من محاظر الولاية الصفراء والكحلاء عن موقع البطحاء
المحضرة عبر التاريخ
كان الجامع المؤسسة التعليمية العليا فى حواضر صحراء الملثمين التجارية. غير أن التحولات الجوهرية التى عرفها السياق الاقتصادي والسياسي والمؤسسي للثقافة الصحراوية فى ملتقى القرنين 16 و17 الميلاديين، إثر تحول مركز الثقل الاقتصادي والثقافي نحو السواحل الأطلسية والقرى والبوادى المرتبطة بها، قد أدت إلى انتقال الثقافة من المدن إلى الأرياف و احتضان المحضرة و وسطها الزاوي لها وسهرها على نشرها بدل المسجد.
وتعتبر المحضرة مؤسسة تعليمية عليا مفتوحة لا إكراه فيها، تعتمد فى تدريسها على التلقين، ويحتضنها وسط بدوي متنقل.
ويبدو من الأسانيد والمتون المعتمدة فى المحضرة الموريتانية أنها لا تختلف عن ما هو سائد فى مناطق الغرب الإسلامي الأخرى، حيث حلَّت مختصرات فروع المذهب المالكي- فى مجال الفقه- محل أمهاته حتى أصبح الفقهاء الشناقطة يتمثلون بعبارة الشمس اللقاني: "نحن قوم خليليون فإن ضلَّ ضللنا"... وتؤكد فتاوي القوم ونوازلهم فى القرون الأربعة الماضية أنهم قد حاولوا، مع ذلك، تطويع هذا الفقه لواقعهم المعيش وتفاعلاته المتغيرة وتكييف النصوص معه بما يتلاءم ومقاصد الشرع ومصالح العباد. ويحتل هذا الجانب حيزا هاما فى الخطاب الفقهي المهيمن على غيره من الخطابات الثقافية فى هذا البلد.
واعتبر أحمد بن الحسن، انطلاقا من أسانيد ومتون تلك الثقافة، أنها "كانت فى المنطلق امتداداً للثقافة العربية الإسلامية كما كرستها السنة المغربية الأندلسية، من أشعرية سنوسية فى العقائد، ومالكية خليلية فى الفقه، تساندها علوم اللغة المدونة فى المتون التعليمية خاصة مؤلفات ابن مالك فى النحو، والخطيب القزويني فى البلاغة...".
وتتضح هيمنة الرافدين المغربي والمصري على الثقافة الموريتانية من استعراض الأسانيد والمقررات الدراسية حيث كان الإقبال على الأسانيد المصرية أقوى خلال القرنين 15 و 16، بينما اشتد على الأسانيد المغربية فى القرون اللاحقة. وشكلت المساجد ومنازل كبار العلماء والكُتاب أهم مؤسسات تعليمية فى عهد هيمنة المدن الساحلية-الصحراوية على الحياة الثقافية، فى حين احتكرت المحضرة ووسطها الزاوي ذلك الدور
المحظرة وإشعاعها المعرفي :
إذا كانت البادية ربيبة الجهل والتخلف ونقيض الحضارة والمدنية فإن ظاهرة المحظرة الموريتانية التي نشأت في أحضان مجتمع بدوي، وعرفت ازدهارا ضاهي مؤسسات إسلامية ثقافية عريقة مثل الجامع الأزهري والقرويين جديرة بالدراسة، وبرهان ساطع على نسبية الأحكام.
وإن المحظرة الموريتانية مؤسسة طريفة حقا، فاللوح الخشبي وقلم السيال والحبر المصنوع من مشتقات معدنية محلية كلها أدوات بسيطة، وأصيلة قضت بها عبقرية الموريتاني على دياجير الجهل، وحققت بها ما حققته كبريات المدارس الإسلامية بما امتلكت من وسائل علمية متطورة حينها، وإذا كان طالب العلم في المشرق وحتى في بعض مناطق المغرب العربي يتخصص في فن معين فإن المحظري الموريتاني يأخذ من كل فن بطرف ليصبح موسوعة معارف، وكأن لسان حاله ينشد:
من كل فن تعلم تبلغ الأملا ولا يكن لك علم واحد شغلا
فالنحل لما رعت من كل يانعة أبدت لنا النيرين الشهد و العسلا
ومع ذلك فإن بعض المحظريين قد يكون أكثر شغفا بفن معين مما يجعله أكثر خبرة وشهرة في ذلك الفن.
وقد تميز أبناء المحظرة بالقدرة الفائقة على الحفظ والتذكر اذ لا يخرج الطالب المحظري إلا بعد حفظ أمهات المتون المعروفة في الثقافة العربية والإسلامية ، ويدل الإنتاج الثقافي الضخم الذي خلفه علماؤنا الأجلاء والذي شمل كافة مناحي الثقافة العربية والإسلامية وحتى العلوم البحتة من طب، وفلك، وحساب، وجغرافيا على مدى الازدهار الذي وصلت إليه المحظرة الشنقيطية .
وقد اشتهر أبناء المحظرة الموريتانية في المشرق وفي بلاد المغرب العربي بسعة العلم والذكاء مما جعلهم يتصدرون هنالك للفتوى، ومع كثرة الأسماء فإننا لا يمكن أن نذكر المحظرة إلا ونتذكر بكل اعتزاز وفخر أعلاما مثل:لمجيدري بن حبل ، سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، محمد يحيى الولاتي، محمد محمود بن اتلاميد، أحمد الأمين الشنقيطي ، الشيخ آب بن أخطور، أبناء ميابه، وغيرهم ممن يضيق المقام عن ذكرهم.
كما أن النضهة الأدبية التي عرفتها هذه البلاد وكان القرن الثالث عشر الهجري قرنها الذهبي ليست إلا احدى حسنات المحظرة، فالأسماء الشعرية المعروفة في موريتانيا وإلى اليوم إنما نشأت وترعرت في حضن المحظرة ومنها أخذت مادتها الثقافية وفصاحتها ولسانها العربي الأصيل.
وبفضل هذا الصرح الحضاري المتميز أنتشر الإسلام وتمدد إلى تخوم الغابة الإفريقية، وأوروبا عبر الأندلس وبقدر ما أنتشر الإسلام بقدر ما انشرت اللغة العربية.
ولم يعرف تأثير المحظرة في إفريقيا أي نوع من أنواع العنف وإنما كانت ثقافة الحوار والانفتاح والاستجابة الطوعية هي التي طبعت نوعية التأثير في شتى امتداداته الإشعاعية.
سمات المحضرة وخصائصها
المحضرة مؤسسة من مؤسسات التربية العربية الإسلامية الأصلية تحمل بعض خصائصها وسمات النظام التربوي الذي نشأ وازدهر في أحضان مدن الثغور وحواضر الخلافة والثقافة ولكنها تتميز بسمات هي فيها أبين وأبرز، أو هي خالصة لها دون غيرها من المؤسسات التربوية العتيقة.
ولعل أهم سمات المحضرة و أبرز خصائصها كونها :
1- جامعة تقدم للطالب معارف موسوعية في مختلف فنون المعرفة الموروثة وهي:
- القرآن: حفظه ورسمه، وتجويده وتفسيره ، وبقية علومه
- الحديث : متنه و مصطلحه ورجاله- العقيدة وعلم الكلام والتصوف
- الفقه: أصوله وقواعده وفروعه
- السيرة والتاريخ والأنساب
- الأخلاق وآداب السلوك
- اللغة والأدب: دواوين الشعر ، المتون النثرية (مثل المقامات)
- النحو والصرف
- العروض والقوافي
- البلاغة: المعاني والبديع والبيان
- المنطق
- أسرار الحروف
- الحساب والهندسة
- الجغرافيا و الفلك والطب
يتدرج الطالب في دراسة هذه المعارف من مستوى ابتدائي أو متوسط إلى أعلى مستويات التخصص .
2 والمحضرة كما وصفها لكرتوا : جامعة شعبية تستقبل كل من يرد عليها ، من جميع المستويات الثقافية ن والفئات العمرية والجنسية والاجتماعية ، تستقبل المبتدئ كما تستقبل العالم فتجدد له معارفه وتوسعها وتعمقها ، ويرتادها الطفل والشيخ والمرأة (وان بنظام) والفقير والموسر، تبذل لكل طالب ما يريد من ضروب المعرفة حسب مستواه الثقافي وهوايته وطاقة استيعابه. وهي لا تسد أبوابها ، وان عطلت الدراسة أياما معدودات، بل تستمر في العطاء على مدار السنين، وهي لا ترد طالبا لعدم وجود (مقاعد شاغرة) ولا تغلق أبوابها لقلة عدد الطلاب المنتسبين، فلا حد أدنى ولا حد أعلى للعدد الذي يقوم به نظام المحضرة، بل ينقص العدد أو يزيد تبعا لصيت الشيخ ومدى تفرغه، ويختلف باختلاف الفترات . وليس للطلبة سجل جامع يضبط أسماءهم ويحصر أعدادهم، لكن هناك مؤشرات دالة تستنتج منها أعداد الطلبة ولو على نحو تقريبي . من هذه المؤشرات جدول استعمال الزمن عند شيخ المحضرة، وعدد الأبقار والمواشي ونوبات رعاية الماشية، وعدد المؤبدين الذين تعولهم الأسرة الواحدة .
لقد اكتظت الصفراء بالطلبة حتى بلغ عدد أبقارهم 400، بينما كانت كل أسرة تعول ما بين طالب واحد و 5 طلاب مؤبدين، وفي ذلك إشارة إلى أن المحضرة كانت تضم مئات الطلاب.
وقد أقام الشيخ محمد حامد بن عبد الله الحسني 70 يوما في محضرة يحظيه بن عبد الودود، ولم يرع النوق خلال هذه المدة إلا مرة واحدة ، وجل الماشية البقر.
وكان في محضرة الشيخ محمد حامد ما بين 300 و 400 طالبا وحين جاء محمد مولود بن احمد فال محضرة محمد عالي بن سعيد (معي) وجد الألفية واحمرارها مفرقة في الألواح، تدرس جميعها في يوم واحد لكثرة التلاميذ.
وكان مختصر خليل يدرس كله موزعا في الألواح، في محضرة ( الكحلاء) خلال يوم واحد، فإذا اعتبرنا أن كل طالب يدرس (قفا) وجدنا عدد الطلبة الإجمالي 333 طالبا فإذا وضعنا في الحسبان أن بعض الطلبة أكثرهم يكتب أقل من (قف) وأن بعضهم يدرس حسب نظام الزمرة (الدولة) تعين أن يزيد العدد ربما إلى الضعف أو أكثر خصوصا أن المحضرة تدرس متونا أخرى غير مختصر خليل، كما أن حصص الطلبة من المختصر تتداخل وتتطابق أحيانا.
3 المحضرة جامعة بدوية متنقلة : ولعل تلك أبرز سماتها المميزة وحين نقول بدوية لا ينكر ما كان للحواضر من إشعاع ثقافي ، فقد احتضنت المحاضر أول أمرها ومنها انطلقت . وفيها تعيش إلى اليوم وان شاخت ولكننا نرمي إلى إبراز حقيقة تاريخية، وهي أن المحاضر ازدهرت وانتشرت وتبلورت شخصيتها في رحاب البادية، لا في المدن ... وليس لمؤسسة هذا شأنها أن تكون قارة ثابتة، بل هي حالة متر حلة متقلبة تقلب البدو في منتجعاتهم ومسارح إبلهم وأبقارهم .
وإلى هذه الميزة يشير الدكتور محي الدين صابر حيث يقول (أن نظام المحضرة نظام يكاد يكون دون نظير ، استنبط من واقع الحياة البدوية)
ويقول محمد المختار بن اباه في مقدمة ( الشعر والشعراء في موريتانيا) : (من الصعب على من لم ير المحاضر أن يتصورها، ذلك أن البداوة تقترن في الذهن بالغباوة والجهل فالثقافة جزء من الحضارة، ومراكز العلم والتدريس تقترن غالبا بالمعاهد والجامعات المشيدة التي اتصلت شهرتها بشهرة المدن التي تحتضنها غير أن المحاضر فريدة من نوعها ، ففي بعض أحياء البدو الذين ينتجعون المراعي متنقلين من ضفاف نهر السنغال إلى الساقية الحمراء تصادف شيخا كسائر البداة متقشفا في ملبسه ومظهره، لا يمتاز بشيء عن سكان الحي سوى مجموعة من الشباب تلتف حوله، يقل عددها ويكثر حسب الأزمنة تقيم تحت الشجر وفي أعرشة من خشب وثمام وحشائش، تقوضها وتعيد بناءها كلما ارتحل الشيخ).
حقا، لقد انطبع في ذهن الناس أن العلم ربيب الحضارة، فحسبوا الاستقرار في المناطق الحضرية واستيطان المدن شرطا في نمو المعارف واظدهار الحياة الثقافية، ولكن هؤلاء البدو استطاعوا أن يحققوا نهضة ثقافية نموذجية تحت الخيام وعلى ظهور العيس وفي مجاهل الصحراء . والواقع أن أغلب محاضر بلاد شنيقط هي جامعات متنقلة، تشتي في أرض وتصيف في أرض، تتنسم عبر تجوالها عبير الحرية في رحاب الصحراء الفيحاء، دون أن يكون ترحالها عقبة في وجه انتظام الدراسة . بل أن الطلبة وشيوخهم يجمعون إلى متعة العلم متعة السياحة، فلا تشغلهم الدراسة عن انتجاع الكلا وتتبع مساقط الغيث لتوفير أسباب الحياة في بيئة الموارد.
وقد افتخر المختار بن بونه (1220هـ/1804م) بهذه المزية فقال:
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهـــور العيس مدرسة بهــــا نبيــن دين الـله تبـــيانـــا
وكان المختار يجوب خلال السنة الواحدة مئات الأميال من شرق البلاد إلى غربها إلى شمالها، مع طلبته، كل ذلك وعقد الدراسة متصل غير منفصم.
وقد سجل أحد طلبته هذه الظاهرة فيما يشبه الشكوى:
لك الله من شيخ إذا ما تبوأت تلاميـذه مأوى لنـصب المــــدارس
تيمم ميمون الخصاصة فاترا على ظهر مفتول الذراعين عانــس
يفزع نون البحر طورا وتارة يهدم جحر الضب في(رأس مادس)
وكان الشيخ سيدي محمد بن حبت (1288هـ/1871م) مجوالا، فكانت محضرته (تلامذته وكتبه) تنتقل معه حيث سار، من شنقيط إلى السودان بل إلى مكة المكرمة، مرورا بالمغرب والجزائر وتونس ومصر.
وكما تتجول المحضرة بكامل هيئتها (لمرابط ، الطلبة، الحي) فقد يتجول شيخ المحضرة وحده، يبث العلم حيث أناخ جمله وحط رحله . وهذا شأن أغلب البلد وربما بعث حي من الأحياء إلى شيخ المحضرة فاستقدمه فأقام فترة وواصل إلى حي آخر ، كأنما هو أستاذ زائر يتنقل من جامعة إلى جامعة ليكفي الطلبة مشقة التنقل الجماعي.
وقد بعث اليعقوبيون إلى المختار بن بونه فأقام معهم يدرسهم علم الكلام وغيره،ويبدو أنه حل أيضا بمناطق القبلة فمكث يدرس زمنا ثم لم يلبث أن غادرها، وتلامذته، بعد، مشدودون إليه فساءهم أن يغادرهم إلى المناطق الشرقية فكتبوا إليه قصيدة عتب وملاطفة تبد أ هكذا:
إنما البوني غول وبه الريح تجول
وكان ابن بونه دائم الترحل من فوتة إلى تيرس ومن تكانت إلى القبلة . وكان الفقيه مولاي ابراهيم بن مولاي عمار يتنقل بين اكليميم في جنوب المغرب اليوم وآدارا وسط بلاد شنقيط والقبلة على ضفاف نهر السنغال. وسافر العلامة بابا بن احمد بن بابا بن محمد الحاجي، فاغترب لبذل العلم كما يغترب الشباب لطلبه وأنشأ يعلل نفسه:
ما كان من فعل من شطت به الدار يدرس العــلم ممن قبــلنا عار
إني-وان كان ذاك اليوم في زمني عارا-لتدريسه شطت بي الدار
قبلي قد اختار أهل العـــلم قاطبــة فعلي وإني لما اختاروا لمختار
4 تشترك المحضرة مع مؤسسات التعليم الاسلامي الأهلية القديمة في الصيغة التلقينية، فقد قامت الحياة العلمية العربية، منذ فجر الإسلام على التلقي من أفواه الرجال، واستمرت على ذلك حتى بعد ان انتشرت المخطوطات وكثرت دور الوراقة.
لقد أكد الشناقطة كثيرا على هذا الجانب، فكانوا يدعون إلى (تلقي العلم من أفواه الرجال ) ولا يثقون في الكتب وان اقتنوها لاحتمال الخطأ من المصنف ومن الناسخ.
ورغم أنهم تتلمذوا على ابن مالك وأحلوه مكانا مكينا في قلوبهم وتلقوا كل مصنفاته بالقبول والإقبال الصادق .فقد ظلوا يرددون أبيات أبي حيان فيه، يدعمون بها نظريتهم في ضرورة تلقي العلم من أفواه الرجال لا من بطون الكتب:
يظن الغمر أن الكتب تهدي أخــافهـــم لإدراك العــــــــلوم
وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيــــرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيـخ ضللت عن الصــراط المستقيموتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضل من (توما) الحكيم
وهكذا كانوا يطلبون الإجازة حتى في بعض الكتب المعدة للمطالعة لا للدرس، فيأخذون عن الشيخ إجازة في رواية مؤلفاته أو في رواية ( الشفا) للقاضي عياض مثلا.
ويروى أن محمد بن محمد سالم كان مقبلا على مطالعة الكتب مكتفيا بها إلى أن وقف في أحد الكتب على قولة مأثورة عند الشناقطة ( من أخذ الفقه من بطون الكتب غير الأحكام. ومن أخذ النحو من بطون الكتب لحن في الكلام ، ومن أخذ التوحيد من بطون الكتب خرج من الإسلام . ومن أخذ الطب من بطون الكتب قتل الأنام)... ما إن قرأ هذه الجمل حتى نفض يديه من الكتب وشد رحله يطلب المشايخ للأخذ عنهم.
وخلاصة القول أن الرواية هي أم الدراية في المحضرة الشنقيطية.
كان الجامع المؤسسة التعليمية العليا فى حواضر صحراء الملثمين التجارية. غير أن التحولات الجوهرية التى عرفها السياق الاقتصادي والسياسي والمؤسسي للثقافة الصحراوية فى ملتقى القرنين 16 و17 الميلاديين، إثر تحول مركز الثقل الاقتصادي والثقافي نحو السواحل الأطلسية والقرى والبوادى المرتبطة بها، قد أدت إلى انتقال الثقافة من المدن إلى الأرياف و احتضان المحضرة و وسطها الزاوي لها وسهرها على نشرها بدل المسجد.
وتعتبر المحضرة مؤسسة تعليمية عليا مفتوحة لا إكراه فيها، تعتمد فى تدريسها على التلقين، ويحتضنها وسط بدوي متنقل.
ويبدو من الأسانيد والمتون المعتمدة فى المحضرة الموريتانية أنها لا تختلف عن ما هو سائد فى مناطق الغرب الإسلامي الأخرى، حيث حلَّت مختصرات فروع المذهب المالكي- فى مجال الفقه- محل أمهاته حتى أصبح الفقهاء الشناقطة يتمثلون بعبارة الشمس اللقاني: "نحن قوم خليليون فإن ضلَّ ضللنا"... وتؤكد فتاوي القوم ونوازلهم فى القرون الأربعة الماضية أنهم قد حاولوا، مع ذلك، تطويع هذا الفقه لواقعهم المعيش وتفاعلاته المتغيرة وتكييف النصوص معه بما يتلاءم ومقاصد الشرع ومصالح العباد. ويحتل هذا الجانب حيزا هاما فى الخطاب الفقهي المهيمن على غيره من الخطابات الثقافية فى هذا البلد.
واعتبر أحمد بن الحسن، انطلاقا من أسانيد ومتون تلك الثقافة، أنها "كانت فى المنطلق امتداداً للثقافة العربية الإسلامية كما كرستها السنة المغربية الأندلسية، من أشعرية سنوسية فى العقائد، ومالكية خليلية فى الفقه، تساندها علوم اللغة المدونة فى المتون التعليمية خاصة مؤلفات ابن مالك فى النحو، والخطيب القزويني فى البلاغة...".
وتتضح هيمنة الرافدين المغربي والمصري على الثقافة الموريتانية من استعراض الأسانيد والمقررات الدراسية حيث كان الإقبال على الأسانيد المصرية أقوى خلال القرنين 15 و 16، بينما اشتد على الأسانيد المغربية فى القرون اللاحقة. وشكلت المساجد ومنازل كبار العلماء والكُتاب أهم مؤسسات تعليمية فى عهد هيمنة المدن الساحلية-الصحراوية على الحياة الثقافية، فى حين احتكرت المحضرة ووسطها الزاوي ذلك الدور
المحظرة وإشعاعها المعرفي :
إذا كانت البادية ربيبة الجهل والتخلف ونقيض الحضارة والمدنية فإن ظاهرة المحظرة الموريتانية التي نشأت في أحضان مجتمع بدوي، وعرفت ازدهارا ضاهي مؤسسات إسلامية ثقافية عريقة مثل الجامع الأزهري والقرويين جديرة بالدراسة، وبرهان ساطع على نسبية الأحكام.
وإن المحظرة الموريتانية مؤسسة طريفة حقا، فاللوح الخشبي وقلم السيال والحبر المصنوع من مشتقات معدنية محلية كلها أدوات بسيطة، وأصيلة قضت بها عبقرية الموريتاني على دياجير الجهل، وحققت بها ما حققته كبريات المدارس الإسلامية بما امتلكت من وسائل علمية متطورة حينها، وإذا كان طالب العلم في المشرق وحتى في بعض مناطق المغرب العربي يتخصص في فن معين فإن المحظري الموريتاني يأخذ من كل فن بطرف ليصبح موسوعة معارف، وكأن لسان حاله ينشد:
من كل فن تعلم تبلغ الأملا ولا يكن لك علم واحد شغلا
فالنحل لما رعت من كل يانعة أبدت لنا النيرين الشهد و العسلا
ومع ذلك فإن بعض المحظريين قد يكون أكثر شغفا بفن معين مما يجعله أكثر خبرة وشهرة في ذلك الفن.
وقد تميز أبناء المحظرة بالقدرة الفائقة على الحفظ والتذكر اذ لا يخرج الطالب المحظري إلا بعد حفظ أمهات المتون المعروفة في الثقافة العربية والإسلامية ، ويدل الإنتاج الثقافي الضخم الذي خلفه علماؤنا الأجلاء والذي شمل كافة مناحي الثقافة العربية والإسلامية وحتى العلوم البحتة من طب، وفلك، وحساب، وجغرافيا على مدى الازدهار الذي وصلت إليه المحظرة الشنقيطية .
وقد اشتهر أبناء المحظرة الموريتانية في المشرق وفي بلاد المغرب العربي بسعة العلم والذكاء مما جعلهم يتصدرون هنالك للفتوى، ومع كثرة الأسماء فإننا لا يمكن أن نذكر المحظرة إلا ونتذكر بكل اعتزاز وفخر أعلاما مثل:لمجيدري بن حبل ، سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، محمد يحيى الولاتي، محمد محمود بن اتلاميد، أحمد الأمين الشنقيطي ، الشيخ آب بن أخطور، أبناء ميابه، وغيرهم ممن يضيق المقام عن ذكرهم.
كما أن النضهة الأدبية التي عرفتها هذه البلاد وكان القرن الثالث عشر الهجري قرنها الذهبي ليست إلا احدى حسنات المحظرة، فالأسماء الشعرية المعروفة في موريتانيا وإلى اليوم إنما نشأت وترعرت في حضن المحظرة ومنها أخذت مادتها الثقافية وفصاحتها ولسانها العربي الأصيل.
وبفضل هذا الصرح الحضاري المتميز أنتشر الإسلام وتمدد إلى تخوم الغابة الإفريقية، وأوروبا عبر الأندلس وبقدر ما أنتشر الإسلام بقدر ما انشرت اللغة العربية.
ولم يعرف تأثير المحظرة في إفريقيا أي نوع من أنواع العنف وإنما كانت ثقافة الحوار والانفتاح والاستجابة الطوعية هي التي طبعت نوعية التأثير في شتى امتداداته الإشعاعية.
سمات المحضرة وخصائصها
المحضرة مؤسسة من مؤسسات التربية العربية الإسلامية الأصلية تحمل بعض خصائصها وسمات النظام التربوي الذي نشأ وازدهر في أحضان مدن الثغور وحواضر الخلافة والثقافة ولكنها تتميز بسمات هي فيها أبين وأبرز، أو هي خالصة لها دون غيرها من المؤسسات التربوية العتيقة.
ولعل أهم سمات المحضرة و أبرز خصائصها كونها :
1- جامعة تقدم للطالب معارف موسوعية في مختلف فنون المعرفة الموروثة وهي:
- القرآن: حفظه ورسمه، وتجويده وتفسيره ، وبقية علومه
- الحديث : متنه و مصطلحه ورجاله- العقيدة وعلم الكلام والتصوف
- الفقه: أصوله وقواعده وفروعه
- السيرة والتاريخ والأنساب
- الأخلاق وآداب السلوك
- اللغة والأدب: دواوين الشعر ، المتون النثرية (مثل المقامات)
- النحو والصرف
- العروض والقوافي
- البلاغة: المعاني والبديع والبيان
- المنطق
- أسرار الحروف
- الحساب والهندسة
- الجغرافيا و الفلك والطب
يتدرج الطالب في دراسة هذه المعارف من مستوى ابتدائي أو متوسط إلى أعلى مستويات التخصص .
2 والمحضرة كما وصفها لكرتوا : جامعة شعبية تستقبل كل من يرد عليها ، من جميع المستويات الثقافية ن والفئات العمرية والجنسية والاجتماعية ، تستقبل المبتدئ كما تستقبل العالم فتجدد له معارفه وتوسعها وتعمقها ، ويرتادها الطفل والشيخ والمرأة (وان بنظام) والفقير والموسر، تبذل لكل طالب ما يريد من ضروب المعرفة حسب مستواه الثقافي وهوايته وطاقة استيعابه. وهي لا تسد أبوابها ، وان عطلت الدراسة أياما معدودات، بل تستمر في العطاء على مدار السنين، وهي لا ترد طالبا لعدم وجود (مقاعد شاغرة) ولا تغلق أبوابها لقلة عدد الطلاب المنتسبين، فلا حد أدنى ولا حد أعلى للعدد الذي يقوم به نظام المحضرة، بل ينقص العدد أو يزيد تبعا لصيت الشيخ ومدى تفرغه، ويختلف باختلاف الفترات . وليس للطلبة سجل جامع يضبط أسماءهم ويحصر أعدادهم، لكن هناك مؤشرات دالة تستنتج منها أعداد الطلبة ولو على نحو تقريبي . من هذه المؤشرات جدول استعمال الزمن عند شيخ المحضرة، وعدد الأبقار والمواشي ونوبات رعاية الماشية، وعدد المؤبدين الذين تعولهم الأسرة الواحدة .
لقد اكتظت الصفراء بالطلبة حتى بلغ عدد أبقارهم 400، بينما كانت كل أسرة تعول ما بين طالب واحد و 5 طلاب مؤبدين، وفي ذلك إشارة إلى أن المحضرة كانت تضم مئات الطلاب.
وقد أقام الشيخ محمد حامد بن عبد الله الحسني 70 يوما في محضرة يحظيه بن عبد الودود، ولم يرع النوق خلال هذه المدة إلا مرة واحدة ، وجل الماشية البقر.
وكان في محضرة الشيخ محمد حامد ما بين 300 و 400 طالبا وحين جاء محمد مولود بن احمد فال محضرة محمد عالي بن سعيد (معي) وجد الألفية واحمرارها مفرقة في الألواح، تدرس جميعها في يوم واحد لكثرة التلاميذ.
وكان مختصر خليل يدرس كله موزعا في الألواح، في محضرة ( الكحلاء) خلال يوم واحد، فإذا اعتبرنا أن كل طالب يدرس (قفا) وجدنا عدد الطلبة الإجمالي 333 طالبا فإذا وضعنا في الحسبان أن بعض الطلبة أكثرهم يكتب أقل من (قف) وأن بعضهم يدرس حسب نظام الزمرة (الدولة) تعين أن يزيد العدد ربما إلى الضعف أو أكثر خصوصا أن المحضرة تدرس متونا أخرى غير مختصر خليل، كما أن حصص الطلبة من المختصر تتداخل وتتطابق أحيانا.
3 المحضرة جامعة بدوية متنقلة : ولعل تلك أبرز سماتها المميزة وحين نقول بدوية لا ينكر ما كان للحواضر من إشعاع ثقافي ، فقد احتضنت المحاضر أول أمرها ومنها انطلقت . وفيها تعيش إلى اليوم وان شاخت ولكننا نرمي إلى إبراز حقيقة تاريخية، وهي أن المحاضر ازدهرت وانتشرت وتبلورت شخصيتها في رحاب البادية، لا في المدن ... وليس لمؤسسة هذا شأنها أن تكون قارة ثابتة، بل هي حالة متر حلة متقلبة تقلب البدو في منتجعاتهم ومسارح إبلهم وأبقارهم .
وإلى هذه الميزة يشير الدكتور محي الدين صابر حيث يقول (أن نظام المحضرة نظام يكاد يكون دون نظير ، استنبط من واقع الحياة البدوية)
ويقول محمد المختار بن اباه في مقدمة ( الشعر والشعراء في موريتانيا) : (من الصعب على من لم ير المحاضر أن يتصورها، ذلك أن البداوة تقترن في الذهن بالغباوة والجهل فالثقافة جزء من الحضارة، ومراكز العلم والتدريس تقترن غالبا بالمعاهد والجامعات المشيدة التي اتصلت شهرتها بشهرة المدن التي تحتضنها غير أن المحاضر فريدة من نوعها ، ففي بعض أحياء البدو الذين ينتجعون المراعي متنقلين من ضفاف نهر السنغال إلى الساقية الحمراء تصادف شيخا كسائر البداة متقشفا في ملبسه ومظهره، لا يمتاز بشيء عن سكان الحي سوى مجموعة من الشباب تلتف حوله، يقل عددها ويكثر حسب الأزمنة تقيم تحت الشجر وفي أعرشة من خشب وثمام وحشائش، تقوضها وتعيد بناءها كلما ارتحل الشيخ).
حقا، لقد انطبع في ذهن الناس أن العلم ربيب الحضارة، فحسبوا الاستقرار في المناطق الحضرية واستيطان المدن شرطا في نمو المعارف واظدهار الحياة الثقافية، ولكن هؤلاء البدو استطاعوا أن يحققوا نهضة ثقافية نموذجية تحت الخيام وعلى ظهور العيس وفي مجاهل الصحراء . والواقع أن أغلب محاضر بلاد شنيقط هي جامعات متنقلة، تشتي في أرض وتصيف في أرض، تتنسم عبر تجوالها عبير الحرية في رحاب الصحراء الفيحاء، دون أن يكون ترحالها عقبة في وجه انتظام الدراسة . بل أن الطلبة وشيوخهم يجمعون إلى متعة العلم متعة السياحة، فلا تشغلهم الدراسة عن انتجاع الكلا وتتبع مساقط الغيث لتوفير أسباب الحياة في بيئة الموارد.
وقد افتخر المختار بن بونه (1220هـ/1804م) بهذه المزية فقال:
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهـــور العيس مدرسة بهــــا نبيــن دين الـله تبـــيانـــا
وكان المختار يجوب خلال السنة الواحدة مئات الأميال من شرق البلاد إلى غربها إلى شمالها، مع طلبته، كل ذلك وعقد الدراسة متصل غير منفصم.
وقد سجل أحد طلبته هذه الظاهرة فيما يشبه الشكوى:
لك الله من شيخ إذا ما تبوأت تلاميـذه مأوى لنـصب المــــدارس
تيمم ميمون الخصاصة فاترا على ظهر مفتول الذراعين عانــس
يفزع نون البحر طورا وتارة يهدم جحر الضب في(رأس مادس)
وكان الشيخ سيدي محمد بن حبت (1288هـ/1871م) مجوالا، فكانت محضرته (تلامذته وكتبه) تنتقل معه حيث سار، من شنقيط إلى السودان بل إلى مكة المكرمة، مرورا بالمغرب والجزائر وتونس ومصر.
وكما تتجول المحضرة بكامل هيئتها (لمرابط ، الطلبة، الحي) فقد يتجول شيخ المحضرة وحده، يبث العلم حيث أناخ جمله وحط رحله . وهذا شأن أغلب البلد وربما بعث حي من الأحياء إلى شيخ المحضرة فاستقدمه فأقام فترة وواصل إلى حي آخر ، كأنما هو أستاذ زائر يتنقل من جامعة إلى جامعة ليكفي الطلبة مشقة التنقل الجماعي.
وقد بعث اليعقوبيون إلى المختار بن بونه فأقام معهم يدرسهم علم الكلام وغيره،ويبدو أنه حل أيضا بمناطق القبلة فمكث يدرس زمنا ثم لم يلبث أن غادرها، وتلامذته، بعد، مشدودون إليه فساءهم أن يغادرهم إلى المناطق الشرقية فكتبوا إليه قصيدة عتب وملاطفة تبد أ هكذا:
إنما البوني غول وبه الريح تجول
وكان ابن بونه دائم الترحل من فوتة إلى تيرس ومن تكانت إلى القبلة . وكان الفقيه مولاي ابراهيم بن مولاي عمار يتنقل بين اكليميم في جنوب المغرب اليوم وآدارا وسط بلاد شنقيط والقبلة على ضفاف نهر السنغال. وسافر العلامة بابا بن احمد بن بابا بن محمد الحاجي، فاغترب لبذل العلم كما يغترب الشباب لطلبه وأنشأ يعلل نفسه:
ما كان من فعل من شطت به الدار يدرس العــلم ممن قبــلنا عار
إني-وان كان ذاك اليوم في زمني عارا-لتدريسه شطت بي الدار
قبلي قد اختار أهل العـــلم قاطبــة فعلي وإني لما اختاروا لمختار
4 تشترك المحضرة مع مؤسسات التعليم الاسلامي الأهلية القديمة في الصيغة التلقينية، فقد قامت الحياة العلمية العربية، منذ فجر الإسلام على التلقي من أفواه الرجال، واستمرت على ذلك حتى بعد ان انتشرت المخطوطات وكثرت دور الوراقة.
لقد أكد الشناقطة كثيرا على هذا الجانب، فكانوا يدعون إلى (تلقي العلم من أفواه الرجال ) ولا يثقون في الكتب وان اقتنوها لاحتمال الخطأ من المصنف ومن الناسخ.
ورغم أنهم تتلمذوا على ابن مالك وأحلوه مكانا مكينا في قلوبهم وتلقوا كل مصنفاته بالقبول والإقبال الصادق .فقد ظلوا يرددون أبيات أبي حيان فيه، يدعمون بها نظريتهم في ضرورة تلقي العلم من أفواه الرجال لا من بطون الكتب:
يظن الغمر أن الكتب تهدي أخــافهـــم لإدراك العــــــــلوم
وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيــــرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيـخ ضللت عن الصــراط المستقيموتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضل من (توما) الحكيم
وهكذا كانوا يطلبون الإجازة حتى في بعض الكتب المعدة للمطالعة لا للدرس، فيأخذون عن الشيخ إجازة في رواية مؤلفاته أو في رواية ( الشفا) للقاضي عياض مثلا.
ويروى أن محمد بن محمد سالم كان مقبلا على مطالعة الكتب مكتفيا بها إلى أن وقف في أحد الكتب على قولة مأثورة عند الشناقطة ( من أخذ الفقه من بطون الكتب غير الأحكام. ومن أخذ النحو من بطون الكتب لحن في الكلام ، ومن أخذ التوحيد من بطون الكتب خرج من الإسلام . ومن أخذ الطب من بطون الكتب قتل الأنام)... ما إن قرأ هذه الجمل حتى نفض يديه من الكتب وشد رحله يطلب المشايخ للأخذ عنهم.
وخلاصة القول أن الرواية هي أم الدراية في المحضرة الشنقيطية.