قراءة في المجموعة القصصية «الرقص في العتمة» لخالد عطية العشوش
قراءة في المجموعة القصصية «الرقص في العتمة» لخالد عطية العشوش
* ثامر إبراهيم المصاروة
يطالعنا للوهلة الأولى عند قراءة المجموعة القصصية لخالد العشوش (الرقص في العتمة) الملمح الحداثي في المشهد السردي، حيثُ استفاد القاص من الإنتاج السينمائي الذي يختفي الراوي خلف عدسته؛ لكي يصور ويشاهد اللقطات البؤرية منتجًا نصًّا قصصيًا سينمائيًا.
فخرج العشوش في مجموعته القصصية من أسلوب الخطاب السردي الواقعي التقريري إلى أسلوب السرد الشعري الممتزج بالخيال والصور الفنية المدهشة، وقد ساعده في ذلك التجاوز الكاميرا التي كان يتجوّل بها؛ ليرسم مشاهده القصصية المتسمة بالاختزال والتكثيف.
فبدأ القاص في مجموعته تلك بسرد مشهده السردي بعدسته الخاصة، فأصبحت المشاهد تروى بلسان الراوي العليم الذي خَبِر التفاصيل كلّها عن فلمه السينمائي، وبلغةٍ شعرية تُتيح له الفرصة في التعبير عن كل ما يختلج أطروحاته السردية مثيرًا تساؤلات كثيرة في ذهن القارئ.
ويعدّ العنوان العتبة الرئيسة للولوج إلى كوامن النصّ الغامض أيًا كان، وتحديد أُطره خلف الكواليس التي تبعث روح الطمأنينة أو الخوف لدى القارئ، وما جاء به العشوش من عنوان لمجموعته القصصية (الرقص في العتمة)، فيضع القارئ في بوتقة السينما؛ لمشاهدة ذلك الرقص الذي اختزله في مشهده السردي من خلال تصوير دقيق لتفاصيل توحي بفك الغموض إلى حدٍ ما.
إن الشعرية في رأيي تتجاوز المألوف إلى اللامألوف ومن النصية إلى اللانصية في المشاهد؛ لتثريه بالمعاني والدلالات، التي يعتمد فيه القاص على الأخيلة معبِّرًا عن كوامن ذاتيه، وهذا ما سنلاحظه إذ تتبعنا السرد القصصي لدى العشوش الذي أخذ ينهل من منابع الحداثة والتجريب في الطرح القصصي.
ولو تتبعنا قصة (الرقص في العتمة) إحدى القصص المركزية في المجموعة، لوجدنا ذلك النسيج الشعري المشكّل في حلقات سينمائيه منتقاة من بؤر عدسة راو كلي العلم، فيقول: «كان يبحث بعينه عنها، إنه يراها في كل شيء شفافةً كقطرة ماء تنحدر من أعالي الجبال، أو كنسمة في حر الصيف تلامس بصوتها الرخيم وعذوبته شغاف قلبه،.... لا زال أمامه متسعٌ من الوقت، أخذت دقات قلبه في الارتفاع والانخفاض، نظر من النافذة التي طالما وقف أمامها مناجيًا ومتضرعًا ومعللاً نفسه برؤيتها» ص 87.
إنّ المقطع السردي ممتلئ بالشاعرية الممزوجة بالعطف والحب والحنان، فحاول القاص أن ينقل لنا ذلك المشهد السردي بكاميرا موغلاً بالتفاصيل الدقيقة، وكأنه أراد أن ينتج فلمًا سينمائيًا، فتتحرك تلك القصة على فسيفساء سردية تتآلف لتجسم تلك المشاهد مشكلةً صورًا حواريّةً جميلةً، والتي حرّكتها كاميرا السارد البصرية؛ لتفضي للقارئ نصًا من الوصف المتحرك، فيقول: «وكثيرًا ما كان يردد مقاطع من (الكرنك) التي أدمن السماع إليها (أنا هيمان ويطول هيامي صور الماضي ورائي وأمامي)» ص 91.
وينحرف السارد بعد ذلك المشهد السردي ببؤرته الكامنة؛ ليصف عبق المكان إلا أن فضاءات البؤر العدسية، لا تمكث طويلاً حتى تصوّر تفاصيل المشهد السردي كاملاً، «كانت وعن بعد تحت الخُطى مسرعةً، كما لو كانت ملكة من العصور العابرة، تتقافز حولها طالبات صغيرات، يحاولن عبثًا اللحاق بها، ومجاراتها في مشيتها الملكية، فيما هو كان مترددًا حائرًا في الخروج، خذلته مشاعره الجارفة من الخروج، ليس خوفًا أو هربًا منها، ولكنه الحب الهائل الذي يحمله لها...» ص 89ـ 90.
واستطاع السارد بالكاميرا ذاتها أن يوتّر السرد المؤطر بالمصارحة والمكاشفة وما يكمن خلف عدسته، «وقرر الاكتفاء بمراقبتها، والاستمتاع بالنظر إليها، وقف شاخصًا بنظره إليها، وهي تقترب من نافذته المغلقة، كانت قد اقتربت من النافذة، لاحظ أنها أبطأت من مشيتها متظاهرة بأنها تنتظر من وراءها، وتوقفت تمامًا أمام النافذة تختلس النظر إلى المكان....» ص 89ـ 90.
ونلحظ بتوقف الكاميرا عن الالتقاط؛ ليسرد مشاهد سردية مؤطرة، لما جالت به عدسته من تصوير، «شهق وقد خنقته عبارات الفرح عندما انتابه شعور لا يقبل الشك بأنها تبحث عنه...» ص 90.
وما يلبث السارد طويلاً عن التصوير وعن خيبة التوقع التي شعر بها قبل ذلك المشهد، لينتقل بالعدسة نفسها ليلتقط مشهدا سرديا آخر يصوّر فيه اللقطة السينمائية الأخيرة التي أوحت للقارئ باللاتوقع، «نادى عليها بما يشبه الحشرجة أو الاستغاثة، بالعًا ريقه أكثر من مرة: لو سمحتِ لو....؟ في البداية تجاهلت حشرجته تلك، ثم بعد ذلك، وقفت دون أن تنظر إليه كانت عيونها تقول شيئًا غير متوقع بالنسبة إليه....» ص 92.
ويفاجئنا القاص بأسلوبيّة الحوار التي التقطته تلك الكاميرا، فجاء ضمن فضاءات أكثر اتساعًا لتشمل المسموع والمرئي الملتقط، فبدت المشاهد السردية أكثر التحامًا من خلال بؤر مسموعة غير مرئية، «قال مشجعًا نفسه: ـ الحقيقة أنا اعتذر عن إزعاجي لكِ، ولكني أريد الدخول من الباب لا من الشباك. رمقته ببلاهة قائلة بعد صمت: ـ أي باب وأي شباك؟؟!!» ص 93.
فاستطاع السارد كلي العلم أن ينعش القارئ ويوتّر سرده من خلال الخيبة واللاخيبة في التوقع من خلال لقطات الكاميرا في صور حواريّة توغل القارئ للتأويلات في المشاهد السردية اللاحقة.
وما تلبث الكاميرا طويلاً حتى تكشف لنا المشهد الأخير في مونتاج سينمائي، «ولاحظ أفراد أسرته بأنه يكثر من سماع (الجندول) ويردد المقطع الشهر(أنا من ضيع في الأوهام عمره.. نسي التاريخ أو أُنسي ذكره)» ص 93، وبهذه اللقطة السريعة يقفل السارد مشهده الأخير، حيثُ يشعر القارئ بتحوير بنية السرد عن المشهد السابق الذي كان قد سمعه من (الكرنك).
يمكن القول إن مجموعة خالد العشوش تنسحب على ذلك الملمح الحداثي، من شعريّةٍ في القص السرديّ ومن لقطات مشاهد محوريّة تتلاحم لتشكل نسيجًا متماسكًا مع التحوير في البنية السردية الرئيسة، ويتضح ذلك الملمح في قصص أخرى في المجموعة ذاتها، مثل: (مشهد في الشارع العام) و(في الزقاق الذي أقطنه) و(الذباب) و(أبو صليبيا) وغيرها، وانفتاح البؤر العدسية ربما يكون واضحًا من خلال العنوان الذي يعدّ العتبة الرئيسة للولوج إلى كوامن النص.
وخلاصة القول إن المجموعة القصصية (الرقص في العتمة) تندرج تحت مسمى (قصة الحداثة) إن جازت لي التسمية؛ لأن القاص قد استخدم أدوات جديدة وأساليب تتضمن مفهوم الحداثة والتجريب، سواءٌ أكان على مستوى المضمون أم الشكل.
التاريخ : 06-01-2012