مقامة في الحنين إلى (حبور) والتوجع على أهلها
مقامة في الحنين إلى (حبور) والتوجع على أهلها
منقولة من مخطوطة الديوان الصنعانية، ومصححة على ما ورد في مجموع المقامات اليمنية، جمع وتحقيق عبد الله محمد الحبشي، الطبعة الأولى، 1407هـ/1987م، مكتبة الجيل الجديد:
أما بعد فإني أبدأ بالبسملة. وأشرع كما ورد في الأثر بالحمدله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنه اختار محمداً للنبوة وبعثه بها إلى العباد وأرسله، صلى الله عليه وعلى آله الذين أوضحوا من مسائل شريعته كل مسألة. فأقول من قبيل وأما بنعمة ربك فحدث. إن لي قلباً لم يكن بغير العفاف والكفاف، متشبث. أسبح من الأماني في غير ماء. وأطير بغير جناح من حسن الظن إلى عنان السماء. أمسي وأصبح مما تعب فيه سواي طيباً مستريح. زادي التقوى وغذائي كالملائكة التسبيح. وأعيش باللذات الوهمية، مثل استحسان برق الغمام وسجع الحمام، وخفوق الريح. لا تغرني زهرة الحياة الدنيا. ولا تطمع نفسي بحمد الله إلى شيء من الأشياء.
إنما المقصد الحسن ... أبداً رؤية الوطن
واجتماعي بمن به ... وبقلبي الشجى سكن
وطني حيث لم يكن ... لي في غيره شجن
إنه برؤ ساعة ... من أذى البث والحزن
وهو قوت القلوب إن ... عافت الزبد واللبن
كلما عنَّ ذكره ... سنح الشوق لي وعن
إذا حن طائره ... حن قلبي هوى وأن
فليخبر الشاهد الغائب. ويسمع عقيدتي أهل المشارق والمغارب. وليبلغ عني هذا إلى جميع الأحباب والحبائب: ولينشدهم عني وهو يساجل بدموع عينيه دموع السحائب.
يا نزولاً بسفحه ... أنتم من ذوي الفطن
سيبويه النوى على ... صنعة النحو قد مرن
لم يكن بين ساكنـ ... ـين مدى الدهر يجمعن
ما على نحوي الوصا ... ل من العار أن لحن
صرت أهوى لأجل ما ... قد جرى اللحن واللكن
مع أني أفصح من نطق بالضاد. ولي في البلاغة المنهل الذي لم يصدني عنه صاد. والقصائد التي أقرت لها قفا نبك وبانت سعاد:
فلي المنطق الذي ... شاع في الشام واليمن
كحمام سمعته ... يتغنى على فنن
أمسك العود باليدين ... وغنى بكل فن
حرك السجع منه ما ... كان من لوعتي سكن
دغدغ العود مظهراً ... من هوى القلب ما بطن
يتساوى من الهوى ... معه السر والعلن
فلقد أطربني سجعه. وشافني جره ونصبه للعود ورقعه. وتوافق في الحركات والسكنات طبعي وطبعه. وأعجبني طاغوت الهوى شرعه ومنعه، حتى صرت أهوى موائد الغصون. وألهج بارتشاف الثغور وشم ورد الخدود ونرجس العيون. مع أن التطفيل لا كان مني ولا يكون فلا شيء أخس من التطفيل . والحمد لله الذي لم يجعلني من هذا القبيل. قل أعوذ برب الناس. أن أنبز بين المحبين بطفيلي الأعراس. فهذا في محبتي الحمام هو السبب فإذا امتزجت به امتزاج الراح بالماء فلا عجب، {فلكل جعلنا منسكاً هم ناسكوه} والمرء مع من أحب فطالما شكوت عليه من الزمان واقتديت، في الولوع بالأغصان، وجعلته في المطارحة بالأوراق من أكبر الأعوان وخاطبته وأنا في بكاء ونحيب، وحادثته وقد جعلت الدمع سائلاً ومجيب وأفهمته أني لم أكن في جميع الأمور كغيري. وقلت له وقد وافق طيره طيري:
يا حمام الحمى أسمعن ... لي شكوي من الزمن
في نظام إذا قرعـ ... ت اختباراً بفاه طن
كن به دائماً معي ... فوق تلك الربا تغن
غنِ يا شادي الحما ... م شعري هناك غن
وارفع الصوت مجرياً ... للأغاني على سنن
كما أجرى سيدي إسماعيل الأمور على سنن واحد. واستمر في العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى على أحسن العوائد. وساوى فيما بين عمرو وزيد وبكر وخالد، وأبقى أصول المسائل وحذف الزوائد، إلا أني أشهد الله عليه وكفى به شاهد. أنه أحمى الكاوية في النار الموقدة من الغضب الذي أثارته الحواسد، وأمضاها على السندس والاستبرق ممن في تلك المعاهد من الخرائد، ولم يعمل بقول المتنبي فيما قاله في سيف الدولة من غرر القصائد الفرائد.
فلم تبق إلا من حماها من الضبا ... لمَى شفتيها والثدي النواهد
فكم راع هناك من ظبي كحيل وظبية، وضرب على كل مؤمن ومؤمنة جزية:
لا سواد العيون ها ... ب ولا حمرة الوجن
لا ولا قامة بها ... في قلوب الورى طعن
لا ولا مرشف حلى ... لا ولا مبسم فتن
أشبهت كل خضرة ... عنده خضرة الدِّمن
صار سيفاً مجرداً ... مثل سيف بن ذي يزن
فرض الفتك بعدما ... سل أسيافه وسن
إن سكّينه غدت ... لهم تصحب المسن
فلهذا بعينُه ...قد جفى جفني الوسن
وطني صار رافلاً ... في ثياب من المحن
كان للغيد ملعباً ... فاغتدى ملعب الفتن
فإذا نفضت يا حمام الحمى جناحيك، وحركت عيدان الأراك بكلتا يديك، وأنفقت على سماع الظبا والمها مما لديك إن كان الأمر في معاتبة الملك المطاع إليك، فاعمل بمقتضى الحال فما أريد أن أشق عليك، إلا أنه ينبغي أن تتعرض لمثل هذا الملك الكريم، وتتلو عليه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ}. وترفرف على القصور التي حول (دار النعيم) وخبّر أهلها أني من الغيرة عليهم في كل وادٍ أهيم، فلا تمل من السجوع ولا تسأم من الأنين والحنين فوق تلك الربوع، وليكن شروعك في ترديد المثاني والمثالث من نحو الشروع فلا تترك معنى من المعاني للولوع، فإذا احتجت إلى عارية الدموع، فلن تجدني لها منوع.
وابك عني فطالما كنت من ... قبل أعير المدامع العشاقا
* * *
ومتى ما بدا الضيا ... لك من أرفع القنن
ورأيت السماح من ... راحتيه قد أرجحن
قلت ما لي أراك يا ... ذا العلا ضيق العطن
كيف يستحسن القبيح فتى من بني الحسن
كيف يتحسن القب
فيا حمام الأراك إني أحب أن أسمعك لديه وأراك، فلو أن لي مثلك جناحين لطرت بهما إلى هناك، حتى أسمع وأرى، وأسمعك من حمائم تلك المنازل سجعاً إذا سمعته اعتقدت أنك تسمع وترى من مبسم نظيم ولسان إذا سمع معبد صوته صحّ عنده وثبت، أن فوق كل ذي علم عليم، وقال بعداً وسحقاً لإسحاق وابنه إبراهيم، وقد تعين لأجل مراعات النظير، أن أرجع إلى ذكر إسماعيل، لكونه المراد بهذا الكلام العريض الطويل، فإذا أبصرت محياه وهو يضيء مثل القنديل ذكَّرته بقوله تعالى:{فاصفح الصفح الجميل}.
واقض فيما تريده ...عنده مطلق الرسن
واركعن واسجدن له ... كل حين على الذقن
واخفضن الجناح إن ... شئت تنجو من الفتن
لم يكن ذا وذا وذا ... فعل من يعبد الوثن
فاخفض له جناح الذل واستغن بالبعض من العتاب عن الكل، ودق عليه باب الإذلال، وافتح وادخل وتنحنح لإصلاح صوتك كما يتنحنح الخطيب وقل:
الضيا ضمني وما ... يوجب الظن في قرن
بعد أن كان جنة ... لي من أمنع الجنن
خاب ظني ولم يكن ... خاب لي قط فيه ظن
آه منه فقد لوى ... جيده عن وعن وعن
إن يكون روع العد ... و فما باله إذن
راع قلب الصديق وهـ ... ـو المنقَّى عن الدرن
لن تراني به وقد ... راعني اطمئن لن
فدق باب كرمه مع من دق. واذكر له ما جل من الملامة ودق. وقل له بحسن عبارة ما له برثم عق، وحمل جمل الصداقة حتى رغى وعق، وازرق من نهاك عن اشكوى والحق واتل في أثره {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}:
يا رشيد الأنام أنت ... ذا أمين ومؤتمن
كم تلقيت منَّة ... منك زادت على المنن
منَّة ما لها سوى ... كثرة الشك من ثمن
ولم أدر بعد هذا ما أقول. ولا في أي وادٍ معك أجول، إلا أن لكل نبأ مستقر وكل مجر في الخلا يسر، فلو رأيت أعين الحور العين، وتجلت لك الأهلة المشرقة من كل جبين، ونظرت من ستر رقيق إلى طرر فوق كل طرة كالسين، وتمايلت أمامك القدود المشبهة بالمد واللين، لعلمت علماً يقيناً من يمسي ويصبح
بتلك الرماح طعين:
أصبح الروح في ... حَبور وفي ريمة البدن
كم وكم فيه من رشا ... يشبه الشادن الأغن
قلت والروح في يديه ... مدى الدهر مرتهن
أبرزوا وجهه المليـ ... ـح ولاموا من افتتن
لو أرادوا صلاحنا ... ستروا وجهه الحسن
فومن زان الحمام المتقدم ذكره بالطوق، وحكم بان مخاصمة من إذا قال فعل غير داخلة مني ومنه تحت الطوق، وألبس كلاٍّ منا ملابس الولوع والشوق، لو عرف سيدي الأنوا ع التي عرفها والأجناس، لقر من الرحق تاليا {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}. ولا أقتطف ثمراً لمهانة متشابهاً وغير متشابه، ودخل بيت الحذر من بابه، وتلى وقد حمد الله تعالى على العافية {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. وألقى السلاح عجزاً واتخذ (شهارة) معقلاً وحرزاً. واستعاذ بالله ممن يعبد اللات والعزى، وخرج من حبور خائفاً يترقب، لأنه لا يحلوا له مطعم ولا يصفو له مشرب، فيا ليت يا ليت يا ليت، أنه ينشدهم هذا البيت.
لم يبق للجور في ساحاتكم أثر ... إلا الذي في عيون العين من حَور
فالسحر الذي يصدر من ألحاظ كل مليحة ومليح، من العلل التي يعجز عن علاجها المسيح، اللهم انظر إلينا، وحوالينا من السحر المبين ولا علينا:
وفي الضيا هوى العيون فإنه ... ما لا يزول ببأسه وسخائه
فليطالع ما للعماد الكاتب من التشبيب، وليبحث عن الدواوين بما له من الغزل والنسيب، فكم خاطب الأقمار والشموس، وأدار عليهن كؤوساً تميل منها الرؤوس وتطمئن معها القلوب وتطيب النفوس،
انتهت.