في قريّة شتمة للدكتور سليم قلالة
في قرية شتمة
قرية "شتمة" قرية صغيرة ولكنها عريقة البنيان والتقاليد، بها مزيج من العائلات قدمت إليها من مختلف المناطق المجاورة واستقرت في تآخي وتناغم تامين. هندستها المعمارية تشبه المدن بمركز تتوسطه ساحة كبيرة يُطلق عليها اسم "الجماعة"، حيث كانت بالفعل مكانَ اِلتقاءٍ يومي لسكان المدينة، تحيط بها دكاكين ومقاهي صغيرة.
وأنت نازل من الحوش العالي حيث كنت أقيم في مسكن أخوالي مع خالتي وأخي، وحيث وُلدَتْ أمي، تمر أولا أمام ضريح سيدي أحمد بلقاسم، حيث بُني هناك مسجد، كنا نتعلم في زاوية منه القرآن الكريم، وبعده مباشرة مسكن المؤذن، ثم دار عائلة حطاب ومنها السقيفة التي سميت بسقيفة حطاب نسبة للعائلة التي كانت تسكنها، و مباشرة منها تنزل منحدرا لبضعة أمتار ليقابلك أولا دكان عمي "بشّا"، وفي الزاوية المقابلة له دكان "عمي حفناوي" وقد فتح بابه على ساحة الجماعة حتى لا يقابل حانوت عمي"بشّا".
أما في الجهة المقابلة من ساحة الجماعة، فقد كان هناك الحلاق، ومقهى عمي مدني، أما حانوت بائع الفول وشاري التمر بالكيلوغرام الذي تداولت عليه عدة أسماء فكان في الجهة اليمنى المقابلة، و إلى جانبه كان أحد المهاجرين القادمين للتو من فرنسا بعد الاستقلال يضع بعض صناديق الفاكهة المنظمة على الطريقة الفرنسية، إلا أن أحدا لم يكن ليشتري منه حتى توقف عن تجارته الغريبة تلك في تلك القرية.
كان دكان عمي حفناوي أكبر وبه محسب ويبيع كل ما يحتاجه سكان القرية، بما في ذلك الشاي لزبائنه، لذلك كانت به رائحة خاصة.
كانت أمام باب دكان عمي حفناوي "دكانة صغيرة" يجلس عليها في العادة مجموعة من الرجال على إبريق شاي يعده خصيصا لهم بنفسه. كان الإبريق يشد ناظري دوما، إنه مستدير ومطلي باللون الأزرق الغامق، وبه بقع سوداء نتيجة ذهاب الطلاء عنها.
كنت ألاحظ عمي حفناوي وهو يطبخ الشاي على "البابور النحاسي" كان يزن الشاي بمقدار ثم يزن السكر بمقدار ويغلي الماء ثم يخلط الشاي بطريقته التي لا تتغير أبدا. لم يكن مذاق الشاي لديه يتغير قط، فهو يقيس الخلطة بالغرامات لتكون في مستوى ذوق زبائنه. وحتى إن أردت أن تطبخ شاي عمي حفناوي في بيتك فإنك تستطيع، إنه لا يبيع لك الشاي وحده والسكر وحده بل يبيعك الخلطة بالمقادير التي يعرفها وما عليك إلا أن تتم البقية. كان خالي الصالح أحيانا يطلب مني أن اشتري له الخلطة من عمي حفناوي، وكنت أسعى أن ألحظ ما يضع في الميزان، مرة واحدة استطعت أن أراه يضع50 غرام شاي ولكنني لم استطع أن أعرف كم وضع من السكر. كان مَحسب الدكان أعلى من أن أرى كل شيء. ولكني كنت استمتع بالشراء من عنده رحمه الله.
وأمام دكانه كنت أتلقى دائما المديح من ذلك المجاهد معطوب الحرب، عمي كلاشة مسعودي، الذي كان يخاطبني: دوما جيش التحرير أو فلاق ؟ وبكل تأكيد كان يعرف أن والدي استشهد في الثورة، وبكل تأكيد أن ساقه المقطوعة إنما كانت خلال معركة من المعارك. كنت أحس بأنه يفخر بي ويحميني، وبكل تأكيد لا يسمح أن أعامل كيتيم الأب أو دون بقية الأطفال. لعل هذا أكبر ما أحسست به في قرية "شتمة" التي قضيت بها سنوات طفولتي الأولى. كان هناك أطفال آخرون عادة ما يتعرضون "للحقرة" من قبل أترابهم، أو يحسون بأنهم بدون قوة تحميهم. أما أنا فكنت أحس بأني تحت الحماية التامة حيثما ذهبت خاصة عندما أمر بحانوت عمي حفناوي وأعبر ساحة الجماعة وأدخل سقيفة سي محمود. هناك كنت أشعر بأني في داري الثانية بل لم أكن أفرق بينها وداري الأولى التي تقع غير بعيد...
في دار عروسي
كانت سقيفة سي محمود لعائلة عروسي. وكانت أقرب العائلات إلينا، إلى خالتي ووالدتي. كنت أذهب إلى أفرادها باستمرار، أحيانا لأحمل وصية من خالتي و أخرى لأجلب "الرُّقاق"[1] الذي تم إعداده لنا. لم تكن خالتي تستطيع أن تطبخ رقائق الخبز ـ الرقاق ـ التي هي أكلنا اليومي تقريبا، كانت يداها مريضتان، فكانت ترسل معي الدقيق إلى دار عائلة عروسي، لأعيده بعد فترة قليلة وقد طُبخ على كانون الحطب. كانت خالتي "فطيمة" وهي أرملة شهيد تراني وأخي كابنيها، عبد القادر(قادة) وتِبرة (من التّبر)، تحس بنا تماما وكأننا أبناؤها. إنها تشعر بما تشعر به أمي تماما، ولذا فهي تتعاطف معنا كل التعاطف.
كنت أسمع خالتي فطيمة تتحدث عن مأساتها. إنها ليست مثل أمي، لم ير أحد جثمان زوجها، ولا عرف قبره. لقد أرسل لها جيش التحرير تعزية عليها علم الجزائر، بأن زوجها قد استشهد في ساحة الوغى. كنت أراها دائما تُظهرها لصديقاتها ممن يطرحن عليها السؤال. كانت تتحسر أنها لم تر جثمان زوجها الشهيد. بل كانت تتحسر لأن أم زوجها لم تعترف يوما بأن ابنها لن يعود. كانت دوما تقول بأن ابنها مفقود رغم أن والده سي الحفناوي معلمنا في الكُتّاب قد كان متأكدا بأن ابنه قد التحق بالرفيق الأعلى. كان يبكيه بقلبه وقد ابيضت عيناه. ولم يكن يستطيع نسيانه حتى وافته المنية. ولعل عزاؤه الوحيد أن حفيده عبد القادر الذي نناديه نحن "قادة" قد حفظ القرآن الكريم وهو طفل صغير.
كنت أعرف أن جده هو معلمنا لأنه كان أحيانا يطلب منه أن يحفظنا القرآن الكريم ويسهر على ذلك. كنت في دار عائلة عروسي أحس بأنني في داري. بل لم أكن أعرف حتى كبرت أنه لم تكن بيننا رابطة دم، كنت أظن أنهم أخوالي أو أعمامي لدرجة الاتصال التي كانت بيننا، فكل من فيها من النساء ينادينني باسم "حكيّم" تصغير لـ"حكيم". وكلهم كانوا يفخرون بأني كنت فطنا سريع البديهة معهم خاصة عندما كنت أجلس استرق السَّمع إلى أحاديثهم النسوية.
كانت خالتي ونّاسة زوجة عمي مسعود عروسي هي أقرب الناس لي بعد خالتي فطيمة، أذكر أنها أعطتني من دارها في أحد الأيام، و في فصل الشتاء، حبات رمان لي ولأمي، إنها تقوم بحفظه في مكان جاف حتى تيبس قشرته ليؤكل في فصل الشتاء. مازلت إلى اليوم أذكر تلك الرمّانات ومذاقها، وكأنني تسلمت شيئا نادرا...
كما مازلت إلى اليوم أذكر طعم "البركوكس" الذي كانت تطبخه إحدى نساء دار عروسي ومن بينهن خالتي "قطوشة" التي كانت تعده بالبرْزْقالة Purslaneليأخذ ألذ طعم عرفته في طفولتي. كنت أحمل طبق البركوكس وأجري إلى الدار لآكله مع أخي وخالتي غداء أو عشاء.
لم يكن هناك أفضل من بركوكس دار عروسي كانت خالتي صحراء تقول ذلك في كل مرة، ومن ذلك الحين لم اشته بركوكس إلا بالبرزقالة.
السقيفة
كنت من دار عروسي عادة ما أمر مسرعا إلى بيتنا بالحوش العالي، كانت ساحة الجماعة مخصصة أكثر للكبار، بها أربع سقائف بعدد الشوارع التي تلتقي بها: سقيفة السور، وسقيفة سي محمود، وسقيفة حطاب، وسقيفة جدّي عمار. أما الأطفال فمكانهم أعلى الحوش أو سقيفة دار حطاب. كان ما يشدني في ساحة الجماعة في الجهة المقابلة ذلك الباب الكبير لمسكن عائلة غرسة. لم يكن الباب في حد ذاته هو الذي يشدني إنما الساحة التي خلفه والتي من خلالها يمكن المرور إلى دار الغراسة. وهذه الساحة بالذات هي التي شاهدت بها أولى أفلام السينما في حياتي.
كانت شاحنة السينما تأتي بين الحين والآخر للقرية بل كانت هناك شاحنتان واحدة لصاحبها المعروف بالقنطري[2] والأخرى لصاحبها المعروف بسي اسماعيل. كانت سينما القنطري تأتي من غير موعد تٌلصق صورة الفيلم على الحائط ـ قبل الدخول إلى سقيفة جدي عمار ـ ونقوم نحن الأطفال بالدعاية لها. كانت تقوم بدورة حول القرية تنطلق من مدخل سقيفة جدي عمار على الطريق الرئيسي لتمر عبر المقهى البرّانية فطريق السور أسفل الحوش العالي فعودة مرة أخرى لساحة الجماعة ثم الخروج من سقيفة جدي عمار. كانت تسير نحو الكيلومترين وكنا نتبعها بالصياح طوال هذه المسافة مرددين " هايْ جاتْ السينما" (لقد جاءت السينما)، ليسمع جميع سكان القرية بذلك حتى أولئك الذين كانوا في مزارعهم البعيدة.
كان سعر الدخول 50 سنتيما. لم يكن من السهولة الحصول عليها.أحيانا كنا نجمع السنتيمات مع مر الأيام، وأحيانا أخرى كنا نحصل عليها هدية من أحد الكبار. كانت معظم الأفلام هندية بحيث كان يراها الأطفال والرجال معا، وأغلبها من نوع المغامرات المثيرة، يمثل بطولتها في الغالب الاسم الذي مازلت أذكره" دارا سينغ"، أحيانا تقدم أفلام "زورو" وأفلام مغامرات حقبة الستينات مثل "طرازان".
أذكر أننا كنّا في موسم جني التمور، نسعى لجمع بقايا التمور التي بقيت ملتصقة بين جريد النخيل " نُنَفر" التمر، (كانت العبارة تُستخدم بهذه الصيغة)، أو نلتقط ما تسقطه الرياح من العراجين ونبيع الكيلوغرام منها بعشرين سنتيما لنجمع بعض الأموال نحتاجها أحيانا للدخول إلى السينما، أبدا ما كنّا نقذف العراجين بالحجارة لتُساقط علينا تمرها رغم حاجتنا للنقود. أما الجلوس داخل الساحة فكان كما كان الحال، على الأرض مباشرة أو فوق حجارة ملساء أو على قطع خشبية أو ألواح بِناء، ونادرا ما نرى أحد الرجال يحمل كرسيا قابلا للطي يجلس عليه. إلا أن المشاهدة كانت رائعة.
لم تكن هذه وسيلة الترفيه الوحيدة بالقرية، كانت الأعراس هي الأخرى مناسبة للّهو والمرح. لم تكن أعراس القرية تمر من غير الطبل والزرنة[3]، وفي بعض الأحيان كان أهل العرس يأتين بالراقصات المحترفات، إلا أن هذا السلوك لم يكن مُعمّما، فالعائلات المحافظة لم تكن تقبل أن يتم دعوة الراقصات المحترفات، بل كانت أفراح النساء تتم بمعزل عن الرجال تماما. أما الأسر المتدينة فكانت تعزم "الإخوان" للمديح أثناء الولائم والأعراس والمناسبات الدينية.
كانت القرية بهذا الشكل حية ثقافيا بطريقتها، خاصة في المناسبات الدينية والأعياد.
لم يكن المولد النبوي الشريف يمر من غير احتفال مميز في المسجد، كنا نذهب مع الكبار بعد صلاة العشاء لنحضر الحفل الديني الذي كان يُنظّم في كل عام. كانت تُوزّع علينا الحلويات ونشرب الشاي بعد نهاية الحفل. كانت العائلات ترسل إلى المسجد ما استطاعت من أطعمة وشاي وكاوكاو وحلويات. إلا أننا لم نكن نراها إلا بعد انتهاء الموعظة الدينية ثم الاستماع إلى القصائد التي كانت تُنشَد في مدح رسول الله عليه الصلاة والسلام. وفي اليوم الموالي كان "لَخوان" يتعشون في منزل الشيخ "سي الحفناوي"، "أَنْعَمْ سيدي" [4]، معلمنا في الكتاب وهناك أيضا كانوا يتحلّقون في إحدى الغرف أعلى الدار ويشرعون في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم. كان حضور "لَخوان" في البيت حدثا هاما لم يكن من الممكن تركه يمر من غير الاحتفال به.
الطلبة
ولم تكن هذه هي المناسبة الوحيدة التي نسمع فيها قصائد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كنا نحن الأطفال نُلَقّن بعضها ونطوف بكافة منازل القرية نُلْقيها على مسامع كافة العائلات. كنا نسمي ذلك باسم طلبة القرآن الكريم "الطلبة"، إلا أننا كنا نحن الأطفال نعتقد أن التسمية لها علاقة بطلب الصدقة فكنا نسميها "الطََلْبة" بفتح الطاء، ذلك أن العائلات التي كنا نمر بها كانت في العادة تكرمنا ببعض الهدايا للمسجد وللمعلم، أَنْعَمْ سيدي. حبات بيض، عرجون تمر، حفنة أو حفنتين من الدقيق، بعض الفريك، ونادرا قليل من المال... كنا نضعها في كفتي "زنبيل"[5] على ظهر الحمار الذي كان يتبعنا.
كان يوم "الطلبة" يوما مشهودا، عيد بغير عيد لنا نحن الأطفال. التحضير له يبدأ قبل أسبوع أو أكثر، حيث كنا نتنافس على ختم بعض السور من القرآن الكريم. الكبار يختمون حزبا جديدا أو أكثر، والصغار يختمون سورة " الإخلاص" أو "البيّنة" أو "الأعلى" أو "الربع" كل حسب المرحلة التي وصل إليها. كان أَنْعَمْ سيدي يمتحننا في الحفظ قبل أن يسمح لنا بالخَتمة. وعندما نختم يسمح لنا بتزيين لوحة الحفظ كيفما نشاء برسوم فسيفسائية غالبا ما تكون على شكل مربعات صغيرة. كنا نملأ تلك المربعات بـ "السمق"[6] الأسود الذي نكتب به على اللوح ونخالف بينها، حيث تظهر بعضها سوداء وأخرى مناصفة وثالثة بها بعض النقاط. وقد كان بعض الأطفال يقضون الساعات وهم يقومون بعملية التزيين هذه لألواحهم. وكانت كل هذه العملية تسمى بـ "التَّزْواق".
بعد" التَّزْواق يختار "أنعم سيدي" أفضل اللوحات ويُرشّحها لكي تزور مساكن القرية. ويكتب على الجهة الأخرى منها آخر الحزب أو السورة التي حفظها الطفل.
ليلة الشروع في جولة " الطلبة" تهيؤنا أمهاتنا، فنغتسل ونحضر أفضل ما عندنا من ثياب. لقد كانت خالتي "أمة صحراء" حريصة أن أبدو وأخي في أحسن الملابس خاصة وأن سكان القرية جميعهم يعرفون بأنها خيّاطة ماهرة، وقد برعت في ذلك حتى في تونس. كما كانت تحضر لنا "مناديل" ملونة نضعها حول رقبتنا في الصباح. وبالرغم من أن الاستحمام كان شاقا بالنسبة لنا إلا أننا في الصباح كنا نحس بسعادة كبيرة ونحن مستعدون لجولة "الطلبة".
كان حمّامنا عبارة عن قصعة نحاسية كبيرة تضعها خالتي وسط الغرفة التي كنا ننام بها أنا وأخي وهي. كانت غرفة مظلمة لا نافذة بها جدرانها من الطين وسقفها من جذوع وأغصان النخيل، وأرضها تراب كما حيطانها. لحد اليوم لم أنس ذلك الخوف الذي كان يعتريني كل ليلة عندما آوي إلى الفراش. كانت إحدى الأخشاب التي صُنعت من جذوع النخيل قد انكسرت وهي في السقف. كنت أخال بأنها ستسقط على رأسي في كل لحظة خاصة وأن السقف كان قريبا. وفي كل ليلة كنت أحس بانقباض شديد عندما أراها، وأمعن النظر فيها لأرى ما إذا كان الشرخ الذي أصابها قد ازداد أم بقي على حاله. ومع ذلك فإن خالتي كانت تطمئنني بأن شيئا لن يحدث. وبالفعل لم يسقط السقف على رؤوسنا وغادرنا ذلك المنزل والخشبة على حالها، إلا أن سقطت الغرفة كليا فيما بعد..
كانت خالتي تضع القصعة وسط هذه الغرفة وتحضر دلو الماء الساخن ونغتسل فيها أحيانا قعود في الماء الذي تجمع تحت أقدامنا وأحيانا وقوف لنرش الماء على رؤوسنا، ومن القصعة النحاسية مباشرة إلى الفراش، للنهوض في الصباح ونحن على أحسن حال وقد نسينا الخوف من الاغتسال بالماء في قصعة النحاس، خاصة ما إذا كان الجو باردا والحطب قليلا لتسخين الماء. وفي الصباح كانت أول ما تقوم به خالتي هي أن ترش ساحة الدار بماء الغسيل حتى تقلل من تطاير الغبار. لم تكن هذه الخالة تبذر أي شيء أو لا تسترجعه.
في الصباح الباكر نتجه مسرعين نحو الكُتاب لنتجمع، كل ينظر إلى المنديل الذي حول رقبته ويتباهى به، كنت دوما أحب المنديل الأحمر الذي تعطيه لي خالتي ، كانت بعض الرسومات السوداء التي به تعجبني خاصة عندما تضعه على رأسها أو لعله كان يشبه المنديل الذي تضعه والدتي على رأسها. كانت تسميه "محرمة شامي" ولم أكن أعرف آنذاك بأن التسمية لها علاقة بالشام.
عندما يجتمع أغلب الأطفال " الطلبة" أمام الكُتّاب، ويتم وضع "الزنبيل" على ظهر الحمار، نشرع في جولتنا عبر برنامج محدد، نعرف من أي حي ومن أي دار نبدأ ومن أي دار ننتهي، وأحيانا كان يوم واحد لا يكفي فنُتم الجولة في اليوم الموالي.
كنا ننقسم في الواقع إلى أربع مجموعات، تتكفل الأولى بحمل أحسن الألواح القرآنية المزينة لأفضل الأطفال، وكانت تتشكل من أصغرنا لأنها كانت تدخل إلى البيوت حيث يجلس النسوة وأحيانا حيث يكونون بصدد تحضير الغذاء، وقد كنت أنتمي في الغالب إلى هؤلاء، فأغلب نساء القرية يعرفونني باسمي ويعرفون والدتي وكل شيء عن حياتي تقريبا، وكنت أسعد دوما عندما أرى علامات الإعجاب بادية بتقدمي في حفظ القرآن وأنا من أصغر الطلبة. أما المجموعة الثانية فكانت تتكفل بترديد بعض القصائد والأدعية بصوت عال، ومازال راسخا بذهني ذلك الدعاء الذي كنا نردده بكثرة:" الحمد لله الذي علّمنا وبنبيّيه كرمنا". وتكتفي المجموعة الثالثة بترديد عبارة " اللهم آمين" بعد كل دعاء. وأحيانا كانت النسوة تطلب منا أن ندعو لهن أدعية خاصة، كأن يرزقهن الله بمولود ذكر أو يخفف عنهن المرض، وكنا نفعل ذلك وأحيانا نبتكر في الحين دعاء لصاحب البيت كأن نرفع صوتنا عاليا بالقول: "هذي دار بلا قفل يا ربي أعطيها طفل" عندما تكون المرأة تنتظر ولدا ذكرا وترغب في ذلك..
أما المجموعة الرابعة فكانت تكتفي برعاية الحمار ومنع أي كان من الاقتراب من الهدايا التي نجمع. وكان " أَنْعَمْ سيدي" يكلف بها في العادة أكبرنا على الإطلاق والأقدر على حماية "الحمولة" التي هي ثمينة من غير شك رغم بساطتها. وأحيانا كانت تتشكل مجموعة "متمردة" تتفرغ للتشويش و رفع شعارات مناهضة أمام المساكن التي لا تعطي شيء لـ " أَنْعَمْ سيدي "وللطلبة.
كنا نعود بعد انتهاء الجولة إلى المسجد مرهقين، نضع ألواحنا، ونسرع إلى بيوتنا وإلى اغتنام ما بقي لنا من يوم لنمرح ونلعب.
المرح
لم تكن ألعابنا في قرية شتمة محدودة، كنا في كل يوم نبتكر الجديد، عشرات الألعاب كنا ننظمها وفي كل مرة يأتينا الجديد، لست أدري كيف ولكن ذلك يحدث، من ألعاب الجري إلى ألعاب " المخيم" و"السجن" إلى ألعاب " المسدسات" الخشبية، إلى ألعاب الذاكرة، و صنع الطائرات وآلات التصوير الورقية التي مازلت أصنعها لابنتي إلى اليوم، وتعجب بها، والفخاخ التي كنا نسميها "تْرَكَّات"، و"السّيق" الذي كان يشترك فيه معنا الكبار، والاستماع إلى القصص التي يرويها لنا من زاروا المدينة أو شاهدوا السينما...
ولعل ألعاب "المخيم" و"السجين" التي كنا نسميها كما تنطق بالفرنسية "camp-prison" ولا نعرف معناها بالعربية آنذاك هي أشهرها. كان السجن عبارة عن نصف دائرة نرسمها على الأرض قبالة حائط منزل معين، والمخيم عبارة عن نصف دائرة أخرى نرسمها قبالة حائط آخر غير بعيد. وكنا نتنافس من يحرر سجناءه، ومن يكون لديه أسرى من الفريق الخصم. وأحيانا تأخذ منا اللعبة أمسية كاملة. أما صناعة الطائرات الورقية فمازلت أذكر الطفل سعيد حطاب الذي كان بارعا في صناعتها. كان يضع لها مقدمة بطريقة جد محكمة. و كان يُدخل ذيلها في المقدمة ليأخذ مكانه من غير غراء. وكانت طائراته تطير وتبقى أطول من غيرها في السماء. وكنا نتسابق من يفوز بطائرة من عنده. ويوم يأتي موسم الألعاب الورقية لن تجد في ساحة القرية مكانا إلا للأطفال ومصنوعاتهم الجديدة والمبتكرة..
أما أفضل الألعاب التي كانت تستهويني فهي لعبة "الزلبيحة". حيث كان يفوز فيها من يضع ثلاث حجارة على خط واحد في مربع مقسم إلى 8 مثلثات. وكان أحد الكبار قد علّمني طريقة أن من يضع القطعة الأولى في المركز يستحيل أن يفوز عليه المنافس. وأصبحت أتحدى بها أيا كان شريطة أن ابدأ باحتلال المركز. ولم تفشل الطريقة مرة واحدة فقد كانت صحيحة ومجربة تماما. فضلا عن هذه الألعاب كنا كثيرا ما نجلس نتجاذب أطراف الحديث قرب منازلنا وخاصة في "سقيفة حطاب" وكثيرا ما كانت النوادر أو التعاليق على بعضنا البعض تأخذ القسط الوافر.
لم أذكر أنني تشاجرت مع أترابي إلا ما كان غير ذي معنى، عكس ذلك كان لي أصدقاء أحبهم كثيرا ويحبونني، وكنا نتبادل الهدايا فيما بيننا رغم بساطتها. كان محمد جودي وهو أحد أترابي يحرص على أن يهديني حبات من بواكير المشمش لآكلها قبل غيري من الأطفال. كانت لديهم شجرة مشمش معروفة بغلتها الوافرة وبأنها أول شجرة في القرية تنضج بها الثمار، لقد كانت داخل ساحة الدار التي يقطنونها لا يمكن أن يصل إليها أي من شُطار القرية الذين يتباهون أحيانا بأكل البواكير، وكان محمد يتصيد الحبات الأولى التي تنضج، يضعها في جيبه، ويأتي مسرعا إلى حيث أسكن لنأكلها معا. كان يناديني ويبشرني قبل أن أصل، بأن لديه حبات مشمش، وحتى لا تفهم خالتي ولا غيرها، سبب الزيارة كان يقول لي بالفرنسية: حكيم " Les abricots" وكنت أسارع الخطى نحوه، لنختفي في مكان آمن نستطعم أكلها.
كنت وأصدقائي الأطفال كثيرا ما نتقاسم كل ما عندنا من حلويات أو فول عندما نشتريه أو خبز. لقد كان الخبز نادرا في القرية. كان يؤتى به من المدينة فقط وكان أكلنا في الغالب قمحا مطحونا محليا. لم نكن نعرف خبز المدينة الأبيض إلا عندما يقدم لنا هدية، لذلك كنا نتقاسم قطعة الخبز عندما نحصل عليها هدية أو نخرج بها من المدرسة مهما كانت قليلة.
القناعة
ولعل هذه العادة تعلمناها في الكُتّاب. كان " أَنْعَمْ سيدي" عندما تأتيه الهدية وفي الغالب ما تكون إبريق قهوة و "قرصة" خبز قمح، كان يأخذ قطعة له ويأمر أحدا منا بتقسيم البقية على كافة الأطفال مهما كان عددنا، ومهما كانت القطعة التي ستكون من نصيبنا صغيرة. كنا نتقاسم كل شيء مهما كان قليلا وبأمر من معلم القرآن، أي لا مجال لنا للاستيلاء على قطعة إضافية أو منع أحدنا من ألا يأخذ نصيبه رغم أننا كنا في بعض الأحيان نتضور جوعا خاصة قبيل الخروج، وكل منّا يمُني نفسه بقطعة أكبر، إلا أن صرامة " أَنْعَمْ سيدي" كانت تمنع ذلك، وتعلمنا القناعة. ورغم أنه كان كفيف البصر فإن المكلف بالقسمة لم يكن يجرؤ بأن يتحايل عليه ذلك أن العقاب سيكون شديدا لو اشتكاه أحدنا للشيخ.
أحيانا كانت الصدقات تأتي للكُتّاب عند الصباح، أربعة أو خمسة "قرصات" خبز طاجين ساخنة "رخساس" وكنا نستمتع بأكلها ونشبع... وفي الغالب لا نعرف من أين جاءت.
وفي معظم الأحيان كنا نعود إلى بيوتنا مسرعين لأننا لم نأكل شيئا من الصباح، فنلتهم ما يقدم لنا مهما كان. ولم أذكر يوما أنني رفضت أكلا أو طلبت نوعا معينا من الأكل، فهمّنا الوحيد هو أن نجد ما نأكل لا أن نشترط ما نأكل. فقط كانت والدتي لا تتركنا من غير زاد أبدا، كانت ترسل لنا كل شيء من تهودة: الدقيق، السمن، الزبدة، الجبن، الفريك، المرمز، البيض، الدجاج، الخضر في مواسمها، الفواكه في مواسمها، وأحيانا كانت تتصرف لترسل لنا بعض النقود فتشتري لنا خالتي علبتي جبن من ثمانية قطع واحدة لي والأخرى لأخي.
كنت أحتفظ بعلبتي لأكثر من أسبوع وكان أخي يستهلك علبته في وقت قصير ثم يبدأ في طلب "الإعانة" من عندي، وكنت في الغالب ما أفعل. وعندما كان يأخذ مني قطعة خلسة كانت خالتي تهدئ من روعي بقولها أنها ستُقسم بيني وبينه في البطون، وكنت أصدق ذلك. ودرجت أمي على قولها لي حتى عندما كبرت، وقولها لأبنائي وأبناء أخي عندما أصبح لنا أطفال: إن كل شيء يُقسم بالعدل في البطون فلا تتلهفوا، كونوا قنوعين. ولعل هذا ما جعلني قليل الإقدام على الأكل في المآدب، بل من العازفين على أن أسارع إليها لأكون من الأوائل الذين يمدون أيديهم كما هو شأن محترفي الحفلات والمآدب الحكومية خاصة اليوم. وإلى اليوم ما زلت أذكر ذلك البيت الشعري للشنفرى الذي يناسب هذا المقام كلما رأيت القوم يتهافتون على الأكل:
وإن مُدّت الأيدي إلى الزّاد لم أكن *** بأَعْجَلِهم إذْ أجشعُ القومِ أَعجلُ
وما ذاك إلا بسطة عن تفضلٍ*** عليهم وكان الأفضَلَ المتفضِّلُ
الدكتور سليم قلالة : من كتابه الأخير ( حلم والدتي )
[1] رقائق الخبز
[2] نسبة إلى مدينة القنطرة الموجودة شمال شرق مدينة بسكرة
[3] آلة موسيقية نفخية
[4]كنا نسمّي معلم القرآن بهذا الاسم، أَنْعَمْ سيدي ولا نستطيع مناداته باسم آخر.
[5] قفتان كبيرتان متصلتان ببعض مصنوعتان من الحلفاء توضع على ظهور الحمير لحمل البضائع
[6] هو خليط من رماد نوع خاص من الأشجار، والصوف المحروق وخاصة الأسود، والماء، يوضع الكل في قارورة صغيرة بها قطعة صوف ليستخدم للكتابة بالقلم المصنوع من القصب على اللوح المعد مسبقا لذلك.
قرية "شتمة" قرية صغيرة ولكنها عريقة البنيان والتقاليد، بها مزيج من العائلات قدمت إليها من مختلف المناطق المجاورة واستقرت في تآخي وتناغم تامين. هندستها المعمارية تشبه المدن بمركز تتوسطه ساحة كبيرة يُطلق عليها اسم "الجماعة"، حيث كانت بالفعل مكانَ اِلتقاءٍ يومي لسكان المدينة، تحيط بها دكاكين ومقاهي صغيرة.
وأنت نازل من الحوش العالي حيث كنت أقيم في مسكن أخوالي مع خالتي وأخي، وحيث وُلدَتْ أمي، تمر أولا أمام ضريح سيدي أحمد بلقاسم، حيث بُني هناك مسجد، كنا نتعلم في زاوية منه القرآن الكريم، وبعده مباشرة مسكن المؤذن، ثم دار عائلة حطاب ومنها السقيفة التي سميت بسقيفة حطاب نسبة للعائلة التي كانت تسكنها، و مباشرة منها تنزل منحدرا لبضعة أمتار ليقابلك أولا دكان عمي "بشّا"، وفي الزاوية المقابلة له دكان "عمي حفناوي" وقد فتح بابه على ساحة الجماعة حتى لا يقابل حانوت عمي"بشّا".
أما في الجهة المقابلة من ساحة الجماعة، فقد كان هناك الحلاق، ومقهى عمي مدني، أما حانوت بائع الفول وشاري التمر بالكيلوغرام الذي تداولت عليه عدة أسماء فكان في الجهة اليمنى المقابلة، و إلى جانبه كان أحد المهاجرين القادمين للتو من فرنسا بعد الاستقلال يضع بعض صناديق الفاكهة المنظمة على الطريقة الفرنسية، إلا أن أحدا لم يكن ليشتري منه حتى توقف عن تجارته الغريبة تلك في تلك القرية.
كان دكان عمي حفناوي أكبر وبه محسب ويبيع كل ما يحتاجه سكان القرية، بما في ذلك الشاي لزبائنه، لذلك كانت به رائحة خاصة.
كانت أمام باب دكان عمي حفناوي "دكانة صغيرة" يجلس عليها في العادة مجموعة من الرجال على إبريق شاي يعده خصيصا لهم بنفسه. كان الإبريق يشد ناظري دوما، إنه مستدير ومطلي باللون الأزرق الغامق، وبه بقع سوداء نتيجة ذهاب الطلاء عنها.
كنت ألاحظ عمي حفناوي وهو يطبخ الشاي على "البابور النحاسي" كان يزن الشاي بمقدار ثم يزن السكر بمقدار ويغلي الماء ثم يخلط الشاي بطريقته التي لا تتغير أبدا. لم يكن مذاق الشاي لديه يتغير قط، فهو يقيس الخلطة بالغرامات لتكون في مستوى ذوق زبائنه. وحتى إن أردت أن تطبخ شاي عمي حفناوي في بيتك فإنك تستطيع، إنه لا يبيع لك الشاي وحده والسكر وحده بل يبيعك الخلطة بالمقادير التي يعرفها وما عليك إلا أن تتم البقية. كان خالي الصالح أحيانا يطلب مني أن اشتري له الخلطة من عمي حفناوي، وكنت أسعى أن ألحظ ما يضع في الميزان، مرة واحدة استطعت أن أراه يضع
وأمام دكانه كنت أتلقى دائما المديح من ذلك المجاهد معطوب الحرب، عمي كلاشة مسعودي، الذي كان يخاطبني: دوما جيش التحرير أو فلاق ؟ وبكل تأكيد كان يعرف أن والدي استشهد في الثورة، وبكل تأكيد أن ساقه المقطوعة إنما كانت خلال معركة من المعارك. كنت أحس بأنه يفخر بي ويحميني، وبكل تأكيد لا يسمح أن أعامل كيتيم الأب أو دون بقية الأطفال. لعل هذا أكبر ما أحسست به في قرية "شتمة" التي قضيت بها سنوات طفولتي الأولى. كان هناك أطفال آخرون عادة ما يتعرضون "للحقرة" من قبل أترابهم، أو يحسون بأنهم بدون قوة تحميهم. أما أنا فكنت أحس بأني تحت الحماية التامة حيثما ذهبت خاصة عندما أمر بحانوت عمي حفناوي وأعبر ساحة الجماعة وأدخل سقيفة سي محمود. هناك كنت أشعر بأني في داري الثانية بل لم أكن أفرق بينها وداري الأولى التي تقع غير بعيد...
في دار عروسي
كانت سقيفة سي محمود لعائلة عروسي. وكانت أقرب العائلات إلينا، إلى خالتي ووالدتي. كنت أذهب إلى أفرادها باستمرار، أحيانا لأحمل وصية من خالتي و أخرى لأجلب "الرُّقاق"[1] الذي تم إعداده لنا. لم تكن خالتي تستطيع أن تطبخ رقائق الخبز ـ الرقاق ـ التي هي أكلنا اليومي تقريبا، كانت يداها مريضتان، فكانت ترسل معي الدقيق إلى دار عائلة عروسي، لأعيده بعد فترة قليلة وقد طُبخ على كانون الحطب. كانت خالتي "فطيمة" وهي أرملة شهيد تراني وأخي كابنيها، عبد القادر(قادة) وتِبرة (من التّبر)، تحس بنا تماما وكأننا أبناؤها. إنها تشعر بما تشعر به أمي تماما، ولذا فهي تتعاطف معنا كل التعاطف.
كنت أسمع خالتي فطيمة تتحدث عن مأساتها. إنها ليست مثل أمي، لم ير أحد جثمان زوجها، ولا عرف قبره. لقد أرسل لها جيش التحرير تعزية عليها علم الجزائر، بأن زوجها قد استشهد في ساحة الوغى. كنت أراها دائما تُظهرها لصديقاتها ممن يطرحن عليها السؤال. كانت تتحسر أنها لم تر جثمان زوجها الشهيد. بل كانت تتحسر لأن أم زوجها لم تعترف يوما بأن ابنها لن يعود. كانت دوما تقول بأن ابنها مفقود رغم أن والده سي الحفناوي معلمنا في الكُتّاب قد كان متأكدا بأن ابنه قد التحق بالرفيق الأعلى. كان يبكيه بقلبه وقد ابيضت عيناه. ولم يكن يستطيع نسيانه حتى وافته المنية. ولعل عزاؤه الوحيد أن حفيده عبد القادر الذي نناديه نحن "قادة" قد حفظ القرآن الكريم وهو طفل صغير.
كنت أعرف أن جده هو معلمنا لأنه كان أحيانا يطلب منه أن يحفظنا القرآن الكريم ويسهر على ذلك. كنت في دار عائلة عروسي أحس بأنني في داري. بل لم أكن أعرف حتى كبرت أنه لم تكن بيننا رابطة دم، كنت أظن أنهم أخوالي أو أعمامي لدرجة الاتصال التي كانت بيننا، فكل من فيها من النساء ينادينني باسم "حكيّم" تصغير لـ"حكيم". وكلهم كانوا يفخرون بأني كنت فطنا سريع البديهة معهم خاصة عندما كنت أجلس استرق السَّمع إلى أحاديثهم النسوية.
كانت خالتي ونّاسة زوجة عمي مسعود عروسي هي أقرب الناس لي بعد خالتي فطيمة، أذكر أنها أعطتني من دارها في أحد الأيام، و في فصل الشتاء، حبات رمان لي ولأمي، إنها تقوم بحفظه في مكان جاف حتى تيبس قشرته ليؤكل في فصل الشتاء. مازلت إلى اليوم أذكر تلك الرمّانات ومذاقها، وكأنني تسلمت شيئا نادرا...
كما مازلت إلى اليوم أذكر طعم "البركوكس" الذي كانت تطبخه إحدى نساء دار عروسي ومن بينهن خالتي "قطوشة" التي كانت تعده بالبرْزْقالة Purslaneليأخذ ألذ طعم عرفته في طفولتي. كنت أحمل طبق البركوكس وأجري إلى الدار لآكله مع أخي وخالتي غداء أو عشاء.
لم يكن هناك أفضل من بركوكس دار عروسي كانت خالتي صحراء تقول ذلك في كل مرة، ومن ذلك الحين لم اشته بركوكس إلا بالبرزقالة.
السقيفة
كنت من دار عروسي عادة ما أمر مسرعا إلى بيتنا بالحوش العالي، كانت ساحة الجماعة مخصصة أكثر للكبار، بها أربع سقائف بعدد الشوارع التي تلتقي بها: سقيفة السور، وسقيفة سي محمود، وسقيفة حطاب، وسقيفة جدّي عمار. أما الأطفال فمكانهم أعلى الحوش أو سقيفة دار حطاب. كان ما يشدني في ساحة الجماعة في الجهة المقابلة ذلك الباب الكبير لمسكن عائلة غرسة. لم يكن الباب في حد ذاته هو الذي يشدني إنما الساحة التي خلفه والتي من خلالها يمكن المرور إلى دار الغراسة. وهذه الساحة بالذات هي التي شاهدت بها أولى أفلام السينما في حياتي.
كانت شاحنة السينما تأتي بين الحين والآخر للقرية بل كانت هناك شاحنتان واحدة لصاحبها المعروف بالقنطري[2] والأخرى لصاحبها المعروف بسي اسماعيل. كانت سينما القنطري تأتي من غير موعد تٌلصق صورة الفيلم على الحائط ـ قبل الدخول إلى سقيفة جدي عمار ـ ونقوم نحن الأطفال بالدعاية لها. كانت تقوم بدورة حول القرية تنطلق من مدخل سقيفة جدي عمار على الطريق الرئيسي لتمر عبر المقهى البرّانية فطريق السور أسفل الحوش العالي فعودة مرة أخرى لساحة الجماعة ثم الخروج من سقيفة جدي عمار. كانت تسير نحو الكيلومترين وكنا نتبعها بالصياح طوال هذه المسافة مرددين " هايْ جاتْ السينما" (لقد جاءت السينما)، ليسمع جميع سكان القرية بذلك حتى أولئك الذين كانوا في مزارعهم البعيدة.
كان سعر الدخول 50 سنتيما. لم يكن من السهولة الحصول عليها.أحيانا كنا نجمع السنتيمات مع مر الأيام، وأحيانا أخرى كنا نحصل عليها هدية من أحد الكبار. كانت معظم الأفلام هندية بحيث كان يراها الأطفال والرجال معا، وأغلبها من نوع المغامرات المثيرة، يمثل بطولتها في الغالب الاسم الذي مازلت أذكره" دارا سينغ"، أحيانا تقدم أفلام "زورو" وأفلام مغامرات حقبة الستينات مثل "طرازان".
أذكر أننا كنّا في موسم جني التمور، نسعى لجمع بقايا التمور التي بقيت ملتصقة بين جريد النخيل " نُنَفر" التمر، (كانت العبارة تُستخدم بهذه الصيغة)، أو نلتقط ما تسقطه الرياح من العراجين ونبيع الكيلوغرام منها بعشرين سنتيما لنجمع بعض الأموال نحتاجها أحيانا للدخول إلى السينما، أبدا ما كنّا نقذف العراجين بالحجارة لتُساقط علينا تمرها رغم حاجتنا للنقود. أما الجلوس داخل الساحة فكان كما كان الحال، على الأرض مباشرة أو فوق حجارة ملساء أو على قطع خشبية أو ألواح بِناء، ونادرا ما نرى أحد الرجال يحمل كرسيا قابلا للطي يجلس عليه. إلا أن المشاهدة كانت رائعة.
لم تكن هذه وسيلة الترفيه الوحيدة بالقرية، كانت الأعراس هي الأخرى مناسبة للّهو والمرح. لم تكن أعراس القرية تمر من غير الطبل والزرنة[3]، وفي بعض الأحيان كان أهل العرس يأتين بالراقصات المحترفات، إلا أن هذا السلوك لم يكن مُعمّما، فالعائلات المحافظة لم تكن تقبل أن يتم دعوة الراقصات المحترفات، بل كانت أفراح النساء تتم بمعزل عن الرجال تماما. أما الأسر المتدينة فكانت تعزم "الإخوان" للمديح أثناء الولائم والأعراس والمناسبات الدينية.
كانت القرية بهذا الشكل حية ثقافيا بطريقتها، خاصة في المناسبات الدينية والأعياد.
لم يكن المولد النبوي الشريف يمر من غير احتفال مميز في المسجد، كنا نذهب مع الكبار بعد صلاة العشاء لنحضر الحفل الديني الذي كان يُنظّم في كل عام. كانت تُوزّع علينا الحلويات ونشرب الشاي بعد نهاية الحفل. كانت العائلات ترسل إلى المسجد ما استطاعت من أطعمة وشاي وكاوكاو وحلويات. إلا أننا لم نكن نراها إلا بعد انتهاء الموعظة الدينية ثم الاستماع إلى القصائد التي كانت تُنشَد في مدح رسول الله عليه الصلاة والسلام. وفي اليوم الموالي كان "لَخوان" يتعشون في منزل الشيخ "سي الحفناوي"، "أَنْعَمْ سيدي" [4]، معلمنا في الكتاب وهناك أيضا كانوا يتحلّقون في إحدى الغرف أعلى الدار ويشرعون في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم. كان حضور "لَخوان" في البيت حدثا هاما لم يكن من الممكن تركه يمر من غير الاحتفال به.
الطلبة
ولم تكن هذه هي المناسبة الوحيدة التي نسمع فيها قصائد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كنا نحن الأطفال نُلَقّن بعضها ونطوف بكافة منازل القرية نُلْقيها على مسامع كافة العائلات. كنا نسمي ذلك باسم طلبة القرآن الكريم "الطلبة"، إلا أننا كنا نحن الأطفال نعتقد أن التسمية لها علاقة بطلب الصدقة فكنا نسميها "الطََلْبة" بفتح الطاء، ذلك أن العائلات التي كنا نمر بها كانت في العادة تكرمنا ببعض الهدايا للمسجد وللمعلم، أَنْعَمْ سيدي. حبات بيض، عرجون تمر، حفنة أو حفنتين من الدقيق، بعض الفريك، ونادرا قليل من المال... كنا نضعها في كفتي "زنبيل"[5] على ظهر الحمار الذي كان يتبعنا.
كان يوم "الطلبة" يوما مشهودا، عيد بغير عيد لنا نحن الأطفال. التحضير له يبدأ قبل أسبوع أو أكثر، حيث كنا نتنافس على ختم بعض السور من القرآن الكريم. الكبار يختمون حزبا جديدا أو أكثر، والصغار يختمون سورة " الإخلاص" أو "البيّنة" أو "الأعلى" أو "الربع" كل حسب المرحلة التي وصل إليها. كان أَنْعَمْ سيدي يمتحننا في الحفظ قبل أن يسمح لنا بالخَتمة. وعندما نختم يسمح لنا بتزيين لوحة الحفظ كيفما نشاء برسوم فسيفسائية غالبا ما تكون على شكل مربعات صغيرة. كنا نملأ تلك المربعات بـ "السمق"[6] الأسود الذي نكتب به على اللوح ونخالف بينها، حيث تظهر بعضها سوداء وأخرى مناصفة وثالثة بها بعض النقاط. وقد كان بعض الأطفال يقضون الساعات وهم يقومون بعملية التزيين هذه لألواحهم. وكانت كل هذه العملية تسمى بـ "التَّزْواق".
بعد" التَّزْواق يختار "أنعم سيدي" أفضل اللوحات ويُرشّحها لكي تزور مساكن القرية. ويكتب على الجهة الأخرى منها آخر الحزب أو السورة التي حفظها الطفل.
ليلة الشروع في جولة " الطلبة" تهيؤنا أمهاتنا، فنغتسل ونحضر أفضل ما عندنا من ثياب. لقد كانت خالتي "أمة صحراء" حريصة أن أبدو وأخي في أحسن الملابس خاصة وأن سكان القرية جميعهم يعرفون بأنها خيّاطة ماهرة، وقد برعت في ذلك حتى في تونس. كما كانت تحضر لنا "مناديل" ملونة نضعها حول رقبتنا في الصباح. وبالرغم من أن الاستحمام كان شاقا بالنسبة لنا إلا أننا في الصباح كنا نحس بسعادة كبيرة ونحن مستعدون لجولة "الطلبة".
كان حمّامنا عبارة عن قصعة نحاسية كبيرة تضعها خالتي وسط الغرفة التي كنا ننام بها أنا وأخي وهي. كانت غرفة مظلمة لا نافذة بها جدرانها من الطين وسقفها من جذوع وأغصان النخيل، وأرضها تراب كما حيطانها. لحد اليوم لم أنس ذلك الخوف الذي كان يعتريني كل ليلة عندما آوي إلى الفراش. كانت إحدى الأخشاب التي صُنعت من جذوع النخيل قد انكسرت وهي في السقف. كنت أخال بأنها ستسقط على رأسي في كل لحظة خاصة وأن السقف كان قريبا. وفي كل ليلة كنت أحس بانقباض شديد عندما أراها، وأمعن النظر فيها لأرى ما إذا كان الشرخ الذي أصابها قد ازداد أم بقي على حاله. ومع ذلك فإن خالتي كانت تطمئنني بأن شيئا لن يحدث. وبالفعل لم يسقط السقف على رؤوسنا وغادرنا ذلك المنزل والخشبة على حالها، إلا أن سقطت الغرفة كليا فيما بعد..
كانت خالتي تضع القصعة وسط هذه الغرفة وتحضر دلو الماء الساخن ونغتسل فيها أحيانا قعود في الماء الذي تجمع تحت أقدامنا وأحيانا وقوف لنرش الماء على رؤوسنا، ومن القصعة النحاسية مباشرة إلى الفراش، للنهوض في الصباح ونحن على أحسن حال وقد نسينا الخوف من الاغتسال بالماء في قصعة النحاس، خاصة ما إذا كان الجو باردا والحطب قليلا لتسخين الماء. وفي الصباح كانت أول ما تقوم به خالتي هي أن ترش ساحة الدار بماء الغسيل حتى تقلل من تطاير الغبار. لم تكن هذه الخالة تبذر أي شيء أو لا تسترجعه.
في الصباح الباكر نتجه مسرعين نحو الكُتاب لنتجمع، كل ينظر إلى المنديل الذي حول رقبته ويتباهى به، كنت دوما أحب المنديل الأحمر الذي تعطيه لي خالتي ، كانت بعض الرسومات السوداء التي به تعجبني خاصة عندما تضعه على رأسها أو لعله كان يشبه المنديل الذي تضعه والدتي على رأسها. كانت تسميه "محرمة شامي" ولم أكن أعرف آنذاك بأن التسمية لها علاقة بالشام.
عندما يجتمع أغلب الأطفال " الطلبة" أمام الكُتّاب، ويتم وضع "الزنبيل" على ظهر الحمار، نشرع في جولتنا عبر برنامج محدد، نعرف من أي حي ومن أي دار نبدأ ومن أي دار ننتهي، وأحيانا كان يوم واحد لا يكفي فنُتم الجولة في اليوم الموالي.
كنا ننقسم في الواقع إلى أربع مجموعات، تتكفل الأولى بحمل أحسن الألواح القرآنية المزينة لأفضل الأطفال، وكانت تتشكل من أصغرنا لأنها كانت تدخل إلى البيوت حيث يجلس النسوة وأحيانا حيث يكونون بصدد تحضير الغذاء، وقد كنت أنتمي في الغالب إلى هؤلاء، فأغلب نساء القرية يعرفونني باسمي ويعرفون والدتي وكل شيء عن حياتي تقريبا، وكنت أسعد دوما عندما أرى علامات الإعجاب بادية بتقدمي في حفظ القرآن وأنا من أصغر الطلبة. أما المجموعة الثانية فكانت تتكفل بترديد بعض القصائد والأدعية بصوت عال، ومازال راسخا بذهني ذلك الدعاء الذي كنا نردده بكثرة:" الحمد لله الذي علّمنا وبنبيّيه كرمنا". وتكتفي المجموعة الثالثة بترديد عبارة " اللهم آمين" بعد كل دعاء. وأحيانا كانت النسوة تطلب منا أن ندعو لهن أدعية خاصة، كأن يرزقهن الله بمولود ذكر أو يخفف عنهن المرض، وكنا نفعل ذلك وأحيانا نبتكر في الحين دعاء لصاحب البيت كأن نرفع صوتنا عاليا بالقول: "هذي دار بلا قفل يا ربي أعطيها طفل" عندما تكون المرأة تنتظر ولدا ذكرا وترغب في ذلك..
أما المجموعة الرابعة فكانت تكتفي برعاية الحمار ومنع أي كان من الاقتراب من الهدايا التي نجمع. وكان " أَنْعَمْ سيدي" يكلف بها في العادة أكبرنا على الإطلاق والأقدر على حماية "الحمولة" التي هي ثمينة من غير شك رغم بساطتها. وأحيانا كانت تتشكل مجموعة "متمردة" تتفرغ للتشويش و رفع شعارات مناهضة أمام المساكن التي لا تعطي شيء لـ " أَنْعَمْ سيدي "وللطلبة.
كنا نعود بعد انتهاء الجولة إلى المسجد مرهقين، نضع ألواحنا، ونسرع إلى بيوتنا وإلى اغتنام ما بقي لنا من يوم لنمرح ونلعب.
المرح
لم تكن ألعابنا في قرية شتمة محدودة، كنا في كل يوم نبتكر الجديد، عشرات الألعاب كنا ننظمها وفي كل مرة يأتينا الجديد، لست أدري كيف ولكن ذلك يحدث، من ألعاب الجري إلى ألعاب " المخيم" و"السجن" إلى ألعاب " المسدسات" الخشبية، إلى ألعاب الذاكرة، و صنع الطائرات وآلات التصوير الورقية التي مازلت أصنعها لابنتي إلى اليوم، وتعجب بها، والفخاخ التي كنا نسميها "تْرَكَّات"، و"السّيق" الذي كان يشترك فيه معنا الكبار، والاستماع إلى القصص التي يرويها لنا من زاروا المدينة أو شاهدوا السينما...
ولعل ألعاب "المخيم" و"السجين" التي كنا نسميها كما تنطق بالفرنسية "camp-prison" ولا نعرف معناها بالعربية آنذاك هي أشهرها. كان السجن عبارة عن نصف دائرة نرسمها على الأرض قبالة حائط منزل معين، والمخيم عبارة عن نصف دائرة أخرى نرسمها قبالة حائط آخر غير بعيد. وكنا نتنافس من يحرر سجناءه، ومن يكون لديه أسرى من الفريق الخصم. وأحيانا تأخذ منا اللعبة أمسية كاملة. أما صناعة الطائرات الورقية فمازلت أذكر الطفل سعيد حطاب الذي كان بارعا في صناعتها. كان يضع لها مقدمة بطريقة جد محكمة. و كان يُدخل ذيلها في المقدمة ليأخذ مكانه من غير غراء. وكانت طائراته تطير وتبقى أطول من غيرها في السماء. وكنا نتسابق من يفوز بطائرة من عنده. ويوم يأتي موسم الألعاب الورقية لن تجد في ساحة القرية مكانا إلا للأطفال ومصنوعاتهم الجديدة والمبتكرة..
أما أفضل الألعاب التي كانت تستهويني فهي لعبة "الزلبيحة". حيث كان يفوز فيها من يضع ثلاث حجارة على خط واحد في مربع مقسم إلى 8 مثلثات. وكان أحد الكبار قد علّمني طريقة أن من يضع القطعة الأولى في المركز يستحيل أن يفوز عليه المنافس. وأصبحت أتحدى بها أيا كان شريطة أن ابدأ باحتلال المركز. ولم تفشل الطريقة مرة واحدة فقد كانت صحيحة ومجربة تماما. فضلا عن هذه الألعاب كنا كثيرا ما نجلس نتجاذب أطراف الحديث قرب منازلنا وخاصة في "سقيفة حطاب" وكثيرا ما كانت النوادر أو التعاليق على بعضنا البعض تأخذ القسط الوافر.
لم أذكر أنني تشاجرت مع أترابي إلا ما كان غير ذي معنى، عكس ذلك كان لي أصدقاء أحبهم كثيرا ويحبونني، وكنا نتبادل الهدايا فيما بيننا رغم بساطتها. كان محمد جودي وهو أحد أترابي يحرص على أن يهديني حبات من بواكير المشمش لآكلها قبل غيري من الأطفال. كانت لديهم شجرة مشمش معروفة بغلتها الوافرة وبأنها أول شجرة في القرية تنضج بها الثمار، لقد كانت داخل ساحة الدار التي يقطنونها لا يمكن أن يصل إليها أي من شُطار القرية الذين يتباهون أحيانا بأكل البواكير، وكان محمد يتصيد الحبات الأولى التي تنضج، يضعها في جيبه، ويأتي مسرعا إلى حيث أسكن لنأكلها معا. كان يناديني ويبشرني قبل أن أصل، بأن لديه حبات مشمش، وحتى لا تفهم خالتي ولا غيرها، سبب الزيارة كان يقول لي بالفرنسية: حكيم " Les abricots" وكنت أسارع الخطى نحوه، لنختفي في مكان آمن نستطعم أكلها.
كنت وأصدقائي الأطفال كثيرا ما نتقاسم كل ما عندنا من حلويات أو فول عندما نشتريه أو خبز. لقد كان الخبز نادرا في القرية. كان يؤتى به من المدينة فقط وكان أكلنا في الغالب قمحا مطحونا محليا. لم نكن نعرف خبز المدينة الأبيض إلا عندما يقدم لنا هدية، لذلك كنا نتقاسم قطعة الخبز عندما نحصل عليها هدية أو نخرج بها من المدرسة مهما كانت قليلة.
القناعة
ولعل هذه العادة تعلمناها في الكُتّاب. كان " أَنْعَمْ سيدي" عندما تأتيه الهدية وفي الغالب ما تكون إبريق قهوة و "قرصة" خبز قمح، كان يأخذ قطعة له ويأمر أحدا منا بتقسيم البقية على كافة الأطفال مهما كان عددنا، ومهما كانت القطعة التي ستكون من نصيبنا صغيرة. كنا نتقاسم كل شيء مهما كان قليلا وبأمر من معلم القرآن، أي لا مجال لنا للاستيلاء على قطعة إضافية أو منع أحدنا من ألا يأخذ نصيبه رغم أننا كنا في بعض الأحيان نتضور جوعا خاصة قبيل الخروج، وكل منّا يمُني نفسه بقطعة أكبر، إلا أن صرامة " أَنْعَمْ سيدي" كانت تمنع ذلك، وتعلمنا القناعة. ورغم أنه كان كفيف البصر فإن المكلف بالقسمة لم يكن يجرؤ بأن يتحايل عليه ذلك أن العقاب سيكون شديدا لو اشتكاه أحدنا للشيخ.
أحيانا كانت الصدقات تأتي للكُتّاب عند الصباح، أربعة أو خمسة "قرصات" خبز طاجين ساخنة "رخساس" وكنا نستمتع بأكلها ونشبع... وفي الغالب لا نعرف من أين جاءت.
وفي معظم الأحيان كنا نعود إلى بيوتنا مسرعين لأننا لم نأكل شيئا من الصباح، فنلتهم ما يقدم لنا مهما كان. ولم أذكر يوما أنني رفضت أكلا أو طلبت نوعا معينا من الأكل، فهمّنا الوحيد هو أن نجد ما نأكل لا أن نشترط ما نأكل. فقط كانت والدتي لا تتركنا من غير زاد أبدا، كانت ترسل لنا كل شيء من تهودة: الدقيق، السمن، الزبدة، الجبن، الفريك، المرمز، البيض، الدجاج، الخضر في مواسمها، الفواكه في مواسمها، وأحيانا كانت تتصرف لترسل لنا بعض النقود فتشتري لنا خالتي علبتي جبن من ثمانية قطع واحدة لي والأخرى لأخي.
كنت أحتفظ بعلبتي لأكثر من أسبوع وكان أخي يستهلك علبته في وقت قصير ثم يبدأ في طلب "الإعانة" من عندي، وكنت في الغالب ما أفعل. وعندما كان يأخذ مني قطعة خلسة كانت خالتي تهدئ من روعي بقولها أنها ستُقسم بيني وبينه في البطون، وكنت أصدق ذلك. ودرجت أمي على قولها لي حتى عندما كبرت، وقولها لأبنائي وأبناء أخي عندما أصبح لنا أطفال: إن كل شيء يُقسم بالعدل في البطون فلا تتلهفوا، كونوا قنوعين. ولعل هذا ما جعلني قليل الإقدام على الأكل في المآدب، بل من العازفين على أن أسارع إليها لأكون من الأوائل الذين يمدون أيديهم كما هو شأن محترفي الحفلات والمآدب الحكومية خاصة اليوم. وإلى اليوم ما زلت أذكر ذلك البيت الشعري للشنفرى الذي يناسب هذا المقام كلما رأيت القوم يتهافتون على الأكل:
وإن مُدّت الأيدي إلى الزّاد لم أكن *** بأَعْجَلِهم إذْ أجشعُ القومِ أَعجلُ
وما ذاك إلا بسطة عن تفضلٍ*** عليهم وكان الأفضَلَ المتفضِّلُ
الدكتور سليم قلالة : من كتابه الأخير ( حلم والدتي )
[1] رقائق الخبز
[2] نسبة إلى مدينة القنطرة الموجودة شمال شرق مدينة بسكرة
[3] آلة موسيقية نفخية
[4]كنا نسمّي معلم القرآن بهذا الاسم، أَنْعَمْ سيدي ولا نستطيع مناداته باسم آخر.
[5] قفتان كبيرتان متصلتان ببعض مصنوعتان من الحلفاء توضع على ظهور الحمير لحمل البضائع
[6] هو خليط من رماد نوع خاص من الأشجار، والصوف المحروق وخاصة الأسود، والماء، يوضع الكل في قارورة صغيرة بها قطعة صوف ليستخدم للكتابة بالقلم المصنوع من القصب على اللوح المعد مسبقا لذلك.