الطوفان.. والجسر… حكايات من نكلا العنب...(6 حكايات)
صحفى
إيهاب الحمامصى
دمنهور - البحيرة - مصر
0020103866612
http://asdmsr73.maktoobblog.com/
كتبهاإيهاب الحمامصى ، في 23 أغسطس 2009 الساعة: 23:39 م
قررت فجأة فى الثانى من رمضان لهذا العام1430هـ كتابة يومياتى أو مذكراتى مطعمة بحكايات من تراب مسقط رأسى بعنوان:
الطوفان.. والجسر… حكايات من نكلا العنب
وإليكم البداية
قبلة من بطل..
بالطبع لا أذكر تفاصيل هذه القبلة التى طبعها احد أبطال حرب اكتوبر على جبينى وترك معها خطابا موجها لى قبل سفره للجبهة..
البطل هو خالى ..أحمد إبراهيم طايل دبوس.. يعمل الآن مديرا لاحدى الجمعيات الزراعية..
لا أذكر تفاصيل زيارة خالى لبيتنا ولا كيف طبع القبلة على جبينى وان كنت أذكر " طشاش " نص الخطاب الذى كتبه بقلمه الحبر .. كان خالى يجيد قرض الشعر بالفصحى والعامية.. لذلك كان خطابه الذى وضعه بعناية داخل طيات " اللفة " أشبه ما يكون بالمعلقات
لا أذكر التفاصيل لسبب بسيط.. هو أن عمرى وقتها كان ثلاثون يوماً بالتمام والكمال.. فانا " أكبر" من حرب اكتوبر بشهر تماماً.. فانا من مواليد الساعة الثانية ظهر يوم السادس من سبتمبر 1973..
وكل ما سبق ذكرته لى أمى باقتضاب تخنقه العبرات من فرط تأثرها بالموقف.. الشقيق الغالى الذى لم يكمل عامه العشرين .. لم ينس زيارتها بعد الولادة وهو يرتدى الزى العسكرى قبل سفره مباشرة حيث يشغل وظيفة رامى دبابة.. من نوع T72 تى 72 أولى الدبابات العابرة لخط بارليف.. بكاء أمى كان بسبب كثرة شهداء قريتنا نكلا العنب بصفة عامة وأقاربها بصفة خاصة فى حروب 56 و67 والاستنزاف..ومن لم ينل شرف الشهادة غاب عن الاسرة لأعوام تتعدى العشرة احياناً.. مثل اكبر اخوالى.. محمد.. الذى اشترك فى حربى اليمن و 67.. وعاد الينا بحكايات مشوقة مروعة قبيل اكتوبر بقليل..ليحل مكانه على الجبهة شقيقه الأصغر احمد! وكأن القدر كتب على العائلة نصيباً مفروضاً على خط النار..
أذكر جيداً أغنية كانت تنشدها سيدات القرية فى الأفراح " يا حبيبى يا أحمد يا اللى على الجبهة " .. حتى افراحهم ارتبطت بجبهة القتال.. ترى المرأة منهن عندما تطلق " زغرودة " - تحريك اللسان بشدة مع خروج كامل هواء الرئتين ليحدث صوتا مدوياً- عندما تطلق المرأة هذه الزغرودة يكون وجهها دائماُ لأعلى فتشعر مع خلفية أغانى الجبهة هذه بان الزغاريد كانها صواريخ أرض جو تنطلق من صف النسوة المتحلقات حول العروس كانهن حائط صواريخ الدفاع الجوى الشهير سام 6,7 والعروس هى مصر.. مصر التى قتلنا عشقها قتلاً
**************
الطوفان.. والجسر .. حكايات من نكلا العنب (2)
كتبهاإيهاب الحمامصى ، في 26 أغسطس 2009 الساعة: 03:13 ص
شهيد آخر وزوجة عذراء..!
استطاع بطلنا الحصول على إجازة من الجبهة لمدة 24 ساعة فقط كى يستطيع إتمام مراسم عقد قرانه وتأجيل موعد الزفاف لما بعد المعركة.. حتى يشعر هو والأهل والمحيطين به أن الفرحة ..فرحتين….إذ كيف يهنأ بعروسه وما زالت مرارة النكسة تقطر علقم من أفواه الجميع ؟!
ورغم ذلك ساعده زملاؤه فى سرعة حصوله على تصريح إجازة من الجبهة ليوم واحد كى يعقد قرانه.. فالحرب على الأبواب والله أعلم بالمصير.. لكن دلائل النصر كانت تفوح عبقاً من كل جانب.. فالسادات سمح لشيوخ الأزهر بالذهاب للجبهة لاحياء روح الدين وعزيمة القتال من جديد فى نفوس كسرتها الهزيمة..بالاضافة لقراراته على صعيد الجبهة الداخلية .. فيما يتعلق بتغيير قيادات الإعلام الذى ساهم فى الهزيمة بنصيب وافر بما يبثه ليل نهار من غسيل فكرى متواصل مستخدما " الفن " غير الهادف - الا لتدمير بنية المجتمع بأفلامه الماجنة ماركة "صور فى بيروت " وتأصيل العرى فى نفوس نساءنا فى سبيل الانحلال التدريجى بحجة "حرية المراة" حتى بات من الصعوبة بمكان تمييز المراة من الرجل فى الستينات وما بعدها..! جاء السادات بالتغيير وهو مدرك تماماً كأى حاكم - أن الفن والإعلام فى الحقيقة هما وجهان لعملة واحدة - قد تكون عملة مزيفة أو حقيقية- وأنهما فى نهاية المطاف من أخطر وسائل السيطرة على المجتمع وتكوين ثقافته.
بطلنا هذه المرة هو زوج عمتى.. الشهيد مهندس/فوزى الشامى
ارتمى البطل عقب وصوله لمنزله فى أحضان أهله وتناول طعاماً لم يعتد عليه لفترة طويلة.. وتمت اجراءات عقد قرانه على عروسه بسرعة.. حيث جلس بجانبها (تشبه الفنانة وفاء سالم بطلة فيلم النمر الاسود لحد كبير).. جلس بجانب عروسه يحاول تأمل وجهها خلسة و قلبه يكاد يتوقف فرحاً وينفجر سعادة.. عيناه تحمل حباً كبيراً ووعداً بالنصر بإذن الله .. والعودة لإكمال مراسم زفافه عليها..
ومرت ساعات الإجازة سريعاً.. كما تمر من بين أيدينا أحلى ساعات العمر بسرعة صاروخ توماهوك كروز
وأسرع البطل فى المساء لتغيير ملابسه الى "الميرى" مرة أخرى.. وودع الأهل بنظرة حزن يكسوها أمل وابتسامة عريضة كأنه يراهم لأول مرة او لآخر مرة!
وانطلق مسرعاً ليلحق بآخر سيارة تحمله الى ايتاى البارود حيث محطة القطار.. ثم الى الجبهة
وانطلقت شرارة القتال فى العاشر من رمضان.. تسبقها حناجرالصائمين من ابطال أكتوبر تزمجر.. الله أكبر.. فتهتز الأرض بطول ضفتى قناة السويس شرقاً وغرباً .. ومن فوقهم تصب طائرات الميج 17,21,29 والقاذفات المقاتلة جام غضبها المتفجر من طول الصبر على مواقع الخنازير المذعورة فى بارليف والمليز والعريش وشرم الشيخ والنقب.. فتحيلها ركاماً محترقاً.. يساعدها فى ذلك ذراع القوات المسلحة الطولى.. المدفعية والمدفعية الصاروخية.. التى أمطرت ناراً من سجيل على المواقع الحصينة فى تبة الشجرة وأبو جاموس وباقى مواقع بارليف من بورفؤاد حتى بورتوفيق ..فى حين تقوم مدمرات القوات البحرية بدورها البطولى المعتاد من ناحية شاطئ شمال سيناء.. فجعلت من أحفاد القردة والخنازير عصف مأكول..
وتحت غطاء النار هذا عبرت بواكير القوات البرية من أبطال المشاة قناة السويس وتمكنت من بناء رؤوس كبارى بعد فتح ممرات فى الساتر الترابى بواسطة عباقرة سلاح المهندسين
وخلال ساعات تدفق أكثر من ثمانون ألف جندى يشكلون خمس فرق الى الشاطئ الشرقى لقناة السويس ومسحوا خط بارليف بما فيه من خنازير من ذاكرة العسكرية العالمية.. وأثبتوا ان اليهود مهما تحصنوا وحاربونا من وراء جدر.. فلسوف تأتى ساعة ونلتهمهم فيها هم وما بنته أيديهم المرتجفة ..النجسة..
استمر التدفق للمشاة والدبابات والألوية المدرعة المصرية
وجاء دور بطلنا فوزى الشامى
كانت وظيفته مثل خالى أحمد .. رامى دبابة..
لم تعلم الاسرة بنبأ العبور إلا متأخراً وبالتالى فلم تكن تعلم بما يجرى على الجبهة حقيقة حتى جاءهم نعى وزارة الحربية:
أنه بينما كان يؤدى البطل الشهيد مهندس فوزى الشامى مهمته التى كلف بها بعد عبور دبابته لقناة السويس وانتقال المعركة لعمق سيناء قبل منطقة المضايق( ممر متلا ومضيق الجدى ) أصيب بشظية فى ساقه.. وظل ينزف حتى الموت حيث لقى ربه مساء يوم السابع من أكتوبر الحادى عشر من رمضان.. ولم يجد زميله غير ملاءة خضراء قام بلفه بها وتركه فى مكان ما فوق رمال سيناء الحانية.. وأكملت الدبابة القتال بباقى طاقمها
فى أتون القتال المستعر فقد بطلنا ما يكشف هويته .. السلسلة العسكرية.. وبالتالى تم دفنه بعد العثور عليه بمقابرالجندى المجهول من شهداء الجيش الثالث بالكيلو 60 طريق مصر -الإسماعيلية الصحراوى.
وبعد مرور خمسون يوما أمكن الوصول الى قبره… حيث حصلت الأسرة على إذن من إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة لنقل الجثمان الى مقابر الأسرة بنكلا العنب..
كانت المفاجأة.. الجثمان كما هو.. ينزف دماً تفوح منه رائحة المسك.. بل والجسد ما يزال دافئاً.. والوجه مبتسماً
نفس الابتسامة التى ارتسمت على محياه وهو ينظر إلى عروسه
هذه العروس هى عمتى.. التى ما تزال وفية لذكراه وتحرص على زيارة قبره بانتظام وقراءة القرآن على روحه الطاهرة رغم انتقالها للإقامة بالقاهرة..
أسألكم الفاتحة لجميع موتى المسلمين
****************
الزفة
انها طقوس خاصة:
اقترب الشهر الفضيل.. وتعطرت الدنيا بعبقه .. هذا عم فوزى دحروج يبدأ فى تجهيز أدوات صناعة الكنافة اليدوى قبل ان يشترى الالآت الحديثة,, وذاك يبدأ فى اخراج المخلل المعتق والثانى يجهز عصائر رمضان المفضلة من الخروب والتمر الهندى.. اما بائع العرقسوس فهو حكاية منفصلة.. وآخرون يرشون الشوارع فى قريتى نكلا العنب..التى تحول أهم شوارعها التجارية- الشارع العمومى- الى ما يشبه منطقة شوارع مصر القديمة والموسكى وخان الخليلى تماما..
ندلف من الشارع العمومى عبر الحارة الوسطانية التى تشتهر بطابونة عيش الحاج عبدالسلام الحو ومنزل الفنانة عبلة كامل( الذى تحول الآن إلى عيادة النساء والتوليد الخاصة بالدكتورة فاطمة الفراش) الى حيث ميدان مسجد أيوب الانصارى ذلك الرجل الصالح الذى رآه عمدة القرية فى منامه ثم
فوجئ بجثمانه يأتى فى صندوق عائم على صفحة النيل
وفى رواية انه رأى مكان دفنه فى القرية وبعد الحفر فى المكان المحدد تم العثور على الجثمان وبجانبه علامة او وثيقة تؤرخ له وعلى الفور بنى له مسجده القائم فى اهم ميادين القرية والمعروف باسمه..حيث ارتبطنا بمجموعة مبانى الجامع القديم- القريب من بيت العائلة القديم- وقبابه الاثرية و مولده الذى يؤمه الزوار والمريدون من كل حدب وصوب فتتحول القرية الى كرنفال كبير يعج بباعة الحمص والحلاوة و الملاهى البسيطة ناهيك عن الدراويش الذين تعود جدى رحمه الله (الحاج أحمد الحمامصى ) على دعوتهم لمأدبة عامرة كل عام- تصك آذانك خلالها وقبلها وبعدها صرخة أحدهم المفاجئة: حــــــــــــــــــــــــــــــــى هذا بالاضافة للنصابين وكدابين الزفة .. الزفة التى تقام فى ختام المولد الذى يستمر سبعة أيام خلال سبتمبر( شهر مولدى ) والتى عادة ما توافق يوم جمعة عقب الصلاة..
تتحول معظم بيوت نكلا العنب فى مولد العارف بالله أيوب الانصارى الى بيت واحد تشعر فيها بأنس اللمة واواصر القربى بين الجميع الذين يسارعون فى الخيرات والخيرات من وجهة نظرهم هى إخراج الأطعمة على انواعها بدءا من الجبنة القديمة ذات المش أبو دود- فالدود تريد مارك ..علامة الجودة- وحتى أفخر أنواع اللحوم والفاكهة إلى مضيفة المسجد حيث كان يقوم المرحوم محمد ناجى- خادم المسجد وتربى القرية وأخيه المرحوم احمد وبعض المساعدين بالاشراف على توزيعها بين المريدين والدراويش وعابرى السبيل.. ونحن بالطبع أطفال القرية الذين نتجمع ونستجمع شجاعتنا فنجلس بين الرجال ونعامل بالاحترام ذاته ويوضع أمامنا ما لذ وطاب من القشدة والـ " بكاكيم" المصنوعة بمهارة لا تدانيها مهارة وهى خبز معجون باللبن الحليب أو الزبادى والخميرة والسمن البلدى..وبمجرد ان نفرغ من طعامنا توضع امامنا صوانى فواكه الموسم والشاى بالنعناع أو الـ" فلية " وهى أشد تأثيراً بنكهتها ورائحتها وطريقة صب الشاى بحرفنة من علو شاهق ينتج عنه رغاوى على سطح الكوب سرعان ما تنفجر وتنشر الرائحة المنعشة فى أرجاء المضيفة.. بعد الشاى.. نترك ضيوف المولد فى قيلولتهم بالمضيفة.. ونتسلل إلى المقام فندور حوله كثيرا ونتأمل مشعلى الشموع بأمل ورجاء.
كل البيوت فى قريتنا والقرى المجاورة كفر عوانة وجزيرة نكلا العنب وادمسنا والضهرية وابو منجوج وظهر التمساح وابتوك بل وحتى قرى الضفة الأخرى من نهر النيل حيث محافظة الغربية : محلة اللبن الفرستق بلد القارئ محمد عبدالعزيز حصان ومذيعة الشرق الاوسط إيناس جوهر- الكل ينتظر بصبر فارغ الليلة الكبيرة .. والتى عادة ما يحييها كبار المنشدين و مطربى المحروسة الشعبيين من أمثال فاطمة عيد ومحمد طه وخضرة محمد خضر .. بعد الحفل الغنائى وفى اليوم التالى تنطلق الزفة من امام المسجد .. عازفو الدفوف وقارعو الطبول- خاصة تلك الطبلة الغريبة المصنوعة خصيصا ليتم تركيبها فوق ظهور الجمال وأيضاً راقصى التنورة و حملة المباخر والرايات والسيوف والدراويش الناس البركة! الذين يقومون بتعذيب أنفسهم بألوان شتى من العذاب مثل ثقب صدوغهم وشفاههم بمسامير غليظة.. ولا أدرى ما علاقة هذا بالبركة اللهم إلا اذا كان هذا هو "فن الدروشة".. مثل هذه الأفعال وغيرها هى التى جعلت من أساتذتى فى المدرسة وغيرهم ينادون بضرورة تحريم الموالد لما فيها من سيادة البدع والبعد عن دين الله إلى أساطير وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان.. وانا معهم طبعا إلا أننى دائما ما كنت أنظر للمولد والزفة على انها " العيد القومى للقرية "أو كرنفال شعبى قروى بسيط وفرصة لجذب انظار الناس والمسئولين للقرية بمشاكلها وتراثها وتاريخها وفرصة اخرى لازدهار التجارة امام البسطاء فى هذا الموسم السنوى..
انتهت الزفة وما زالت دقات الطبول تقرع ذاكرة النسيان وما زلنا نذكر مصطبة المسجد التى هدمت الآن حيث كنا نتحلق- خاصة فى رمضان - حول المئذنة التاريخية التى تعدى عمرها المائة عام وهدمتها الأوقاف فى غمضة عين حين شرعوا فى بناء المسجد الحالى كنا ننتظر آذان المغرب- ولا يكمل المؤذن المرحوم محمد ناجى كلمة " الله أكبر" حتى ننطلق صارخين مهللين : المغرب ادن.. يا صايم افطر..
*******************
كتبهاإيهاب الحمامصى ، في 2 سبتمبر 2010 الساعة: 01:04 ص
الطوفان والجسر.. حكايات من نكلا العنب (4)
جنينة كشاكش
كان سور المدرسة " الكبيرة" كما كانت تطلق عليها جدتى رحمها الله ومن فى عمرها هو نهاية حدود العالم المعروف بالنسبة لى.. ذلك السور الذى كان يظهر على خط أفق نهاية حارتنا القديمةومتقاطعاً معها , حيث كان يمكنك رؤيته- كطفل - بالعين المجردة.. وما بعد ذلك هو المجهول بعينه.. بحور الظلمات .. فحدود مخيلتى تعجز عن تخطى حد السور.. وكان أقصى ما أستطيعه هو الابتعاد خطوات عن باب بيتنا والوقوف فى منتصف الحارة والنظر لذلك السور الشاهق ومحاولة تخيل قبائل النم نم التى تعيش وراءه!
فلما كبرنا قليلا- أنا واخوتى وأولاد حارتنا: محمد عبدالونيس وعبدالقادر غنيم وعادل التمساحى الذى يحمل الآن لقب دكتور وأخيه سعيد.. استطعنا الوصول لذلك السور وعرفنا معنى المدرسة الكبيرة فهى المدرسة العلوية الإعدادية الثانوية الإسلامية ومن يستطيع تخطى المرحلة الابتدائية بنجاح ينتقل اليها لأنه الان قد كبر سنا ونضج عقلاً فيستحق الانتساب لتلك المدرسة العريقة- فهى ثالث أو ثانى أقدم مدارس مصر قاطبة, وافتتحها مصطفى كامل سنة 1900مخاطباً الحضور بقوله:" من فتح مدرسة فقد أغلق سجناً" إذاً فالمدرسة كبيرة بالفعل..
ولم تكن كبيرة بتاريخها واعمار طلابها فقط , بل وبمساحتها أيضاً فقد كانت ذات ثلاثة ملاعب أحدهم لكرة السلة-ومن خلفه مسجد أيوب الانصارى -والباقى لكرة القدم .
القاسم المشترك بين اثنين من الملاعب الثلاثة هو اطلالتهما على بستان شاسع من أشجار الليمون والبرتقال الكثيفة المتكاتفة.. والتى تحيل الأرض من تحتها ظلاما فى عز النهار من شدة التفاف فروعها وأوراقها.. فهذا إذاً هو بحر الظلمات الحقيقى الواقع خلف سور المدرسة الكبيرة!
تستطيع ان تطلق العنان لخيالك الخصب ليتخيل مصير أى احد يجازف ليلقى بنفسه فى هذا البستان لإحضار كرة طارت واستقرت بين اشجاره.. خاصة مع وجود شئ أسطورى غامض أشبه ببنى البشرطويل القامة كمارد.. أسود كظلام ارض الحديقة.. خفيف الحركة بين الأشجار كفهد.. حتى اذا ما وقع على فريسته وأمسك بالمتسلل البائس قليل الحظ سمعت له صوتا كهزيم الرعد.. فتشعر كأنك وقعت فى قبضة طرزان..
إنه " كشاكش"..حارس الجنينة ( وربما اشتق لفظ جنينة من عالم الجن!) التى اشتهرت باسمه الآتى دائماً من قلب الظلام.. لينهى مهمته المرعبة فى اقتناص المتسللين من لاعبى الكرة وربما غيرهم من الفضوليين المستكشفين .. ثم يعود الى حيث لا ندرى
لم يكن سور الجنينة -أو الملعب - الشاهق يمنع كشاكش هذا من تسلقه بخفة القطط ليطارد لاعبى الكرة فعندما كان يظهر فجأة فوق السور كسارى العلم ويطلق صيحته الطرزانية يصاب معظم الاطفال بالكساح ومن يتبقى لديه قدرة على الجرى منهم يسابق الريح كالحمر المستنفرة وقد فرت من قسورة وهو ينظر خلفه فيصطدم بالسور اذ أنه دائما ما يكون الطريق الوحيدة لدخول الملاعب والخروج منها هو عبر تسلق الأسوارالعالية..
ويكتفى كشاكش عادة بافتراس اثنين او ثلاثة من اللاعبين ومن قدر له الوصول لأعلى السور من الجهة البعيدة عن سور كشاكش يقف لينظر بحسرة إلى زملائه المقبوض عليهم وكشاكش يرفعهم لأعلى ويتركهم وهكذا كلاعب الباسكت بول قبل أن يرمى رمية جزائية!
أذكر أن أول ما تعلق ذهنى بالسور كان فى صبيحة أحد أيام ابريل 1979 ,لم أكن قد اكملت السادسة من عمرى بعد.. كنت ألعب مع اولاد حارتنا عندما فوجئنا بصوت مهيب لخطوة منتظمة تدق الأرض دقا دقاً فأجبرتنا على التوقف عن اللعب لنرفع رؤوسنا جميعا ناحية باب الحارة فهالنا منظر جنود الشرطة العسكرية بزيهم الأحمر وجنود الحرس الجمهوري وغيرهم من عساكر الداخلية وهم يمرون- كأنهم فى عرض عسكرى -بمحازاة السور المواجه للحارة أفواجا أفواجا فى مشهد استمر لأسابيع استعدادا لزيارة الرئيس السادات لنكلا العنب ردا لجميل القرية التى وفرت له الحماية والملاذ الآمن فى بداية الخمسينات وقبل اندلاع ثورة يوليو عندما هرب اليها خوفا من البوليس السياسى الذى كان يطارده وغيره فى قضية اغتيال أمين عثمان- الذى نادى بالزواج الكاثوليكى بين مصر وبريطانيا العظمى وقضية الضباط الأحرار.. خلال فترة القلاقل التى مرت بها البلاد عقب نكبة 1948 وما تلاها من اغتيال الشهيد الامام حسن البنا ثم حريق القاهرة
كان اختيار السادات لنكلا العنب وتحديداً لعائلة دبوس اختيارا ينم عن ذكاء ودهاء لا نظير لهما..اذ أن نكلا العنب كانت فى ذلك الوقت موجودة على خريطة مصر بعكس نكلا العنب الحالية- فلقد كانت ميناءا نهريا على نيل رشيد وحركة التجارة فيها مزدهرة خاصة تجارة الحرير القادم من الصين وتجارة وتصنيع القطن فى أول محلج للقطن والفواريكا الطبية فى شمال مصر- 1850 - والتى صنعت الاته ومعداته فى مانشيستر ببريطانيا العظمى سالفة الذكر.. ناهيك عن وجود عشرات التجار من اليونانيين والاروام والشوام ومن على هذه الشاكلة.. عاشوا فى القرية واستوطنوها مع الخواجات من بنى جلدتهم والذين اشتغل بعضهم بتدريس اللغة الانجليزية وبعض العلوم الاخرى فى المدرسة العلوية..
وكان لآل دبوس نسبا وصهرا مع العائلة المالكة.. وبالتالى لن يجرؤ أفراد القلم السياسى أو البوليس السياسى على مداهمة قصورهم التى كانت متنزهاً صيفيا لبعض أفراد الأسرة العلوية مثل الخديوي عباس حلمي الثاني و السلطان حسين كامل و الملك أحمد فؤاد و الزعيم مصطفي باشا كامل
ولا يتخيل أحد أن تفتح أبواب هذه القصور للثوار!
تقول بعض الروايات ان الرئيس كان يعمل " تباعاً" على إحدى سيارات النقل بالقرية وقد ربط رأسه بمنديل لزوم التخفى..
ودارت الأيام.. وقامت الثورة..ويقال أن للرئيس دوراً فى منع فرض الحراسات على أملاك أل دبوس, وفى رواية ان وقوع نكسة 67 هى السبب فى غض الطرف عن فرض الحراسات..
لكن المؤكد أنه بعد وصول السادات لسدة الحكم وبعد انتهاءه من حرب اكتوبر ووقف اطلاق النار ثم محادثات الكيلو 101 وفض الاشتباك ما تلا ذلك من زيارة القدس وحديث الكنيست وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد التى انتهت بالاتفاق على استعادة سيناء كاملة فى موعد أقصاه إبريل 1982..كانت الخطوة الرئيسة التالية عقب كل هذه الأحداث المهمة فى عمر الرئيس القصير- على سدة حكم مصر هى زيارة نكلا العنب بل والاحتفال بأعياد ثورة التصحيح من هناك.. وبالفعل تمت الزيارة التاريخية:
فى صبيحة يوم 15 مايو1979 كان كل الناس فوق أسطح المنازل يحملون البالونات والحمام وأغصان الأشجار.. ثم ظهرت فى السماء أربعة طائرات هليوكبتر فضية اللون قادمة من الجنوب رأيتها مع باقى أفراد أسرتى ما عدا أبى الذى هرول الى حيث مؤتمر الرئيس ليراه شخصياً ما ان ظهرت الطائرات فى الجو حتى تعالت زغاريد النساء فى كل مكان وانطلقت البالونات وأسراب الحمام فى مشهد لم ولن يتكرر مرة أخرى.. مشهد يذكرك بدخول المسيح لأورشليم.. اتجهت الطائرات صوب المطار الذى اعد لها خصيصاً مكان زراعات البصل والموز ,ودارت فى الجو دورتين قبل أن تهبط وتختفى عن الأنظار..حيث فرشت الأرض بطبقات من الرمل تليها طبقة من السجاجيد التى تطايرت بمجرد هبوط الطائرات عليها..
كانت أمواج البشر قادمة من كل فج عميق.. فرجل كالسادات اجبرأعداءه على احترامه - حتى أن شارون كان يقف تحت طائرة الرئيس التى حطت فى مطار اللد بفلسطين المحتلة ليظفر بنظرة يلقيها على من أذله وأضاع ما تبقى من رجولته..- فما بالك بالمصريين؟
ما حدث بعد ذلك من ان طعام الرئيس جرى احضاره بالطائرة من مطاعم مكسيم فى باريس وقصة الكارنيهات التى زودت بها المخابرات رجال الحاشية والخدم ليسهل التعرف عليهم أثناء تأمين الموكب.. حتى الكلافين.. (جمع كلاف).. وهو المخصص لرعاية الماشية.. كان يحمل فوق صدره كارنيه ! كل تلك القصص وغيرها لم يتسن لى التأكد من وقوعها فعلا.. فحدود الرؤية والاحتكاك المباشر مع السادات بشحمه ولحمه تقف عند رؤية موكبه الطائر لدقائق فى سماء نكلا العنب.. وما ان هبطت الطائرات حتى هبط الجميع: الرجال فى الشوارع مهللين.. والنسوة والاطفال و الشيوخ والعجائز والعجزة أمام شاشات التليفزيون.. وأذكر أن التليفزيون الخاص بنا ماركة N.E.C أبيض وأسود 21 بوصة قبل استبداله بالملون ماركة تليمصر أوائل الثمانينات..
يقال أيضا انه ما ان انتهى الرئيس من طعامه.. حتى حفرت بئر وألقى فيها ما لذ وطاب من بقايا الطعام الرئاسى.. حتى لايفخر احد بمشاركته فيه..لكن على مين.. لقد قام الفلاحون بإعادة حفر البئر واستخراج الطعام والتهامه وهذه أول بئر فى الشرق الأوسط يستخرج منها طعاماً فرنسيا رئاسيا والله أعلم..
تحولت المدرسة الآن إلى أطلال وبقى الملعب على حاله مؤقتاً حتى يقضى الله فى أمره أمرا كان مفعولاً
وتحولت زيارة الرئيس إلى أغنية شعبية مشهورة تغنيها قريبات العروس فى ليلة الحنة:" السادات على راس الحارة"..
ترى.. أين انت الآن يا عم كشاكش وما أخبار الجنينة ؟؟ وأين تلك الأيام الخوالى؟؟
الزعيم الوطنى مصطفى كامل ورفيق كفاحه محمد فريد يشاركان اعيان نكلا العنب وعائلة دبوس افتتاح المدرسة العلوية 1900
السادات عقب نزوله من الطائرة الهليوكوبتر فى المطار الذى اعد خصيصاً لاستقباله
مترجلاً فى شوارع نكلا العنب
السادات فى شوارع نكلا العنب والى جواره المهندس حسين دبوس محافظ البحيرة والذى كان مرشحا لمنصب وزير الزراعة
السادات فى سراى آل دبوس عقب وصوله لنكلا العنب - مايو 1979
مؤتمر أعياد ثورة التصحيح 15 مايو 1979 بنكلا العنب - السادات يتوسط المهندس حسين دبوس محافظ البحيرة وفكرى مكرم عبيد
قصر آل دبوس مقر ضيافة الرئيس السادات قرب نهر النيل - نكلا العنب
هذا القصر أستقبل الخديوي عباس حلمي الثاني و السلطان حسين كامل و الملك أحمد فؤاد و الزعيم مصطفي باشا كامل و الرئيس الراحل محمد أنور السادت
**********
كتبهاإيهاب الحمامصى ، في 5 سبتمبر 2010 الساعة: 02:26 ص
الطوفان والجسر.. حكايات من نكلا العنب
(5)
امرأة فوق الجدار الرابع
هل هناك أرق من نسمة صيف باردة تهب على صحراء جرداء قاحلة ؟
كانت الكتب - وجدته لأبيه التى ربته - فقط.. هما كل حياته.. وأنيسا طفولته… دائما ما يقول انه ولد فى مكتبة… مكتبة عامر ة بكتب الشرق والغرب والوسط أيضاً..
جده كان عضواً مؤسساً لجماعة "انصار السنة المحمدية" التى أسسها الشيخ "محمد حامد الفقى".. وكانت كتب ومجلدات ومجلات الجماعة تأتى عبر البريد للجد بانتظام..ورحم الله "أبا هريرة" رجل البريد الأشهر فى تاريخ نكلا العنب..
الوالد.. الوحيد بلا أشقاء الا أخت غير شقيقة أضاف لتلك المكتبة العامرة بالكتب الاسلامية كل ما وقعت عليه يداه من مطبوعات فى تلك الفترة: فتارة تجد كتباً ومجلات اشتراكية- تمتلئ بصور "الجنة السوفييتية" التى تمتد بطول دول حلف "وارسو" -.. بعضها مصرى وجلها من دول "الستار الحديدى" ومن خلفها "موسكو" ..
وكتبا ومجلات غربية سواء ما طبع منها بالعربية فى بلاده وصدر الينا- مثل" الريدرز دايجست" أو ما تم تعريبه وترجمته بواسطة كتاب ومؤلفين ومترجمين مصريين.. خاصة مع انتشار حركة الترجمة التى جاءت مواكبة لحركة يوليو1952.. فظهرت سلاسل مثل "اخترنا لك" وللجندى وللعامل وللفلاح.. وسلسلة "روايات عالمية" و"الألف كتاب" .. و"كل شئ عن".. و"عالم المعرفة "..وغيرها من السلاسل والمطبوعات..
أتاحت له معرفته بالقراءة فى سنى عمره المبكرة جدا- وقبل دخوله المدرسة - التهام كل هذه الكتب التهاماً… حتى اذا ما التحق بالمرحلة الإعدادية كان قد انتهى منها ومن مكتبة القرية ومما تيسر من كتب الزملاء والأصدقاء..فوجد نفسه وقد طاف الدنيا وخبرها صغيراً.. ولا يدرى أحدنا بعد ما لتأثير كل ذلك على شخصية وتفكير واسلوب حياة طفل لم يبلغ المراهقة بعد, وقد اطلع على سوءات الغرب والشرق.. فهذا "جان جاك روسو"- احد أنبياء الثورة الفرنسية- يعلن فى مذكراته على الملأ تفاصيل العربدة والمجون فى الحياة الأوروبية فى سويسرا وفرنسا بل ويحكى عن عربداته هو- التى انتهت كما يقول بتسليم خمسة من الأطفال أنجبهم من "صديقته" تريزا الى ملجأ اللقطاء ثم تزوج من صديقته قبل انتهاء أجله وبعد خمسا وعشرين عاما بالتمام والكمال من هذه العلاقة الأثمة-حتى ان تريزا كانت تعيش مع امها وبعض أولادها من روسو فى كنف روسو بلا زواج أو رباط رسمى "مقدس"! تلك العلاقة - وغيرها - التى لم ير فيها المجتمع الأوروبى كله والغارق فى ملذاته وآثامه أى أثم او عار او فضيحة ولم يكن هناك اى أثر لتعاليم الرب وكتبه "المقدسة " ولاوجود لأى سلطة الا سلطة بيع صكوك الغفران والحض على تملك أراضى الجنة مقابل سيول التبرعات التى لم تشبع نهم رجال السلطة الروحية سلطة الكنيسة التى أحرقت كتب جاليليو جاليلى اعتراضا على كروية ودوران الأرض- فرد عليهم وهو يتأمل كتبه المحترقة- بعد محاكمته فى ساحات روما قائلاً: ولكنها تدور! - والسلطة السياسية.. سلطة الملك .الأمر الذى جعل غوغاء الثورة الفرنسية يصرخون فى طرقات باريس وفى اقطاعيات الريف الفرنسى الجائع:" اشنقوا أخر ملك بأمعاء أخر قسيس " وهذا ما فعله " روبسبير" القائل (وهو ممسكا برأس لويس السادس عشرفوق المقصلة) : شجرة الحرية لا تروى إلا بالدماء!
قد يقول البعض متساءلاً لماذا كتبت بالأعلى "حركة" يوليو وليس "ثورة " يوليو ".. وأرد عليهم: لسببين: الأول ان لفظ حركة هو المسمى الرسمى لما حدث أوائل أيام "الثورة" باعتراف رجالات الحركة انفسهم على صفحات الجرائد الصادرة آنذاك..وربما كان ذلك نابعا من التردد فى تأييد هذا "الانقلاب" الذى لم تتضح معالمه بعد.. فلربما تفشل تلك الـ "حركة" ويصلب الجميع فى ميدان التحرير!.
والثانى: أن الحركة اعتمدت مجموعة من المبادئ يتشابه احدها مع بعض ما جاء فى الثقافات الواردة الينا عبر حركة الترجمة التى أشرفت عليها حركة يوليو ذاتها..
انظر مثلا إلى اللص الظريف " أرسين لوبين" للمؤلف الفرنسى "موريس لبلان" .. هذا اللص الخفى الذى يذكرك برجل المستحيل او يذكرنا رجل المستحيل به, كان يسرق حسب قولته المشهورة من الأغنياء ليعطى الفقراء! وهذا ما اعتمدته الثورة مبدءاً حين استولت على أراضى وممتلكات الأغنياء واعادت توزيعها على الفقراء فى سابقة تخالف الدين وما نادى به من الحرية فيما لا يخالف شريعة الله.. الحرية فى التملك وفى البيع والتجارة والتكسب بالحلال.. وما ذنب الأغنياء.. هل لأنهم أغنياء؟؟؟
أليس فى ذلك حض للكسالى على مزيد من الكسل و مكافأة للنائمين فى الأرض بلا عمل ؟
وماذا حدث بعد توزيع الأراضى إلا مزيداً من تفتيتها بين الورثة وورثة الورثة.. حتى صار كل منهم يزرع ولا يجد ما يحصد؟؟
انا بالقطع مع الثورة التى تقوم لله فقط..لتحقيق العدل فى أرضه حتى يكون الانسان جديرا بخلافته.. ولو كان هناك بين الأغنياء والأمراء من سرق وقتل فأنا أول المنادين:" اشنقوا أخر أمير بأمعاء آخر إقطاعى"!
أنا بالقطع لا أكره عبدالناصر ولا أعبده..إنما هو بشر يصيب ويخطئ والله وحده الهادى لسواء السبيل.. فقط نحاول البحث عن انموذج السياسى الداهية المحنك البارع القائد الزعيم العادل قدر المستطاع..وليس ذلك على الله ببعيد.. فإن عز علينا كل هذا فى زمننا هذا.. فلتكن دولة المؤسسات والشورى والشريعة هى المكافئة لما سبق.
عود على بدء:
ونتساءل مرة أخرى: امرأة فوق الجدار الرابع.. ما علاقة العنوان بالموضوع؟
قفز هذا العنوان إلى ذهنى فجاة كعنوان مقترح لقصة لم تظهر فصولها بعد, أبرهن بها على موهبتى الأدبية التى لم تثبتها الأيام كاملة بعد فالعربة تسبق الجياد أحياناً- .. وأعجبنى العنوان اليتيم هذا. وظل حافزاً على ايجاد موضوع مناسب بلا جدوى..الآن استريح من عناء حمله واسقطه من على كاهلى..إلى مستقره الأخير..هنا!
هل هناك أرق من نسمة صيف باردة تهب على صحراء جرداء قاحلة ؟
بالطبع ..لا
هبت هذه النسمة يوما على قلبى فجأة
واختفت فجأة
وظلت مجرد باسوورد ينوء به قلبى وعقلى للابد..!
*************
كتبهاإيهاب الحمامصى ، في 9 سبتمبر 2010 الساعة: 23:45 م
الطوفان والجسر.. حكايات من نكلا العنب (6)
بطل من طين السماء
شاءت إرادة الله ان تكتب قصة بطلنا هذا- ضمن مجموعتنا القصصية التوثيقية - فى ليلة عيد الفطر المبارك..
من مساوئ الريف المصرى الخالدة.. اعتياد الفلاح على ان يغلق عليه هو وحيواناته باب واحد.. ورغم ذلك نتعرض لنقد لا ينقطع ممن يطلقون على أنفسهم منظمات حقوق الحيوان!..
انطلق بطلنا اليافع خلف زوج من الحمير يحملون فوق ظهورهم- بداخل "الغبيط "- وهو وعاء قماشى سميك للخدمة الشاقة.. "السباخ " وهو السماد البلدى المستخرج من حظيرة الحيوانات ( الزريبة ) الملحقة بالمنزل وغالبا ما تحتل الطابق الأرضى منه إلى حيث ينطلق كل صباح.. إلى أرض الآباء والأجداد فى عملية بدأت مع بداية تدوين التاريخ الذى خطته الأيادى المشققة لهؤلاء الفلاحين المصريين بالمحراث والشادوف..
رفع الفتى رأسه عقب خروجه مع حميره من حارة "سويف" والتى سميت باسم عائلته العريقة- استجابة لنداء اثنين من سعاة مدرسة إيتاى البارود الثانوية فوجئ بهما يسألانه عن بيت الطالب "عبد الواحد عبدالحليم سويف".. فرد عليهما: لماذا ؟ كان ردهما بأن ذلك الطالب قد نجح بتفوق وترتيبه الأول على الثانوية العامة لهذا العام - من اوائل الستينات- فأشار لهما الفتى ناحية بيت ما فى حارة سويف قائلا: هو ذا منزل عبد الواحد.. ثم أكمل مسيرته مرتجفا مذهولا خائفاً..!!
كان فتانا الصغير هو نفسه عبد الواحد عبدالحليم سويف ابن "الأستاذ" عبد الحليم المعلم بالتربية والتعليم والذى كان رغم امتهانه لأشرف المهن وأجلها إلا أنه كان لا يؤمن بجدوى الالتحاق بالمدارس من الأساس فى تناقض صارخ مع رسالة ورثة الانبياء.. وكان ابنه البكر عبدالواحد من ضحايا هذا التناقض.. اذ انه أخرج ابنه من المدرسة عقب وصوله للمرحلة الثانوية.. فى زمن.. كانت فيه الثانوية العامة المصرية تخرج لنا متعلمين بحق وكان مجرد النجاح فى "الالتحاق" بالثانوية العامة اعجازا فى حد ذاته يستحق تهانى الأهل والجيران والأحباب ووفود المهنئين المهللين.. وتوزيع كؤوس الشربات على الغريب والقريب..!
حكم المعلم والمربى على نجله اذن بالجهل .. حكم غير قابل للطعن أو الاستئناف او النقض فالرجل يتميز بقوة الشكيمة وغلظة القلب..
لكن عشق الفتى "عبادة " وهو اسم شهرة بطلنا - للعلم والذى أدى لنبوغه على أقرانه فيه.. تغلب على خوفه من بطش وجبروت أبيه.. فسجل نفسه بمدرسة إيتاى البارود الثانوية والتى تحمل الآن اسم مدرسة الشهيد عزت النمر الثانوية بنظام المنازل.. وكان يخبئ كتبه بين طيات ملابسه ويستذكر دروسه بالحقل بعيدا عن أعين والده..
لذلك كان رعبه وخوفه عندما اشار لسعاة المدرسة على بيت ابيه ,. كما منعه حياءه وخجله من ثيابه الرثة البالية.. أن يعلن عن نفسه متفاخرا بها فى مثل ذلك الموقف..كما يفعل الاطفال فى منطق الطبيعة..!
صرخ الوالد فى وجوه الرجال القادمين من سفر للحصول على الـ"حلاوة".. حلاوة النجاح.. بل وطردهم.. وألحق بهم ابنه عقب عودته من الحقل.. بلا أدنى رحمة أو شفقة.. ثأرا لكرامته التى اهدرها ابنه كما يرى هو - بنجاحه بل وتفوقه..!
انطلق عبادة هائما على وجهه حزيناً لا يعرف لنفسه مستقراً ولا لروحه الصغيرة راحة..فبدلاً من ان تعلق له الزينات والاعلام ابتهاجا وفخرا.. اذ به هائما تائهاً جراء علمه ونبوغه..
كانت عناية الله تظلله.. وأفراح الملائكة التى تضع أجنحتها لطالب العلم - تحيطه وهو لا يدرى..فقيض الله له خاله .. الضابط بالسجن الحربى بالاسكندرية .." عبد العزيز طايل دبوس".. فأواه وتعهده بالرعاية.. فمثل هذا يستحق ما هو أكثر بكثير..وساعده فى تقديم أوراقه للكلية الفنية العسكرية.. حيث قبل على الفور..
وهيأ له خاله شقة بسيطة التأثيث والتكلفة فوق أسطح أحد المنازل..يكون فيها على راحته محتفظاً بكرامته..
تخرج عبد الواحد فى الكلية الفنية العسكرية بدرجة ملازم أول مهندس.. وعاد إلى قريته نكلا العنب مرتديا بزته العسكرية.. شابا وسيماً ممشوق القوم يحمل فوق اكتافه نجمتين وعلى ثغره ابتسامة عريضة.. فالآن حق لوالده ان يفخر به فهو كما كان متفوقا فى الثانوية ..تخرج أيضا بتفوق منقطع النظير فى كليته العسكرية..
ولكن لم يشفع كل ذلك له.. فالقلب القاسى تحول الى حجر أصم.. لم يتغير ولم يتزحزح عن موقفه قيد انملة.. وقال له والده على باب بيته فى حارة سويف.. ارجع من حيث اتيت..!
رجع الضابط مهندس عبد الواحد الى خاله كاسف البال مهموم الفؤاد.. فربت على كتفه قائلاً له لا تحزن.. هنا بيتك ونحن أهلك..
وكان لزاما على ضابطنا الشاب أن يرد لخاله جزءا من الجميل.. فتزوج ابنته ..
وكان زواجا فاتحة خير عليه.. اذ انه سرعان ما وقع عليه الاختيار- لتفوقه ونبوغه- لبعثة تعليمية فى أعرق أكاديميات الاتحاد السوفييتى العسكرية.. اكاديمية" فرونز" العسكرية بموسكو.. وكان ترتيبه فى التخرج فيها أيضاً الأول.. ثم عاد إلى مصر حيث حصل على أركان الحرب ثم الماجستير من كليتى الحرب العليا والقادة والأركان..وما لبث أن حصل على الدكتوراه..
عينته وزارة الحربية فى واحد من اهم وارفع مناصبها خارج البلاد.. الملحق العسكرى المصرى بلندن و وكيلا للمشتريات من كافة انواع الأسلحة.. وهو المشرف الرئيس على اتمام كافة الصفقات من الاسلحة المهمة التى استخدمت فى حرب الاستنزاف وحرب رمضان المجيدة
وتنقل عقب الحرب بين سفارات مصر فى عدة دول ..من الاتحاد السوفييتى شرقا وحتى الولايات المتحدة غربا مرورا بأوروبا الغربية.. تصحبه زوجته الوفية وبناته الاربع.. اذ لم يرزق بولد..
تقديرا لدوره فى خدمة الوطن منح رتبة الفريق.. فلم يكن دوره يقل أبدا عن دور الأبطال على خط النار
وعين بعد تقاعده رئيسا لمجلس ادارة شركة كهرباء القنال..
لم ينس الفتى .. الضابط.. اللواء.. الفريق.. الدكتور مهندس عبد الواحد عبدالحليم سويف قريته أو اسرته ابدا.. لقد مد يد العون للكثيرين.. ومنهم شقيقه اللواء كمال سويف بالشرطة العسكرية ..حتى انا شخصيا حاول مساعدتى لولا ارادة أبى فى الالتحاق بالكلية الحربية أو الجوية.. ولا أنكر إننى لا اعتز به واتخذه قدوة ومثلا لصلة قرابتى به فهو ابن خال والدتى فقط ولكن لأن قصة كفاح كهذه يندر ان تجد لها نظيرا..
بعد يوم عمل شاق.. رجع بطلنا لبيته بالقاهرة.. وضع نظارته على المنضدة واوى لفراشه فى انتظار اعداد وجبة الغداء.. حيث يلتئم شمل الاسرة التى لطالما كان التئام شملها هو وطنها الاوحد فى سنوات الغربة
غربة كتبت عليه حتى النهاية..
لكن.. لكل مسافر ساعة رجوع..
نادت الزوجة المخلصة على الزوج الحبيب.. قبل ان يبرد الطعام..وما من مجيب..!
برد الطعام.. كما بردت اطراف الزوج عندما تحسستها الزوجة برفق محاولة ايقاظه..
وعندما تأملت وجهه فى فزع وجدته يغرغر لكنه كان مبتسما وهو ينظر اليها نظرته الأخيرة- نظرة طافت بشريط الذكريات دفعة واحدة..
وألقى على مسامعها الشهادة: أشهد أن لا اله الا الله وأشهد ان محمدا رسول الله
وأسلم الروح..
وعاد بطلنا فى هذه المرة إلى قريته ليستقر بجوار ابيه بعد ان عز اللقاء فى الدنيا..
يتبع..