حياة مي زيادة وصالونها الأدبي
مي زياده (1886_1941) امي زياده كانت شاعرة واديبه فلسطينيه ولدت في الناصرة عام 1886م
اسمها الاصلي ماري الياس زيادة كانت تتقن ست لغات . في العام 1907 م
انتقلت للقاهره ودرست الادب العربي والتاريخ الاسلامي والفلسفه في جامعه القاهره
وبعد سبع سنوات انشأت صالونها الادبي ليكون اشهر صالون ادبي في مصر
كان يحضره الرافعي والعقاد وهيكل وطه حسين وغيرهم ,, واشتهرت بقدرتها على الخطابه
وقعت في حب الاديب جبران خليل جبران رغم انهما لم يلتقيان ودام حبهما عشرين عاما من العذاب والاشتياق
والحرمان واللقاء والفراق فقط على الورق ..
وفي اعقاب رحيل ولاديها ووفاه جبران تعرضه مي لمحنه نفسيه
ثم حيكت ضدها مؤامرة دنيئه من ذويها واوقعت احدى المحاكم عليها الحجر واودعت مصحه الامراض العقليه في بيروت ..!
من اشهر مؤلفاتها :
- أزاهير حلم: ديوان شعر.
- الحب الألماني: ترجمة عن الألمانية لمؤلفه فريدريك ماكس موللر، وعرّبته تحت اسم «ابتسامات ودموع».
- الحب في العذاب: ترجمة عن الإنكليزية.
- سوانح فتاة: مجموعة خواطر.
- دراسات عن باحثة البادية، عائشة تيمور، وردة اليازجي.
- كلمات وإشارات، خطب ومقالات، ظلمات وأشعة، ومقالات في فلسفة الحياة والوطنية.
- الصحائف مقتطفات من مقالاتها.
- المساواة دراسة اجتماعية في الديمقراطية والاشتراكية.
إضافة إلى القصص والمقالات التي كانت تنشرها في جريدة المحروسة.
- رسالة إلى هتلر: تنديد بمساوىء الحرب.
- مذكراتي: مذكرات لها في مصر ولبنان وأوروبا.
وقد الفت الكاتبه نوال مصطفى كتابا عن حياه مي زيادة(( مي اسطورة الحب والنبوغ ))
وفيما يلي مقتطفات من الكتاب الذي ارفقه لكم بالمرفقات
طفولة مي
الليلة ترحل آخر الفتيات عن مدرسة الدير .. مدرسة عينطورة للبنات ببلدة شحتول في لبنان ..
الليلة ستقضي " ماري " ليلتها وحيدة .. سجينة هذه الجدران المتهجمة . ستقضي الفتاة الصغيرة ذات الأربعة عشر ربيعاً ليلة العيد حزينة .. بعيدة عن بيت أسرتها البعيد في مدينة " الناصرة " بفلسطين .
سوف تسافر ماري إلياس زيادة بخيالها ونبضات قلبها إلى حيث الدفء الساكن هناك في بيتها مع أمها التي تحبها كثيراً ووالدها الذي يغمرها بشلال من حنان .
لكن سرعان ما يصطدم الخيال بالواقع . وتجد ماري نفسها وسط ثليج الوحدة خاصة بعد رحيل آخر صديقاتها المقربات لقضاء أجازة العيد مع الأهل . وتهرب ماري من وحدتها وآلامها مع تسلل الصباح وشروق الشمس .. تلقى بنفسها وسط الحدائق الواسعة المحيطة بالدير .. مع أصدقائها الذين لا تمل صحبتهم أبداً هوجو , لامارتين , شاتوبريان ..
في هذا الوقت فقط ينبعث الدفء من جديد في أوصالها .. وتسري حرارة الحياة في وجدانها .. وعندما تعود إلى غرفتها بمدرسة الدير تكون قد امتلأت بمشاعر هؤلاء الأصدقاء , وغاصت في أفكارهم وأحلامهم . فتجلس .. وتكتب .
هكذا كانت طفولة ماري التي اختارت فيما بعد الحرف الأول والحرف الأخير من اسمها فقط ليكون اسمها الأدبي : " مي " طفولة قاسية.. في مدارس داخلية للراهبات . الأولى كانت مدرسة اليوسفيات في " الناصرة " حيث ولدت بفلسطين وطن الأم وكانت في السادسة من عمرها في ذلك الوقت . وبعدما أنهت دراستها الابتدائية في تلك المدرسة , ألحقها والدها بمدرسة الزيارة في " عينطورة " بلبنان حيث وطنه هو .. وهناك أحست الصغيرة بانتزاع الدفء والأمان لأول مرة .. وعاشت الوحدة والقلق اللذين لازماها حتى آخر العمر.
في مدرسة " الزيارة " أدهشت الفتاة الصغيرة مدرساتها بتفوقها في دروسها وحبها الشديد للشعر وقدرتها على دراسة اللغات , فقد أتقنت خمس لغات هي العربية , والفرنسية , والإنجليزية , والإيطالية , والألمانية .
ويبدو أن فترة الطفولة التي عاشتها ماري زيادة بين بيروت وفلسطين سيمتد تأثيرها على حياتها كلها بعد ذلك .. وستحفر بصماتها العميقة على تكوينها النفسي والإنساني بصفة خاصة.
فقد عاشت ماري سنوات الطفولة وبداية الشباب في مدارس الراهبات المعروفة بالشدة والحزم الذي يصل إلى حد القسوة أحياناً ..
عاشت معظم سنوات طفولتها وحيدة بعيداً عن أمها الفلسطينية نزهة المعمر , وأبيها اللبناني إلياس زيادة المدرس البسيط .. ولأنها طفلة موهوبة , خُلِقت تحمل صفات النبوغ والتفرد فقد حولت أحزانها وحرمانها منذ طفولتها المبكرة إلى غوص عميق في دروب الفكر والثقافة ورغبة غير محدودة في الاكتشاف والمعرفة.
تعلمت منذ البداية كيف تقهر مشاعرها , وتحاصرها .. وأمسكت بقوة لجام قلبها حتى لا يفلت من بين يديها . وينطلق صارخاً بآهاته وأناته .. بأحلامه وأوجاعه .
وفي الوقت الذي فعلت فيه ذلك بقلبها . أطلقت لعقلها كل الحرية لينطلق ويفكر ويحلل ويكتشف ويبحر . وهنا في رأيي مكمن مأساة ماري زيادة .. أو الآنسة مي التي احتلت مكانة لم تحتلها أديبة عربية أخرى في زمانها أو في الأزمنة التي تلته .. وحتى الآن .
الفجوة الرهيبة بين القلب والعقل ! الحصار المخيف .. والإنطلاق غير المحدد للفكر .. المحافظة الشديدة .. مع التمرد والتحرر على كل أنماط الفكر التقليدي . هكذا جمعت مي بين النقيضين .. ومن هذا التناقض الجوهري تولدت كل تناقضاتها الأخرى . وبسبب هذا الصراع الداخلي الرهيب انتهت حياتها المتوهجة بالفكر والنجاح والتألق لتلك النهاية المأساوية الحزينة .
قصتها.. قصة تراجيدية بكل ما تحمله الكلمة . قصة امرأة توهجت كالشمس كظاهرة فريدة في عصرها .. التف حولها كبار مفكري مصر والعالم العربي .. واحترم فكرها ونبوغها الأدباء والشعراء .. ووقع في حبها الكثيرون منهم .. وكان دائماً حباً من طرف واحد ! فقلب مي كان دائماً مغلقاً .. بإحكام في وجه الجميع !!
وكانت مي تعبر أحياناً في كتاباتها عن هذه المشاعر الحائرة فتقول : " ولدت في بلد وأبي من بلد وسكني في بلد وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد فلأي هذه البلاد أنتمي . إنما أريد وطناً لأموت من أجله أو لأحيا به ".
لقد كانت تجيب دائماً عند السؤال عن وطنها فتقول : " أنا فلسطينية .. لبنانية .. مصرية .. سورية " وهي في داخلها لا تعرف لأي البلاد تنتمي حقاً .. وانسحب هذا الشعور بعد ذلك على البشر وعلاقتها بالناس . فرغم الشهرة العظيمة التي حققتها وزحام الرجال من المفكرين والأدباء والمبدعين الغارقين في حبها .. إلا أنها لم تشعر بالانتماء إلى أي واحد منهم .. إلا واحد هو جبران خليل جبران .. الذي أحبته على الورق فقط ! من خلال الرسائل المتبادلة بينها من القاهرة .. وبينه من المهجر حيث كان يعيش في أمريكا !!
لا شك أن سنوات طفولة مي كانت بالغة التأثير في حياتها كلها بعد ذلك .. وربما كانت الجوانب الإيجابية أيضاً خلال تلك الفترة قوية وعميقة .. فقد أجادت مي اللغة الفرنسية إجادة تامة وحفظت الكثير من الأشعار الفرنسية خاصة أشعار الرومانسية مثل : لامارتين وديه موسيه , وتعلمت التمثيل والموسيقى والعزف على البيانو .. كما تعلمت ركوب الخيل ومارسته في وديان وسهول لبنان ..
وقبل أن نترك الحديث عن طفولة مي لا بد أن نذكر أنها فقدت شقيقتها الوحيد في طفولتها … وكتبت لتعبر عن مشاعرها تجاه هذا الشقيق تقول :
" إلى العينين التي أطبقهما الموت قبل أن ألثمهما .. إلى الابتسامة التي لا أعرف منها إلا خيالاً .. إلى الاسم العذب الذي لا تهمس به شفتاي دون أ، تملأ عيني الدموع .. إلى الطفل الذي رحل إلى خالقه ويتم فيّ عاطفة الحب الأخوي الأخوي , فحرمني من حنو الأخ وقبلته وابتسامته ودمعته .. إلى أخي الوحيد الذي تقاسم الأثير والثرى !
مي والعقاد كان الكاتب المفكر عباس محمود العقاد ..
وهو من ألمع مفكري عصره لا ينكر حبه لمي ,
وقد لمح له كثيراً في روايته سارة وأعطى مي اسماً مستعاراً هو هند .
وعرفها العقاد في البداية عن طريق
مقالاتها في الصحف ثم من كتبها .
وبدأت علاقتهما بالخطابات هو من أسوان بلدته التي يقيم
بها قبل استقراره في القاهرة ..
وهي من القاهرة حيث استوطنت مصر بعد قدومها من لبنان بصحبة والديها.
وعندما عاد العقاد من أسوان سارع بزيارة مي يملؤه الشوق والحنين
إلى تلك الشخصية التي فتنته قبل أن يراها !
وتقارب الأديبان : العقلان والقلبان .
لكن حب العقاد لمي كان مختلفاً عن حب مي للعقاد .
كان العقاد يؤمن بطوفان المشاعر وتوحد الحبيبين نفساً وروحاً وجسداً ..
وكانت مي تؤمن بالحب الصافي , السامي ..
العفيف الذي يرتفع عن رغبات الجسد ويسمو إلى عالم الروحانيات وصداقة الفكر.
ولا شك أن العقاد احترق بحب مي في صمت
والدليل على ذلك قصائده الكثيرة إليها التي تحمل كل مشاعر الحب والتتيم بها .
ويقول الكاتب عبد الفتاح الديدي :
يبدو أن هذه الفتاة لعبت أخطر دور
في حياة العقاد لأنها أعطته السعادة ومالم يكن يخطر له على بال ,
ولكنها وقفت أمامه نداً لند وناوأت رجولته وسطوته وكبرياءه .
وصدمت أحلام العقاد بفرديتها واستقلالها وشبابها المتأنق المدرك لأصول العلاقات.
وسئل العقاد مرة كيف كان يجمع بين حبين في وقت واحد:
حب مي وحب سارة؟ فأجاب عن هذا السؤال
قائلاً : إذا ميّز الرجل المرأة بين جميع النساء فذلك هو الحب ..
وقد يميز الرجل امرأتين في وقت واحد .. لكن لا بد من اختلاف في النوع ,
أو في الدرجة, أو في الرجاء , فيكون أحد الحبين خالصاً للروح والوجدان ,
ويكون الحب الآخر مستغرقاً شاملاً للروحين والجسدين ..
أو يكون أحد الحبين مقبلاً صاعداً , والحب الآخر آخذاً في الإدبار والهبوط .
أما أن يجتمع حبان قويان من نوع واحد في وقت واحد فذلك ازدواج غير معهود في الطباع , لأن العاطفة لا تقف ولا تعرف الحدود .. وإذا بلغت العاطفة مداها جبَّتْ ما سواها .
ويصف العقاد في روايته " سارة" طبيعة علاقته بمي دون التصريح باسمها .. بل اختار لها اسماً مستعاراً هو : هند . فيقول : كان يحبها الحب الذي جعله ينتظر الرسالة أو حديث التليفون كما ينتظر العاشق موعد اللقاء , وكانا كثيراً ما يتراسلان أو يتحدثان , وكثيراً ما يتباعدان ويلتزمان الصمت الطويل إيثاراً للتقية واجتناباً للقال والقيل وتهدئة من جماح العاطفة وإذا خافا عليها الانقطاع.
ولكنهما في جميع ذلك كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين يتلاقيان وكلاهما على جذوره , ويتلامسان بأهداب الأغصان , أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق إلى تلك الأوراق .
كانا يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل , ولا يزيدان . وكان يغازلها فتومئ إليه بإصبعها كالمنذرة المتوعدة , فإذا نظر إلى عينيها لم يدر أتستزيده أم تنهاه , ولكنه يدري أن الزيادة ترتفع بالنغمة إلى مقام النشوز .
وكان يكتب لها فيفيض ويسترسل , ويذكر الشوق والوجد والأمل , فإذا لقيها بعد ذلك لم ير منها ما ينم عن استياء , ولم يسمع منها ما يدل على وصول الخطاب , وغنما يسمع الجواب باللحن والإيماء دون الإعراب والإفصاح .
وربما تواعدا إلى جلسة من جلسات الصور المتحركة في مكان لا غبار عليه , فيتحدثان بلسان بطل الرواية وبطلتها , ويسهبان ما احتملت الكناية والإسهاب , ثم يغيران سياق الحديث في غير اقتضاب ولا ابتسار .
وكانا أشبه بالنجمين السيارين في المنظومة الواحدة , لا يزالان يحومان في نطاق واحد , ويتجاذبان حول محور واحد , ولكنهما يحذران التقارب .. لأنه اصطدام ؟
ولم تكن هي لتعتقد الرهبانية فيه , ولا تزعم بينها وبين وجدانها أنه معزول عن عالم النساء . غير أنها لم تكن تحفل اتصاله بالنساء ما دام اسمهن نساء , لا يلوح من بينهن اسم امرأة واحدة , وشبح غرام واحد . فإن اسم النساء في هذه الحالة لا يدل على معنى , ولا انتقاص فيه لما بينهما من رعاية واستئثار.
كانت الخطابات المتبادلة بين مي والعقاد ثروة أدبية .. فكرية .. إنسانية ودليل في نفس الوقت على رابطة متينة قوية بين الطرفين .
يحدثنا أحمد حسين الطهاوي عن ذلك في كتابه : " غرام مي وجبران بين الحقيقة والخيال " .. فهو يلاحظ في رسائلها الغرامية إلى جبران أنها كانت تعيش شبه حالة حب مع عباس محمود العقاد استناداً إلى رسائل اكتشفها طاهر الطناحي وتقول في إحداها :
وكانت مؤرخة في 20 أغسطس ( آب) 1925 :
إنني لا أستطيع أن أصف لك شعوري حين قرأت القصيدة التي أرسلتها لي , وحسبي أن أقول لك أن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرت به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان .
بل إنني خشيت أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد , منذ أول مرة رأيتك فيها بدار جريدة " المحروسة" . إن الحياء منعني , وقد ظننت أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك . والآن عرفت شعورك , وعرفت لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران .. لا تحسب إنني اتهمك بالغيرة من جبران , فهو في نيويورك لم يرني ولعله لن يراني , كما أنني لم أراه إلا في تلك الصور التي تنشرها الصحف .
سأعود قريباً إلى مصر , وستجمعنا زيارات وجلسات أفضي فيها لك بما تدخره نفسي , ويضمه وجداني , فعندي أشياء كثيرة أقولها لك .
وفي قصة " سارة" التي كتبها العقاد .. وروى فيها حبه لامرأتين هما " سارة " و"هند" .. وصفها فقال : إحداهما حولها نهر يساعد على الوصول إليها .. والأخرى حولها نهر يمنع من الوصول إليها وكان يقصد بالأخرى مي .
وقال العقاد عن مي ذات مرة :
لقد كانت متدينة تؤمن بالبعث .. وأنها ستقف بين يدي الله يوماً , ويحاسبها على آثامها , فكانت برغم شعورها بالحياة, وإحساسها العمق الصادق , وذكائها الوضاء , وروحها الشفافة , ورقتها وأنوثتها تحرص على أن تمارس هذه الحياة بعفة واتزان .
وكتب العقاد في مي العديد من القصائد التي تظهر بوضوح ذلك الحب الذي ملك وجدانه .. حبه لمي . ومنها قصيدة بعث بها إليها في روما حيث كانت تقضي أجازة صيف عام 1925 . وخلال تلك الفترة تبودلت الرسائل بينهما كلها تنم عن شوق مكبوت من الطرفين ..
مي .. ومصطفى صادق الرافعي عاش الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي قصة حب كبيرة مع مي زيادة .. لكنها كانت قصة حب من طرف واحد هو مصطفى الرافعي !
فقد احترق الرافعي حباً وهياماً بمي وتوهم أن مياً تحبه وهو مالم يكن صحيحاً.
ولكن هذا الحب الكبير أنتج كذلك أدباً غزيراً وجميلاً . فكتب الرافعي لـ مي مجموعة كبيرة من الرسائل تشكل وثائق أدبية وشخصية هامة حول حياة كل منهما .
ورغم أن الرافعي كان يفهم شخصية مي جيداً وقال ذات يوم في وصفها :
إن كل من حادثها ظن أنها تحبه , وما بها إلا أنها تفتنه.
وكانت مي تراسل الرافعي كما كانت تفعل مع معظم أدباء صالونها المقربين . ولكن رسالة من رسائلها كانت توحي بشيء خاص بينهما قالت فيها :
أتذكر إذ التقينا وليس بنا شابكة , فجلسنا مع الجالسين , لم نقل شيئاً في أساليب الحديث , غير أننا قلنا ما شئنا بالإسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما ! وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل , كأن في كلينا قلباً ينتظر قلباً من زمن بعيد .. ولم تكد العين تكتحل بالعين حتى أخذت كلتاهما أسحلتها . وقلت لي بعينيك .. أنا .. وقلت لك بعيني : وأنا .. وتكاشفنا بأن تكاتمنا وتعارفنا بأحزاننا , كأن كلينا شكوى تهم تهم أن تفيض ببثها .. وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تصنع الحزن في نفس من يراها .. فإذا هو إعجاب , فإذا هو إكبار , فإذا هو حب .
وهذه الرسالة شكك بعض النقاد في أن مي زيادة أرسلتها فعلاً إلى الرافعي .. بل قالوا إنه هو الذي تلبس أسلوب مي وكتب الرسالة إلى نفسه !!
وعن مي كتب الرافعي ثلاثة كتب من أروع ما كتب هي : " رسائل الأحزان " .. " أوراق الورد " .. و " السحاب الأحمر " .
وكان يعيش الرافعي الذي يكبر مي بأكثر من ثلاثين عاماً في طنطا مع زوجته وأولاده العشرة . وكان يحضر صالون الثلاثاء الأسبوعي في بيت مي قبل الجميع , وهو في كامل أناقته , وكانت مي تستقبله بحفاوة واحترام , وتوليه عناية خاصة , ولكن رغم كل ذلك .. لم يكن هو الحبيب الذي ملك قلبها.
المؤامره الفصل الأخير في حياة مي كان حافلاً بالمواجع والمفاجآت ! بدأ بفقد الأحباب واحداً تلو الآخر .. والدها عام 1929 . جبران عام 1931 . ثم والدتها عام 1932 .
وعاشت مي صقيع الوحدة .. وبرودة هذا الفراغ الهائل الذي تركه لها من كانوا السند الحقيقي لها في الدنيا . وحاولت مي أن تسكب أحزانها على أوراقها وبين كتبها .. فلم يشفها ذلك من آلام الفقد الرهيب لكل أحبابها دفعة واحدة .
فسافرت في عام 1932 إلى انجلترا أملاً في أن تغيير المكان والجو الذي تعيش فيه ربما يخفف قليلاً من آلامها .. لكن حتى السفر لم يكن الدواء .. فقد عادت إلى مصر ثم سافرت مرة ثانية إلى إيطاليا لتتابع محاضرات في جامعة بروجية عن آثار اللغة الإيطالية .. ثم عادت إلى مصر .. وبعدها بقليل سافرت مرة أخرى إلى روما ثم عادت إلى مصر حيث استسلمت لأحزانها .. ورفعت الراية البيضاء لتعلن أنها في حالة نفسية صعبة .. وأنها في حاجة إلى من يقف جانبها ويسندها حتى تتماسك من جديد .
وجلست مي المليئة بالشفافية وحسن النية بالبشر تكتب إلى ابن عمها الدكتور جوزيف في لبنان وتخبره بحالتها ..
وقالت مي في خطابها للدكتور جوزيف :
عزيزي جوزيف …
منذ مدة طويلة لم أعد أكتب . وكلما حاولت ذلك شعرت بشيء غريب يجمد حركة يدي ووثبة الفكر لدي .
إني أتعذب شديد العذاب يا جوزيف , ولا أدري السبب , فأنا أكثر من مريضة , وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه فيّ وحولي . أني لم أتألم أبداً في حياتي كما أتألم اليوم , ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله . وددت لو علمت السبب على الأقل . ولكنني لم أسأل أحداً إلا وكان جوابه : لا شيء , إنه وهم شعري تمكن مني .
لا , لا , لا , يا جوزيف . إن هناك أمراً يمزق أحشائي ويميتني في كل يوم , بل في كل دقيقة. لقد تراكمت عليّ المصائب في السنوات الأخيرة وانقضَّت عليَّ وحدتي الرهيبة التي هي معنوية أكثر منها جسدية فجعلتني أتساءل كيف يمكن عقلي أن يقاوم عذاباً كهذا . وكان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية , فكنت أعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة لعلي أنسى فراغ مسكني , أنسى غصة نفسي , بل أنسى كل ذاتي .
إنه ليدهشني حقاً كيف أني استطعت أن أكتب هذه الرقيمة . ولعل الفضل في هذا يعود جزئياً إلى اللفائف التي أدخنها ليل نهار أنا التي لا عهد لي بذلك أدخلتها لتضعف قلبي , هذا القلب السليم المتين الذي لا يقاوم …
واسلم لابنة عمك
ماري
وتعطي مي بكل أسف المفتاح لابن عمها ليفتح عليها نار جهنم بهذا الخطاب الذي كتبته في لحظة ضعف تستنجد بأقرب من بقي لها في الدنيا .. على قيد الحياة .
يعرف الدكتور ابن العم بأن مي تنوي التبرع بمكتبتها النفيسة إلى الأمة المصرية بعد وفاتها عرفاناً منها بفضل مصر عليها .. كما أرادت أن تهدي النسخ المزدوجة من كل كتاب إلى الأمة اللبنانية .. وبدأت فعلاً تبحث عن المحامين لوضع هذه الوصية في سياق قانوني . فما كان من الأقارب الذين تحولوا في هذه الحالة إلى "عقارب" إلا أن أرسلوا إلى " مي" من يجمع المعلومات عنها .. وعن وضعها المالي وأملاكها في مصر !
ثم جاءها ابن عمها من لبنان بعد وفاة زوجته التي كانت مريضة .. وطلب منها أن تصحبه إلى لبنان لتغير جو الكآبة الذي تعيش فيه .. ووعدها بأن الدفء والناس الذين يحبونها في لبنان سيعوضونها عن فقد الأحباب ومشاعر الوحدة التي تعيشها في مصر بعد الحياة المليئة التي كانت تعيشها كنجمة في سماء الأدب .
وتحكي مي بنفسها ما حدث لأمين الريحاني أحد أصدقائها المقربين .. الذين وقفوا معها في هذه المحنة الكبرى في حياتها .. فتقول :
كان ابن عمي يحيك لي الدسائس وينصب لي الفخ وهو يظهر بمظهر الصديق الوفي والأخ البار . يراسلني من حين إلى حين فأرد على رسائله بسرور . ولما سألته الحضور إلى مصر . رد عليّ بخطاب كله عطف واهتمام ووعدني بالحضور عند تحسن صحة زوجته . على أن زوجته توفيت بعد قليل ولم يطل حتى جاء مصر . أليساعدني ويخفف من مصيبتي ؟ هذا ما يزعمه . على أن الحقيقة هي أنه هرع ليستكشف أعمالي وماليتي ويقف على كل شيء في حياتي . وكان أنه خاطبني برقته المألوفة في تعيينه وكيلاً عني ليخدمني ويطمئن بالي .
فأجبت بأن لا أملاك لي في مصر وأن أعمالي المالية منظمة تنظيماً لا يحوجني إلى مساعدة أحد . فألح وقال : فكري في هذا إكراماً لي . قلت : سأفعل وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى التفكير .
وبعد هذا الكلام بيوم واحد جاءني مع رجلين من انسبائه كانا يلازمانه في بيتي وفي الخارج طول مدة إقامته بمصر يتبعهم باشكاتب محكمة عابدين ووكيله على ما قيل لي . وفتح الباشكاتب دفتراً كبيراً جداً وسحب الدكتور جوزيف من جيبه قلمه الحبر وقدمه لي طالباً أن أوقع في الدفتر . وأي تأثير سيطر علي في تلك الساعة ؟ كيف لم أعجب لمجيء الباشكاتب دون أن استدعيه وكيف لم أرفض التوقيع ؟ لست أدري .
بحركة ميكانيكية تناولت القلم ورفعت نظري إلى الباشكاتب استفهم عن المكان من الدفتر الذي اكتب فيه اسمي . فنظر إلي نظرة طويلة كأنما هو عالم بما سيجره علي هذا التوقيع من المصائب . ثم أشار إلى مكانين اثنين فوقعت مكرراً , مي زيادة , وتحته ماري جبران . وأخذوا بعدئذ يعدون الحقائب للسفر وأنا أعلن بثبات إني لا أترك البيت ولا أغادر مصر .
فقال الدكتور أن البيت يبقى على ما هو وكل شيء فيه في مكانه ريثما أعود من لبنان بعد شهرين. فإنما ما أحتاج إليه على قوله هو تغيير الهواء وتغيير المحيط .
وفي لبنان لا أكون وحدي , بل يحيط بي أعضاء عائلتي الذين سينسيني حنانهم ومحبتهم إني وحيدة وإني حزينة . وأقسم الدكتور بأولاده وبشرفه أن يردني إلى مصر حتى بعد أسبوع واحد فيما لو صارحته برغبتي في ذلك .
وتكمل مي من قصتها الباكية .. بعد سنوات المجد والشهرة .. فتقول :
أخرجوني من بيتي قبل الساعة الرابعة بعد الظهر وأوصلوني إلى مكاني في القطار وغابوا عني فبقيت جالسة حتى عاد الدكتور والرجلان الآخران . وعندئذ قام القطار إذ نحن في منتصف الساعة السادسة . ومنذ الأسبوع الأول في بيروت ذكرت الدكتور بوعده وقلت إني أرغب في الرجوع إلى بيتي . فطيب خاطري .. وأبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض مني وأنا أطالبه بالعودة . حتى استكمل برنامجه في أمري , فأرسلني إلى " العصفورية".
كيف حدث هذا ؟ كيف وضعت الأديبة العربية النابغة في مستشفى الأمراض العقلية بلبنان .. وهي واحدة من أندر العقول العربية وأبدعها .. تعالوا نسمع من مي الحكاية !
جاء الطبيب المعالج في " العصفورية" مستشفى الأمراض العقلية تصحبه ممرضة - وكانت تلك في تاريخ العصفورية أول مرة خرج فيها طبيب إلى بيت مريض ليحمله إلى " المارستان" . وعندئذ حنان أقاربي ووفائهم وحرصهم على صحتي وكرامتي , كلها ظهرت في أجلى المظاهر إذ كتفني طبيب العصفورية بجاكت المجانين تساعده الممرضة ونفحني بإبرة مورفين بساقي وأنا أصيح من فرط الوجع وأستغيث .
واه يا بيروت ؟ كيف احتملت أن أجتاز شوارعك في ذلك الموكب المشين الأليم ؟ كيف احتملت الدموع التي سكبتها في تلك السيارة وأنا بين ذلك الطبيب وتلك الممرضة أشعر بوحدة رهيبة في الدنيا وأرى القدر المروع المعد لي دون أن أدري لماذا ؟
بحجة التغذية وباسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل وأموت شيئاً فشيئاً . لست أدري إذا ما كان الموت السريع هيناً . أما الموت البطيء طيلة عشرة شهور وأسبوع من التغذية القهرية تارة من الفم بتقطيع لحمة الأسنان وطوراً من الأنف بواسطة التبريح ليصب ما يصب من الداخل نزولاً إلى الحلق فالصدر . فذلك موت لا أظن أن إنساناً يحتمل الإصغاء برباطة جأش إلى وصفه . ومع ذلك فكان أقاربي في زيارتهم النادرة يستمعون إليّ بسرور وأنا أصف نكالي وشقائي راجية منهم عبثاً أن يرحموني ويخرجوني من العصفورية .
وأهملوني هنالك لا سلوى ولا تعزية . وكان الدكتور يزعم إني سأموت جوعاً إذا ما أخرجني من العصفورية إلا أنه اضطر إلى نقلي إلى مستشفى ربيز فوصلته شبحاً . فإذا بهم هنا يستعملون في تغذيتي القهرية الملقط الحديدي الخاص بالعمليات الجراحية مما لا تفلح معه مقاومة . نقلوني إلى هذا المستشفى أقيم أياماً ريثما يعد لي منزل أسكنه لأنه ليس معقولاً أن يقطن الإنسان بالمستشفى طول حياته ولأن قلبي يحترق على الإقامة في منزل لي كسائر الناس , على أن البيت المزعوم لم يعد لي في عشرة شهور . كما جاءوا بي أصطاف في لبنان شهرين وما زلت أصطاف في قلب الشتاء وبعد اثنين وعشرين شهراً .
وجاء الفرج أخيراً بعد عامين من أقسى العذاب . جاء الفرج على يد الصحافة والصحفيين من أبناء مهنتها .. فقد كانت قضية إدخال مي زيادة مستشفى الأمراض العقلية " العصفورية" هي حديث الصحف والموضوع الذي يحتل مساحة كبيرة من اهتمام القراء في بيروت والقاهرة وأيضاً في بلاد المهجر . وشنت جريدة " المكشوف" حملة كبيرة حول هذا الموضوع .. وتابعت قصة مي خطوة بخطوة حتى استطاعت في عام 1938 أن تكشف المؤامرة ونشرت في الصفحة الأولى :
وأخيراً استطاع " المكشوف" أن يلفت أنظار الأدباء ورجال القضاء إلى المؤامرة التي وقعت الأديبة مي في شباكها , بفضل حملة قام بها في هذا السبيل دامت أربعة أشهر .
وقد لاقى "المكشوف " من أجل الكشف عن هذه الدسيسة ما تلاقيه كل صحيفة حرة من تهديد ووعيد . فقد اتصل أمر الدسيسة بالنيابة العامة عن طريق مكتب الاستاذين حبيب أبو شهلا وبهيج تقي الدين وكيلي الآنسة مي فأجرت تحقيقاً في الحجر على حرية الأديبة الكبيرة وأمرت بنقلها إلى المستشفى الأمريكي حيث تعيش في جو مشبع بالعطف , بعيد عن كل ضغط , وحيث زارتها لجنة من الأطباء لتقرير مصيرها . فكان تقريرهم في غير مصلحة المغرضين .
وقد لفتت الضجة التي أثرناها حول مأساة مي الصحف اليومية الكبرى , فراحت تتحدث عن تطورها حديثاً مما سيكون له أثره الطيب في إنقاذ مي من محنتها ولو أنه جاء متأخراً .
وفي مقدمة هذه الصحف الزميلتان " الحديث" و " صوت الأحرار" اللتان ننقل عنهما بعض ما نشرناه في هذا الصدد :
حديث الكاتب الصحفي سعيد فريحة .. ونشر في جريدة " الحديث" ببيروت .. وهذا نصه .
بدأت مي تتكلم بلغة فصحى ممزوجة باللهجة المصرية , وبطلاقة لسان مدهشة . وأوقع شيء في النفس كان صوتها العذب , وإخراجها الكلمات هادئة بنبرات موسيقية حزينة .
قالت : أردتم أن أكلمكم بصراحة عن سبب كرهي لرجال القانون , نعم أنا أكرههم لأني لم أغادر مصر , ولم يؤت بي إلى لبنان , ولم أدخل إلى العصفورية , إلا بفضل القانون ورجال القانون , بل أنا صرت مجنونة قانوناً.
وأما الأطباء هؤلاء الذين يؤتمنون على أرواح الناس , هؤلاء الذين ينحنون على أسرة السماء , هؤلاء الذين يقسمون اليمين على السير في طريق الشرف والكرامة والاستقامة , وعلى تخفيف محن الناس , وويلات الإنسانية , هؤلاء الأطباء أكرههم لأني صرت مجنونة طبياً ووقعت في شرك المؤامرة بفضل الطب والأطباء .
بقي الصحافيون , وكرهي لهؤلاء أشد , يوم نشروا خبر جنوني , وأوجدوا عند الناس في الشرق وفي الغرب فكرة بل اعتقاداً بأن مي مجذوبة , ولو أن إساءتهم لي اقتصرت على ذلك لهان الأمر , ولكن هناك ما هو أمر وأفظع. أنا صحافية , وبنت صحافي , ولقد كان على الصحافيين في لبنان , إن لم يكن إكراماً لي بل إكراماً لوالدي , أن يبدوا شيئاً من الواجب نحو زميلهم , ابنة زميلهم , أن يسألوا عنها أو يقوموا بزيارتها عندما سمعوا بخبر عنها لمعرفة ما في هذا الخبر من الصحة .
إنكم معشر الصحافيين تتحرون الحقيقة في كل مكان . إنكم تهتمون بالرجال وما يقولون النساء وما يلبسن , إنكم تبحثون أحياناً عن أتفه المواضيع وتخرجونها إلى قرائكم , أنتم يا زملائي وزملاء والدي لم يوجد أحد يسأل عن " مي" ويتحرى حقيقة جنونها , فلا يوجد واحد بينكم يفكر بزيارة هذه الأديبة الصحافية , النابغة التي تخنق الأطفال وتكسر الحديد !!
وقد تقولون إن هذا الذي أشيع عني كان كحقيقة راهنة عندكم , فلم تشأوا زيارتي حتى لا تحزنوا على مصيري .. قد يكون ذلك صحيحاً . ولكن هذا الاعتقاد وتلك " الشفقة" لا ينبغي أن تضع حجاباً من الإهمال والنسيان بين الصحافيين والأدباء وبين زميلتهم " مي" .
إن " مي " لا أهل لها . إن أبي وأمي وأهلي هم الصحافيون هم الأدباء , هم رجال القلم , أفما كان يجدر بكم أن تحيطوني ببعض العناية عسى أن تخففوا عني وطأة الجنون أنا التي أكسر الحديد , وأخنق الأطفال .
أين رجال الأدب في لبنان ؟ أين رجال القانون ؟ أين الجمعيات النسائية ؟ أين نصيرات المرأة ؟ ألم يوجد بينهن واحدة تدافع عني أنا التي قضيت السنين الطوال أدافع عن حق المرأة , ووقفت قلمي على خدمة بنات جنسي , ورفع مستواهن ورد الظلم عنهن ؟
أجل , أين هؤلاء وأولئك ؟ بل أين لبنان , لبنان الذي طويت ضلوعي على حبه , لبنان الذي تغنيت في الجرائد والكتب والمجلات ومن فوق المنابر , بجماله , بجباله , ببنيته , لبنان الذي ما حلت به محنة إلا انهمر الدمع من عيني , لبنان هذا لم يوجد فيه واحد يبكي على محنتي التي انطوت على محن كثيرة .
تلك هي مكافأة لبنان لابنته مي : إهمال مفجع , وتغاض مخجل عن أحط مؤامرة جاءت بي من مصر , وألقتني مدة سبعة شهور في العصفورية أتفرج في النهار على مواكب النساء العاريات , أسمع ألفاظاً ما كنت أعلم بأنها موجودة وإن في البشر من يتلفظ بها , وأسمع في الليل عواء الذئاب وأصوات ابن آوى . أسمع وأرى كل هذا وليس هناك من يسمع صوتي , أو يرى محنتي فيبادر إلى إنقاذي .
سبعة أشهر قضيتها في " العصفورية" في لبنان على هذه الحال , وفي تلك الغمرة من الألم واليأس والعذاب , دون أن يهتز عرق بالشفقة أو لسان بالسؤال .. ولهذا اسمحوا لي أن أقول بكل ألم , وبكل أسف وخجل أيضاً إني كنت أردد , وأنا على تلك الحال , في كل يوم وفي كل ساعة : لعنة الله على لبنان ..
وهكذا بكت " مي" بكاء ممزوجاً بالألم والحقد ثم مدت يدها إلى تحت الوسادة فأخرجت منديلاً ومسحت به دموعها , وبعد أن سكنت آلامها قليلاً استأنفت الكلام فقالت :
- نعم لقد كنت ألعن وطني , وعندما يلعن المرء من يحب يكون الألم واليأس قد يرحا به , ولكن هل يكفر لبنان عن إساءته إلى " مي" ؟ وهل يعيد إلى ضلوعها أقدس ما كانت تنطوي عليه وهو حبها للبنان ؟!
أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي ودواتي وكتبي ودراساتي , وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى , وهذه الحياة " الايدياليزم" التي حييتها جعلتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس ومحاولات , أجل كنت أجهل الدسيسة , وتلك النعومة التي يطهر بها بعض (؟) الناس ويخبئون السم القتال , ولو كنت على معرفة بهذا النوع من أخلاق الناس لكنت قاومت الدسيسة بمثلها , وقاومت المحاولة بمحاولة , ولما كان قادني حسن ظني إلى الاستسلام , والاطمئنان , أو بالأصح إلى هذه المحنة التي لا يمكن أن يكون أن يكون التاريخ الإنساني طوى على أوجع وأفظع منها .
ويكتب سامي الكيالي في مجلة " الحديث" صورة ناطقة لـ "مي" بعد خروجها من مستشفى " ربيز" لتقيم في منزل برأس بيروت حيث التف حولها بعض من صمد من الأصدقاء القدامى وقلة من أصدقاء كسبتهم في محنتها ومن هؤلاء الأصدقاء : أمين الريحاني والنحات ويوسف الحويك والسيد حسين إدريس والسيد الخوري والشيخ فؤاد حبيش والأميرتان سامية وزهراء الجزائري والدكتور منصور فهمي ولطفي حيدر وفليكس فارس وسامي الكيالي ..
وكتب سامي الكيالي .. يقول :
- ولولا هذا الشحوب البادي في وجهها , وهذا الشيب الذي دب في شعرها , وهذا الجرس الحزين الذي ينساب من ثنايا حديثها لما تغيرت عليّ صورة " مي" الشاعرة الأديبة الموسيقية .. وهي في صالونها الأدبي في مصر تستقبل زوارها من الساسة والعظماء والأدباء .
لقد ضمت جلستنا هذه الأديب والمحامي والفنان والطبيب ودارت شتى المناقشات في أدق المسائل وأعمقها في الأدب والتاريخ , في الحياة والإنسان , وقد تباينت الآراء , فكانت " مي" -علم الله هي التي تقرب بين وجهات النظر وتقول كلمتها الهادئة المتزنة بعد أن تأتي بالمثل تلو المثل , وبالفكرة تلو الفكرة , فمن قصة أدبية إلى ظاهرة اجتماعية , إلى رأي بهذا يناقض ذاك إلى أن تهدأ ثورة الجدل .
نعم كانت في هذه الجلسة أشبه بالمعلمة الكبرى تهدي تلاميذها إلى مواطن الصواب بإسلوب أخاذ وآراء منسجمة وبيان غاية في الدقة والروعة .. صفاء ذهن وزكاوة نفس وحس عميق وإشراقة تفكير ودعابة ناعمة حيث تدعو الدعابة , وجد حيث يدعو الجد , هذه هي "مي" التي اختلف الناس في يقظة وعيها وصحة عقلها وانتهى أمرها إلى المحاكم !
ولولا هذه الجلسة الممتعة لتركت بيروت وأنا أشد الناس إيماناً بجنون "مي" !
المشهد الأخير في
حياة "مي" ويجيء أصعب موقف في حياة مي !
تقف في " ست هول" بالجامعة الأمريكية في بيروت لتلقي محاضرة أمام جمهور غفير من قرائها الذين جاءوا بدافع الفضول , يريدون معرفة الحقيقة بأنفسهم بعد كل ما قيل وكتب عن مأساة مي وجنونها .
البعض جاء وهو على يقين من جنونها .. والبعض كان بين الشك واليقين .. والقليل جداً كان من المؤمنين بكذب هذه الدسيسة.
أما هي .. فعليها أن تستجمع كل قدراتها على الإقناع والخطابة التي تميزت بها وطالما أبدعت .. كان عليها أن تقنع جمهور جاء مليئاً بالشك في جنونها .. بأنها ليست كذلك .. وأن تدفع عن نفسها كل الأقاويل الباطلة التي حاصرتها .
وقفت "مي" بشجاعة ظاهرية وقلب كسير تتحدث في 22 مارس 1938 إلى جمهور كبير جاء ليستمع إليها .. ووسط هذا الجمع الغفير كان يجلس راعي النائب العام .. الذي جاء لهدف آخر تماماً .. فقد كان يصغي باهتمام , ويراقب كل ما يحدث استكمالاً لتحقيقاته في القضية المعروضة أمام المحكمة بالحجر على "مي" !
ولم تكد مي تنتهي من محاضرتها التي سحرت الجمهور انبهاراً بقدراتها التحليلية , وثقافتها الطاغية , وملكاتها الناطقة في ربط الأفكار التي تطرحها بعضها ببعض ببساطة , ورؤيتها الحكيمة السابقة لعصرها . حتى ضجت القاعة بالتصفيق المتواصل الذي يفيض بالحماس والحب والتعاطف مع الأديبة والمفكرة المظلومة !
انتصرت مي في هذه الجولة الصعبة .. ولكن الشروخ التي أصابت نفسها وقلبها ازدادت عمقاً . والإحساس بالأسى سيطر عليها وتمكن منها .
واحتلت التعليقات والمقالات الصحفية التي تتحدث عن "مي" ..وعن المحاضرة التاريخية التي أثبتت كذب كل ما قيل عن جنون مي مساحات واسعة في كل الجرائد المصرية واللبنانية .
ثم تحولت إلى مستند قانوني قدمه ممثل النيابة العامة في قضية الحجر على مي .. وكان حديث العدل والحق مؤثراً وموجعاً في آن واحد .. قال في مرافعته :
" إن هذه القضية المبسوطة أمامكم هي قضية خطيرة جداً تختلف عن غيرها من القضايا التي يتناولها اختصاصكم , فهي لا تدور حول سند يطلب الحكم بقيمته المعترف بقبضتها نقداً وإثبات الحجز الملقى أو صك البيع , بل هي قضية حجر , والحجر هو حجر الدماغ والروح وموت أدبي ويد هائلة تضغط على الإنسان الذي بلغ من العمر عتياً فتخلع عنه ثوب الأربعين أو الخمسين الذي ألبسته إياه السنون وتعيده ***ماً قاصراً وتقيم له وصياً .
ويزيد في خطورة هذه القضية من حيث موضوعها ونتائجها أن من يطلب منكم الحجر عليه فتاة ليست كسائر الفتيات , وثبت بها العبقرية إلى قمم الأدب والعلم والفن الخالد , وعلا نجمها في سماء العربية ورفع لواؤها الخفاق فوق كل قطر من الأقطار الناطقة بالضاد وتجاوبت بأصداء آياتها أرجاء النيل وجبال لبنان وسهول سوريا وصحارى العرب , فهي حديث العرب في كل صقع وواد , وهي بنفسها دولة في دولة الأدب , ونور من أنوار الشرق , وقلم من أقلام الخلود , وعجيبة من أعاجيب الوحي والإلهام , كانت دارها في وادي النيل كعبة الأدباء ومحج العظماء , تكتب فيقال كتبت مي, وتحدث فترهف لها الأسماع وتنصت لها القلوب , وتخرج الكتاب فتتلقفه الأيدي , وهي تتكئ على مكتبة لها فيها الألواف من الكتب , وتسكب من عبقريتها في الأرواح وفي الكؤوس سحراً ومجداً ووحياً وهياماً وأملاً ورحيقاً.
أيها القضاة !
بعد أن قرأت هذه القضية وما فيها من لوائح وتقارير , وبينما أنا أقلب كتب الشرع وأبحث في الحجر وأسبابه ونتائجه , وبعد أن كنت حائراً متردداً لا أعرف أين وكيف أضع رأييي وعقيدتي وفي أية كفة في الميزان ألقي مطالعتي , طلع شهاب في سماء هذه القضية , وطرأ على هذه الأوراق طارئ قلبها بطناً لظهر وظهراً لبطن وطاح بكل شيء في هذا الملف وأعاد الحق إلى نصابه والحقيقة إلى عرشها .
فقد أرسلت البطاقات تدعو الناس إلى استماع محاضرة تلقيها الآنسة مي في نادي " العروة الوثقى" في " وست هول" من على منبر الجامعة الأمريكية . وأخذ الناس يتساءلون : أتقوى مي على إلقاء محاضرة؟ هي إذن تقرأ وتكتب , فكيف قال عنها الأطباء في تقاريرهم أنها لا تكتب ولا تقرأ ؟ وهي إذن تجمع في القرطاس حكماً وآيات فكيف قيل أنها لا تجمع إلا رماداً , وهي إذن ذلك الطائر الغريد فكيف قيل إنها فقدت تغريدها وصوت إحساسها , وهي إذن ذات أوتار فكيف قيل أن قيثارتها تحطمت ؟
وجاء موعد المحاضرة فهرعت إلى قاعة الجامعة الأمريكية والواجب يستحثني والضمير يلح علي بتلمس الحقيقة في مصدرها وينبوعها . فلقد كنت ظامئاً إلى معرفة الحقيقة التي من أجلها نحن نرتدي هذه الأثواب والقلانس ونطبق القانون .
هرعت إلى قاعة الجامعة الأمريكية , وكلي شوق إلى جس النبض الذي تنبض به هذه القضية ورؤية الوجه الذي قيل أنه وجه مجنون وسماع الكلمة التي قيل أنها كلمة من اختل شعوره واضطرب عقله وفقد إرادته . هرعت إلى قاعة الجامعة الأمريكية مساء البارحة فإذا هي تغص بالخلق يدفع بعضهم بعضاً , يشرئبون بالأعناق ليروا إذا كانت " مي" أميرة الأدب وصناجة العرب ما تزال لدولتهم ولهم .
ودقت الساعة الثامنة .. فإذا مي تطل على المسرح وقد لعبت بها الأهوال . فلعب الشيب برأسها. ووقفت على المنبر وأخذت تتدفق بذلك البيان الساحر الذي تعود العالم العربي أن يسمعها تنقر على أوتاره الخلابة بريشة لو رآها رافايل وروبنس لأدعيا أنها ريشتهما وأن مي اغتصبتها في حين أنها ريشتها التي وضعها الله في يدها منذ كونها في أحشاء عجيبة من عجائب الفن , ومعجزة من معجزات الأدب .
وانقضت الساعة الثامنة الكاملة الكاملة بدقائقها وثوانيها , وهي تلقي الدرر , وترصع جيد اللغة العربية بجواهر من الزمرد والياقوت والماس . فضج كل من في القاعة ضجة الإكبار والتعظيم , ووثبت القلوب واهتزت الجدران للتصفيق الداوي المستمر الذي لم تشأ الأيدي أن تكف عنه , وأخذ الناس يقول بعضهم لبعض : أتكون هذه الفتاة مجنونة وقد جننا بها , وإذا كانت هي المجنونة فهل نحن العقلاء ؟!.
لقد زالت حيرتي وزال ترددي بعد هذه المحاضرة الساحقة واقتناعي أن الآنسة مي لا يحجر عليها . فالفتاة التي ألقت هذه المحاضرة لا يحجر عليها , ولا تحجر حريتها وعبقريتها , فهي أسمى من أن تطالها يد القصر , وأكبر من أن تمسها يد الحجر .
إن الحجر على هذه النابغة هو حجر على الأدب العربي وعلى الأمة العربية وعلى عبقريتها العربية , فلا تعدموها بسطرين من قلمكم . وهي عاقلة فلا تجعلوها بحكمكم مجنونة !
هكذا جاءت كلمة الحق أخيراً بعد أن تأخرت كثيراً .. وحاولت مي بعد ذلك لملمة نفسها التي بعثرتها الكوارث المتلاحقة في الفصل الأخير من حياتها .
وقررت العودة إلى مصر حيث موطن ذكريات حياتها ورصيد أيامها الحقيقي .. المكان الذي شهد تفجر مواهبها .. واحتفى بريادتها ونبوغها . والوطن الذي سجل لها شهادة التفرد في الأدب والثقافة والخطابة .. وشهد بإنجازها الأدبي غير المسبوق في إشعال ومضة الفكر .. وإضفاء مناخ يتفاعل من خلاله المثقفون والمبدعون هذا الانجاز هو الصالون الأدبي الشهير الذي جمع أهل الفكر والفن والثقافة والإبداع مساء كل يوم ثلاثاء في صالون "مي" .
عادت مي عام 1939 إلى مصر بعد ثلاثة سنوات من العذاب قضتها في لبنان في مستشفى العصفورية لمدة عامين , ثم في مستشفى "ربيز" ثم في منزل ببيروت .
ولم تكن مي زيادة التي عادت من بيروت هي نفسها مي التي سافرت إليها في عام 1936 . لقد آثرت "مي" الجديدة العزلة , وأغلقت حياتها تماماً على نفسها وقلة قليلة جداً من الأصدقاء. كانت قد اكتشفت عند عودتها أن مكتبتها قد سرقت , ولم يبق منها إلا ألف وخمسمائة مجلد فقط , كما كان عليها أن تبحث عن مسكن جديد تسكن به , وأن ترفع الحجر عليها في محاكم مصر كما فعلت في محاكم لبنان . كل هذا أصابها باليأس والانسحاب من الحياة كلية .. ويصف عميد الأدب العربي وحدة مي وعزلتها في السنتين الأخيرتين من حياتها فيقول :
مضت مي في طريقها إلى العزلة مضياً رفيقاً , أو قل إنها تدرجت تدرجاً بطيئاً في أول الأمر , ولكنه سريع ملح آخر الأمر . أخذ ميلها إلى العزلة يظهر بعد أن فقدت أبويها , وبعد أن غمر الحزن نفسها المشرقة , ولكنها لم تقطع صلتها بالناس فجأة , وإنما قللت لقاءهم , وتجنبت ما يدعو إلى هذا اللقاء , وكنت بين الناس الذين شرفتهم بصداقتها , فكنت ألقاها بين حين وحين , فنستخلص لأنفسنا من الدهر وأحداثه ساعة أو ساعات نتحدث في الأدب والفلسفة , جادين حيناً ومازحين حيناً آخر , وكان سكرتيري ثالثنا في هذه الاجتماعات , وكان لنا رابع يحضرنا دائماً , ولكنه لم يكن يفهم عنا .. ولعلنا كنا نفهم عنه كثيراً , وهو ذلك الإبريق الذي كان ممتلئاً دائماً من شراب الورد . والذي كنا نستسقيه غير مرة في هذه المجالس العذبة المرة .
ذلك أن مي كانت في طور الحزن اللاذع , والألم الممض , والتشاؤم الذي كان يسرع إليها كما كانت تسرع إليه . وطالما دافعت عن هذا التشاؤم , وطالما حاولت أن أرد عنها هذا الحزن المهلك , ولكني لا أكاد أدنو إلى النجاح إلا ليردني الإخفاق عما كنت أريد رداً عنيفاً .
وكنت أريد أن أستنقذ مي من تشاؤم أبي العلاء كما كنت أريد أن أستنقذها من الإسراف في التأثر برجال الدين , ولكن أبا العلاء ورجال الدين كانوا أقوى مني ومن غيري أيضاً .
وقبل وفاتها بفترة بسيطة اتصل بها الدكتور طه حسين تليفونياً , وطلب أن يلقاها, وقال لها : سأزورك اليوم .. فقالت : لا ..
قال : سأزورك غداً
قالت : لا ..
قال : إذن متى أزورك ؟
فقالت : لا تزرني أبداً !
قال : لماذا يا سيدتي ؟
قالت : هل تريد أن تعرف السبب؟
قال : نعم
قالت: لقد قررت ألا أقابل أحداً من الناس إلا رجال الدين .. إذا أردت أن تراني فكن قسيساً .
فضحك الدكتور طه حسين وقال:
- سيدتي .. يعز علي ألا أراك , ويستحيل أن أكون قسيساً !
والبعض يقول إن "مي" قرأت وكتبت في عزلتها هذه عدة أعمال ومنهم أحد الصحفيين المقربين لها طاهر الطناحي .. فقد ذكر في كتابه " أطياف من حياة الآنسة مي" أنها أنجزت منذ سفرها إلى لبنان إلى أن توفيت كتاب : " ليالي العصفورية" وهو يحوي وصفاً لما رأته وعانته في مستشفى العصفورية ببيروت وكتاب " في بيتي اللبناني" وهو وصف لحياتها بعد خروجها من المستشفى وإقامتها في بيت خاص ببيروت و " المنقدون" رواية باللغة الفرنسية .
و " علاقة فينيقية بمصر " أدب وتاريخ .. و "مذكراتي" ويحتوي على مشاهداتها وذكرياتها في مصر ولبنان وأوروبا, وتكتب فيه عن كبار العلماء والأدباء الذين عرفتهم , والذين كانوا يحضرون صالون الثلاثاء , وما كان يدور بينهم من نقاش وطرائف.
وانطوت مي على نفسها .. وغرقت في استدعاء صور الماضي واستحضار ذكرياتها مع الأحباب الذين رحلوا وتركوها فريسة للدسائس والمؤامرات . وهدفا للطامعين الذين استغلوا نظرتها المثالية للحياة والبشر.
وبدأ الانسحاب التدريجي من الحياة .. بفقدان الرغبة في كل شيء الطعام .. الشراب.. الحياة الاجتماعية . وهزل الجسد .. وبدأت أجهزته تصاب بالإنهيار إلى أن خمدت ودخلت مي في غيبوبة .. ونقلت إلى مستشفى المعادي بالقاهرة حيث بذلت جهود مكثفة من الأطباء لإنقاذ حياتها .. لكن القدر كان قد كتب كلمته .. ونفذت إرادة الله .. وفاضت روح مي الطاهرة في التاسع عشر من اكتوبر عام 1941 .
وأسدل الستار على قصة حياة فريدة ذاقت الوحدة وتعذبت بقسوتها منذ طفولتها المبكرة حتى آخر يوم في عمرها القصير . وغاصت في بحور الثقافة والفكر والفن والأدب وكانت كالفراشة التي تمتص رحيق الإبداع من كل بساتينه .. وتمكنت من إتقان عدة لغات تجولت من خلالها في مختلف الثقافات والآداب والفنون العالمية .
وكتبت بالفرنسية .. ثم بالعربية .. ودرست القرآن والشريعة . وكانت شعاع الفكر والمعرفة الذي جمع أكبر مفكري وأدباء عصرها .
وعاشت مي تقرأ .. وتكتب .. وتعزف سيمفونيتها الخاصة في الحياة . وتذوقت الأديبة الكبيرة طعم المجد والشهرة وتألقت ببريق التوهج الفكري والإنساني فأصبحت محط الأنظار ومركز الاهتمام في الوسط الأدبي والثقافي في عصرها .
ورغم التحرر الفكري والانفتاح على ثقافات العالم ظلت مي في داخلها امرأة شرقية محافظة للغاية . فعاشت حباً فريداً مع الأديب جبران خليل جبران دون أن تراه ولو مرة واحدة في حياتها .. حباً على الورق !
وعندما فارقها الأحباب تباعاً : الأب .. الحبيب .. الأم .. ثم الأصدقاء الذين وقفوا معها في محنتها الأخيرة أمين الريحاني وفليكس فارس . استسلمت تماماً .. واستعدت للنهاية بنفس راضية .
وبهذا انتهت قصة حياة إنسانة فريدة في كل شيء ! في طفولتها البائسة .. في شبابها المتوهج بالعبقرية والنجاح والشهرة .. في حبها المحروم .. في انسحاب الحياة بكل جمالها وبريقها من تحت قدميها فجأة .. ثم في نهايتها المأساوية التراجيدية المحزنة .
وهي قصة لسيرة حياة تستحق أن تروى .. وأن تقرأها الأجيال …!
مقتطفات من كتابات مي"عام سعيد"
كلمة يتبادلها الناس في هذه الأيام ولا يضنّون بها إلاّ على المتشح بأثواب الحداد, فإِذا ما قابلوه جمدت البسمة على شفاههم وصافحوه صامتين كأنما هم يحاولون طلاء وجوههم بلونٍ معنويٍّ قاتم كلون أثوابه.
ما أكثرها عادات تقيِّدنا في جميع الأحوال فتجعلنا من المهد إلى اللحد عبيدًا! نتمرّدُ عليها ثم ننفِّذ أحكامها مرغمين, ويصح لكل أن يطرح على نفسه هذا السؤال: (أتكون هذه الحياة (حياتي) حقيقة وأنا فيها خاضع لعادات واصطلاحات أسخر بها في خلوتي, ويمجُّها ذوقي, وينبذها منطقي, ثم أعود فأتمشى على نصوصها أمام البشر)?
يبتلى امرؤٌ بفقد عزيز فيعين لهُ الاصطلاح من أثوابه اللون والقماش والتفصيل والطول والعرض والأزرار فلا يتبرنط, ولا يتزيا, ولا ينتعل, ولا يتحرك, ولا يبكي إِلاّ بموجب مشيئة بيئته المسجلة في لوائح الحداد الوهمية, كأنما هو قاصر عن إِيجاد حداد خاص يظهر فيه - أو لا يظهر - حزنه الصادق المنبثق من أعماق فؤاده.
إِذا خرج المحزون من بيته فلا زيارات ولا نُزَه ولا هو يلتقي بغير الحزانى أمثاله. عليه أن يتحاشى كل مكان لا تخيِّم عليه رهبة الموت; المعابد والمدافن كعبة غدواته وروحاته يتأممها وعلى وجهه علامات اليأس والمرارة.
وأما في داخل منزله فلا استقبالات رسمية, ولا اجتماعات سرور, ولا أحاديث إِيناس. الأزهار تختفي حوله وخضرة النبات تذبل على شرفته, وآلات الطرب تفقد فجأة موهبة النطق الموسيقي; حتى البيانو أو الأرغن لا يجوز لمسه إِلاّ للدرس الجدي أو لتوقيع ألحان مدرسية وكنسية - على شريطة أن يكون الموقّّع وحده لا يحضر مجلسه هذا أحد. أما القرطاس فيمسى مخططًا طولاً وعرضًا بخطوط سوداء يجفل القلب لمرآها.
كانت هذه الاصطلاحات بالأمس على غير ما هي اليوم, وقد لا يبقى منها شيء بعد مرور أعوام, ولكن الناس يتبعونها الآن صاغرين لأن العادة أقوى الأقوياء وأظلم المستبدين.
إن المحزون أحق الناس بالتعزية والسلوى; لسمعهِ يجبُ أن تهمس الموسيقى بأعذب الألحان, وعليه أن يكثر من التنزه لا لينسى حزنه فالحزن مهذب لا مثيل له في نفسٍ تحسنُ استرشاده, وإِنما ليذكر أن في الحياة أمورًا أخرى غير الحزن والقنوط.
ألا رُبَّ قائلٍ يقول إن المحزون من طبعه لا يميل إِلي غير الألوان القاتمة والمظاهر الكئيبة, إِذن دعوه وشأنه! دعوه يلبس ما يشاء ويفعل ما يختار! دعوا النفس تحرّك جناحيها وتقول كلمتها! فللنفس معرفة باللائق والمناسب تفوق بنود اللائحة الاتفاقية حصافة وحكمةً.
بل أرى أن أخبار الأفراح التي يطنطن بها الناس كالنواقيس, ومظاهر الحداد التي ينشرونها كالأعلام, إنما هي بقايا همجية قديمة من نوع تلك العادة التي تقضي بحرق المرأة الهندية حيةً قرب جثة زوجها. وإِني لعلى يقينٍ من أنه سيجىءُ يومٌ فيه يصير الناس أتم أدبًا من أن يقلقوا الآفاق بطبول مواكب الأعراس والجنازات, وأسلم ذوقًا من أن يحدثوا الأرض وساكنيها أنه جرى لأحدهم ما يجري لعباد الله أجمعين من ولادةٍ وزواجٍ ووفاة.
وتمهيدًا لذلك اليوم الآتي أحيِّي الآن كلَّ متشّحٍ بالسواد; أما السعداء فلهم من نعيمهم ما يغنيهم عن السلامات والتحيات.
أحيِّي الذين يبكون بعيونهم, وأولئك الذين يبكون بقلوبهم: أحيِّي كلَّ حزين, وكل منفردٍ, وكل بائسٍ, وكل كئيب. أحيِّي كلاًّ منهم متمنية له عامًا مقبلاً أقلَّ حزنًا وأوفر هناء من العام المنصرم.
نعم, للحزين وحده يجب أن يقال: (عام سعيد)!
سوسنة
بنت المهجر
انين الأرض