التخطيط للهجرة بين الأسباب الأرضية والعناية الربانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن والاه.. وبعد؛
فإن التخطيط هو توظيف كل الطاقات والإمكانات للوصول إلى أهداف محددة في زمن معين، وكان أخطر ما ابتليت به مصر في العصر الغابر أنه لم يكن هناك تخطيط لأي شيء نافع إلا الفساد والظلم الممنهج، كما قال رب العزة (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) (الأعراف: من الآية 45) أما التخطيط في الإسلام والذي لا يمكن حدوث نهضة حقيقية بدونه فله خصائص لا توجد في أي نظام آخر، أهمها ما يأتي:
1- زمان الخطة هو المعاش والمعاد، وصولاً إلى عمارة الدنيا والنعيم في الآخرة.
2- وجوب الأخذ بكلِّ الأسباب الأرضية، واليقين في العناية الربانية.
3- الحفاظ على الثوابت والمبادئ والقيم الأخلاقية.
4- الجمع بين دقة الاتباع وجودة الإبداع؛ حيث تنطلق معالم التخطيط وأهدافه الكلية من النصوص الشرعية والاجتهادات العقلية معًا لإصلاح الوقائع اليومية، وللمصيب أجران في الاجتهاد، وللمخطئ أجر؛ مما يشجع على الإبداع، ويجمع بين الأصالة والمعاصرة.
ولا شك أن واقعنا في مصر خاصة وأمتنا العربية والإسلامية عامة أحوج ما تكون إلى فقه معالم التخطيط الإسلامي في هذه المرحلة المفصلية؛ حيث يُصنع التاريخ من جديد، بعد أن عاشت مصر والأمة العربية حالة بائسة من الاستبداد السياسي، والفساد المالي، والتحلل الأخلاقي، والتخلف الحضاري، فقامت الثورات في إثر بعضها، والبقية تأتي بمن لم يعتبر بغيره بثورات عربية اتسمت بخصائص أربع؛ هي: الربانية، والشعبية، والسلمية، والحضارية.
وقد اخترنا لقرائنا الكرام وأحبابنا في الله عزَّ وجلَّ من درس الهجرة منهجًا في التخطيط لإصلاح مستقبل مصرنا وأمتنا العربية والإسلامية، وتبدو معالم هذا التخطيط في نقطتين: الأخذ بكلِّ الأسباب الأرضية المباحة شرعًا، واليقين بالعناية الربانية وبركة الرزق بعد الأخذ بالأسباب على المستوى الجماعي (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) (الأعراف: من الآية 96) وعلى المستوى الفردي (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق).
أولاً: التخطيط في الهجرة والأخذ بكلِّ الأسباب وتوظيف الطاقات:
لقد بدأ درس الهجرة معلمًا واضحًا في هذه الهداية الربانية للرسول صلى الله عليه وسلم في التخطيط للهجرة والأخذ بكلِّ الأسباب الأرضية، ولم يعتمد قط على أنه رسول الله.. ولن يضيعه فترك الأخذ بكلِّ الأسباب، بل بدا التوظيف واضحًا لكلِّ الطاقات والإمكانات البشرية والمادية، ويبدو ذلك فيما يلي:
1- توظيف الطاقات البشرية الفذة باختيار أفضل الصحابة؛ ليكون صاحبه في الهجرة، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ لِمَا اتصف به من قوة العزيمة، وحدَّة الذكاء، وسعة العطاء، والبذل والفداء، مع أدب جم وخلق راقٍ، وحدبٍ شديدٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- توظيف الفرسان الشجعان؛ حيث اختار عليًّا لشجاعته الفائقة أن يبيت مكانه لردِّ الأمانات حرصًا على القيم رغم الأزمات، وما نهبه المشركون من المسلمين لا يعني معاملتهم بالمثل في اغتصاب أماناتهم، بل أبقى شجاعًا أمينًا يبيت مكانه ويؤدي الأمانات إلى أهلها؛ حفاظًا على خصائصنا الإسلامية الأخلاقية والحضارية.
3- توظيف الشباب؛ حيث تم اختيار عبد الله بن أبي بكر ليتسمَّع الأخبار، ويأتي بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حين يختلط الظلام.
4- توظيف العمال مثل عامر بن فهيرة مولى أبي بكر؛ حيث كان يرعى غنمًا ويأخذها لإعفاء أثر أقدامهما.
5- توظيف النساء ومنهن أسماء بنت أبي بكر التي كانت تحمل الطعام إلى الغار، وهي امرأة حامل لن يؤذيها أحد، بل يشفقون عليها حسب القيم العربية، وكما حاور أم معبد وكان لها دور مهم في توفير الشاة والطعام.
6- توظيف غير المسلم لخبرته وأمانته؛ حيث استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط الليثي، الذي وصفته الروايات بأنه كان هاديًا خريتًا أي عارفًا بالطرق غير المعتادة، كما أنه يتصف بالرجولة الفائقة والأمانة النادرة، فلا تضعف نفسه أمام المكافأة الكبرى التي رصدتها قريش وهي مائتا ناقة، ويصير بها صعلوك العرب من أغنى الأغنياء، ولا يتصف الرجل مع كفره بالعلم والخبرة فقط وإنما بالقوة والمرونة، وفي هذه المهمة فائقة الأهمية يوظف لها غير المسلم بل عابد الصنم بلا حرج.
7- توظيف عنصر الزمن: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة- حين يستريح الناس في بيوتهم- إلى أبي بكر رضي الله عنه؛ ليبرم معه مراحل الهجرة، وخروجه للهجرة في عتمة الليل حين ساد الهدوء ونام عامة الناس، واستكن في غار ثوْر ثلاثة أيام؛ حتى يهدأ الطلب، وتقل الملاحقة في مكة.
8- توظيف عنصر المكان: حيث اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج من خوخة في دار أبي بكر ليلاً ليحافظ على أهل البيت، ثم لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن ، في جهة الجنوب من مكة، وليس في جهة الشمال؛ حيث الطريق إلى يثرب؛ لصرف الأنظار، وتعمية الأبصار، وتضليل الكفار.
ولما خرج من الغار كانت روعة التخطيط في توظيف الطرق غير المعروفة؛ حيث جاء في سيرة ابن هشام أن عبد الله بن أريقط أول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا.
9- توظيف الدواب في اختيار راحلتين قويتين من الإبل تعينان على السفر الطويل، كما تم توظيف الغنم في إخفاء الأثر، وإخفاء معالم الحركة لرسول الله أو مَن يقوم بدور الإتيان بالأخبار أو الطعام أو الهداية على الطريق الأنسب، كما وظِّفت الغنم أيضًا في الحصول على ما لا يستغني عنه إنسان من غذاء وسقاء في القصة المشهورة لشاة أم معبد، الأمر الذي كان سببًا في إسلام الأسرة كلها.
10. الاهتمام بالجانب الصحي؛ حيث كان الطعام يأتي طازجًا على يد أسماء بنت أبي بكر كل يوم في الغار، ولما طلب شاةً من أم معبد غسل ضرع الشاة قبل حلابتها، ولما وصلوا المدينة المنورة كان الاستقبال حافلاًَ، وتمت المؤاخاة لترابط الأمة الوليدة، وكذلك تم بناء المسجد وبناء السوق؛ لدمج العبادات والمعاملات في وقت واحد، ولما مرض الصحابة في المدينة لتغير المناخ دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الصحيح: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجُحْفَة ".
وقد جمع الحديث بين الصحة الجسدية والاقتصادية والنفسية في حب المقام بالمدينة مع البركة في صاعها ومدها، وأن تخلو من أمراض البيئة وتنتقل الحمى إلى الجحفة.
11. توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية: إن التخطيط الإسلامي يراعي أعلى درجات المكارم الأخلاقية؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(1)، فمع كل ما قام به المشركون في مكة من أذى وتعذيب وقتل وسلب ونهب ومطاردة إلا أنهم كانوا لا يثقون في أحد يودعون عنده الأمانات مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن غدرهم مسوغًا لإهدار قيمة الأمانة وردها إلى أهلها، فأبقى النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا لهذه المهمة، وترك المشركين في حيرة بين ترديهم في المساوئ الأخلاقية، وترقى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المكارم الأخلاقية، ثم مع كل التضحيات التي قام بها أبو بكر طواعية إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منه ناقة للهجرة أخذها بثمنها في أدب جم، وذوق رفيع، يفرق بين العطاء والطلب، كما أنه صلى الله عليه وسلم لما حلب شاة أم معبد سقى صاحبة الشاة أولاً، ثم سقى أبا بكر ثانيًا، وكان آخرهما شربًا، ولما وصل إلى المدينة كان ضيفًا خفيفًا على أبي أيوب الأنصاري، ومع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ظهر منهم أعظم الإيثار الذي قابله أعظم التعفف من المهاجرين؛ حيث عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف أن يختار أحسن داريْه وجنتيْه وزوجتيْه، فتعفف قائلاً: جزاك الله خيرًا، بارك الله لك في مالك وأهلك ودارك، دُلًَّني على السوق، وذهب يتاجر في الألبان حتى غنم مالاً كثيرًا، وصار المهاجري يطعم الأنصاري، والأنصاري يؤثر المهاجري.
هذه مجرد نماذج تدل على أعظم صور التخطيط السليم، وعدم التواكل على أنه عبد الله ورسوله ولن يضيعه، ووظف الموارد البشرية والحيوانية والمكانية والزمانية والقيم الأخلاقية فماذا كانت النتيجة؟ هذا ما سأتناوله في العناية الربانية.
ثانيًا: نجاح التخطيط بالعناية الربانية:
إن نجاح التخطيط يبدو من النتائج التي تتحقق في أرض الواقع، لكن التخطيط الإسلامي يتعدى هذا البعد الأرضي المادي إلى الفوز في الدنيا والآخرة، وإصلاح المعاش والمعاد؛ لقوله سبحانه: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)) (البقرة)، ويرى الإمام الشهيد حسن البنا أن المسلمين في عهودهم المتأخرة آمنوا بالقضاء والقدر إيمانًا معكوسًا؛ حيث تركوا الأسباب متواكلين على ربِّ الأرباب، فجاءت النتائج سيئة وفقًا للسنن الإلهية، فقالوا: "قضاء وقدر"، مما يؤكد أن الأمة يجب أن تؤمن بالقضاء والقدر في النتائج لا الأسباب، وقد أكد هذا الشيخ الغزالي عندما علّق على دقة وقوة التخطيط في غزوة بدر فقال: "لقد أعدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العدة كاملة كأنه لا يتوكل على الله، ثم ذهب إلى العريش يدعو ربه في العريش كأنه لم يعدّ شيئًا قائلاً: "اللهم إن تُغلب هذه العصابة فلن تعبد على الأرض بعد اليوم"، وعليه فإن نتائج الأخذ بالأسباب جاءت كاملة من رب الأرباب في التخطيط للهجرة؛ حيث كان هناك النجاح الأكبر بالانتقال من الدعوة إلى الدولة، ومن العبادة إلى القيادة، ومن الجماعة المستضعفة بمكة إلى الدولة الراسخة بالمدينة، مع صور عديدة من العناية من أول الرحلة إلى آخرها، منها ما يلي:
1- خرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب بيته الرئيسي مارًّا بين أربعين من فرسان العرب وقد أجمعوا على قتله، وتفريق دمه في القبائل، لكن عناية الله أعمت أبصارهم فلم يكتف باختراق صفوفهم بل أخذ حفنة من البطحاء فجعل يذروها على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو : (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)) ( يس)، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا.
2- لما استكن النبي وصاحبه في الغار واشتد المشركون في الطلب وتعقّبوا كل مكان يمكن أن يختبئ فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ووصلوا إلى باب الغار، واشتد الأمر على أبي بكر، فعاجله النبي صلى الله عليه وسلم بأن عناية الله تحوطنا، كما قال سبحانه: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) (التوبة: من الآية 40)، وفي هذا يروي البخاري بسنده عن أنس عن أبي بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت : يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال صلى الله عليه وسلم : "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ".
3- أن يجري الله تعالى اللبن في شاة أم معبد ولم تكن شاة تحلب، بل إن بعض الروايات تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن شاة لم ينزُ عليها الفحل؛ أي: لم يَسبق لها أن حَمَلت أو حُلبت، فكانت العناية الربانية في إدرار اللبن منها.
4- لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بكلِّ أسباب التخفي برحلته، وتكفل شياطين الجن بإخبار قريش بشعر فعُرف مكانه وطريقه، فسبق إليه سراقة بن مالك على فرس جموح فساخت يدا الفرس في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخر سراقة عنها ثم زجرها فنهضت، فتكرر هذا الأمر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ارجع ولك سوارا كسرى"، في الوقت الذي يُطمئن صاحبه أبا بكر في الهجرة عندما قال: أُدركنا يا رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" فقلت : هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ( التوبة : من الآية 40 ).
هذا غيض من فيض أنهار العناية الربانية التي يكرم الله بها من يأخذون بالأسباب.
ثالثًا: واقعنا المصري والعربي بين الأسباب الأرضية والعناية الربانية:
لا يخالجنا أدنى شك أننا في هذه المرحلة التاريخية إذا أخذنا بأسباب التخطيط السليم الذي يوظف قطرة الماء وهي عندنا بفضل الله أنهار تجري في الأرض، وأمطار تنزل من السماء، وشمس تشرق كل صباح تضاعف النماء، وأرض مليئة في أعماقها بالمعادن النفيسة كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد: من الآية 25)، أنزله الله من السماء وأودعه في جوف الأرض، وأودع البترول والغاز والخيرات الجمة التي تحتاج لتخطيط وإدارة وحسن توكل على الله تعالى، فأرضنا بفضل الله خصبة ومياهنا عذبة، ورجالنا ونساؤنا مبدعون عاملون مخلصون إذا توفرت لهم الحرية والكرامة والعزة والمكانة، وسوف نجد بإذن الله انطلاقة فتية وحركة سوية، نحو الاستثمار في الزراعة والصناعة والتجارة والبحث والتأليف والابتكار والإبداع والاختراع، مما نثق في وعد الله تبارك وتعالى الذي قال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ) (الأعراف: من الآية 96) إنه ليس قطرات من البركات بل فتوحات من هذه البركات، وليست من الأرض دون السماء؛ بل من السماء والأرض، ومع أننا في مصر ما زلنا نعاني من الفلول وأعداء الثورة والبلطجية لكن هذا الشعب الذي انتفض وقدَّم الشهداء والجرحى، كافأه الله تعالى هذا العام على سبيل المثال لا الحصر؛ حيث جاء إنتاج القمح في عام 2011م ثمانية أضعاف إنتاجه عام 2010م، وهي منحة السماء لشعب يريد العزة والإباء، كما كان يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: "لن يكون قرارنا من رأسنا حتى يكون طعامنا من فأسنا".
إنني أدعو كل مصري وعربي أن يتجه إلى إدراك طاقته الداخلية وموارده الخارجية التي منَّ الله بها عليه، وأن يوظفها في مشروع صغير أو كبير حسب ما أنعم الله عليه، وليعاون غيره ولو بالفكرة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكسب المعدوم فيخطط له حياته ولو ببيع الحصيرة التي يملكها ويأكل بثلث ثمنها ويشتري قدومًا ليقطع به حطب الشجر ويدخر الثلث الباقي، وقال له: "اذهب فاحتطب ولا أرينك خمسة عشر يومًا" فعاد وقد رزقه الله رزقًا وفيرًا؛ لننتقل إلى ميدان العمل كما قال الإمام الشهيد حسن البنا: إن ميدان القول غير ميدان العمل، وإن ميدان العمل غير ميدان الجهاد، وإن ميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الباطل، فلنبدأ المشاريع أفرادًا ومجموعات، وسوف نسعى بكلِّ جهدنا إلى تذليل كل العقبات أمام الشباب والفتيات، والرجال والنساء، المسلمين وغير المسلمين؛ لنصنع في كل بلد سلامًا اجتماعيًّا نؤدي فيه حقوق المواطنة الأربعة، وهي: للناس رعاية، وللأرض عمارة، وللقانون طاعة، وللسلطة معاونة، فيما لا يخالف شرعًا، ثم نثق تمام اليقين أن رب العالمين لن يخذلنا، فهو سبحانه الذي وعد ولا مخلف لوعده، ومن أوفى بعهده من الله؟ حيث قال سبحانه مخاطبًا المؤمنين في كلِّ مكان وزمان: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)) (النور).
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)) (الإسراء).
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فإن التخطيط هو توظيف كل الطاقات والإمكانات للوصول إلى أهداف محددة في زمن معين، وكان أخطر ما ابتليت به مصر في العصر الغابر أنه لم يكن هناك تخطيط لأي شيء نافع إلا الفساد والظلم الممنهج، كما قال رب العزة (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) (الأعراف: من الآية 45) أما التخطيط في الإسلام والذي لا يمكن حدوث نهضة حقيقية بدونه فله خصائص لا توجد في أي نظام آخر، أهمها ما يأتي:
1- زمان الخطة هو المعاش والمعاد، وصولاً إلى عمارة الدنيا والنعيم في الآخرة.
2- وجوب الأخذ بكلِّ الأسباب الأرضية، واليقين في العناية الربانية.
3- الحفاظ على الثوابت والمبادئ والقيم الأخلاقية.
4- الجمع بين دقة الاتباع وجودة الإبداع؛ حيث تنطلق معالم التخطيط وأهدافه الكلية من النصوص الشرعية والاجتهادات العقلية معًا لإصلاح الوقائع اليومية، وللمصيب أجران في الاجتهاد، وللمخطئ أجر؛ مما يشجع على الإبداع، ويجمع بين الأصالة والمعاصرة.
ولا شك أن واقعنا في مصر خاصة وأمتنا العربية والإسلامية عامة أحوج ما تكون إلى فقه معالم التخطيط الإسلامي في هذه المرحلة المفصلية؛ حيث يُصنع التاريخ من جديد، بعد أن عاشت مصر والأمة العربية حالة بائسة من الاستبداد السياسي، والفساد المالي، والتحلل الأخلاقي، والتخلف الحضاري، فقامت الثورات في إثر بعضها، والبقية تأتي بمن لم يعتبر بغيره بثورات عربية اتسمت بخصائص أربع؛ هي: الربانية، والشعبية، والسلمية، والحضارية.
وقد اخترنا لقرائنا الكرام وأحبابنا في الله عزَّ وجلَّ من درس الهجرة منهجًا في التخطيط لإصلاح مستقبل مصرنا وأمتنا العربية والإسلامية، وتبدو معالم هذا التخطيط في نقطتين: الأخذ بكلِّ الأسباب الأرضية المباحة شرعًا، واليقين بالعناية الربانية وبركة الرزق بعد الأخذ بالأسباب على المستوى الجماعي (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) (الأعراف: من الآية 96) وعلى المستوى الفردي (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق).
أولاً: التخطيط في الهجرة والأخذ بكلِّ الأسباب وتوظيف الطاقات:
لقد بدأ درس الهجرة معلمًا واضحًا في هذه الهداية الربانية للرسول صلى الله عليه وسلم في التخطيط للهجرة والأخذ بكلِّ الأسباب الأرضية، ولم يعتمد قط على أنه رسول الله.. ولن يضيعه فترك الأخذ بكلِّ الأسباب، بل بدا التوظيف واضحًا لكلِّ الطاقات والإمكانات البشرية والمادية، ويبدو ذلك فيما يلي:
1- توظيف الطاقات البشرية الفذة باختيار أفضل الصحابة؛ ليكون صاحبه في الهجرة، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ لِمَا اتصف به من قوة العزيمة، وحدَّة الذكاء، وسعة العطاء، والبذل والفداء، مع أدب جم وخلق راقٍ، وحدبٍ شديدٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- توظيف الفرسان الشجعان؛ حيث اختار عليًّا لشجاعته الفائقة أن يبيت مكانه لردِّ الأمانات حرصًا على القيم رغم الأزمات، وما نهبه المشركون من المسلمين لا يعني معاملتهم بالمثل في اغتصاب أماناتهم، بل أبقى شجاعًا أمينًا يبيت مكانه ويؤدي الأمانات إلى أهلها؛ حفاظًا على خصائصنا الإسلامية الأخلاقية والحضارية.
3- توظيف الشباب؛ حيث تم اختيار عبد الله بن أبي بكر ليتسمَّع الأخبار، ويأتي بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حين يختلط الظلام.
4- توظيف العمال مثل عامر بن فهيرة مولى أبي بكر؛ حيث كان يرعى غنمًا ويأخذها لإعفاء أثر أقدامهما.
5- توظيف النساء ومنهن أسماء بنت أبي بكر التي كانت تحمل الطعام إلى الغار، وهي امرأة حامل لن يؤذيها أحد، بل يشفقون عليها حسب القيم العربية، وكما حاور أم معبد وكان لها دور مهم في توفير الشاة والطعام.
6- توظيف غير المسلم لخبرته وأمانته؛ حيث استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط الليثي، الذي وصفته الروايات بأنه كان هاديًا خريتًا أي عارفًا بالطرق غير المعتادة، كما أنه يتصف بالرجولة الفائقة والأمانة النادرة، فلا تضعف نفسه أمام المكافأة الكبرى التي رصدتها قريش وهي مائتا ناقة، ويصير بها صعلوك العرب من أغنى الأغنياء، ولا يتصف الرجل مع كفره بالعلم والخبرة فقط وإنما بالقوة والمرونة، وفي هذه المهمة فائقة الأهمية يوظف لها غير المسلم بل عابد الصنم بلا حرج.
7- توظيف عنصر الزمن: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة- حين يستريح الناس في بيوتهم- إلى أبي بكر رضي الله عنه؛ ليبرم معه مراحل الهجرة، وخروجه للهجرة في عتمة الليل حين ساد الهدوء ونام عامة الناس، واستكن في غار ثوْر ثلاثة أيام؛ حتى يهدأ الطلب، وتقل الملاحقة في مكة.
8- توظيف عنصر المكان: حيث اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج من خوخة في دار أبي بكر ليلاً ليحافظ على أهل البيت، ثم لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن ، في جهة الجنوب من مكة، وليس في جهة الشمال؛ حيث الطريق إلى يثرب؛ لصرف الأنظار، وتعمية الأبصار، وتضليل الكفار.
ولما خرج من الغار كانت روعة التخطيط في توظيف الطرق غير المعروفة؛ حيث جاء في سيرة ابن هشام أن عبد الله بن أريقط أول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا.
9- توظيف الدواب في اختيار راحلتين قويتين من الإبل تعينان على السفر الطويل، كما تم توظيف الغنم في إخفاء الأثر، وإخفاء معالم الحركة لرسول الله أو مَن يقوم بدور الإتيان بالأخبار أو الطعام أو الهداية على الطريق الأنسب، كما وظِّفت الغنم أيضًا في الحصول على ما لا يستغني عنه إنسان من غذاء وسقاء في القصة المشهورة لشاة أم معبد، الأمر الذي كان سببًا في إسلام الأسرة كلها.
10. الاهتمام بالجانب الصحي؛ حيث كان الطعام يأتي طازجًا على يد أسماء بنت أبي بكر كل يوم في الغار، ولما طلب شاةً من أم معبد غسل ضرع الشاة قبل حلابتها، ولما وصلوا المدينة المنورة كان الاستقبال حافلاًَ، وتمت المؤاخاة لترابط الأمة الوليدة، وكذلك تم بناء المسجد وبناء السوق؛ لدمج العبادات والمعاملات في وقت واحد، ولما مرض الصحابة في المدينة لتغير المناخ دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الصحيح: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجُحْفَة ".
وقد جمع الحديث بين الصحة الجسدية والاقتصادية والنفسية في حب المقام بالمدينة مع البركة في صاعها ومدها، وأن تخلو من أمراض البيئة وتنتقل الحمى إلى الجحفة.
11. توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية: إن التخطيط الإسلامي يراعي أعلى درجات المكارم الأخلاقية؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(1)، فمع كل ما قام به المشركون في مكة من أذى وتعذيب وقتل وسلب ونهب ومطاردة إلا أنهم كانوا لا يثقون في أحد يودعون عنده الأمانات مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن غدرهم مسوغًا لإهدار قيمة الأمانة وردها إلى أهلها، فأبقى النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا لهذه المهمة، وترك المشركين في حيرة بين ترديهم في المساوئ الأخلاقية، وترقى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المكارم الأخلاقية، ثم مع كل التضحيات التي قام بها أبو بكر طواعية إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منه ناقة للهجرة أخذها بثمنها في أدب جم، وذوق رفيع، يفرق بين العطاء والطلب، كما أنه صلى الله عليه وسلم لما حلب شاة أم معبد سقى صاحبة الشاة أولاً، ثم سقى أبا بكر ثانيًا، وكان آخرهما شربًا، ولما وصل إلى المدينة كان ضيفًا خفيفًا على أبي أيوب الأنصاري، ومع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ظهر منهم أعظم الإيثار الذي قابله أعظم التعفف من المهاجرين؛ حيث عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف أن يختار أحسن داريْه وجنتيْه وزوجتيْه، فتعفف قائلاً: جزاك الله خيرًا، بارك الله لك في مالك وأهلك ودارك، دُلًَّني على السوق، وذهب يتاجر في الألبان حتى غنم مالاً كثيرًا، وصار المهاجري يطعم الأنصاري، والأنصاري يؤثر المهاجري.
هذه مجرد نماذج تدل على أعظم صور التخطيط السليم، وعدم التواكل على أنه عبد الله ورسوله ولن يضيعه، ووظف الموارد البشرية والحيوانية والمكانية والزمانية والقيم الأخلاقية فماذا كانت النتيجة؟ هذا ما سأتناوله في العناية الربانية.
ثانيًا: نجاح التخطيط بالعناية الربانية:
إن نجاح التخطيط يبدو من النتائج التي تتحقق في أرض الواقع، لكن التخطيط الإسلامي يتعدى هذا البعد الأرضي المادي إلى الفوز في الدنيا والآخرة، وإصلاح المعاش والمعاد؛ لقوله سبحانه: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)) (البقرة)، ويرى الإمام الشهيد حسن البنا أن المسلمين في عهودهم المتأخرة آمنوا بالقضاء والقدر إيمانًا معكوسًا؛ حيث تركوا الأسباب متواكلين على ربِّ الأرباب، فجاءت النتائج سيئة وفقًا للسنن الإلهية، فقالوا: "قضاء وقدر"، مما يؤكد أن الأمة يجب أن تؤمن بالقضاء والقدر في النتائج لا الأسباب، وقد أكد هذا الشيخ الغزالي عندما علّق على دقة وقوة التخطيط في غزوة بدر فقال: "لقد أعدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العدة كاملة كأنه لا يتوكل على الله، ثم ذهب إلى العريش يدعو ربه في العريش كأنه لم يعدّ شيئًا قائلاً: "اللهم إن تُغلب هذه العصابة فلن تعبد على الأرض بعد اليوم"، وعليه فإن نتائج الأخذ بالأسباب جاءت كاملة من رب الأرباب في التخطيط للهجرة؛ حيث كان هناك النجاح الأكبر بالانتقال من الدعوة إلى الدولة، ومن العبادة إلى القيادة، ومن الجماعة المستضعفة بمكة إلى الدولة الراسخة بالمدينة، مع صور عديدة من العناية من أول الرحلة إلى آخرها، منها ما يلي:
1- خرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب بيته الرئيسي مارًّا بين أربعين من فرسان العرب وقد أجمعوا على قتله، وتفريق دمه في القبائل، لكن عناية الله أعمت أبصارهم فلم يكتف باختراق صفوفهم بل أخذ حفنة من البطحاء فجعل يذروها على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو : (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)) ( يس)، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا.
2- لما استكن النبي وصاحبه في الغار واشتد المشركون في الطلب وتعقّبوا كل مكان يمكن أن يختبئ فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ووصلوا إلى باب الغار، واشتد الأمر على أبي بكر، فعاجله النبي صلى الله عليه وسلم بأن عناية الله تحوطنا، كما قال سبحانه: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) (التوبة: من الآية 40)، وفي هذا يروي البخاري بسنده عن أنس عن أبي بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت : يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال صلى الله عليه وسلم : "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ".
3- أن يجري الله تعالى اللبن في شاة أم معبد ولم تكن شاة تحلب، بل إن بعض الروايات تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن شاة لم ينزُ عليها الفحل؛ أي: لم يَسبق لها أن حَمَلت أو حُلبت، فكانت العناية الربانية في إدرار اللبن منها.
4- لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بكلِّ أسباب التخفي برحلته، وتكفل شياطين الجن بإخبار قريش بشعر فعُرف مكانه وطريقه، فسبق إليه سراقة بن مالك على فرس جموح فساخت يدا الفرس في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخر سراقة عنها ثم زجرها فنهضت، فتكرر هذا الأمر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ارجع ولك سوارا كسرى"، في الوقت الذي يُطمئن صاحبه أبا بكر في الهجرة عندما قال: أُدركنا يا رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" فقلت : هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ( التوبة : من الآية 40 ).
هذا غيض من فيض أنهار العناية الربانية التي يكرم الله بها من يأخذون بالأسباب.
ثالثًا: واقعنا المصري والعربي بين الأسباب الأرضية والعناية الربانية:
لا يخالجنا أدنى شك أننا في هذه المرحلة التاريخية إذا أخذنا بأسباب التخطيط السليم الذي يوظف قطرة الماء وهي عندنا بفضل الله أنهار تجري في الأرض، وأمطار تنزل من السماء، وشمس تشرق كل صباح تضاعف النماء، وأرض مليئة في أعماقها بالمعادن النفيسة كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد: من الآية 25)، أنزله الله من السماء وأودعه في جوف الأرض، وأودع البترول والغاز والخيرات الجمة التي تحتاج لتخطيط وإدارة وحسن توكل على الله تعالى، فأرضنا بفضل الله خصبة ومياهنا عذبة، ورجالنا ونساؤنا مبدعون عاملون مخلصون إذا توفرت لهم الحرية والكرامة والعزة والمكانة، وسوف نجد بإذن الله انطلاقة فتية وحركة سوية، نحو الاستثمار في الزراعة والصناعة والتجارة والبحث والتأليف والابتكار والإبداع والاختراع، مما نثق في وعد الله تبارك وتعالى الذي قال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ) (الأعراف: من الآية 96) إنه ليس قطرات من البركات بل فتوحات من هذه البركات، وليست من الأرض دون السماء؛ بل من السماء والأرض، ومع أننا في مصر ما زلنا نعاني من الفلول وأعداء الثورة والبلطجية لكن هذا الشعب الذي انتفض وقدَّم الشهداء والجرحى، كافأه الله تعالى هذا العام على سبيل المثال لا الحصر؛ حيث جاء إنتاج القمح في عام 2011م ثمانية أضعاف إنتاجه عام 2010م، وهي منحة السماء لشعب يريد العزة والإباء، كما كان يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: "لن يكون قرارنا من رأسنا حتى يكون طعامنا من فأسنا".
إنني أدعو كل مصري وعربي أن يتجه إلى إدراك طاقته الداخلية وموارده الخارجية التي منَّ الله بها عليه، وأن يوظفها في مشروع صغير أو كبير حسب ما أنعم الله عليه، وليعاون غيره ولو بالفكرة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكسب المعدوم فيخطط له حياته ولو ببيع الحصيرة التي يملكها ويأكل بثلث ثمنها ويشتري قدومًا ليقطع به حطب الشجر ويدخر الثلث الباقي، وقال له: "اذهب فاحتطب ولا أرينك خمسة عشر يومًا" فعاد وقد رزقه الله رزقًا وفيرًا؛ لننتقل إلى ميدان العمل كما قال الإمام الشهيد حسن البنا: إن ميدان القول غير ميدان العمل، وإن ميدان العمل غير ميدان الجهاد، وإن ميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الباطل، فلنبدأ المشاريع أفرادًا ومجموعات، وسوف نسعى بكلِّ جهدنا إلى تذليل كل العقبات أمام الشباب والفتيات، والرجال والنساء، المسلمين وغير المسلمين؛ لنصنع في كل بلد سلامًا اجتماعيًّا نؤدي فيه حقوق المواطنة الأربعة، وهي: للناس رعاية، وللأرض عمارة، وللقانون طاعة، وللسلطة معاونة، فيما لا يخالف شرعًا، ثم نثق تمام اليقين أن رب العالمين لن يخذلنا، فهو سبحانه الذي وعد ولا مخلف لوعده، ومن أوفى بعهده من الله؟ حيث قال سبحانه مخاطبًا المؤمنين في كلِّ مكان وزمان: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)) (النور).
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)) (الإسراء).
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم