القرية
القرية المصرية قديما وحديثا
مقدمة
يعد الريف المصري العمود الفقري للمجتمع المصري، فهو الأصل الذي تكونت منه حضارة مصر القديمة. وبتماسكه وصلابته قامت الدولة المصرية منذ فجر التاريخ وحافظت على استمرار بقائها. ,مازال الريف - والذي يمثل أبناؤه نحو 56% من جملة السكان - المصدر الأساسي لثروة مصر الحقيقية وكنزها الثمين وهم البشر المتميزين، فمن بين أبنائه خرج القادة والزعماء الأفذاذ في شتى ميادين الحياة.[1]
لا تلقى البيئة العمرانية في القرية المصرية القدر الكافي من الدراسات العلمية المنظمة بما يتناسب مع أهميتها أو مع حجم المخزون العمراني بها. يمكن اعتبار البيئة العمرانية في القرية المصرية بيئة عمرانية محلية (Vernacular Architecture) حيث يعيش حوالي 56 % من تعداد جمهورية مصر العربية في الريف.
الريف والقرية: تعريفات
صنف ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، أشكال الاستيطان البشرى إلى نموذجين وفقا لوجوه "الكسب والمعاش" ويؤكد دائما أن ما أطلق عليهم أهل "البداوة" يضمون الزراع "وهم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام". وبعد تطور علم الاجتماع اختلفت وتعددت القواعد التي يتم على أساسها التفرقة بين المناطق الريفية والمناطق الحضرية وأهمها[2]:
1- التقسيم الإداري: وتأخذ بهذا الأساس جمهورية مصر العربية وبعض الدول الأوروبية. وتعرف هذه الدول الحضر بأنه المدن والبلدان الكبيرة نسبيا المعتبرة وحدات إدارية. وتعتبر عواصم المحافظات وبنادر المراكز والبلدان التي تفرض فيها ضرائب عقارية على المباني حضرا باعتبارها وصلت إلى درجة من التحضر والعمران تجعلها اقرب إلى الحضر منها إلى الريف. كما أن البلدان التي تفرض فيها ضرائب عقارية على المباني تعتبر هي أيضا حضرا، إذ أن حالة العمران بها تجعلها قادرة على تحمل ضريبة غير ضريبة الأطيان الزراعية. ومن عيوب هذه الطريقة أن بعض المناطق زادت الكثافة السكانية بها عن العديد المراكز الإدارية مثل قرية سرس الليان التي وصل تعدادها إلى 35000 نسمة.
2- الكثافة السكانية: وهو الإحصاء العددي وتأخذ به هيئة الأمم المتحدة حسب ظروف كل دولة فتعتبر المنطقة حضرا إذا زاد عدد سكانها أو كثافتهم عن حد معين وتعتبر المنطقة ريفا إذا قل عدد سكانها أو كثافتهم عن هذا الحد، وذلك بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى مثل المهنة أو درجة التحضر. ويختلف هذا العدد من دولة إلى أخرى، ففي التعريف الأمريكي يكون العدد هو 2500 نسمة وفى ايسلنده 300 نسمة وفى كولومبيا 1500 نسمة وفى أسبانيا وإيطاليا يتراوح العدد بين 8000 إلى 10000 نسمة وفى الهند 5000 نسمة.[3]
3- التعريف المهني: المقياس الثالث هو المهنة أو المهن السائدة في المجتمع، فيرى العديد من المهتمين بالتصنيف الريفي الحضري أن نوع المهنة التي يمتهنها السكان يجب أن يكون هو أساسا للتفرقة بين الريف والحضر. وبذلك يمكن تعريف الريف بأنه المناطق التي يزيد بها عدد المشتغلين بمهنة الزراعة عن عدد المشتغلين بكافة اوجه النشاط الاقتصادي الأخرى. وتقوم فلسفة هذا التقسيم على أساس أن للنشاط الاقتصادي آثاره الاجتماعية وأهميته الثقافية والحضارية وفعاليته في أحداث التغير الاجتماعي في بناء أي مجتمع.
4- وجهة النظر الاجتماعية: وهى تعطى أهمية خاصة لنوع وخواص العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع والقائمة بين أفراده. فالمنطقة الريفية هي تلك المنطقة التي يعرف الكثير من أفرادها بعضهم بعضا معرفة شخصية والتي تسود بها العلاقات الإنسانية القوية والتي تتصف بوجود ضبط اجتماعي على ممثل في التقاليد والعادات والعرف السائد.
القرية هي التجمع العمراني لسكان الريف الذي تتركز فيه مساكنهم وخدماتهم الاجتماعية. ومن وجهة النظر الاجتماعية تعتبر القرية تجمع سكاني دائم في منطقة جغرافية محدودة حيث يقيم السكان في مساكن متجاورة وتربطهم ببعض علاقات اجتماعية قوية ويعمل نسبة كبيرة منهم بالزراعة وحيث توجد عدد قليل نسبيا من المؤسسات والمنظمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعمل على خدمتهم وخدمة غيرهم من سكان البلدان الريفية المجاورة.[4] ويمكن القول أن الفلاحين يشكلون كيانا اجتماعيا يعيش ظروف "ما قبل الصناعة" أي انه يعبر عن بناء اجتماعي - اقتصادي - ثقافي مختلف إلى حد ما عن ذلك البناء الذي تعبر عنه المدينة.[5]
البيئة العمرانية في القرية المصرية
مرت القرية المصرية عبر التاريخ المصري الطويل بمراحل تطورية انتقلت فيها القرية أفقيا متفاعلة مع بيئة موضع القرية الأصلي والمناطق المحيطة بها، وتأثرت بالمتغيرات الايكولوجية السائدة. وقد تراوح النمو العمراني للقرية المصرية عبر الزمن بين العشوائية والتخطيط حسب قوة الدولة والنظام وترابط التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والتفاعل بين الإنسان والبيئة.[6]
تعتبر القرية المصرية القديمة بيئة عمرانية محلية تضم مجتمع له نظمه المجتمعية وعاداته وتقاليده المتوارثة منذ زمن بعيد. وخلافا للبيئة العمرانية في المناطق الحضرية حيث يحتاج المصنع الصغير إلى مساحة اكبر لتوفير المساكن لعماله تحتاج مساحات الأراضي الزراعية الكبيرة إلى مساحة صغيرة لتوفير المساكن للفلاحين القائمين بزراعتها. وارتبط شكل البيئة العمرانية في القرية المصرية ارتباطا وثيقا بالأوضاع الاقتصادية و السياسية المحيطة بها. حرم الفلاح المصري لعدة آلاف من السنين من امتلاك أرضه الزراعية فامتلك فراعنة مصر الأرض الزراعية بصفتهم الآلهة على الأرض واستمر الحال أبان الحكم العثماني والمماليك وحتى عصر محمد على الذي بدأت فيه حركة إصلاح زراعي كبيرة. كانت الأرض الزراعية (وليس المسكن) هي محور الحياة والتفاعلات الاجتماعية والثقافية في القرية المصرية.
القرية المصرية حتى بداية القرن التاسع عشر
يشير كثير من الكتاب إلى أن ملكية الأرض كان معترفا بها للحاكم في مصر، وان ذلك هو الحال في عهد الفراعنة ثم في عهد البطالمة والرومان، وذلك بحكم أن الحكومة المركزية في مصر كانت وعلى مر التاريخ تباشر تنظيم مصادر الري والتحكم في المياه وغير ذلك من الوظائف الاقتصادية، ولقد كان الملك بوصفه الإله أو ممثله على الأرض وبحكم سيطرته الفعلية على موارد الري والقوى العاملة هو المالك الوحيد لأرض مصر.[7]
ويشير د. محمود عودة إلى أن المادة التاريخية تشير إلى أن الدولة ظلت هي المالك الوحيد للأرض خلال التاريخ المصري قبل الفتح العربي وقد طبق العرب لدى فتحهم مصر نظمهم القانونية الخاصة بالأرض وهى النظم التي كانت تقضى بتقسيم الأراضي إلى أراض "خراجية" وتقع تحت تصرف الحاكم وتدفع الميرى أو الخراج وهى أنواع من الضرائب يحددها الحاكم أيضا وأراض "عشورية" أي تدفع العشر وهو اقل قيمة من الميرى. وفى أواخر القرن الثامن عشر كانت الأرض تعتبر مملوكة ملكية اسمية للسلطان أما من الوجهة الفعلية فقد كان المماليك يتقاسمون البلاد بحيث كان كل واحد منهم مختصا ببضعة قرى يقسم الأراضي فيها بين الفلاحين المقيمين عليها ويلتزم بجمع الضريبة المستحقة عليهم، وهو ما كان يعرف بنظام "الالتزام" أو "الملتزم"، وفى نظير ذلك كان يمنح أراضى يقوم باستغلالها لنفسه مع إعفائه من الضريبة المستحقة عليها وكانت تلك الأراضي تعتبر ملكا خاصا له. أما الفلاح فلم يكن له إلا حق الانتفاع بالأرض بشرط دفع الضريبة وكان بمثابة "مستأجر" للأرض.[8]
عمليات الاستيطان الأولى على ضفاف النيل
تطلبت عمليات الاستيطان الأولى في وادي النيل والدلتا عمل جماعي ضخم لتدعيم الجسور النيلية وبناء مواضع القرى فوق مناسيب الفيضان التي كانت تعرض مساحات كبيرة للغرق وفترة أطول من البرك والمستنقعات المتبقية من موسم الفيضان, وكان هذا العمل الجماعي المبكر، كما يؤكد د. فتحي مصيلحى[9]، أحد الأسباب الهامة في نضج الحضارة المصرية المبكر. يعتبر مصطلح "الكوم" و "التل" اكثر مقاطع المسميات تعبيرا عن مواضع القرى المصرية أعلى من منسوب مياه الفيضان، كما تعبر "النزلات" عن نزول البدو من الهضبة واستقرارهم في هوامش الوادي والدلتا، وهى أيضا بمنأى عن إغراق الفيضان. وبعد إعداد الكوم وتأمينه من إغراق الفيضان، يبدأ السكان في تخطيطه إلى مناطق سكنية وتوقيع منافعه العمومية، بادئا من أعلى "الكوم" حيث أعلى الأراضي قيمة إلى مهبط الكوم. ويرتكز تخطيط قرية "الكوم" كما يصفه د. فتحى مصيلحى على ثلاثة عناصر تخطيط وهى:
- 1- الجامع وهو أغلى الاستخدامات الذي شغل محل المعبد الفرعونى ثم الكنيسة القبطية ويحتل المركز في أعلى الكوم وتحيط به خدمات تجارية وبيوت كبار القوم مثل العمدة وشيخ البلد والمضيفة.
- 2- شارع داير الناحية وهو المحيط أو الحزام الحرج الذي تتذبذب عليه الفيضانات المختلفة المناسيب. وظهر شارع داير الناحية كنمط جديد من أنماط استغلال الأرض باعتباره ملكية مشاعية وموقعه على الأراضي الزراعية المفتوحة مثل السوق الأسبوعية والخدمات التعليمية وتنافس أهميته كمدخل للقرية أهمية مركز القرية الذي يشغله الجامع ودوار العمدة والمضيفة وبعض الدكاكين.
- 3- شبكات الطرق الفرعية وتتكون من شبكتين رئيسيتين أقدمها النازلة من مركز الكوم بشكل إشعاعي وأخرى متفرعة من شارع داير الناحية الذي يحدد المواضع الصالحة للسكنى بعيدة عن إغراق الفيضان ولا تلتقي شوارع الشبكتين إلا نادرا. وتتميز الشوارع بتعرجها وضيقها وبأنها مسدودة النهايات في اغلب الأحيان. وخلافا لأسباب ضيق الشوارع في نمط مدن شبه الجزيرة العربية وقت الفتوحات الإسلامية بهدف توفير الظل في المناطق الحارة إلا أن ضيق شوارع القرية الشديد جاء نتيجة متطلبات اقتصاديات المكان ذات العرض المحدود فوق الكوم. وحتى وقت قريب كان لكل عائلة لها حارتها ومضيفتها ومبانيها المتجاورة ومنافعها المشاعية.
وتقع الجبانات دائما في أطراف الكتلة السكنية وتهاجر الجبانات من موضع إلى موضع اكثر تطرفا لكيلا تقع داخل المنطقة السكنية. ويتميز موقع الأجران أيضا بالهامشية وموقعها البيني بين الحقول الزراعية والكتلة العمرانية. وتقع الأسواق الأسبوعية أيضا خارج نطاق الكتلة العمرانية لما تتطلبه من مساحات اكبر لا تتوافر داخل الكتلة العمرانية.
ومع العرض المحدود لرقعة السكن فوق الكوم ومع تزايد الطلب على السكن بتزايد معدلات النمو السكاني عبر آلاف السنين تتراكم المشكلة الإسكانية وتنحصر الخيارات البديلة فيما يلي:
- النمو داخل العقار الواحد تحت ما يسمى بالعائلة الممتدة وذلك على حساب زيادة معدلات التزاحم.
- إحلال كتلة من المباني الحديثة محل كتلة المباني القديمة على حساب الفراغات البينية وشبكة الشوارع التي ازدادت ضيقا عما سبق.
- النزوع إلى نطاق النمو الحرج حيث يتذبذب مستوى الفيضانات خارج شارع داير الناحية وبناء نمو إسكاني فقير يغلب عليه الصفة المؤقتة أو توسيع مسطح الكوم بتكويم كميات من الأتربة المضافة وذلك في نطاق محدود نظرا للمجهود الذي تتطلبه تلك العملية.
- هجرة الفائض السكاني من الكوم إلى كوم آخر تتوافر به إمكانيات السكنى أو التعاون في إنشاء أكوام أخري صغيرة.
- تقسيم الوحدات العقارية إلى وحدات اصغر بفعل عوامل التوريث.
القرية المصرية منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين
ظلت ملكية الأراضي الزراعية في مصر ملكا لحاكم البلاد منذ العصور القديمة، وكان له أن يوجه منعتها لمن يشاء من القادرين على زراعتها، واستمر ذلك قائما حتى القرن التاسع عشر، حيث حدث تغيير جذري في أوضاع حيازة الأرض الزراعية، ومن ثم بدأت تدخل في دائرة التملك التام فظهرت بذلك الملكية الفردية في الأراضي الزراعية لاول مرة في تاريخ مصر.[10]
في بداية القرن التاسع عشر، كانت غالبية سكان مصر يعيشون بالريف والنذر القليل يعيش بالحضر لا يتجاوز عشر سكان مصر. واصبح السكان في سنة 1927 يتوزعون بواقع ثلاثة أرباع السكان في الريف وربعه في المدن. و أصبحت الحضرية في سنة 1966 تشكل خمسي جملة السكان. وفى تعداد 1986 اصبح المكون الحضري للسكان حوالي 43% من جملة سكان الدولة. وكان متوسط عدد القرى حتى حركة التنمية الشاملة التي قام بها محمد على في بداية القرن التاسع عشر حوالي 2325 قرية. أحدثت إجراءات السيطرة على النهر التي بدأها محمد على تأثيرا كبيرا على مورفولوجية القرية المصرية. دخل نظام الري المصري مرحلة جديدة تتمثل في إنشاء القناطر الهندسية الثابتة مثل القناطر الخيرية و الرياحات مثل التوفيقى والبحيرى والمنوفى في الدلتا والترع الرئيسية مثل الترعة الإبراهيمية وفرعها الثلاثة الساحلية و الديروطية وبحر يوسف في الصعيد. تحولت مصر بعد ذلك إلى مرحلة الخزانات مثل خزان أسوان في 1902 وتعلياته في 1911 و1933 وقناطر أسيوط وزفتي وادفينا وفارسكور وانتهت ببناء السد العالي في الستينيات والتي انتهت سنة 1970 والتحول الكامل من ري الحياض إلي الري الدائم. [11]
وكما يشير د. فتحي مصيلحى فبالإضافة إلى التوسع في الزراعة الصيفية المستهدفة من ضبط النهر وتطوير أعمال تخزين مياه النيل، ترتب على ذلك أيضا تأمين القرى القائمة من غرق الفيضان، فاتجه التعمير المصري في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إلى اتجاهين:
1- توسيع القرى القديمة فوق الروابي والأكوام تحت مناسيب غمر الفيضان أي إلى السفوح الدنيا من الأكوام حيث المستوى العام للأراضي الزراعية المحيطة، والتي تتميز باتساعها الأفقي.
2- إنشاء قرى جديدة على سطح الأرض الزراعية دون أية قيود يفرضها الفيضان.
و يشير د. فتحى مصيلحى[12] إلى أن التعمير الزراعي في العهد الإقطاعي في القرن التاسع عشر تمخض انتشار "العزب" وهى مرحلة انتقالية بين السكن المجمع فوق الكوم والسكن المبعثر على ارض مستوية حيث يتوسطها قصر أو فيلا المالك الجديد بفنائه الكبير وتلتف حوله مساكن العمال الزراعيين. وقد لعبت الترع والمصارف دورا رئيسيا في توزيع النمط الجديد على سطح سهل الوادي والدلتا الفيضية. فقد سارت الترع والمصارف أصلا بمجموعة من القرى القديمة التي تحتل الروابي والأكوام ولكن ما لبثت أن جذبت مجموعات من القرى المستحدثة التي توطنت على جانبيها وخاصة مناطق التفرعات. ويتراوح حجم العزبة بين عشرة وثلاثين أسرة أي 150 إلي 300 فرد في المتوسط. وتنتشر العزبة خطيا على طول محاور الترع التي تنقل المياه اللازمة لاستزراع المساحات الكبيرة الحديثة الاستصلاح وذلك عكس انتشار القرى القديمة (قرى الكوم) التي ارتبطت بالري الحوضي. ويتميز توزيع العزب بالشكل النقطي الغير مرتبط بمناسيب الأرض. وايضا، ونتبجة للزيادات السكانية المتتابعة في المناطق الزراعية القديمة الناتجة عن تكثيف الإنتاج الزراعي بزراعة اكثر من محصول في السنة الواحدة ظهرت الامتدادات العمرانية عند سفوح قرى الأكوام خارج شارع داير الناحية.
كان لإدخال السكة الحديدية في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر أثره في تعميق هذا النمط التوزيعى الطولي أو الخطى. لان مسارات السكك الحديدية اتبعت جسور نهر النيل وفروعه و الترع والمصارف. في معظم الحالات لم يكن تأثير السكك الحديدية كبيرا في استحداث قرى جديدة بقدر أثره في تنمية المدن والقرى القديمة التي حددت مسارات السكك الحديدية. فمثلا اختيرت شبين الكوم عاصمة للمنوفية بدلا من منوف وكذلك بنها بدلا من قليوب وذلك على مستوى مدن عواصم المحافظات.
باكتشاف طريقة الأسفلت المحسن كبديل لتعبيد الطرق بالأحجار الجيرية والبازلتية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وما استتبعه من إدخال السيارة في مصر في العقد الأول من القرن العشرين وتزايد استخدامها بعد الحرب العالمية الثانية أثره الكبير في تنمية القرية والمدينة المصرية على حد سواء، القائمة والمستحدثة منها، ويتميز الطريق بمرونته إذا قورن بالخط الحديدي. وكان للشبكة الهيدروغرافية أثرها العظيم في توقيع الشبكة الطرقية فسارت الطرق على طول مسارات الترع والمصارف وكان هذا له الأثر الكبير في ظهور قرى جديدة وتنمية القرى القديمة أيضا.
في عام 1976 بلغ عدد القرى المصرية 4066 قرية[13] بينما تجاوز عدد القرى المصرية في تعداد عام 1986 الأربعة آلاف قرية مصرية (4129 قرية) ويقع اغلبها داخل الوادي والدلتا (4118 قرية - 99.7 %) ويسكن بها حوالي 26 مليون نسمة ومتوسط حجم القرية الواحدة 6500 نسمة.وبلغ حجم بعض القرى حول التجمعات الحضرية الكبرى مائة ألف نسمة.مثل وراق العرب وخمسون ألف نسمة مثل كرداسة والمعتمدية. ويشير د. فتحي مصيلحى إلى عدم تحول تلك القرى إلى مدن لعدم ارتباط تطورها الحجمى بتطور العاملين بغير الزراعة إلى الحد المسموح به للتحول الحضري وهو ثلثي السكان العاملين بالفعل بالإضافة إلى افتقارها إلى نضج الحالة العمرانية للقرية التي تؤهلها للتحول إلى مدينة بالإضافة إلى القرب النسبي للمدن المحيطة والتي تقوم بوظائف إدارية وخدمية للمناطق المحيطة التي توجد بها القرية.[14]
المسكن الريفي التقليدي
مسكن العائلة هو مكان "إيواء" مكوناتها المادية من البشر والحيوان والأدوات والمحاصيل، "المتاواه" كوظيفة للمسكن تكشف عن سبب عدم اهتمامهم فنيا في العائلة أو في القرية بتنسيق المساكن داخليا أو إعطائها مظهرا جماليا خارجيا. وإنما كان الاهتمام الأول يتعلق بالحجم. ولهذا لا توجد فوارق ظاهرة بين مساكن العائلة إلا من حيث الحجم. وكقاعدة كلما زاد حجم العائلة وزادت مساحة أرضها زاد حجم المسكن.[15]
ويشير د. محمد عاطف غيث إلى أن مسكن العائلة يقع في نطاق المنطقة التي تشغلها البدنة من القرية والتي كانت تجاوز مباشرة أرضها الزراعية وهذا الجوار يوفر الأمن والحماية للعائلة. وتنقسم مناطق البدنات إلى "حارات" وتسمى الحارة الكبرى باسم البدنة. وفى بناء المسكن كان القرويون يعتمدون اعتمادا تاما على البيئة المحلية. فالغالبية العظمى من المساكن تبنى بالطوب "اللبن" الذي يصنع إما من الطمي المتخلف في الترع أو من "الردم" المتخلف من عمليات تسوية الأرض مضافا إليه في الحالتين" التبن" أو بعض الأعشاب الهشة ويقومون "بضرب الطوب" في فترة الجفاف حين تكون الأرض خالية من المزروعات والعمل الزراعي قليل، أما الأخشاب اللازمة للسقف والباب فإنها تؤخذ من الأشجار التي تنمو بكثرة على أطراف الحقول أو على جانبي الترع وعلى الأخص أشجار "السنط والكازورين" وليس من المهم أن تكون الأخشاب مستقيمة بقدر ما تكون موافقة لطول أو عرض الحجرات، ويغطى السقف بالبوص أو الغاب ثم بطبقة من الطين. ويشترك في عملية البناء النجار والبناء والقرويون أنفسهم من الرجال أما النساء فان عملهم يقتصر على بعد ذلك على طلاء المسكن من الداخل أو الخارج بالطين المخلوط بالتبن. ويشير د. محمد عاطف غيث[16] إلى أن المظهر الخارجي للمسكن يميل إلى الخطوط المنحنية أو الدائرية ويظهر ذلك على وجه الخصوص في النوافذ والأبواب، والباب عبارة عن ألواح من الخشب السميك متلاصقة على هيئة مستطيل يغلق "بضبة" من الخارج و"بسقاطة" من الداخل. والأبواب الداخلية تصمم على نمط الباب الخارجي وان كانت اصغر. أما النوافذ فإنها عبارة عن فتحات دائرية مستطيلة في أعلى الحائط تسد بالخرق البالية في الشتاء ولم تكن تصمم إلا لأغراض التهوية وإخراج الدخان في الشتاء خاصة في الحجرة التي يكون بها "فرن" ينام على سطحه الأفراد لأغراض التدفئة.
تصميم المسكن الريفي التقليدي
يوجد في كل مسكن منطقة خالية تتوسطه وتسمى "وسط الدار" وهى منطقة غير مسقوفة وتحيط بها الحجرات المختلفة وتقع حظيرة الماشية في نهاية "وسط الدار" أو بجوار المسكن مباشرة وذلك للخوف من اللصوص الذين قد يفتحون جزءا من الحائط ويخرجون الماشية. ويتفاوت حجم ومساحة المساكن الريفية حسب المستوى الاجتماعي وحسب مادة البناء وحسب أحجامها وحسب التحديث والتغيير الذي طرأ عليها:
1- المسكن الفقير أو البسيط: وهو أفقر الوحدات السكنية ويتألف من غرفة واحدة وهى المندرة ويستخدم كوحدة سكنية للآدميين والجزء الخلفي يستخدم كزريبة وبعض المنافع والعشش، ويتألف من دور واحد ويستخدم السطح في التخزين المكشوف.
2- المسكن البسيط الأقل فقرا: وهو يأخذ شكل المنزل الفقير السابق ولكن يزيد عنه بالتوسع في الاستخدامات الاجتماعية.
3- المسكن المتوسط: يأخذ عدة أشكال وتتزايد نسبة الاستخدامات المختلطة التي ترتبط طرديا باتساع مساحة المسكن.
4- المسكن الغنى: وتعدد فيه العناصر المؤثرة في تطوره مثل اتساعه او موقعه على اكثر من شارع أو موقعه في قطاع المدخل أو الشارع العام. وقد يوجد له مدخلان: مدخل للبهائم من الشارع الفرعي ومدخل للآدميين من الشارع الرئيسى، ويتألف من قسمين: قسم خلفي وقسم أمامي وهما شبه مستقلين ويرتفع منسوب القسم الأمامي درجتي سلم أو ثلاثة عن منسوب القسم الخلفي.
على مدى 65 عام هي متوسط عمر المسكن الريفي بمصر، استحدث في ربع القرن الأخير من دورة الأعمار الريفي الأخيرة (25/1990) ما يزيد عن ثلث عدد مباني القرية المصرية وتم إحلال ما يقرب من 25% من جملة عدد المباني القديمة بمباني حديثة سواء انتهى عمرها الافتراضي وأحيانا كثيرة قبل أن تنتهي أعمارها. وان ما تبقى من المباني القديمة طرأت علي كثير منها تغييرات تحديث في الشكل والمنافع السكنية الداخلية.
أثاث المسكن الريفي التقليدي
كانت بساطة الأثاث مرتبطة بمجموع القيم والنظرة إلى الحياة فمطالب القروي الأساسية وأمانيه لا تتعلق بتأثيث المنزل وإنما تتعلق بالمهارة وكثرة الإنجاب وفائض يحقق له أهدافه الأساسية كشراء ارض جديدة.[17]
يتميز أثاث المسكن الريفي بالبساطة وتبدو الفوارق بين العائلات في استخدام الحصير أو المراتب للنوم حسب ثروتها، وكذلك الشأن فيما يتعلق بالأغطية أو الوسائد. وهذا ينطبق أيضا على الإضاءة وأدوات الطبخ والآكل. ويوضح د. محمد عاطف غيث انه كقاعدة يستمد الأثاث والطعام من البيئة المحلية أو من التجار المتجولين الذين يترددون على القرية بين الحين والآخر. وفكرة القرويين عن الأثاث مرتبطة "بحط الجنب" أي الراحة، والراحة في أن ينام المرء في أي مكان "خالي البال" وقد كانت العائلة توفر للفرد الأمان والطمأنينة ولهذا لم يلق بالا إلى تنوع الأثاث. ولا ينام القروي فقط في المسكن بل ينام أيضا في الحقل "تحت الشجرة" أو فوق حظيرة الماشية أو بجوارها.
المسكن الريفي الحديث
لا تزال نسبة كبيرة من المساكن موجودة على النمط القديم ولكن نسبة أخرى بدأت تظهر الآن أنماط مختلفة في عدة نواح. يوضح د. محمد عاطف غيث[18] انه نتيجة انفصال الأسر واستقلالها عن العائلة القديمة حدث تغير في حجم المسكن فهو يميل إلى الصغر. وقد انقسمت كثير من مساكن العائلات إلى عدة مساكن تستقل بكل منها أسرة واحدة. كما انه نتيجة لزيادة السكان تزداد المساكن الآن زيادة ملحوظة حتى أن القرية نتيجة حركة البناء المستمرة يزداد حجمها عاما بعد عام على حساب الأرض الزراعية. ولم يعد هناك قاعدة في بناء المساكن من حيث الموقع فهناك عدد من المساكن تقع على مسافات مختلفة من القرية ولم تعد مساكن العائلة الواحدة أو "البدنة" تقع جميعا في نفس المنطقة وذلك لان القروي يبنى مسكنه حيثما يستطيع أن يشترى أرضا صالحة وبثمن مناسب وان كان يفضل ان يقع مسكنه بالقرب من عائلته. وأدى الزواج الخارجي من بدنات أخرى إلى ان عددا من الأزواج يسكنون في المنطقة التي تنتمي إليها الزوجة إذا كانت من بدنة أخرى خصوصا إذا كان لها سكن مستقل أو جزء من مسكن.
ويستخدم القرويين الآن في بناء المساكن موادا من التي تستخدم في المدينة. فلم تعد البيئة المحلية تفي بالأغراض المطلوبة في المسكن، واهم ما يستقدمونه من المدينة الأخشاب بأنواعها المختلفة والحديد والبلاط والأسمنت والطوب والنوافذ والأقفال حسب الحاجة وحسب نوع ومستوى المسكن. وهناك ثلاث فئات للمساكن الحديثة في القرية المصرية:
1- مساكن الأسر الفقيرة: وهى لا تختلف كثيرا عن المساكن القديمة من حيث الاعتماد على البيئة المحلية من طوب لبن وأخشاب.
2- مساكن الأسر المتوسطة: وهى الأسر التي لديها أرضا زراعية تكفى حاجاتهم ويكون لديهم فائض. وكلما زاد الفائض مالت الأسرة إلى بناء المسكن بالطوب والأسمنت والحديد والأخشاب المستقيمة. ويميل شكل البيوت الحديثة إلى الخطوط المستقيمة والمربعات والمستطيلات. وتصمم بعض المساكن على أساس وجود بابين أحدهما لدخول الماشية والآخر للأسرة. ويلاحظ أن نسبة ضئيلة جدا من المساكن هي التي يتم طلائها من الخارج ويعلل القرويون ذلك أن كثرة الأتربة ومرور الحيوانات تؤدى إلى اتساخ المسكن من الخارج فيقومون بطلائه بالجير من الداخل وتركه من الخارج.[19]
3- مساكن الأسر الميسورة: وتبنى على طراز مكان المدينة وتقع على مسافة غير محددة من القرية وترش بالأسمنت من الخارج وتطلى بطلاء ابيض في اغلب الأحيان.
وهناك اختلاف، كما يوضح د. محمد عاطف غيث بين تصميم المساكن الحديثة فيكون لها بابان ومكان مخصص للحظيرة بعيدا عن المكان المخصص لاستعمال أعضاء الأسرة. وهناك ميل إلى تسقيف "وسط الدار" وللمندرة في مثل هذه المساكن نوافذ مستطيلة تطل على الخارج. وبصفة عامة يرتبط شكل المسكن وحجمه وطريقة بناءه وتنظيمه الداخلي بمركز الأسرة الاقتصادي فتزداد المظاهر الجديدة كلما زاد الدخل وتقل كلما قل الدخل. وكذلك بدأ يميل أثاث المساكن إلى التنوع والتعقيد حتى بالنسبة للأسر الفقيرة ولكنه يختلف من حيث الكم والكيف باختلاف المركز الاقتصادي ويرتبط أيضا بالمركز الاجتماعي فكلما زادت هذه الأشياء عند الأسرة كان لديها المقدرة على الظهور في القرية في المناسبات المختلفة بمظهر "مختلف" عن بقية الأسر. وذلك لان التشبه بسكان المدينة اصبح الآن في القرية أمرا يحاول بلوغه كل قروي سمحت له أحواله الاقتصادية بذلك.
عوامل التحديث في القرية المصرية
تضافرت العديد من العوامل السكانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في حدوث تغيير كبير في البيئة العمرانية في القرية المصرية واهمها:
1- التغير في هرم الحيازات الزراعية بعد قوانين الإصلاح الزراعي في 1961 وما تلاها.
2- حركة هجرة العمال الزراعيين إلى الدول النفطية وخاصة بعد تضاعف الدخول البترولية بعد حرب 1973.
3- مراحل الانفجار الديموجرافية بعد الحرب العالمية الثانية (39/1946) وظروف الربيين العربية الإسرائيلية (67/19739 وارتفاع معدلات تكوين الأسرة والمواليد بعدها.
4- تطور الخدمات التعليمية وإنشاء الجامعات الإقليمية وارتفاع معدل المتعلمين بالريف المصري.
5- برامج الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات ونشاط السوق العقاري في المدينة والريف المصري وتطور صناعة مواد البناء.
6- مشروعات الإسكان الحكومي الريفي.
7- برامج تنمية شبكات المرافق الريفية.
8- تنمية الدخول الريفية إما بإدخال أنشطة إنتاجية أو العمل في الخدمات الحكومية أو التكثيف الزراعي.
9- زيادة نصيب الريف المصري المحيط بالمدن من المشروعات الاقتصادية والمرافق التي طردتها تلك المدن.
10-حركة إنشاء وتعبيد الطرق الريفية في الفترة الأخيرة وتأثيرها في زحف العمران الريفي على مساراتها.
11-تعاظم حركة الهجرة الريفية/الحضرية وما استتبع ذلك من نمو المدن وتحضر الريف وتكثيف عمليات الاحتكاك الحضري-الريفي وما ترتب على ذلك من زيادة التطلعات الريفية نحو التحديث أسوة بأبنائها الذين هاجروا إلى المدن.
التغيرات التي طرأت على القرية المصرية خلال القرن العشرين
يمكن ان نميز بين ثلاث مراحل لنمو القرية المصرية في القرن العشرين:
1- مرحلة النمو المطرد في الفترة بين 1880/1935 وهو انعكاس لتعاظم الاقتصاد المصري والكيان السياسي في القرن التاسع عشر.
2- مرحلة انكماش التنمية العمرانية للقرية المصرية في الفترة من 1935/1952
3- مرحلة إعادة التنمية في الفترة من 1952/1975 وقد بدأت هذه المرحلة مع قيام ثورة يوليو التي تبنت تنمية الريف والفلاح المصري منذ قيامها وإصدار قوانين الإصلاح الزراعي وتملك العديد من الفلاحين أرضهم الزراعية.
4- انكمش معدل التنمية في الريف المصري في فترة بين حربي 1967 و 1973 نتيجة توجيه الاقتصاد المصري نحو إعادة بناء القوات المسلحة وتحرير سيناء. في بداية السبعينات كانت مباني الدور الواحد هي الأكثر شيوعا في القرية المصرية وتمثل ثلاثة أرباع المباني في القرى المصرية بينما تمثل مباني الدورين الربع الباقي ويندر وجود مباني ذات ثلاث طوابق.
5- بعد حرب أكتوبر شهدت القرية المصرية حركة عمرانية واضحة نمت فيها القرية أفقيا وراسيا وبالرغم من زيادة نسبة مسطحات الاستخدامات العمرانية في القرية المصرية بمعدل 2.2 % سنويا إلا أنها اقل بكثير من معدل نمو السكان في الريف المصري البالغ 2.8 % ويؤشر هذا على وجود أزمة إسكانية في الريف المصري رغم التوسع الرأسي الملحوظ.
6- مع دخول مصر في عصر الانفتاح الاقتصادي في نهاية السبعينيات بدأ اتجاه العديد من سكان الريف إلى الهجرة إلى المدن بحثا عن مصادر الرزق أو السفر إلى العديد من الدول العربية التي استقطبت العمالة الزراعية المصرية. انعكس تأثير حركة الهجرة الداخلية والخارجية على البيئة العمرانية في الريف المصري وبدأ ظهور أنماط إسكانية جديدة لم تكن موجودة من قبل.
النسق العمراني للقرية المصرية الحديثة
تتكون القرية المصرية الحديثة من ثلاث قطاعات رئيسية ينتمي كل قطاع إلى مرحلة من مراحل تشكيل النسق العمراني المصري:
1- النواة القديمة داخل شارع "داير الناحية": حيث كان مجال امتداد مباني القرية المصرية فيما بين أعلى مناسيب الربوة أو الكوم الذي يمثله عادة الجامع وشارع داير لناحية الذي يمثل أدنى مناسيب خط الغمر أعلى الفيضان. وقامت عمليات البناء على الأراضي التي لا يغمرها الفيضان حول الجامع إلى المناسيب الدنيا بالتدريج في اتجاه شارع داير الناحية. ويتخلل الكتلة المبنية القديمة شبكة شوارع إشعاعية متعرجة وضيقة جدا من أعلى مناسيب الكوم (الجامع) إلى أدنى. وتتكون شبكة أخرى تقابلها تتفرع من شارع داير الناحية تصعد الكوم بالتدريج ، متعرجة ولكنها أوسع من الشبكة الهابطة الأقدم.
2- ضبط النهر ونمو القرية خارج شارع "داير الناحية": بعد تأمين الأراضي الزراعية والقرى من إغراق الفيضان تجرأ سكان القرية المصرية بالخروج من شرنقة التكدس على الكوم الذي بمنأى عن الغرق وقاموا بعمليات البناء خارج شارع داير الناحية وهبطوا إلى المنحدرات الدنيا للكوم وامتدت مبانيهم على الأراضي المستوية في الحقول الزراعية خارج الكوم. ولا يتماثل تركيب القطاع القديم داخل داير الناحية والقطاع الحديث خارجه ففضلا عن شبكة الشوارع الإشعاعية المتعرجة والضيقة وغير النافذة في معظم الأحيان داخل القطاع القديم توجد الشوارع المستقيمة تقريبا والمتعامدة على بعض في كثير من الأحيان والأوسع نسبيا في قطاع خارج شارع داير الناحية. وتتكدس البيوت في القطاع القديم بفعل عامل التوريث المستمر لاستيعاب الأعداد السكانية المتزايدة، ويغلب عليه المباني الطينية والمحدودة الارتفاع والتي غالبا لا تزيد عن طابقين وعادة ما تكون من طابق واحد. ويختلف الوضع في القطاع الأحدث إلى يتألف من البيوت الواسعة ويغلب على مادة بنائه الحجر والطوب الأحمر.
3- الطرق النقلية وتكوين ما يسمى بقطاع المدخل: ظهر قطاع المدخل بعد رصف الطريق على جانبي الترعة أو المصرف، وبدأت تظهر عليه بعض المباني العامة أو الخدمات الخاصة كمحطة أو قهوة أو جمعية أو مدرسة وتبع ذلك قيام مجموعة من المباني شبه الحديثة لمجموعة من السكان لها تطلعات طبقية. ويساعد على جاذبية هذا الطريق ردم إحدى الترع في المدخل، مما يصنع شارعا كبيرا واسعا يجذب مجموعة من الدكاكين مما يترك أثرا كبيرا في تحديث القرية بصفة عامة.
تعتبر استخدامات الأراضي في المراكز العمرانية من أهم العناصر التركيبية في دراسة القرية او المدينة فهي انعكاس لقيمة الأراضي ومظهر من مظاهر استثمار الأراضي بالمدينة أو القرية. وتتراوح أنماط استخدامات الأراضي في القرية المصرية بين أربعة أنماط رئيسية:
1- الاستخدام السكنى وهو النمط الرئيسي إذ يشغل ثلثي (65.3%) من جملة مسطحات استخدامات الأراضي في بداية الثمانينيات.
2- نمط استخدام الطرق والأراضي الفضاء التي تتخل الكتلة العمرانية في المقام الثاني إذ تشغل مساحة تقدر بما يقرب من ربع (23.9%) من جملة استخدامات الكتلة العمرانية.
3- أما النمط الثالث فيتمثل في الخدمات العمرانية الريفية وتشغل ما يقل عن عشر (8.9%) جملة استخدامات الكتلة العمرانية.
4- النمط الرابع والأخير هو نمط الحدائق العامة التي تشغل مساحة متدنية تقل عن 2.5% من المساحة الإجمالية للكتلة العمرانية للقرية.
أنماط المساكن في الريف المصري الحديث
1- نمط السكن القديم: ينتشر نمط السكن القديم في القطاع القديم من الكتلة العمرانية داخل شارع داير الناحية. وتتميز شبكة الطرق بالتعرج والضيق والانسداد. وتتميز أيضا بأن مادة بنائها من الطين والسقوف من الخشب والغاب والطين، وتتميز فتحات التهوية بها بالضيق. ويميل سكان هذا القطاع إلى الهجرة إلى أطراف القرية حيث حرية البناء على مساحات اكبر وفى أنماط بنائية افضل.
2- نمط السكن الحديث: يتركز نمط المسكن الحديث في الإمتدادات العمرانية الحديثة على المداخل المختلفة والتي يغلب عليها نمط الفيلات والمباني الحديثة المستقلة. وتتميز بأن مادة بنائها من الخرسانة والطوب غير النيئ وتتميز شبكة شوارعها بالاستقامة والاتساع وتزداد بها الفراغات البينية الخاصة لزيادة إمكانية التهوية، وتتميز أيضا بوفرة الخدمات إذا قورنت بالقطاع القديم وتظهر به العمائر الحديثة والمتعددة الطوابق. ويعبر المسكن الحديث عن الأسلوب الاستهلاكي الحديث في القرية المصرية من حيث عناصره وشكله. فهو يبنى بالمسلح من طابقين مع وجود مكان للماشية فهو نمط متوسط بين المسكن الريفي القديم وشقة المدينة، هذا إلى جانب وجود كثير من الأدوات الحديثة بهذا المسكن.[20]
3- النمط الثالث في مناطق الإحلال: وبصفة خاصة على طول شارع داير الناحية وفى النطاق الحلقي القديم نسبيا ويظهر في شكل عمائر وأبنية من الطوب الأحمر والخرسانة أو السقوف الخشبية.
يبلغ عدد المباني في ريف المحافظات المصرية 5.594.487 مبنى حسب تعداد 1986 . يبلغ متوسط عمر النمط العام للمباني الريفية 65 عاما ويزداد متوسط عمر المباني الخرسانية إلى المائة عاما للأعمدة الحاملة وثمانين عاما للحوائط الحاملة ذات الأسقف الخرسانية. وتتوزع على النحو التالي[21]:
1- مباني تتألف من الأعمدة الخرسانية الحاملة والأسقف المسلحة أيضا وتشكل 5.97 % من جملة عدد المباني.
2- مباني من الحوائط الحاملة والأسقف الخرسانية وتشكل 19% من جملة عدد المباني.
3- مباني من الحوائط الحاملة والأسقف الأخرى وتبلغ نسبتها 21.8 % من جملة عدد المباني.
4- مباني تتألف من الطوب النيئ والطين وتشكل ما يقرب من نصف (50.3%) من عدد المباني.
5- مباني أخرى وتشكل 2.9% من جملة عدد المباني.
دراسات ميدانية
قامت بتلك الدراسة د. منى الفرنوانى[22] في عام 1989 حول مدى تلوث البيئة الريفية والعوامل والأسباب التي تقف وراء ذلك. وتقع قرية البراجيل في الشمال الشرقي من محافظة الجيزة وتتبع مركز اوسيم. ويبلغ عدد سكانها حوالي 13591 نسمة. تبلغ المساحة الكلية القرية 1400 فدان منها 1176 فدان اراض زراعية و224 فدان كتلة سكنية. وتبدأ حدود القرية من الشرق من نقطة مرور بشتيل الملاصقة لقرية ميت عقبة وغربا من حدودها مع قرية كمبره وبرك الخيام، وشمالا من حدودها مع مدينة اوسيم وقرية الكوم الأخضر، وجنوبا من حدودها مع قرية المعتمدية. فهي أول قرية تلي قرية ميت عقبة التي هي قلب مدينة امبابه التي تربط بدورها بين مدينتي القاهرة والجيزة. اسهم الموقع الجغرافي المتميز للقرية - بالقرب من مدينتي القاهرة والجيزة - إلى جذب السكان الباحثين عن مسكن بسعر مناسب وبالقرب من العاصمة بالإضافة إلى جذب بعض أصحاب رؤوس الأموال الراغبين في إقامة بعض المصانع الصغيرة والمتوسطة. ويلف القرية من الخارج طريق رئيسي (داير الناحية) ويربطها بالقرى والمدن المحيطة وقد تم رصفه سنة 1985 وتمر عليه العربات ووسائل النقل المختلفة. ويخترق القرية طريق رئيسي واحد (الشارع الكبير) وعرضه 4 أمتار تغطى معظمه الأتربة والقاذورات. ويتفرع من الطريق الرئيسي عدة طرق فرعية وجانبية بطريقة عشوائية غير مرصوفة.
وتشير نتائج البحث الذي قامت به د. منى الفرنوانى إلى أن الكتلة السكنية محاطة بالعديد من المصانع التي تمثل الحد الفاصل بين المساكن والأراضي الزراعية ووجود هذه المصانع من الأمور حديثة العهد التي بدأت في منتصف السبعينيات. وقد أدي زحف المصانع إلى ارتفاع أثمان الأراضي السكنية في القرية مما أدى ببعض أبنائها إلى تبوير أرضهم الزراعية من اجل إقامة مساكن ومصانع عليها. وعلى الرغم من أن تلك
المصدر: د. ياسر محجوب