فضاءات شنهور

شنهور

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
الطيب سيد أحمد محمد
مسجــل منــــذ: 2011-02-13
مجموع النقط: 1458.41
إعلانات


( عبد الرحمن بن عوف )

عبد الرحمن بن عوف - ما يبكيك يا أبا محمد ؟

...................


ذات يوم، والمدينة ساكنة هادئة، أخذ يقترب من مشارفها نقع كثيف، راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي الأفق.

ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء الناعمة، فاندفعت تقترب من أبواب المدينة، وتهبّ هبوبا قويا على مسالكها.
وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها، لكنهم سرعان ما سمعوا وراء ستار الغبار ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.

ولم يمض وقت غير وجيز، حتى كانت سبعمائة راحلة موقرة الأحمال تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا، ونادى الناس بعضهم بعضا ليروا مشهدها الحافل، وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير ورزق..

وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد ترامت إلى سمعها أصداء القافلة الزاحفة..

سألت: ما هذا الذي يحدث في المدينة..؟

وأجيبت: إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف جاءت من الشام تحمل تجارة له..

قالت أم المؤمنين:

قافلة تحدث كل هذه الرّجّة..؟!

أجل يا أم المؤمنين.. إنها سبعمائة راحلة..!!

وهزت أم المؤمنين رأسها، وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا، كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته، أو حديث سمعته..

"أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا"..



عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا..؟

ولماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول الله..؟

ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة إليه، فتذكر أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة، وبأكثر من صيغة.

وقبل أن تفضّ مغاليق الأحمال من تجارته، حث خطاه إلى بيت عائشة وقال لها: لقد ذكّرتيني بحديث لم أنسه..



ثم قال:

" أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها، وأقتابها، وأحلاسها، في سبيل الله عز وجل"..

ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها في مهرجان برّ عظيم..!!

هذه الواقعة وحدها، تمثل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبد الرحمن بن عوف".

فهو التاجر الناجح، أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..

وهو الثري، أكثر ما يكون الثراء وفرة وإفراطا..

وهو المؤمن الأريب، الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين، ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة الإيمان ومثوبة الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في سخاء وغبطة ضمير..!!


متى وكيف دخل هذا العظيم الإسلام..؟

لقد أسلم في وقت مبكر جدا..

بل أسلم في الساعات الأولى للدعوة، وقبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم ويتخذها مقرا لالتقائه بأصحابه المؤمنين..

فهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام..

عرض عليه أبوبكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، فما غمّ عليهم الأمر ولا أبطأ بهم الشك، بل سارعوا مع الصدّيق إلى رسول الله يبايعونه ويحملون لواءه.

ومنذ أسلم إلى أن لقي ربه في الخامسة والسبعين من عمره، وهو نموذج باهر للمؤمن العظيم، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضعه مع العشرة الذين بشّرهم بالجنة.. وجعل عمر رضي الله عنه يضعه مع أصحاب الشورى الستة الذين جعل الخلافة فيهم من بعده قائلا:" لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض".

وفور إسلام عبد الرحمن بن عوف حمل حظه المناسب، ومن اضطهاد قريش وتحدّياتها..

وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة هاجر ابن عوف ثم عاد إلى مكة، ثم هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر إلى المدينة.. وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها..

وكان محظوظا في التجارة إلى حدّ أثار عجبه ودهشته فقال:

" لقد رأيتني، لو رفعت حجرا، لوجدت تحته فضة وذهبا"..!!

ولم تكن التجارة عند عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه شرها ولا احتكارا..

بل لم تكن حرصا على جمع المال شغفا بالثراء..

كلا..

إنما كانت عملا، وواجبا يزيدهما النجاح قربا من النفس، ومزيدا من السعي..

وكان ابن عوف يحمل طبيعة جيّاشة، تجد راحتها في العمل الشريف حيث يكون..

فهو إذا لم يكن في المسجد يصلي، ولا في الغزو يجاهد فهو في تجارته التي نمت نموا هائلا، حتى أخذت قوافله تفد على المدينة من مصر، ومن الشام، محملة بكل ما تحتاج إليه جزيرة العرب من كساء وطعام..

ويدلّنا على طبيعته الجيّاشة هذه، مسلكه غداة هاجر المسلمين إلى المدينة..

لقد جرى نهج الرسول يومئذ على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه، أحدهما مهاجر من مكة، والآخر أنصاري من المدينة.

وكانت هذه المؤاخاة تتم على نسق يبهر الألباب، فالأنصاري من أهل المدينة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك.. حتى فراشه، فإذا كان متزوجا باثنتين طلق إحداهما، ليتزوجها أخوه..!!

ويومئذ آخى الرسول الكريم بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع..

ولنصغ للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يروي لنا ما حدث:

" .. وقال سعد لعبد الرحمن: أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه!!

وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها، وتتزوجها..!

فقال له عبد الرحمن بن عوف:

بارك الله لك في أهلك ومال..

دلني على السوق..

وخرج إلى السوق، فاشترى.. وباع.. وربح"..!!

وهكذا سارت حياته في المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، أداء كامل لحق الدين، وعمل الدنيا.. وتجارة رابحة ناجحة، لو رفع صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد تحته فضة وذهبا..!!

ومما جعل تجارته ناجحة مباركة، تحرّيه الحلال، ونأيه الشديد عن الحرام، بل عن الشبهات..

كذلك مما زادها نجاحا وبركة أنها لم تكن لعبد الرحمن وحده.. بل كان لله فيها نصيب أوفى، يصل به أهله، وإخوانه، ويجهّز به جيوش الإسلام..

وإذا كانت التجارة والثروات، إنما تحصى بأعداد رصيدها وأرباحها فإن ثروة عبد الرحمن بن عوف إنما تعرف مقاديرها وأعدادها بما كان ينفق منها في سبيل الله رب العالمين..!!

لقد سمع رسول الله يقول له يوما:

" يا بن عوف إنك من الأغنياء..

وإنك ستدخل الجنة حبوا..

فأقرض الله يطلق لك قدميك"..

ومن يوم أن سمع هذا النصح من رسول الله، وهو يقرض ربه قرضا حسنا، فيضاعفه له أضعافا كثيرة.

باع في يوم أرضا بأربعين ألف دينار، ثم فرّقها في أهله من بني زهرة، وعلى أمهات المؤمنين، وفقراء المسلمين.

وقدّم يوما لجيوش الإسلام خمسمائة فرس، ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة.

وعند موته، أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأوصى لكل من بقي ممن شهدوا بدرا بأربعمائة دينار، حتى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أخذ نصيبه من الوصية برغم ثرائه وقال:" إن مال عبد الرحمن حلال صفو، وإن الطعمة منه عافية وبركة".


كان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده..

وآية ذلك أنه لم يكن يشقى بجمعه ولا باكتنازه..

بل هو يجمعه هونا، ومن حلال.. ثم لا ينعم به وحده.. بل ينعم به معه أهله ورحمه وإخوانه ومجتمعه كله.

ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال:

" أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله.

" ثلث يقرضهم..

وثلث يقضي عنهم ديونهم..

وثلث يصلهم ويعطيهم.."

ولم يكن ثراؤه هذا ليبعث الارتياح لديه والغبطة في نفسه، لو لم يمكّنه من مناصرة دينه، ومعاونة إخوانه.

أما بعد هذا، فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء..

جيء له يوما بطعام الإفطار، وكان صائما..

فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال:

" استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفّن في بردة إن غطت رأسه، بدت رجلاه، وان غطت رجلاه بدا رأسه.
واستشهد حمزة وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة.
ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا وإني لأخشى أن تكون قد عجّلت لنا حسناتنا"..!!

واجتمع يوما مع بعض أصحابه على طعام عنده.
وما كاد الطعام يوضع أمامهم حتى بكى وسألوه:
ما يبكيك يا أبا محمد..؟؟

قال:

" لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير..
ما أرانا أخرنا لما هو خير لنا"..!!

كذلك لم يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكبر في نفسه..
حتى لقد قيل عنه: إنه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه، ما استطاع أن يميزه من بينهم..!!
لكن إذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبلائه، فيعرف مثلا أنه أصيب يوم أحد بعشرين جراحة، وأن إحدى هذه الإصابات تركت عرجا دائما في إحدى ساقيه..
كما سقطت يوم أحد بعض ثناياه. فتركت هتما واضحا في نطقه وحديثه..

عندئذ لا غير، يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع القامة، المضيء الوجه، الرقيق البشرة، الأعرج، الأهتم من جراء إصابته يوم أحد هو عبد الرحمن بن عوف..!!

رضي الله عنه وأرضاه..


لقد عوّدتنا طبائع البشر أن الثراء ينادي السلطة...

أي أن الأثرياء يحبون دائما أن يكون لهم نفوذ يحمي ثراءهم ويضاعفه، ويشبع شهوة الصلف والاستعلاء والأنانية التي يثيرها الثراء عادة..

فإذا رأينا عبد الرحمن بن عوف في ثرائه العريض هذا، رأينا إنسانا عجبا يقهر طبائع البشر في هذا المجال ويتخطاها إلى سموّ فريد..!

حدث ذلك عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجود بروحه الطاهرة، ويختار ستة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليختاروا من بينهم الخليفة الجديد..

كانت الأصابع تومئ نحو ابن عوف وتشير..

ولقد فاتحه بعض الصحابة في أنه أحق الستة بالخلافة، فقال:

" والله، لأن تؤخذ مدية، فتوضع في حلقي، ثم ينفذ بها إلى الجانب الآخر أحب إليّ من ذلك"..!!

وهكذا لم يكد الستة المختارون يعقدون اجتماعهم ليختاروا أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حتى أنبأ إخوانه الخمسة الآخرين أنه متنازل عن الحق الذي أضفاه عمر عليه حين جعله أحد الستة الذين يختار الخليفة منهم.. وأنّ عليهم أن يجروا عملية الاختيار بينهم وحدهم أي بين الخمسة الآخرين..

وسرعان ما أحله هذا الزهد في المنصب مكان الحكم بين الخمسة الأجلاء، فرضوا أن يختار هو الخليفة من بينهم، وقال الإمام علي:

" لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفك بأنك أمين في أهل السماء، وأمين في أهل الأرض"..

واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخلافة، فأمضى الباقون اختياره.

هذه حقيقة رجل ثري في الإسلام..

فهل رأيتم ما صنع الإسلام به حتى رفعه فوق الثرى بكل مغرياته ومضلاته، وكيف صاغه في أحسن تقويم..؟؟

وها هو ذا في العام الثاني والثلاثين للهجرة، يجود بأنفاسه..

وتريد أم المؤمنين عائشة أن تخصّه بشرف لم تختصّ به سواه، فتعرض عليه وهو على فراش الموت أن يدفن في حجرتها إلى جوار الرسول وأبي بكر وعمر..

ولكنه مسلم أحسن الإسلام تأديبه، فيستحي أن يرفع نفسه إلى هذا الجوار...!!

ثم إنه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون، إذ تواثقا ذات يوم: أيهما مات بعد الآخر يدفن إلى جوار صاحبه..


وبينما كانت روحه تتهيأ لرحلتها الجديدة كانت عيناه تفيضان من الدموع ولسانه يتمتم ويقول:

" إني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال"..

ولكن سكينة الله سرعان ما تغشته، فكست وجهه غلالة رقيقة من الغبطة المشرقة المتهللة المطمئنة..

وأرهفت أذناه للسمع.. كما لو كان هناك صوت عذب يقترب منهما..

لعله آنئذ، كان يسمع صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم له منذ عهد بعيد:

" عبد الرحمن بن عوف في الجنة"..

ولعله كان يسمع أيضا وعد الله في كتابه..

( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)..

..............

رجال حول الرسول

خالد محمد خالد

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة