الطوفان.. والجسر… حكايات من نكلا العنب..بطل من طين السماء
إيهاب الحمامصى
دمنهور - البحيرة - مصر
0020103866612
http://asdmsr73.maktoobblog.com/
كتبهاإيهاب الحمامصى ، في 9 سبتمبر 2010 الساعة: 23:45 م
الطوفان والجسر.. حكايات من نكلا العنب (6)
بطل من طين السماء
شاءت إرادة الله ان تكتب قصة بطلنا هذا- ضمن مجموعتنا القصصية التوثيقية - فى ليلة عيد الفطر المبارك..
من مساوئ الريف المصرى الخالدة.. اعتياد الفلاح على ان يغلق عليه هو وحيواناته باب واحد.. ورغم ذلك نتعرض لنقد لا ينقطع ممن يطلقون على أنفسهم منظمات حقوق الحيوان!..
انطلق بطلنا اليافع خلف زوج من الحمير يحملون فوق ظهورهم- بداخل "الغبيط "- وهو وعاء قماشى سميك للخدمة الشاقة.. "السباخ " وهو السماد البلدى المستخرج من حظيرة الحيوانات ( الزريبة ) الملحقة بالمنزل وغالبا ما تحتل الطابق الأرضى منه إلى حيث ينطلق كل صباح.. إلى أرض الآباء والأجداد فى عملية بدأت مع بداية تدوين التاريخ الذى خطته الأيادى المشققة لهؤلاء الفلاحين المصريين بالمحراث والشادوف..
رفع الفتى رأسه عقب خروجه مع حميره من حارة "سويف" والتى سميت باسم عائلته العريقة- استجابة لنداء اثنين من سعاة مدرسة إيتاى البارود الثانوية فوجئ بهما يسألانه عن بيت الطالب "عبد الواحد عبدالحليم سويف".. فرد عليهما: لماذا ؟ كان ردهما بأن ذلك الطالب قد نجح بتفوق وترتيبه الأول على الثانوية العامة لهذا العام - من اوائل الستينات- فأشار لهما الفتى ناحية بيت ما فى حارة سويف قائلا: هو ذا منزل عبد الواحد.. ثم أكمل مسيرته مرتجفا مذهولا خائفاً..!!
كان فتانا الصغير هو نفسه عبد الواحد عبدالحليم سويف ابن "الأستاذ" عبد الحليم المعلم بالتربية والتعليم والذى كان رغم امتهانه لأشرف المهن وأجلها إلا أنه كان لا يؤمن بجدوى الالتحاق بالمدارس من الأساس فى تناقض صارخ مع رسالة ورثة الانبياء.. وكان ابنه البكر عبدالواحد من ضحايا هذا التناقض.. اذ انه أخرج ابنه من المدرسة عقب وصوله للمرحلة الثانوية.. فى زمن.. كانت فيه الثانوية العامة المصرية تخرج لنا متعلمين بحق وكان مجرد النجاح فى "الالتحاق" بالثانوية العامة اعجازا فى حد ذاته يستحق تهانى الأهل والجيران والأحباب ووفود المهنئين المهللين.. وتوزيع كؤوس الشربات على الغريب والقريب..!
حكم المعلم والمربى على نجله اذن بالجهل .. حكم غير قابل للطعن أو الاستئناف او النقض فالرجل يتميز بقوة الشكيمة وغلظة القلب..
لكن عشق الفتى "عبادة " وهو اسم شهرة بطلنا - للعلم والذى أدى لنبوغه على أقرانه فيه.. تغلب على خوفه من بطش وجبروت أبيه.. فسجل نفسه بمدرسة إيتاى البارود الثانوية والتى تحمل الآن اسم مدرسة الشهيد عزت النمر الثانوية بنظام المنازل.. وكان يخبئ كتبه بين طيات ملابسه ويستذكر دروسه بالحقل بعيدا عن أعين والده..
لذلك كان رعبه وخوفه عندما اشار لسعاة المدرسة على بيت ابيه ,. كما منعه حياءه وخجله من ثيابه الرثة البالية.. أن يعلن عن نفسه متفاخرا بها فى مثل ذلك الموقف..كما يفعل الاطفال فى منطق الطبيعة..!
صرخ الوالد فى وجوه الرجال القادمين من سفر للحصول على الـ"حلاوة".. حلاوة النجاح.. بل وطردهم.. وألحق بهم ابنه عقب عودته من الحقل.. بلا أدنى رحمة أو شفقة.. ثأرا لكرامته التى اهدرها ابنه كما يرى هو - بنجاحه بل وتفوقه..!
انطلق عبادة هائما على وجهه حزيناً لا يعرف لنفسه مستقراً ولا لروحه الصغيرة راحة..فبدلاً من ان تعلق له الزينات والاعلام ابتهاجا وفخرا.. اذ به هائما تائهاً جراء علمه ونبوغه..
كانت عناية الله تظلله.. وأفراح الملائكة التى تضع أجنحتها لطالب العلم - تحيطه وهو لا يدرى..فقيض الله له خاله .. الضابط بالسجن الحربى بالاسكندرية .." عبد العزيز طايل دبوس".. فأواه وتعهده بالرعاية.. فمثل هذا يستحق ما هو أكثر بكثير..وساعده فى تقديم أوراقه للكلية الفنية العسكرية.. حيث قبل على الفور..
وهيأ له خاله شقة بسيطة التأثيث والتكلفة فوق أسطح أحد المنازل..يكون فيها على راحته محتفظاً بكرامته..
تخرج عبد الواحد فى الكلية الفنية العسكرية بدرجة ملازم أول مهندس.. وعاد إلى قريته نكلا العنب مرتديا بزته العسكرية.. شابا وسيماً ممشوق القوم يحمل فوق اكتافه نجمتين وعلى ثغره ابتسامة عريضة.. فالآن حق لوالده ان يفخر به فهو كما كان متفوقا فى الثانوية ..تخرج أيضا بتفوق منقطع النظير فى كليته العسكرية..
ولكن لم يشفع كل ذلك له.. فالقلب القاسى تحول الى حجر أصم.. لم يتغير ولم يتزحزح عن موقفه قيد انملة.. وقال له والده على باب بيته فى حارة سويف.. ارجع من حيث اتيت..!
رجع الضابط مهندس عبد الواحد الى خاله كاسف البال مهموم الفؤاد.. فربت على كتفه قائلاً له لا تحزن.. هنا بيتك ونحن أهلك..
وكان لزاما على ضابطنا الشاب أن يرد لخاله جزءا من الجميل.. فتزوج ابنته ..
وكان زواجا فاتحة خير عليه.. اذ انه سرعان ما وقع عليه الاختيار- لتفوقه ونبوغه- لبعثة تعليمية فى أعرق أكاديميات الاتحاد السوفييتى العسكرية.. اكاديمية" فرونز" العسكرية بموسكو.. وكان ترتيبه فى التخرج فيها أيضاً الأول.. ثم عاد إلى مصر حيث حصل على أركان الحرب ثم الماجستير من كليتى الحرب العليا والقادة والأركان..وما لبث أن حصل على الدكتوراه..
عينته وزارة الحربية فى واحد من اهم وارفع مناصبها خارج البلاد.. الملحق العسكرى المصرى بلندن و وكيلا للمشتريات من كافة انواع الأسلحة.. وهو المشرف الرئيس على اتمام كافة الصفقات من الاسلحة المهمة التى استخدمت فى حرب الاستنزاف وحرب رمضان المجيدة
وتنقل عقب الحرب بين سفارات مصر فى عدة دول ..من الاتحاد السوفييتى شرقا وحتى الولايات المتحدة غربا مرورا بأوروبا الغربية.. تصحبه زوجته الوفية وبناته الاربع.. اذ لم يرزق بولد..
تقديرا لدوره فى خدمة الوطن منح رتبة الفريق.. فلم يكن دوره يقل أبدا عن دور الأبطال على خط النار
وعين بعد تقاعده رئيسا لمجلس ادارة شركة كهرباء القنال..
لم ينس الفتى .. الضابط.. اللواء.. الفريق.. الدكتور مهندس عبد الواحد عبدالحليم سويف قريته أو اسرته ابدا.. لقد مد يد العون للكثيرين.. ومنهم شقيقه اللواء كمال سويف بالشرطة العسكرية ..حتى انا شخصيا حاول مساعدتى لولا ارادة أبى فى الالتحاق بالكلية الحربية أو الجوية.. ولا أنكر إننى لا اعتز به واتخذه قدوة ومثلا لصلة قرابتى به فهو ابن خال والدتى فقط ولكن لأن قصة كفاح كهذه يندر ان تجد لها نظيرا..
بعد يوم عمل شاق.. رجع بطلنا لبيته بالقاهرة.. وضع نظارته على المنضدة واوى لفراشه فى انتظار اعداد وجبة الغداء.. حيث يلتئم شمل الاسرة التى لطالما كان التئام شملها هو وطنها الاوحد فى سنوات الغربة
غربة كتبت عليه حتى النهاية..
لكن.. لكل مسافر ساعة رجوع..
نادت الزوجة المخلصة على الزوج الحبيب.. قبل ان يبرد الطعام..وما من مجيب..!
برد الطعام.. كما بردت اطراف الزوج عندما تحسستها الزوجة برفق محاولة ايقاظه..
وعندما تأملت وجهه فى فزع وجدته يغرغر لكنه كان مبتسما وهو ينظر اليها نظرته الأخيرة- نظرة طافت بشريط الذكريات دفعة واحدة..
وألقى على مسامعها الشهادة: أشهد أن لا اله الا الله وأشهد ان محمدا رسول الله
وأسلم الروح..
وعاد بطلنا فى هذه المرة إلى قريته ليستقر بجوار ابيه بعد ان عز اللقاء فى الدنيا..
يتبع..