أول ثورات الأستقلال الوطني الفلسطيني
أوّل ثورات الاستقلال الوطني الفلسطيني
كيف أنهى الملوك والامراء العرب اضراب وثورة 1936 ؟!
سجل ثورة 1936..
مراحلها.. ما لها.. وما عليها
كل شيء في الشهور الاولى لعام 1936، كان يدفع الفلسطينيين باتجاه الثورة، حيث التطورات الدولية، والعربية، والمحلية المعقدة والمتشابكة انضجت الوضع لثورة تختلف عن سابقاتها حجماً واهدافاً.
دولياً، نتج عن صعود الح** النازي في المانيا الى السلطة ارتفاع عدد المهاجرين اليهود منها، ومن دول اوروبية اخرى الى فلسطين.
فقد قفز المعدل السنوي للهجرة من (7201) نسمة بين 1926-1932، الى (42.985) نسمة بين 1933-1936 وبعدما كان عدد المهاجرين اليهود من المانيا 9آلاف نسمة عام 1932، اصبح عددهم 30 الفاً عام 1933، و40 الفاً عام 1934، و61 الفاً عام 1936. وبهذه الموجة من الهجرة ارتفع عدد المستوطنين اليهود في فلسطين الى 443 الفاً، يشكلون 30% من اجمالي عدد السكان.
ولم يقف الامر عند حد ازدياد اعداد المهاجرين، وانما شهد ايضاً تطوراً نوعياً تمثل في تدفق اعداد هائلة من اصحاب رؤوس الاموال، فبلغ عدد هؤلاء (3250) شخصاً عام 1933، و(5124) عام 1934، و(6309) عام 1935، فيما وصل حجم رأس المال المستورد بواسطة هؤلاء الى (31) مليون جنيه فلسطيني.
وانعكس هذا الامر، فوراً، قوة اقتصادية متنامية للمشروع الصهيوني بلغت حد السيطرة شبه الكاملة على قطاعي الصناعة والتجارة.
ففي عام 1935 كان عدد المؤسسات الصناعية الفلسطينية 340 مؤسسة، مقابل 872 مؤسسة يهودية. وبلغ عدد العاملين باجرة في المؤسسات العربية 4 الاف عامل، مقابل 13.678 عاملاً في المؤسسات اليهودية. وكان رأس المال الموظف في المصانع الفلسطينية 704 الاف جنيه فلسطيني، وفي المؤسسات اليهودية 4.391.000 جنيه، ووصلت قيمة الانتاج العربي الى 1.545.000 جنيه، والانتاج اليهودي الى ستة ملايين جنيه.
وازاء المنافسة الحادة التي فرضتها الصناعة اليهودية على الصناعة العربية، ونتيجة الحماية الجمركية التي سيجت بها السلطة الانتدابية الصناعة اليهودية، والعقبات التي وضعتها امام مثيلتها العربية، تدهورت هذه الاخيرة، فانخفض عدد معامل الصابون في يافا وحدها مثلاً، من 12 معملاً عام 1929 الى اربعة معامل فقط عام 1935، وتدنت صادرات صناعة الاصداف العربية من 11.532 جنيهاً عام 1930 الى 3.777 جنيهاً بعد خمس سنوات.
وترك الامر اثاراً كارثية على اوضاع العمال العرب. ويتبين من احصاء اجرته "جمعية العمال العربية" بين الف عامل عربي في يافا عام 1936 ان دخل 57% منهم اقل من ثلاثة جنيهات، ودخل 24% اقل من اربعة جنيهات، و 12% منهم اقل من ستة جنيهات، و4% منهم اقل من عشرة جنيهات، و1.5% اقل من 12 جنيهاً و0.5% اقل من 15 جنيهاً، في حين كان متوسط ما تحتاجه العائلة الواحدة 11 جنيهاً.
وعلى الصعيد الفلاحي نتج عن ازدياد الهجرة، ارتفاع حجم ملكية الاراضي من جانب الصهيونيين الى 1.332.000 دونم عام 1936، بعدما كانت 544 الف دونم عام 1925. وازداد عدد المستوطنات اليهودية الزراعية من 124 مستوطنة عام 1931 الى 203 مستوطنات عام 1936.
ورافق هذه الزيادة في حجم الملكيات، تشريد الاف الفلاحين الفلسطينيين عن الاراضي التي حصلت عليها الجهات الصهيونية، تنفيذاً لعقود بيع ابرمتها هذه الجهات مع ملاك يحملون الجنسية اللبنانية. ففي عام 1933 اجلت السلطات البريطانية فلاحي عرب الحوارث عن 41 الف دونم، وشردت 1500 مزارع من مرج ابن عامر، كما اجلت عرب ال**يدات عن اراضيهم في قرية الحارثية القريبة من حيفا.
وعربياً: حصلت عدة دول عربية على قدر كبير من الاستقلال عام 1936 والاعوام التي سبقته:
ففي سوريا، اعلن عام 1930 دستور يمنح السكان حق الانتخاب، وتشكيل حكومة، وتعيين رئيس للجمهورية. وفي مطلع 1936 شهدت سوريا اضراباً عاماً استمر 51 يوماً، وافقت سلطة الانتداب الفرنسي في اعقابه على مفاوضة السوريين، وهي المفاوضات التي اسفرت في ايلول من العام نفسه عن توقيع معاهدة بين البلدين (نقضها الفرنسيون بعد عامين).
وعام 1930 وقعت بريطانيا معاهدة مع العراق كانت بمثابة اعتراف باستقلاله، وبعد عامين اصبح العراق عضواً في عصبة الامم، وكان بذلك اول الدول الخاضعة للانتداب التي تحصل على هذا القدر من الاستقلال.
وفي ما يقارب تلك الفترة، اعترفت بريطانيا بشرق الاردن امارة قائمة بذاتها، مع قدر من الاستقلال.
وفي ايار 1936 بدأت السلطات البريطانية مفاوضات مع حكومة ح** الوفد المصري (اكبر احزاب مصر آنذاك) انتهت بتوقيع اتفاقية بين البلدين تحصر وجود القوات الانجليزية، في مصر بمنطقة قناة السويس، وتنص على تبادل السفراء بينهما.
ضد الانتداب والصهيونية معاً
وعلى الصعيد المحلي كانت الحركة الوطنية الفلسطينية حسمت خيارها من مسألتين رئيسيتين، هما:
1- الموقف من الانتداب البريطاني:
فقد كانت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، في الفترة السابقة، تكرس جهودها ونضالها لوقف الهجرة اليهودية، والحد من استفحال المشروع الصهيوني عبر التفاوض مع السلطات البريطانية، غير ان هذا الاسلوب لم يسفر عن أي نتائج.
وفي عام 1932 اسست بعض اطراف الحركة الوطنية "ح** الاستقلال العربي" الذي جعل من مهامه، ولاول مرة في فلسطين " النضال ضد الانجليز، ومصارحتهم العداء، واعتبار مداراتهم منافية للاخلاص والصبغة الوطنية". واذا كان هذا الح** فشل في استقطاب قطاعات شعبية واسعة، وقيادة الحركة الوطنية لترجمة شعاراته، فقد نجح فكرياً الى حد بعيد، فلم تمض سنوات قليلة الا والنضال ضد الانجليز مطلب الحركة الوطنية الفلسطينية كلها.
2- اسلوب النضال:
كانت القيادة الوطنية لا تحيد عن اسلوب التفاوض، والوسائل الدبلوماسية في تحقيق الاهداف الوطنية. غير ان فشل هذه الاساليب جعل بعض اطراف الحركة الوطنية يتجه صوب اسلوب الكفاح المسلح المنظم.
وكان التنظيم الذي اقامه الشهيد عز الدين القسام اول من ترجم ذلك، عملياً، في المعركة التي دارت في جبال يعبد، وادت في العشرين من تشرين الثاني 1935 الى استشهاد القسام، دون ان تؤدي الى التراجع عن اسلوب الكفاح المسلح، اذ استمر "القساميون" محافظين على تنظيمهم، وتنفيذ بعض العمليات المسلحة ضد البريطانيين والصهاينة.
ويذهب بعض مؤرخي التاريخ الفلسطيني الى ان القائد الشهيد عبد القادر الحسيني، ونفرا من المتعاونين معه، قرروا في 25 اذار 1934 انشاء تنظيم سري للجهاد، سرعان ما تمكن من تشكيل 47 خلية حتى آب (اغسطس) من العام ذاته، و63 خلية حتى شهر ايلول (سبتمبر) التالي. وان هذا التنظيم توحد في اواخر تموز (يوليو) 1935 مع تنظيمات اخرى مماثلة، كانت على علاقة بالمفتي امين الحسيني، لينشأ منها جميعاً تنظيم "الجهاد المقدس". وفي 5 نيسان (ابريل) 1936، قبيل ايام قليلة من الثورة، قرر قادة هذا التنظيم التعاون مع جماعة "اخوان القسام" التي بقيت وفيّة لقائدها، وواصلت العمل بعد استشهاده.
المرحلة الاولى
ارتجال ام تخطيط؟
وبغض النظر عما اذا كانت الثورة انفجاراً شعبياً عفوياً، وهو ما يؤيده اكثر المؤرخين، او ما اذا كانت من تخطيط المفتي، كما يذهب اخرون، فان كل الظروف كانت تدفع باتجاه الثورة. وهكذا، فان الرصاصة الاولى التي اطلقها الشهيد فرحان السعدي في 15 نيسان 1936، جاءت بمثابة شهادة ولادة متأخرة لثورة بدأت، فعلياً، قبل ذلك اليوم.
واذا كان سياسيو الغرب، واكاديميوه، ينظرون الى عدد المشاريع السياسية المقدمة لتسوية المشكلة الفلسطينية، فيطلقون على منطقتنا اسم منطقة "فرص السلام الضائعة"، فان الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939 تعتبر ايضاً من منظور فلسطيني "ثورة ضائعة"، اذا اخذنا بعين الاعتبار شمولها الشعب كله، والجهود الكبيرة التي بذلت في سبيلها، عسكرياً بالدرجة الاولى، وسياسياً فيما بعد وان بدرجة اقل.
فقد تطور العمل العسكري من حال عدم التنظيم والارتجال في البدايات، الى حال التخطيط والجرأة في التنفيذ.
وقد بلغ عدد العمليات التي قام بها الثوار في العام الاول للثورة 4076 عملية، منها 1996 ضد الافراد اليهود، و895 ضد ممتلكاتهم، و795 ضد الجيش البريطاني والشرطة المحلية، و380 عملية ضد وسائل المواصلات.
ونتج عن هذه العمليات استشهاد 224 ثائراً فلسطينياً، وجرح 1126 آخرون. وقتل 33 بريطانياً، وجرح 193 اخرون. فيما بلغت خسائر اليهود 80 قتيلاً و369 جريحاً ودمرت لهم 80 الف شجرة حمضيات، و62 الف شجرة فواكه منوعة، و64 الف شجرة حرجية، واحرق اربعة الاف فدان من المحاصيل المختلفة. وخسر الثوار 210 بنادق، و68 مسدساً، و212 قنبلة.
التكتيك القتالي
اما التكتيك القتالي الذي اتبع في الفترة الاولى (حتى حزيران 1936)، فاتخذ شكل مجموعات من الثوار تكمن على جانب الطريق بعد قطعها بالحجارة، وتنتظر مرور السيارة الاولى المعادية بغض النظر عن قيمتها كهدف تكتيكي، فتطلق النار عليها (او على القافلة) ثم يعود الثوار مسرعين كل الى قريته او بلدته، فيخفون السلاح والعتاد في امكنة آمنة، ثم يختلطون بسكان القرى، وكأن شيئاً لم يحدث!.
ويرى المقدم يوسف الرضيعي ان هذا الشكل من العمليات "يعني عدم توفر حد ادنى من التخطيط العسكري الفني الذي يبنى عادة على معلومات دقيقة عن تحركات العدو ونواياه".
وقد طرأ تغيير نوعي على العمليات العسكرية ابتداء من شهر حزيران (يونيو) 1936، عندما تولى فوزي القاوقجي مهام القائد العام للثورة في فلسطين. وقد عبر الجنرال الانجليزي بيرز عن هذا التغير، قائلاً في احد تقاريره: "لقد اظهر الثوار تصميماً اكثر في خوض العمليات، كما بدا واضحاً ان رجالاً عسكريين ذوي خبرة عالية بدأوا يخططون لها". واضاف ان: "العصابات المسلحة التي تألفت في السابق من زمر يتراوح عدد الواحدة منها بين 15-20 رجلاً قد اصبحت توجد بزمر يتراوح عدد الواحدة منها بين 50-70 رجلاً. وهي ليست عصابات للنهب، بل تمارس ما تعتقد انه حرب وطنية تدافع بها عن بلادها في وجه الظلم والتهديد بالسيطرة اليهودية".
وقد خاض الثوار في هذه عدة معارك كبيرة، منها:
* معركة ابو شريتح في ربيع 1936.
* معركة نور شمس في 21/6/1936.
* معركة الجاعونة في 12/8/1936.
* معركة بلعا في 3/9/1936.
المرحلة الثانية
وعي، تدريب، تركيز
وفي المرحلة الثانية من الثورة التي بدأت باغتيال لويس اندروز الحاكم العسكري البريطاني لمنطقة الجليل في 26/9/1937، بعد اعلان توصية لجنة التحقيق الملكية برئاسة اللورد بيل بتقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية... في هذه المرحلة شهد العمل العسكري تطورات اخرى.
فقد دارت معارك هذه المرحلة على مسرح عمليات يختلف عن مسرح عمليات مرحلة الاضراب وسط فلسطين. اذ تركزت العمليات في الجليل بمسالكها وجبالها وغاباتها الكثيفة التي تغطي معظم التلال.
كما ان المعارك (والتقييم العسكري للمقدم الرضيعي) اصبحت اقرب الى الحدود منها الى المناطق الداخلية في فلسطين، وهذا عائد الى الحاجة الماسة لاستمرار تدفق الاسلحة والذخائر عبر الحدود الاردنية والسورية واللبنانية، والى الحاجة الى مؤخرة امنية يسهل الالتجاء اليها وقت الضرورة وعند التطويق.
وبدا رجال المقاومة اكثر وعياً وتدريباً من السابق، فلم يعد من السهل اصطيادهم. وبدا واضحاً انهم يملكون الحس الامني، فنجدهم في يقظة دائمة وهم يحرسون امكنة استراحاتهم المؤقتة مهما بدت منيعة او امينة. كما ان المفارز اصبحت اكثر وعياً لواجباتها ومهامها.
وسرعان ما شملت المقاومة العسكرية الارض الفلسطينية كلها، بعودة نشاط الثوار في المنطقتين الوسطى والجنوبية، اضافه الى نشاطهم في الجليل، واصبحت عملياتهم اكثر تركيزاً على الاهداف الحيوية، وخاصة خط انابيب شركة النفط العراقية الذي استهدفته (104) عمليات نسف عام 1938 وحده.
ويجمل تقرير بريطاني حصيلة هذا العام عسكرياً، باستشهاد (503) ثوار، وجرح (598) اخرين، ومقتل (75) بريطانياً، وجرح (215) اخرين، ومصرع (255) يهودياً، وجرح (390) يهودياً آخر.
المرحلة الثالثة
تصعيد، تردد، اضراب
غير ان السلطات البريطانية التي شعرت بنذر الحرب العالمية الثانية شددت ضغطها على الثوار، لكي تتفرغ لمسرح العمليات العسكرية المرتقبة في اوروبا، فبدأت عام (1939) عملية نزع السلاح عامة تمكنت خلالها من الاستيلاء على (2076) بندقية صيد (!).. وذلك بعد عمليات التفتيش شملت (758) قرية حتى تموز (1939).
وطورت عملها ضد الثورة باعطاء دور اكبر لسلاح الطيران فيما لم يكن لدى الثوار ما يقاومون به الطائرات الحربية، ووثقت تعاونها مع التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية الصهيونية لمواجهة الثورة.
وادى الضغط المتزايد الى انهاء الثوار، واهتزاز تنظيماتهم، وساعد في ذلك خروج الشهيد عبد القادر الحسيني من فلسطين في خريف عام (1938)، واستشهاد القائد العام لقوات الثورة عبد الرحيم الحاج محمد في آذار (1939) وانتقل بعض قادة الثورة مثل فخري عبد الهادي الى صفوف الثورة المضادة، نتيجة الصراع على النفوذ، والاحقاد الشخصية.
وقد خاض الثوار خلال هذه الفترة عدداً متزايدا من عمليات المواجهة الكبيرة ضد قوات السلطة الانتدابية، منها:
* معركة عرابة في (23/12/1937).
* معركة اليامون في (3/3/1938).
* معركة بير السبع في (9/9/1938)
* معركة القدس في (13/9/1938)
* معركة طبرية في (3/10/1938)
وعلى الصعيد السياسي اظهرت القيادة المتمثلة بالحاج امين الحسيني قدراً كبيراً من التردد وعدم وضوح الرؤية، والتبعية في علاقاتها بقادة الدول العربية آنذاك.
فقد ترددت هذه القيادة في تولي امر الثورة منذ البداية. فاللجنة القومية الأولى تشكلت في مدينة نابلس بتاريخ (19) نيسان(1936) واخذت على عاتقها الدعوة الى الاضراب العام في المدينة، والاشراف على سير التحرك الوطني فيها، والاتصال بالمدن والبلدات والقرى الفلسطينية الأخرى لتحذو حذوها.
وسرعان ما تشكلت لجان قومية مماثلة في كافة انحاء فلسطين، وعمها الاضراب قبل ان تتشكل لجنة مماثلة في القدس،حيث مقر القيادة وهو الامر الذي تأخر حتى الخامس والعشرين من الشهر نفسه حين اعلن عن قيام اللجنة العربية العليا، مؤلفة من: الحاج امين الحسيني، واحمد حلمي عبد الباقي، وعوني عبد الهادي، ود. حسين الخالدي، ويعقوب فراج، وعبد اللطيف صلاح، والفرد روك، وجمال الحسيني، ويعقوب الغصين.
وازاء ذلك، لم تجد اللجنة امامها سوى الدعوة "الى استمرار الاضراب" وتصدر الحركة الوطنية في المرحلة التالية، وان بقيت الخطوات الاساسية الاخرى التي اتخذت، فيما بعد، من صنع الجماهير الشعبية، قامت اللجنة بتبنيها لاحقاً، كما حدث عند تحول الاضراب الى العصيان المدني والامتناع عن دفع الضرائب اعتباراً من 15 ايار 1936.
التضعضع والرهان الخطير
وفي تشرين الاول من العام نفسه استجابت اللجنة بسرعة لنداء الملوك العرب الداعي الى وقف الاضراب والثورة، والتفاوض مع بريطانيا، عبر لجنة بيل، وذلك بصيغة تنضح بالتبعية لهؤلاء الملوك.
وقد خسرت الثورة كثيراً حين سارع الحاج امين لمغادرة فلسطين الى بيروت فبغداد، بعدما عزلته السلطات المنتدبة من منصبه كرئيس للمجلس الاسلامي، واعلنت اللجنة العربية العليا، وجميع اللجان القومية في فلسطين جمعيات غير مشروعة، الامر الذي انتقص من فاعلية القيادة، وقدرتها على توجيه الاحداث في فلسطين.
ايضاً، فان الرهان قصير العمر على التناقض الفرنسي-البريطاني انتهى، سريعاً، بضغط فرنسا على المفتي ليترك بيروت الى بغداد، ومثله الرهان على التحالف مع المانيا الهتلرية التي لم يكن لها أي وجود فعلي في المنطقة، ولا تختلف من حيث طبيعتها الاستعمارية عن بريطانيا او فرنسا.
غير ان الثورة تمكنت، رغم كل ذلك، من تحقيق هدف محدود هو طي صفحة مشروع التقسيم الذي طرحته لجنة بيل، وهو ما ساعدت الظروف العامة، ايضاً، على انجازه. فقد ارتأت لندن ان طي المشروع من شأنه تهدئة العرب،وهو ما تحتاجه للتفرغ للحرب الاوروبية، وسحب بعض وحداتها العسكرية الضخمة التي دفعت بها الى فلسطين لخنق الثورة.
وثمة مفارقة تكمن في ان نضال الثورة توقف فيما بدأت الحركة الصهيونية "قتالها" ضد الانجليز، مصعّدة الضغط عليهم لتحقيق بعض مطالبها، مستفيدة من حاجة بريطانيا الى جهودها (الحركة الصهيونية) في اوروبا، وحاجتها الى الهدوء في فلسطين.
وهذا العرض لتطورات الثورة الكبرى "الضائعة" يظهر جذور العناد الفلسطيني بـ "القرار الوطني المستقل" وهو القرار المرفوع بوجه "الوصاية والتبعية والاحتواء" على غرار ما حدث إبان ثورة 1936.. واسفر عن نتائج كارثية. طبعاً، دون ان يعني ذلك التخلي عن الافق القومي المحكوم بسقف الحدود الجغرافية للكيانات القطرية في منطقتنا، وهو الافق الذي يحتاج الى اعادة صياغة شاملة تجعل فلسطين طريق الوحدة، كما كانت التجزئة هي المهاد الاساسي الذي ضاعت فلسطين بسببه.
الملوك يطلبون وقف الثورة
نص النداء الذي وجهه الملوك والامراء العرب بتاريخ(8/10/1936) طالبين وقف الاضراب والثورة: حضرة رئيس اللجنة العربية العليا، الى ابنائنا عرب فلسطين: "لقد تألمنا كثيراً للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع اخواننا ملوك العرب والامير عبد الله ندعوكم للاخلاد الى السكينة حقنا للدماء معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم"
واللجنة العربية العليا تستجيب!
وافقت اللجنة في بيان اصدرته في(10/10/1936) على الاستجابة للنداء.. وجاء في بيانها: "فاللجنة العربية العليا امتثالاً لارادة اصحاب الجلالة والسمو، والملوك والامراء، واعتقاداً منها بمعظم الفائدة التي تنجم عن توسطهم ومؤازرتهم تدعو الشعب العربي الكريم الى انهاء الاضراب والاضطراب، انفاذاً لهذه الاوامر السامية التي ليس لها من هذه الا مصلحة العرب...".
واعقبته ببيان اكثر تفصيلاً في 12/10/1936 جاء فيه انها قررت: "ان تدعو الى الاخلاد الى السكينة وانهاء الاضراب والاضطراب ابتداء من صباح يوم الاثنين المبارك 26 رجب 1355 الموافق 12 تشرين الاول (اكتوبر) 1936، وان يبكر افراد الامة في صباح اليوم الى معابدهم لاقامة الصلاة على ارواح الشهداء، ورفع الشكر لله تعالى على ما الهمهم من صبر وجلد ثم يخرجون لفتح مخازنهم ومزاولة اعمالهم المعتادة".
تقييم:
0
0
كيف أنهى الملوك والامراء العرب اضراب وثورة 1936 ؟!
سجل ثورة 1936..
مراحلها.. ما لها.. وما عليها
كل شيء في الشهور الاولى لعام 1936، كان يدفع الفلسطينيين باتجاه الثورة، حيث التطورات الدولية، والعربية، والمحلية المعقدة والمتشابكة انضجت الوضع لثورة تختلف عن سابقاتها حجماً واهدافاً.
دولياً، نتج عن صعود الح** النازي في المانيا الى السلطة ارتفاع عدد المهاجرين اليهود منها، ومن دول اوروبية اخرى الى فلسطين.
فقد قفز المعدل السنوي للهجرة من (7201) نسمة بين 1926-1932، الى (42.985) نسمة بين 1933-1936 وبعدما كان عدد المهاجرين اليهود من المانيا 9آلاف نسمة عام 1932، اصبح عددهم 30 الفاً عام 1933، و40 الفاً عام 1934، و61 الفاً عام 1936. وبهذه الموجة من الهجرة ارتفع عدد المستوطنين اليهود في فلسطين الى 443 الفاً، يشكلون 30% من اجمالي عدد السكان.
ولم يقف الامر عند حد ازدياد اعداد المهاجرين، وانما شهد ايضاً تطوراً نوعياً تمثل في تدفق اعداد هائلة من اصحاب رؤوس الاموال، فبلغ عدد هؤلاء (3250) شخصاً عام 1933، و(5124) عام 1934، و(6309) عام 1935، فيما وصل حجم رأس المال المستورد بواسطة هؤلاء الى (31) مليون جنيه فلسطيني.
وانعكس هذا الامر، فوراً، قوة اقتصادية متنامية للمشروع الصهيوني بلغت حد السيطرة شبه الكاملة على قطاعي الصناعة والتجارة.
ففي عام 1935 كان عدد المؤسسات الصناعية الفلسطينية 340 مؤسسة، مقابل 872 مؤسسة يهودية. وبلغ عدد العاملين باجرة في المؤسسات العربية 4 الاف عامل، مقابل 13.678 عاملاً في المؤسسات اليهودية. وكان رأس المال الموظف في المصانع الفلسطينية 704 الاف جنيه فلسطيني، وفي المؤسسات اليهودية 4.391.000 جنيه، ووصلت قيمة الانتاج العربي الى 1.545.000 جنيه، والانتاج اليهودي الى ستة ملايين جنيه.
وازاء المنافسة الحادة التي فرضتها الصناعة اليهودية على الصناعة العربية، ونتيجة الحماية الجمركية التي سيجت بها السلطة الانتدابية الصناعة اليهودية، والعقبات التي وضعتها امام مثيلتها العربية، تدهورت هذه الاخيرة، فانخفض عدد معامل الصابون في يافا وحدها مثلاً، من 12 معملاً عام 1929 الى اربعة معامل فقط عام 1935، وتدنت صادرات صناعة الاصداف العربية من 11.532 جنيهاً عام 1930 الى 3.777 جنيهاً بعد خمس سنوات.
وترك الامر اثاراً كارثية على اوضاع العمال العرب. ويتبين من احصاء اجرته "جمعية العمال العربية" بين الف عامل عربي في يافا عام 1936 ان دخل 57% منهم اقل من ثلاثة جنيهات، ودخل 24% اقل من اربعة جنيهات، و 12% منهم اقل من ستة جنيهات، و4% منهم اقل من عشرة جنيهات، و1.5% اقل من 12 جنيهاً و0.5% اقل من 15 جنيهاً، في حين كان متوسط ما تحتاجه العائلة الواحدة 11 جنيهاً.
وعلى الصعيد الفلاحي نتج عن ازدياد الهجرة، ارتفاع حجم ملكية الاراضي من جانب الصهيونيين الى 1.332.000 دونم عام 1936، بعدما كانت 544 الف دونم عام 1925. وازداد عدد المستوطنات اليهودية الزراعية من 124 مستوطنة عام 1931 الى 203 مستوطنات عام 1936.
ورافق هذه الزيادة في حجم الملكيات، تشريد الاف الفلاحين الفلسطينيين عن الاراضي التي حصلت عليها الجهات الصهيونية، تنفيذاً لعقود بيع ابرمتها هذه الجهات مع ملاك يحملون الجنسية اللبنانية. ففي عام 1933 اجلت السلطات البريطانية فلاحي عرب الحوارث عن 41 الف دونم، وشردت 1500 مزارع من مرج ابن عامر، كما اجلت عرب ال**يدات عن اراضيهم في قرية الحارثية القريبة من حيفا.
وعربياً: حصلت عدة دول عربية على قدر كبير من الاستقلال عام 1936 والاعوام التي سبقته:
ففي سوريا، اعلن عام 1930 دستور يمنح السكان حق الانتخاب، وتشكيل حكومة، وتعيين رئيس للجمهورية. وفي مطلع 1936 شهدت سوريا اضراباً عاماً استمر 51 يوماً، وافقت سلطة الانتداب الفرنسي في اعقابه على مفاوضة السوريين، وهي المفاوضات التي اسفرت في ايلول من العام نفسه عن توقيع معاهدة بين البلدين (نقضها الفرنسيون بعد عامين).
وعام 1930 وقعت بريطانيا معاهدة مع العراق كانت بمثابة اعتراف باستقلاله، وبعد عامين اصبح العراق عضواً في عصبة الامم، وكان بذلك اول الدول الخاضعة للانتداب التي تحصل على هذا القدر من الاستقلال.
وفي ما يقارب تلك الفترة، اعترفت بريطانيا بشرق الاردن امارة قائمة بذاتها، مع قدر من الاستقلال.
وفي ايار 1936 بدأت السلطات البريطانية مفاوضات مع حكومة ح** الوفد المصري (اكبر احزاب مصر آنذاك) انتهت بتوقيع اتفاقية بين البلدين تحصر وجود القوات الانجليزية، في مصر بمنطقة قناة السويس، وتنص على تبادل السفراء بينهما.
ضد الانتداب والصهيونية معاً
وعلى الصعيد المحلي كانت الحركة الوطنية الفلسطينية حسمت خيارها من مسألتين رئيسيتين، هما:
1- الموقف من الانتداب البريطاني:
فقد كانت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، في الفترة السابقة، تكرس جهودها ونضالها لوقف الهجرة اليهودية، والحد من استفحال المشروع الصهيوني عبر التفاوض مع السلطات البريطانية، غير ان هذا الاسلوب لم يسفر عن أي نتائج.
وفي عام 1932 اسست بعض اطراف الحركة الوطنية "ح** الاستقلال العربي" الذي جعل من مهامه، ولاول مرة في فلسطين " النضال ضد الانجليز، ومصارحتهم العداء، واعتبار مداراتهم منافية للاخلاص والصبغة الوطنية". واذا كان هذا الح** فشل في استقطاب قطاعات شعبية واسعة، وقيادة الحركة الوطنية لترجمة شعاراته، فقد نجح فكرياً الى حد بعيد، فلم تمض سنوات قليلة الا والنضال ضد الانجليز مطلب الحركة الوطنية الفلسطينية كلها.
2- اسلوب النضال:
كانت القيادة الوطنية لا تحيد عن اسلوب التفاوض، والوسائل الدبلوماسية في تحقيق الاهداف الوطنية. غير ان فشل هذه الاساليب جعل بعض اطراف الحركة الوطنية يتجه صوب اسلوب الكفاح المسلح المنظم.
وكان التنظيم الذي اقامه الشهيد عز الدين القسام اول من ترجم ذلك، عملياً، في المعركة التي دارت في جبال يعبد، وادت في العشرين من تشرين الثاني 1935 الى استشهاد القسام، دون ان تؤدي الى التراجع عن اسلوب الكفاح المسلح، اذ استمر "القساميون" محافظين على تنظيمهم، وتنفيذ بعض العمليات المسلحة ضد البريطانيين والصهاينة.
ويذهب بعض مؤرخي التاريخ الفلسطيني الى ان القائد الشهيد عبد القادر الحسيني، ونفرا من المتعاونين معه، قرروا في 25 اذار 1934 انشاء تنظيم سري للجهاد، سرعان ما تمكن من تشكيل 47 خلية حتى آب (اغسطس) من العام ذاته، و63 خلية حتى شهر ايلول (سبتمبر) التالي. وان هذا التنظيم توحد في اواخر تموز (يوليو) 1935 مع تنظيمات اخرى مماثلة، كانت على علاقة بالمفتي امين الحسيني، لينشأ منها جميعاً تنظيم "الجهاد المقدس". وفي 5 نيسان (ابريل) 1936، قبيل ايام قليلة من الثورة، قرر قادة هذا التنظيم التعاون مع جماعة "اخوان القسام" التي بقيت وفيّة لقائدها، وواصلت العمل بعد استشهاده.
المرحلة الاولى
ارتجال ام تخطيط؟
وبغض النظر عما اذا كانت الثورة انفجاراً شعبياً عفوياً، وهو ما يؤيده اكثر المؤرخين، او ما اذا كانت من تخطيط المفتي، كما يذهب اخرون، فان كل الظروف كانت تدفع باتجاه الثورة. وهكذا، فان الرصاصة الاولى التي اطلقها الشهيد فرحان السعدي في 15 نيسان 1936، جاءت بمثابة شهادة ولادة متأخرة لثورة بدأت، فعلياً، قبل ذلك اليوم.
واذا كان سياسيو الغرب، واكاديميوه، ينظرون الى عدد المشاريع السياسية المقدمة لتسوية المشكلة الفلسطينية، فيطلقون على منطقتنا اسم منطقة "فرص السلام الضائعة"، فان الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939 تعتبر ايضاً من منظور فلسطيني "ثورة ضائعة"، اذا اخذنا بعين الاعتبار شمولها الشعب كله، والجهود الكبيرة التي بذلت في سبيلها، عسكرياً بالدرجة الاولى، وسياسياً فيما بعد وان بدرجة اقل.
فقد تطور العمل العسكري من حال عدم التنظيم والارتجال في البدايات، الى حال التخطيط والجرأة في التنفيذ.
وقد بلغ عدد العمليات التي قام بها الثوار في العام الاول للثورة 4076 عملية، منها 1996 ضد الافراد اليهود، و895 ضد ممتلكاتهم، و795 ضد الجيش البريطاني والشرطة المحلية، و380 عملية ضد وسائل المواصلات.
ونتج عن هذه العمليات استشهاد 224 ثائراً فلسطينياً، وجرح 1126 آخرون. وقتل 33 بريطانياً، وجرح 193 اخرون. فيما بلغت خسائر اليهود 80 قتيلاً و369 جريحاً ودمرت لهم 80 الف شجرة حمضيات، و62 الف شجرة فواكه منوعة، و64 الف شجرة حرجية، واحرق اربعة الاف فدان من المحاصيل المختلفة. وخسر الثوار 210 بنادق، و68 مسدساً، و212 قنبلة.
التكتيك القتالي
اما التكتيك القتالي الذي اتبع في الفترة الاولى (حتى حزيران 1936)، فاتخذ شكل مجموعات من الثوار تكمن على جانب الطريق بعد قطعها بالحجارة، وتنتظر مرور السيارة الاولى المعادية بغض النظر عن قيمتها كهدف تكتيكي، فتطلق النار عليها (او على القافلة) ثم يعود الثوار مسرعين كل الى قريته او بلدته، فيخفون السلاح والعتاد في امكنة آمنة، ثم يختلطون بسكان القرى، وكأن شيئاً لم يحدث!.
ويرى المقدم يوسف الرضيعي ان هذا الشكل من العمليات "يعني عدم توفر حد ادنى من التخطيط العسكري الفني الذي يبنى عادة على معلومات دقيقة عن تحركات العدو ونواياه".
وقد طرأ تغيير نوعي على العمليات العسكرية ابتداء من شهر حزيران (يونيو) 1936، عندما تولى فوزي القاوقجي مهام القائد العام للثورة في فلسطين. وقد عبر الجنرال الانجليزي بيرز عن هذا التغير، قائلاً في احد تقاريره: "لقد اظهر الثوار تصميماً اكثر في خوض العمليات، كما بدا واضحاً ان رجالاً عسكريين ذوي خبرة عالية بدأوا يخططون لها". واضاف ان: "العصابات المسلحة التي تألفت في السابق من زمر يتراوح عدد الواحدة منها بين 15-20 رجلاً قد اصبحت توجد بزمر يتراوح عدد الواحدة منها بين 50-70 رجلاً. وهي ليست عصابات للنهب، بل تمارس ما تعتقد انه حرب وطنية تدافع بها عن بلادها في وجه الظلم والتهديد بالسيطرة اليهودية".
وقد خاض الثوار في هذه عدة معارك كبيرة، منها:
* معركة ابو شريتح في ربيع 1936.
* معركة نور شمس في 21/6/1936.
* معركة الجاعونة في 12/8/1936.
* معركة بلعا في 3/9/1936.
المرحلة الثانية
وعي، تدريب، تركيز
وفي المرحلة الثانية من الثورة التي بدأت باغتيال لويس اندروز الحاكم العسكري البريطاني لمنطقة الجليل في 26/9/1937، بعد اعلان توصية لجنة التحقيق الملكية برئاسة اللورد بيل بتقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية... في هذه المرحلة شهد العمل العسكري تطورات اخرى.
فقد دارت معارك هذه المرحلة على مسرح عمليات يختلف عن مسرح عمليات مرحلة الاضراب وسط فلسطين. اذ تركزت العمليات في الجليل بمسالكها وجبالها وغاباتها الكثيفة التي تغطي معظم التلال.
كما ان المعارك (والتقييم العسكري للمقدم الرضيعي) اصبحت اقرب الى الحدود منها الى المناطق الداخلية في فلسطين، وهذا عائد الى الحاجة الماسة لاستمرار تدفق الاسلحة والذخائر عبر الحدود الاردنية والسورية واللبنانية، والى الحاجة الى مؤخرة امنية يسهل الالتجاء اليها وقت الضرورة وعند التطويق.
وبدا رجال المقاومة اكثر وعياً وتدريباً من السابق، فلم يعد من السهل اصطيادهم. وبدا واضحاً انهم يملكون الحس الامني، فنجدهم في يقظة دائمة وهم يحرسون امكنة استراحاتهم المؤقتة مهما بدت منيعة او امينة. كما ان المفارز اصبحت اكثر وعياً لواجباتها ومهامها.
وسرعان ما شملت المقاومة العسكرية الارض الفلسطينية كلها، بعودة نشاط الثوار في المنطقتين الوسطى والجنوبية، اضافه الى نشاطهم في الجليل، واصبحت عملياتهم اكثر تركيزاً على الاهداف الحيوية، وخاصة خط انابيب شركة النفط العراقية الذي استهدفته (104) عمليات نسف عام 1938 وحده.
ويجمل تقرير بريطاني حصيلة هذا العام عسكرياً، باستشهاد (503) ثوار، وجرح (598) اخرين، ومقتل (75) بريطانياً، وجرح (215) اخرين، ومصرع (255) يهودياً، وجرح (390) يهودياً آخر.
المرحلة الثالثة
تصعيد، تردد، اضراب
غير ان السلطات البريطانية التي شعرت بنذر الحرب العالمية الثانية شددت ضغطها على الثوار، لكي تتفرغ لمسرح العمليات العسكرية المرتقبة في اوروبا، فبدأت عام (1939) عملية نزع السلاح عامة تمكنت خلالها من الاستيلاء على (2076) بندقية صيد (!).. وذلك بعد عمليات التفتيش شملت (758) قرية حتى تموز (1939).
وطورت عملها ضد الثورة باعطاء دور اكبر لسلاح الطيران فيما لم يكن لدى الثوار ما يقاومون به الطائرات الحربية، ووثقت تعاونها مع التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية الصهيونية لمواجهة الثورة.
وادى الضغط المتزايد الى انهاء الثوار، واهتزاز تنظيماتهم، وساعد في ذلك خروج الشهيد عبد القادر الحسيني من فلسطين في خريف عام (1938)، واستشهاد القائد العام لقوات الثورة عبد الرحيم الحاج محمد في آذار (1939) وانتقل بعض قادة الثورة مثل فخري عبد الهادي الى صفوف الثورة المضادة، نتيجة الصراع على النفوذ، والاحقاد الشخصية.
وقد خاض الثوار خلال هذه الفترة عدداً متزايدا من عمليات المواجهة الكبيرة ضد قوات السلطة الانتدابية، منها:
* معركة عرابة في (23/12/1937).
* معركة اليامون في (3/3/1938).
* معركة بير السبع في (9/9/1938)
* معركة القدس في (13/9/1938)
* معركة طبرية في (3/10/1938)
وعلى الصعيد السياسي اظهرت القيادة المتمثلة بالحاج امين الحسيني قدراً كبيراً من التردد وعدم وضوح الرؤية، والتبعية في علاقاتها بقادة الدول العربية آنذاك.
فقد ترددت هذه القيادة في تولي امر الثورة منذ البداية. فاللجنة القومية الأولى تشكلت في مدينة نابلس بتاريخ (19) نيسان(1936) واخذت على عاتقها الدعوة الى الاضراب العام في المدينة، والاشراف على سير التحرك الوطني فيها، والاتصال بالمدن والبلدات والقرى الفلسطينية الأخرى لتحذو حذوها.
وسرعان ما تشكلت لجان قومية مماثلة في كافة انحاء فلسطين، وعمها الاضراب قبل ان تتشكل لجنة مماثلة في القدس،حيث مقر القيادة وهو الامر الذي تأخر حتى الخامس والعشرين من الشهر نفسه حين اعلن عن قيام اللجنة العربية العليا، مؤلفة من: الحاج امين الحسيني، واحمد حلمي عبد الباقي، وعوني عبد الهادي، ود. حسين الخالدي، ويعقوب فراج، وعبد اللطيف صلاح، والفرد روك، وجمال الحسيني، ويعقوب الغصين.
وازاء ذلك، لم تجد اللجنة امامها سوى الدعوة "الى استمرار الاضراب" وتصدر الحركة الوطنية في المرحلة التالية، وان بقيت الخطوات الاساسية الاخرى التي اتخذت، فيما بعد، من صنع الجماهير الشعبية، قامت اللجنة بتبنيها لاحقاً، كما حدث عند تحول الاضراب الى العصيان المدني والامتناع عن دفع الضرائب اعتباراً من 15 ايار 1936.
التضعضع والرهان الخطير
وفي تشرين الاول من العام نفسه استجابت اللجنة بسرعة لنداء الملوك العرب الداعي الى وقف الاضراب والثورة، والتفاوض مع بريطانيا، عبر لجنة بيل، وذلك بصيغة تنضح بالتبعية لهؤلاء الملوك.
وقد خسرت الثورة كثيراً حين سارع الحاج امين لمغادرة فلسطين الى بيروت فبغداد، بعدما عزلته السلطات المنتدبة من منصبه كرئيس للمجلس الاسلامي، واعلنت اللجنة العربية العليا، وجميع اللجان القومية في فلسطين جمعيات غير مشروعة، الامر الذي انتقص من فاعلية القيادة، وقدرتها على توجيه الاحداث في فلسطين.
ايضاً، فان الرهان قصير العمر على التناقض الفرنسي-البريطاني انتهى، سريعاً، بضغط فرنسا على المفتي ليترك بيروت الى بغداد، ومثله الرهان على التحالف مع المانيا الهتلرية التي لم يكن لها أي وجود فعلي في المنطقة، ولا تختلف من حيث طبيعتها الاستعمارية عن بريطانيا او فرنسا.
غير ان الثورة تمكنت، رغم كل ذلك، من تحقيق هدف محدود هو طي صفحة مشروع التقسيم الذي طرحته لجنة بيل، وهو ما ساعدت الظروف العامة، ايضاً، على انجازه. فقد ارتأت لندن ان طي المشروع من شأنه تهدئة العرب،وهو ما تحتاجه للتفرغ للحرب الاوروبية، وسحب بعض وحداتها العسكرية الضخمة التي دفعت بها الى فلسطين لخنق الثورة.
وثمة مفارقة تكمن في ان نضال الثورة توقف فيما بدأت الحركة الصهيونية "قتالها" ضد الانجليز، مصعّدة الضغط عليهم لتحقيق بعض مطالبها، مستفيدة من حاجة بريطانيا الى جهودها (الحركة الصهيونية) في اوروبا، وحاجتها الى الهدوء في فلسطين.
وهذا العرض لتطورات الثورة الكبرى "الضائعة" يظهر جذور العناد الفلسطيني بـ "القرار الوطني المستقل" وهو القرار المرفوع بوجه "الوصاية والتبعية والاحتواء" على غرار ما حدث إبان ثورة 1936.. واسفر عن نتائج كارثية. طبعاً، دون ان يعني ذلك التخلي عن الافق القومي المحكوم بسقف الحدود الجغرافية للكيانات القطرية في منطقتنا، وهو الافق الذي يحتاج الى اعادة صياغة شاملة تجعل فلسطين طريق الوحدة، كما كانت التجزئة هي المهاد الاساسي الذي ضاعت فلسطين بسببه.
الملوك يطلبون وقف الثورة
نص النداء الذي وجهه الملوك والامراء العرب بتاريخ(8/10/1936) طالبين وقف الاضراب والثورة: حضرة رئيس اللجنة العربية العليا، الى ابنائنا عرب فلسطين: "لقد تألمنا كثيراً للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع اخواننا ملوك العرب والامير عبد الله ندعوكم للاخلاد الى السكينة حقنا للدماء معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم"
واللجنة العربية العليا تستجيب!
وافقت اللجنة في بيان اصدرته في(10/10/1936) على الاستجابة للنداء.. وجاء في بيانها: "فاللجنة العربية العليا امتثالاً لارادة اصحاب الجلالة والسمو، والملوك والامراء، واعتقاداً منها بمعظم الفائدة التي تنجم عن توسطهم ومؤازرتهم تدعو الشعب العربي الكريم الى انهاء الاضراب والاضطراب، انفاذاً لهذه الاوامر السامية التي ليس لها من هذه الا مصلحة العرب...".
واعقبته ببيان اكثر تفصيلاً في 12/10/1936 جاء فيه انها قررت: "ان تدعو الى الاخلاد الى السكينة وانهاء الاضراب والاضطراب ابتداء من صباح يوم الاثنين المبارك 26 رجب 1355 الموافق 12 تشرين الاول (اكتوبر) 1936، وان يبكر افراد الامة في صباح اليوم الى معابدهم لاقامة الصلاة على ارواح الشهداء، ورفع الشكر لله تعالى على ما الهمهم من صبر وجلد ثم يخرجون لفتح مخازنهم ومزاولة اعمالهم المعتادة".
تقييم:
0
0