حب الله
حب الله
لمحبة الله حلاوة في النفس توجب إتباع الحق, ومحبة الخلق, قال الشاعر:
إن المحب إذا أحب إلهه ... طار الفؤاد وألهم التفكيرا
فاسأل هدايتك الإله بنية ... فكفى بربك هادياً ونصيرا
وفي الحديث النبوي: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ, وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) (1).
فحب الله يقتضي طاعته ومحبة خلقه, ومحبة أعمال البر, والنفور عن المعصية, فإذا كنت تحب الله فلا تعصه, وإذا كنت ترجو الله فلا تؤذه, فإن عصيانك لله يتنافى مع ادعاء حبه, وقد جاء في شعر محمود الوراق:
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ ... هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لأَطَعتَهُ ... إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ (2)
فلا تجعل محبتك كلها إلا لله ثم محبة من يحب؛ يكمل إيمانك, ويزدهر بالخير عرفانك, وتكن في عداد المتقين, ولا تحب شيئاً محبةً تساوي محبته لكي لا تكون من الظالمين الذي اتخذوا من دون الله أنداداً وجعلوا له من خلقه أضداداً, وفي الذكر الحكيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} (3).
فالقلوب المحبة لله تمتلئ نوراً, وتزداد سروراً, ويجلس أصحابها على منابر من نور يوم القيامة, لأنهم أحبوا الله وأحبوا من أحب, ففي الحديث النبوي: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ) (4).
وما أجمل قول الشاعر:
قلوب براها الحب حتى تعلقت ... مذاهبها في كل غرب وشارق
تهيم بحب الله والله ربها ... معلقة بالله دون الخلائق
ولله در احمد شوقي حيث يقول:
وَمَن يَعدِل بِحُبِّ اللَهِ شَيئاً ... كَحُبِّ المالِ ضَلَّ هَوىً وَخابا
وقال آخر:
أُحِبُّكِ أَصنافاً مِنَ الحُبِّ لَم أَجِد ... لَها مَثَلاً في سائِرِ الناسِ يوصَفُ
فَمِنهُنَّ حُبٌّ لِلحَبيبِ وَرَحمَةٌ ... بِمَعرِفَتي مِنهُ بِما يَتَكَلَّفُ
وَمِنهُنَّ أَلّا يَعرِضَ الدَهرُ ذُكرَها ... عَلى القَلبِ إِلا كادَتِ النَفسُ تَتلَفُ
وَحُبٌّ بَدا بِالجِسمِ وَاللَونِ ظاهِرٌ ... وَحُبٌّ لَدى نَفسي مِنَ الرَوحِ أَلطَفُ
ويرحم الله الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه حيث يقول:
قَريحُ القَلبِ مِن وَجَعِ الذُنوبِ ... نَحيلُ الجِسمِ يَشهَقُ بِالنَحيبِ
أَضرَّ بِجِسمِهِ سَهَرُ اللَيالي ... فَصارَ الجِسمُ مِنهُ كَالقَضيبِ
وَغَيَّرَ لَونَهُ خَوفٌ شَديدٌ ... لِما يَلقاهُ مِن طَولِ الكَروبِ
يُنادي بِالتَضَرُّعِ يا إِلَهي ... أَقِلني عَثرَتي وَاِستُر عُيوبي
فَزِعتُ إِلى الخَلائِقِ مُستَغيثاً ... فَلَم أَرَ في الخَلائِقِ مِن مُجيبِ
وَأَنتَ تُجيبُ مَن يَدعوكَ رَبّي ... وَتَكشِفُ ضُرَّ عَبدِكَ يا حَبيبي
وَدائي باطِنٌ وَلَدَيكَ طِبُّ ... وَمِن لي مِثلَ طِبِّكَ يا طَبيبي
والإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه في هذه المقطوعة الشعرية يصف نفسه بأنه جريح القلب من وجع الذنوب وانه ضعيف الجسم يشهق بالبكاء، غير لونه خوف شديد مما يلقاه، وانه التجأ إلى الله يناديه بالتضرع ليقيل عثرته وينهضه مما هو فيه، وانه فزع إلى الناس فلم يجد منهم نجدة، وان الله هو الذي يجيب من يناديه، ويكشف مكان الداء والضر، فهو يناديه بيا حبيبي ويا طبيبي، وله في مناجاة الله ووصفه بالحبيب والذي ياسر بحبه القلوب، وانه ليس في قلبه مكان لسواه، فهو وان كان غائباً عن عينه وجسمه ولكنه حاضر أبداً في قلبه قوله:
حبيب بات يأسرني الحبيب ... وما لسواه في قلبي نصيب
حبيب غاب عن عيني وجسمي ... وعن قلبي حبيبي لا يغيب
وهكذا المؤمن في حبه لربه تجده شديد الحب لله، ملأ الله قلبه حباً له ولرسوله ولشريعته ولمن يحبه الله من خلقه, وفي الذكر الحكيم: {وَالَّذِينَ آمَنُواْأَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} (5)، ومن يرتدد عن دينه ويترك حب الله ودينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه وفي محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (6).
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان حديث (16).
(2) - ينسب هذان البيتان للوراق وللامام عبدالله بن المبارك المتوفى سنة 181هـ، وجاءت في ديوانه ص (50)، الطبعة الثانية 1429هـ، دار اليقين للنشر والتوزيع المنصورة مصر، وجاء في ديوان الامام الشافعي رضوان الله عليه مع زيادة بيت يقول فيه: ... في كُلِّ يَومٍ يَبتَديكَ بِنِعمَةٍ ... مِنهُ وَأَنتَ لِشُكرِ ذاكَ مُضيعُ،
ونسبت الى غيرهم والله اعلم.
(3) - سورة البقرة الآية (165).
(4) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في الحب في الله حديث (2390).
(5) - سورة البقرة (165).
(6) - سورة المائدة (54).