التذكيرببعض معانى التكبير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
فإن التكبير من شعائر العيد والإسلام، فهو سنة ثابتة في عيد الفطر والأضحى، وهو في الثاني أظهر، إذ كانت أيام العشر من ذي الحجة زمانا له، فضلا عن أيام التشريق، فيشرع فيها التكبير مطلقا، بينما خص المقيد بيوم عرفة مع أيام العيد.
وقد ثبتت من صيغ التكبير ما تقارب لفظُه، فلا بأس من الوقوف على صيغة منها يمكن معها جميل النظر، لاستنباط بعض ما ينبغي أن يحصل في قلب العبد إذا ما جرى على لسانه ذلك الذكر الجميل، بتكبير ربنا الجليل: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد) فانظر رحمك الله، انظر إلى كلماته، وارجع البصر هل ترى إلا حروفا من النور رسمها وبالسكينة نظمها، تكبيرات ثلاث توالت كأنها درر في عقد أتين وصيفات بين يدي أكرم الكلمات وأشرف العبارات، كلمة الإخلاص والقصد، تهليلة زانها تكبيرة أخرى للواحد الأحد، ثم تكبيرة تأتي وقد مزجت بالشكران والحمد، ألا تجدها وهي تجري على اللسان أحلى من الشهد؟!.
فإذا رأى الناظر في رسم تلك الحروف هذه الزينة تكسوها يجد لها في نفسه راحة وفرحة، يخف معها نصبه، وسمع لوقعها في الآذان حداءا ينشط به كسبه، فكيف بما يكون لها من المضمون والمعنى مما خوطب به قلبه؟ ألا يستدعي ذلك في النفس نشاطا تطلب به تلك المعاني؟!. ألا يستوجب عند أهل الدين حرصا على تحصيل هذه الخيرات والعطايا التي جاءت من وراء تلك المباني؟!.
فدونك تلك الإشارات الموجزة إلى بعض معاني التكبير مما فتح الله وجاد، عساها تنفذ إلى القلب فتوقظ فيه الوسنان وتنشط منه الكسلان، ليسعى القلب بذلك التكبير مرتحلا إلى الله تعالى ليحصِّل حظه من حبه ومَحابه، ولينعم بقربه وجنابه.
الإشارة الأولى:
التكبير تعبد لله تعالى باسمه (الكبير) جل شأنه، وأثر من آثار وصفه بالكِبَر إذ إن الله تعالى يحب ذاته، ويحب صفات جلاله، ويحب أن يعبد ويذكر بتلك الصفات وأن توجد آثارها وموجباتها، فشرع لعباده ما به تعظم تلك الصفات الجليلة، وتمجد هذه الأسماء الجميلة مع غنائه عن ذلك إذ لا يحصي أحد ثناءا عليه بل هو كما أثنى على نفسه سبحانه، لكن رحمة الله تعالى بعباده اقتضت أن يجعل لهم من ذكره ما به إليه يتقربون، ومن معرفته ما به إليه يتوصلون، فيباركهم بذلك ويرحمهم ويزكيهم، ولولا ذلك لصاروا كالأنعام بل أضل. والمقصود أن كون الله تعالى كبيرا اقتضى التقرب إليه بذلك الاسم وكان من ذلك التكبيرُ كما قال جل ذكره: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [سورة الإسراء: الآية 111].
بل وصفه سبحانه بالكبرياء والتكبر مشتق من معنى الكبر، فحق التكبيرات أن يتوسل بها العبد إلى فهم معنى اسم الله الكبير، ويتوصل منها إلى آثار ذلك الاسم الجليل من عبادة الله وتوحيده ومحبته.
وانظر كيف اقترن اسمه سبحانه (الكبير) باسمه (العليّ) في القرآن، بل صفة الكبير لم تأت إلا معطوفة على صفة العلو دائما، فإن من لوازم العلو والرفعة بالنسبة إلى مدركات حواس الخلق الصغر في ما يبدو، فكلما علا الشيء وارتفع بدا في مدرك البصر أصغر، فناسب أن يقترن بوصف علوه سبحانه وصف الكبر فله العلو المطلق، كما أن له الكبر المطلق، لينفي كل طمع في إدراك ذاته ويقطع أسباب الوصول إلى ذلك، فلا يقاس ما له سبحانه على مدركات الخلق ولا يُرد ما خصه جل ذكره إلى معايير خواصهم، فهو العلي في غير ما يبدو لهم من اللوازم الحسية وهو الكبير الذي لا يعارض كبرُه كمالَ العلوية. ثم تأمل لطيفة أخرى باقتران الاسمين الجليلين معا، فإن وصف الكبر ألزم بالذوات من العلو، إذ إن العلو يحتمل علو الذات وعلو الصفات أو الأفعال، أما الكبر فهو ألصق بالذات مما يجعل اقترانهما قرينة على قصد علو الذات في اسمه (العلي) سبحانه، فمجئ وصف الكبر عضد هذا القصد وأظهره فله العلو المطلق بذاته على كل مخلوقاته استئناسا بهذا الاقتران.
وتدبر رحمك الله سياق الآيات التى أتى فيها هذا الاسم الشريف -اسم (الكبير)- فإنك لتجدها في تنزيه الله تعالى عن كل نقض أو نقص اقترفه الناس فيما أوجبه عليهم من حق توحيده والتعبد له بلا شريك كما في قوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [سورة غافر: الآية 12]، فهو الكبير سبحانه فلا يكبره شيء ومقتضى وصفه بالكبر المطلق أن يُستدل بذلك على إفراده بالعبودية فهذا مقتضى تكبيره، وكل ما سواه فحقه التصغير فكيف يتعلق القلب بمثل ذلك، وقد حكم الله تعالى واقتضت أسماؤه وصفاته أن كل ما سواه باطل كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة الحج الآية 62]، وقوله جل ذكره: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة لقمان الآية 30]، وذلك يقتضي التدبرُ في ذلك الاسم مجاوزةَ وصف الذات إلى وصف الأفعال، فأفعاله سبحانه كذلك كبيرة في جلالها وحكمتها، حقها أن يكبِّرها العبد تكبيرا ولعل ذلك استئناس باقتران اسم الكبير مع صفة العلو، على عكس ما ذكرناه قبل، فإجمال العلو للذوات والمعاني أظهرَ في صفة الكبير استيعابا لجميل أفعاله سبحانه، كما في قوله جل ثناؤه: {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ(8)عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ(9)} [سورة الرعد: 8-9]، والله أعلم.
وفي قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [سورة النساء: الآية 34]، تنبيه على تعبد لازم للقلب بهذا الاسم الجليل حال كون العبد متعاطيا لسبب يرفعه على غيره، كما في علاقة الزواج فناسب في مقام مطالبة الزوج بالتجاوز والعفو مع التمكن من ضده أن يأتي بهذين الاسمين، فإنه يغيب بشهود علوِّ الله تعالى على جميع خلقه عن شهود علوِّه على أهله، ويفنى ما أُعطي من أسباب الكِبَر على زوجه بما يرى من مطلق كبَر الله تعالى، والله تعالى أعلم.
الإشارة الثانية:
التكبير من أظهر شعائر الدين والإيمان وأكثر الذكر ترددا على اللسان، فانظر كيف صار شعار الإسلام في أذان الصلاة، بل ما اجتزئ فيه بتكبيرة بل أربع، كل منها تعلن بالشعار وتؤكد ما لأختها من الآثار، وتنبه القلوب على توحيد الله تعالى ومعرفته باسمه الكبير الذي لا يكبره شيء، وتمهد لتحقيق كلمة الإخلاص وشهادة الحق لتأتي ألفاظ الشهادتين على القلب مستحضرٌ ما فيها مستقبلٌ معانيها، فالتكبير حريمها وبابها كما في شأن الصلاة، فهو تحريمة كل صلاة فرضا أو نفلا، جماعة أو فردا، فمفتاح الصلاة ومدخلها التكبير، فحق الدخول إليها أن يكون مستصحبا بما في التكبير من المعنى، بل تجد ذلك مؤكدا بتكبيرة عند كل انتقال من ركن إلى الذي يليه، فالتكبير فتح له باب الصلاة وسلَّمه من ركن إلى ركن ليتأكد له استصحاب عبودية القلب بتكبير الله تعالى والتعلق باسمه الكبير حال صلاته كلها، فلا يتم له أركانها -من جهة القيام بحقوق ذلك واستثماره في عبودية قلبه وتزكية نفسه- إلا بشهود تلك المعاني، وعلى قدرها تحصل له تلك الثمار، ويجد بعد الخروج منها مأمول الآثار.
فلما كانت الصلاة في أصلها كبيرة يثقل القيام بحقوقها، يسَّرَها التكبير، وخفف على النفس ثقلها وكبرها، فالله أكبر، فكل ما يكبُر عليه، كبَّر فيه، فالله أكبر، كما إذا ما روعه أمر، كبَّرَ فأذهبه، كاضطرام النار، أو رفعه شيء، كبر فأدبه، كصعوده في الأسفار، أو خشي ما يحذر، كبر فردَّه، كخشية العين، أو غالبه مانع، كبر فهدَّه، كما في فتح رومية، بل في كل مغالبة وممانعة، فالله أكبر عدة أهل الدين فيها، يتقوون بها، ويتأسون بهديه صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، الله أكبر، خربت خيبر» [متفق عليه].
كذلك كل خيبر، كل ممانعة، كل غدر وخيانة، كل شبهة وفتنة، فالله أكبر الله أكبر من كل ما يكبر على العبد أو في نفسه، فبكبر الله تعالى يتعلق به قلبه، وبه يقوى، وبه يستعين، وعليه يتوكل.
الإشارة الثالثة:
يحسن من العبد كذلك أن ينظر في حكم التكرار، فإن التكبير كسائر الذكر كلاهما مطلوب ترديده، فمبناه على التكرار، وطلب الشرع ذلك على نوعين، الأول: أن يعلق الجزاء على عدد مقيد، فالظاهر عدم حصول الموعود دون ذلك العدد كقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» [متفق عليه].
والثاني: أن يأتي الطلب مطلقا غير مقيد، كتعليق الأجر على الذكر ولو مرة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» (رواه الترمذي وصححه الألباني)، أو أن يعلق الأجر على مطلق الذكر كما في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [سورة البقرة الآية 152]، ويندرج تحته التكبير، فمنفعة هذا الذكر المطلق تراكمية إذ لا تحصل دفعة واحدة، بل يكون التحصيل بحسب تكرار العبد لها.
وفيه اعتناء الشرع بالمكلفين ورحمة الله بهم، إذ ندبهم إلى تكرار الذكر ليستدرك العبد ما يمكن أن يفوته أولا من معاني كلمات الذكر في كل مرة يرددها، وليتأكد في قلبه ما حصل من معاني العبودية، لتتمكن منه وتستوطنه، فحق ذلك أن يراعي العبد كل مرة تحقيق ما فاته في المرة السابقة، فيترقى على درج الذكر.
فكذلك التكبير المطلق حقه أن يسعف العبد إذا ما أعوزه ما فات، وتسلم كل تكبيرة إلى الأخرى محصول معاني السابق لها وزيادة المعنى الذي فيها.
فالله أكبر، كلمة مداد حروفها نور به تنكشف من النفس عيوب وآفات، ليحصل بها تيقظ وإيلام، تيقظ لما يجد العبد من نفسه لما نادى عليها بالتكبير، فرأى منها توانيا دون تحصيل عبوديته، وفتورا لا يسلم معه سير ولا ارتحال، وعيوبا تقطع عليه سعيه وتسلب منه كسبه، وجد أفات وأدواء عادت بسببها النفس مريضة عليلة، فلما وجد العبد ذلك تألم، وألمه دليل حياة قلبه، فالله أكبر بها التيقظ فالإيلام.
الإشارة الرابعة:
فإذا عرفت ما تقدم، كان حق كل تكبيرة منك أن تقع من القلب موقعها، فكأن قلبك هو المقصود بتلك التكبيرة، ليستخلص منها ما تقدم معرفته، لتستثمر فيه أنواعا من العبودية والتعلق بالله الكبير سبحانه، فالله أكبر، كلمة مداد حروفها نور به تنكشف من النفس عيوب وآفات، ليحصل بها تيقظ وإيلام، تيقظ لما يجد العبد من نفسه لما نادى عليها بالتكبير، فرأى منها توانيا دون تحصيل عبوديته، وفتورا لا يسلم معه سير ولا ارتحال، وعيوبا تقطع عليه سعيه وتسلب منه كسبه، وجد أفات وأدواء عادت بسببها النفس مريضة عليلة، فلما وجد العبد ذلك تألم، وألمه دليل حياة قلبه، فالله أكبر بها التيقظ فالإيلام.
ثم الله أكبر مرة أخرى لينكشف بنورها خفاء آخر، ما كان للعبد أن يلحظه بدونها، لينكشف عور آخر من نفسه، ليتيقن معه تشخيص الداء، ويتبين فيه محل الاتهام، ألا تسمع حروفها وقد رجع إليك صداها حاكيا، كاشفا عن نفسك ما فيها، ما حال بينها وبين ما يرقيها ويزكيها، فإذا بها هي الجانية، هي موضع الاتهام، "فالله أكبر" يتيقن بها الاتهام، كيف؟! فالمتهم بين جنبيك لم يخرج عن ذلك، فالمتهم الذي أتي بكل أسباب البلاء إنما هو نفسك، نفسك هي ذلك الشخص المتهم، فالتكبيرة الأولى بانت بها العيوب فحصل منها الإيلام، والتكبيرة الثانية انكشفت الجناية وتبين الاتهام.
فحق تلك الأيام أن تكوني يا نفس فيها منقطعة لله عن كل ما سواه، حق تلك الأعمال إصلاح به تجبرين العيوب، وتزكية بها تنالين الترقي، لكن بالتكبير تنكشفين، وبذكر الله تُفضَحين، أين الإصلاح؟؟، أين التعبد والتعلق بالله؟؟، أين مفارقة العيوب؟؟، أين هجران الذنوب؟؟، أين تغير العادات؟؟، أين مخالفة المألوفات؟؟، كل ذلك لم يكن، بل ما زال منك ما كان.
فحق تلك الأيام أن تكوني يا نفس فيها منقطعة لله عن كل ما سواه، حق تلك الأعمال إصلاح به تجبرين العيوب، وتزكية بها تنالين الترقي، لكن بالتكبير تنكشفين، وبذكر الله تُفضَحين، أين الإصلاح؟؟، أين التعبد والتعلق بالله؟؟، أين مفارقة العيوب؟؟، أين هجران الذنوب؟؟، أين تغير العادات؟؟، أين مخالفة المألوفات؟؟، كل ذلك لم يكن، بل ما زال منك ما كان.
ثم تكبيرة ثالثة، الله أكبر، تستحدث في القلب قوة وعزما على حكم النفس، على إلزامها بما عاهدت عليه من قبل ربها، بما فيه نجاتها، فالله أكبر عهد وإلزام، الله أكبر يقضي بها على عيوبه فتذهب، الله أكبر يرمي بها على آفاته فتدك.
فتكبيراته الثلاث تنبيه وإيلام، فافتضاح واتهام، فعهد وإلزام.
فحق ذلك بعدها أن يتهيأ قلبه لكلمة الحق، وشهادة الصدق لا إله إلا الله، ليعلن العبد بقلبه أن مدار كل ذلك على كلمة الإخلاص، على كلمة النجاة، على الكلمة التي أنزل الله -عز وجل- كتباً وأرسل رسلاً ليدعوَ الناس أجمعهم إليها، "لا إله إلا الله" تلك الكلمة التي قام لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنادى العرب أجمعهم وقال أيها الناس أيها العرب قولوا "لا إله إلا الله" تفلحوا، تلك الكلمة التي بها نجاة الآخرة وتمكين الدنيا، "لا إله" نفيٌ عن كل شيء، لِتَسْلُب بذاك النفي كل شيء إدعاءه، تسلب كل هذه الأسباب، تسلب كل مدعٍ ما ادعاه، لا إله على الإطلاق، نفيٌ وسلب تام، لم يعد يصح لأحد أي ادعاء، لا برهان ولا تصديق، "لا إله"، فلا تجد في قلبك توكلاً على أحد، ولا استعانةً بأحد، ولا رجاء في أحد، ولا خوفاً من أحد، كل ذلك ينفى بمقتضى قولك لا إله. ثم ترد ذلك كله لتثبته في شيء واحد، لا ترى حقا لأحد سواه، "إلا الله"-سبحانه وتعالى-، "لا إله" سلبٌ ونفيٌ تام، "إلا الله" إثباتٌ مطلق تام، على قدر ما نفَيْتَ عن كل مدعٍ من الخلق شيئاً تتوكل به عليه، تستعين بِهِ، تخاف بسببه منه، ترجوه لأمرٍ فيه، على قدر ما تنفيه عنه، على قدر ما تثبته للواحد القهار، تجعل ذلك كله في الله وبالله ولله وعلى الله ومن الله، "فلا إله إلا الله" لا تتوكلوا إلا عليه، ولا تخافوا إلا منه، ولا ترجوا إلا إياه، ولا تستعينوا إلا به، ولا تحبوا إلا فيه، ولا تبغضوا إلا له، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [سورة الأنعام: الآية162-163]
"لا إله إلا الله والله أكبر" ثم تكبيرة رابعة، تكبيرة تجبر نقص ما حقه أن يكون في قلبك من التوحيد بعد شهادة الحق وكلمة الإخلاص، علما وعملا، فإن دافع علمك بالله شبهة، فالله أكبر، وإن عارض عملك شهوة فالله أكبر، فأنت تدفع بتكبيرك الشبهات، وترد عن نفسك الشهوات، فالله أكبر من كل ذلك، فالله أكبر من قوادح توحيدك، فالله أكبر من آفات ونقائص عبوديتك، فينجبر من القلب ذلك ويلتئم جرحه، فالله أكبر جبر والتئام.
"الله أكبر ولله الحمد" تكبيرة خامسةً تثبت ذلك وتوثقه، تستشعر فيها وكأنك صرت الأن في حصن حصين، في قلعةٍ متينة ربها الله، صرت الآن في حصنه، في حرزه، في حراسته، في معيته، في حزبه، في نصرته، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [سورة الزمر: الآية 36] فأنت حققت بذلك عبوديةً كريمة، صرت بها في حسب الله تعالى.
الله أكبر ولله الحمد" تكبيرة خامسةً تثبت ذلك وتوثقه، تستشعر فيها وكأنك صرت الأن في حصن حصين، في قلعةٍ متينة ربها الله، صرت الآن في حصنه، في حرزه، في حراسته، في معيته، في حزبه، في نصرته، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [سورة الزمر: الآية 36] فأنت حققت بذلك عبوديةً كريمة، صرت بها في حسب الله تعالى.
"الله أكبر" تكبيرةٌ خامسة حقها أن تجد في قلبك بعدها أمناً وسلاماً، قد صرتَ في حفظ الله الكريم، في حفظ الله الحفيظ، في حفظ الله المتين، فأيُ شبهةٍ تعتريك بعد ذلك!! وأي شهوةٍ تغريك بعد ذلك، فأنت الذي تولاك الله، حق تلك التكبيرات بعدها أن تجد ذلك الأمن والسلام، فيأتي الحمد بعد ذلك في موقعه "الله أكبر ولله الحمد" لا لغيره، فالحمد كله لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة الإيمان، والحمد لله على تعليمه القرآن، والحمد لله على وحيه لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وترى الحمد إثباتاً لنعمة الله عليك، الذي وهبك ذلك كله، لا لسببٍ فيك ولا لقوةٍ بك ولا لحولٍ لك، بل لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد أعطاك بغير سبب ووهبك بغير سؤال، فإن كبَّرت فقد ابتدأك بتشريع التكبير، وإن حَمَدت فقد ابتدأك بقبول ذلك منك، فهو الأول فمنه كل شيء، وهو الآخر فإليه كل شيء، فالله -عز وجل- منه كل خير وإليه، فكل خير تجده فحق ذلك أن تجد قلبك يصرخ بأن الحمد لله لا لغيره "فالله أكبر ولله الحمد".
فالله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
فإن التكبير من شعائر العيد والإسلام، فهو سنة ثابتة في عيد الفطر والأضحى، وهو في الثاني أظهر، إذ كانت أيام العشر من ذي الحجة زمانا له، فضلا عن أيام التشريق، فيشرع فيها التكبير مطلقا، بينما خص المقيد بيوم عرفة مع أيام العيد.
وقد ثبتت من صيغ التكبير ما تقارب لفظُه، فلا بأس من الوقوف على صيغة منها يمكن معها جميل النظر، لاستنباط بعض ما ينبغي أن يحصل في قلب العبد إذا ما جرى على لسانه ذلك الذكر الجميل، بتكبير ربنا الجليل: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد) فانظر رحمك الله، انظر إلى كلماته، وارجع البصر هل ترى إلا حروفا من النور رسمها وبالسكينة نظمها، تكبيرات ثلاث توالت كأنها درر في عقد أتين وصيفات بين يدي أكرم الكلمات وأشرف العبارات، كلمة الإخلاص والقصد، تهليلة زانها تكبيرة أخرى للواحد الأحد، ثم تكبيرة تأتي وقد مزجت بالشكران والحمد، ألا تجدها وهي تجري على اللسان أحلى من الشهد؟!.
فإذا رأى الناظر في رسم تلك الحروف هذه الزينة تكسوها يجد لها في نفسه راحة وفرحة، يخف معها نصبه، وسمع لوقعها في الآذان حداءا ينشط به كسبه، فكيف بما يكون لها من المضمون والمعنى مما خوطب به قلبه؟ ألا يستدعي ذلك في النفس نشاطا تطلب به تلك المعاني؟!. ألا يستوجب عند أهل الدين حرصا على تحصيل هذه الخيرات والعطايا التي جاءت من وراء تلك المباني؟!.
فدونك تلك الإشارات الموجزة إلى بعض معاني التكبير مما فتح الله وجاد، عساها تنفذ إلى القلب فتوقظ فيه الوسنان وتنشط منه الكسلان، ليسعى القلب بذلك التكبير مرتحلا إلى الله تعالى ليحصِّل حظه من حبه ومَحابه، ولينعم بقربه وجنابه.
الإشارة الأولى:
التكبير تعبد لله تعالى باسمه (الكبير) جل شأنه، وأثر من آثار وصفه بالكِبَر إذ إن الله تعالى يحب ذاته، ويحب صفات جلاله، ويحب أن يعبد ويذكر بتلك الصفات وأن توجد آثارها وموجباتها، فشرع لعباده ما به تعظم تلك الصفات الجليلة، وتمجد هذه الأسماء الجميلة مع غنائه عن ذلك إذ لا يحصي أحد ثناءا عليه بل هو كما أثنى على نفسه سبحانه، لكن رحمة الله تعالى بعباده اقتضت أن يجعل لهم من ذكره ما به إليه يتقربون، ومن معرفته ما به إليه يتوصلون، فيباركهم بذلك ويرحمهم ويزكيهم، ولولا ذلك لصاروا كالأنعام بل أضل. والمقصود أن كون الله تعالى كبيرا اقتضى التقرب إليه بذلك الاسم وكان من ذلك التكبيرُ كما قال جل ذكره: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [سورة الإسراء: الآية 111].
بل وصفه سبحانه بالكبرياء والتكبر مشتق من معنى الكبر، فحق التكبيرات أن يتوسل بها العبد إلى فهم معنى اسم الله الكبير، ويتوصل منها إلى آثار ذلك الاسم الجليل من عبادة الله وتوحيده ومحبته.
وانظر كيف اقترن اسمه سبحانه (الكبير) باسمه (العليّ) في القرآن، بل صفة الكبير لم تأت إلا معطوفة على صفة العلو دائما، فإن من لوازم العلو والرفعة بالنسبة إلى مدركات حواس الخلق الصغر في ما يبدو، فكلما علا الشيء وارتفع بدا في مدرك البصر أصغر، فناسب أن يقترن بوصف علوه سبحانه وصف الكبر فله العلو المطلق، كما أن له الكبر المطلق، لينفي كل طمع في إدراك ذاته ويقطع أسباب الوصول إلى ذلك، فلا يقاس ما له سبحانه على مدركات الخلق ولا يُرد ما خصه جل ذكره إلى معايير خواصهم، فهو العلي في غير ما يبدو لهم من اللوازم الحسية وهو الكبير الذي لا يعارض كبرُه كمالَ العلوية. ثم تأمل لطيفة أخرى باقتران الاسمين الجليلين معا، فإن وصف الكبر ألزم بالذوات من العلو، إذ إن العلو يحتمل علو الذات وعلو الصفات أو الأفعال، أما الكبر فهو ألصق بالذات مما يجعل اقترانهما قرينة على قصد علو الذات في اسمه (العلي) سبحانه، فمجئ وصف الكبر عضد هذا القصد وأظهره فله العلو المطلق بذاته على كل مخلوقاته استئناسا بهذا الاقتران.
وتدبر رحمك الله سياق الآيات التى أتى فيها هذا الاسم الشريف -اسم (الكبير)- فإنك لتجدها في تنزيه الله تعالى عن كل نقض أو نقص اقترفه الناس فيما أوجبه عليهم من حق توحيده والتعبد له بلا شريك كما في قوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [سورة غافر: الآية 12]، فهو الكبير سبحانه فلا يكبره شيء ومقتضى وصفه بالكبر المطلق أن يُستدل بذلك على إفراده بالعبودية فهذا مقتضى تكبيره، وكل ما سواه فحقه التصغير فكيف يتعلق القلب بمثل ذلك، وقد حكم الله تعالى واقتضت أسماؤه وصفاته أن كل ما سواه باطل كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة الحج الآية 62]، وقوله جل ذكره: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة لقمان الآية 30]، وذلك يقتضي التدبرُ في ذلك الاسم مجاوزةَ وصف الذات إلى وصف الأفعال، فأفعاله سبحانه كذلك كبيرة في جلالها وحكمتها، حقها أن يكبِّرها العبد تكبيرا ولعل ذلك استئناس باقتران اسم الكبير مع صفة العلو، على عكس ما ذكرناه قبل، فإجمال العلو للذوات والمعاني أظهرَ في صفة الكبير استيعابا لجميل أفعاله سبحانه، كما في قوله جل ثناؤه: {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ(8)عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ(9)} [سورة الرعد: 8-9]، والله أعلم.
وفي قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [سورة النساء: الآية 34]، تنبيه على تعبد لازم للقلب بهذا الاسم الجليل حال كون العبد متعاطيا لسبب يرفعه على غيره، كما في علاقة الزواج فناسب في مقام مطالبة الزوج بالتجاوز والعفو مع التمكن من ضده أن يأتي بهذين الاسمين، فإنه يغيب بشهود علوِّ الله تعالى على جميع خلقه عن شهود علوِّه على أهله، ويفنى ما أُعطي من أسباب الكِبَر على زوجه بما يرى من مطلق كبَر الله تعالى، والله تعالى أعلم.
الإشارة الثانية:
التكبير من أظهر شعائر الدين والإيمان وأكثر الذكر ترددا على اللسان، فانظر كيف صار شعار الإسلام في أذان الصلاة، بل ما اجتزئ فيه بتكبيرة بل أربع، كل منها تعلن بالشعار وتؤكد ما لأختها من الآثار، وتنبه القلوب على توحيد الله تعالى ومعرفته باسمه الكبير الذي لا يكبره شيء، وتمهد لتحقيق كلمة الإخلاص وشهادة الحق لتأتي ألفاظ الشهادتين على القلب مستحضرٌ ما فيها مستقبلٌ معانيها، فالتكبير حريمها وبابها كما في شأن الصلاة، فهو تحريمة كل صلاة فرضا أو نفلا، جماعة أو فردا، فمفتاح الصلاة ومدخلها التكبير، فحق الدخول إليها أن يكون مستصحبا بما في التكبير من المعنى، بل تجد ذلك مؤكدا بتكبيرة عند كل انتقال من ركن إلى الذي يليه، فالتكبير فتح له باب الصلاة وسلَّمه من ركن إلى ركن ليتأكد له استصحاب عبودية القلب بتكبير الله تعالى والتعلق باسمه الكبير حال صلاته كلها، فلا يتم له أركانها -من جهة القيام بحقوق ذلك واستثماره في عبودية قلبه وتزكية نفسه- إلا بشهود تلك المعاني، وعلى قدرها تحصل له تلك الثمار، ويجد بعد الخروج منها مأمول الآثار.
فلما كانت الصلاة في أصلها كبيرة يثقل القيام بحقوقها، يسَّرَها التكبير، وخفف على النفس ثقلها وكبرها، فالله أكبر، فكل ما يكبُر عليه، كبَّر فيه، فالله أكبر، كما إذا ما روعه أمر، كبَّرَ فأذهبه، كاضطرام النار، أو رفعه شيء، كبر فأدبه، كصعوده في الأسفار، أو خشي ما يحذر، كبر فردَّه، كخشية العين، أو غالبه مانع، كبر فهدَّه، كما في فتح رومية، بل في كل مغالبة وممانعة، فالله أكبر عدة أهل الدين فيها، يتقوون بها، ويتأسون بهديه صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، الله أكبر، خربت خيبر» [متفق عليه].
كذلك كل خيبر، كل ممانعة، كل غدر وخيانة، كل شبهة وفتنة، فالله أكبر الله أكبر من كل ما يكبر على العبد أو في نفسه، فبكبر الله تعالى يتعلق به قلبه، وبه يقوى، وبه يستعين، وعليه يتوكل.
الإشارة الثالثة:
يحسن من العبد كذلك أن ينظر في حكم التكرار، فإن التكبير كسائر الذكر كلاهما مطلوب ترديده، فمبناه على التكرار، وطلب الشرع ذلك على نوعين، الأول: أن يعلق الجزاء على عدد مقيد، فالظاهر عدم حصول الموعود دون ذلك العدد كقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» [متفق عليه].
والثاني: أن يأتي الطلب مطلقا غير مقيد، كتعليق الأجر على الذكر ولو مرة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» (رواه الترمذي وصححه الألباني)، أو أن يعلق الأجر على مطلق الذكر كما في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [سورة البقرة الآية 152]، ويندرج تحته التكبير، فمنفعة هذا الذكر المطلق تراكمية إذ لا تحصل دفعة واحدة، بل يكون التحصيل بحسب تكرار العبد لها.
وفيه اعتناء الشرع بالمكلفين ورحمة الله بهم، إذ ندبهم إلى تكرار الذكر ليستدرك العبد ما يمكن أن يفوته أولا من معاني كلمات الذكر في كل مرة يرددها، وليتأكد في قلبه ما حصل من معاني العبودية، لتتمكن منه وتستوطنه، فحق ذلك أن يراعي العبد كل مرة تحقيق ما فاته في المرة السابقة، فيترقى على درج الذكر.
فكذلك التكبير المطلق حقه أن يسعف العبد إذا ما أعوزه ما فات، وتسلم كل تكبيرة إلى الأخرى محصول معاني السابق لها وزيادة المعنى الذي فيها.
فالله أكبر، كلمة مداد حروفها نور به تنكشف من النفس عيوب وآفات، ليحصل بها تيقظ وإيلام، تيقظ لما يجد العبد من نفسه لما نادى عليها بالتكبير، فرأى منها توانيا دون تحصيل عبوديته، وفتورا لا يسلم معه سير ولا ارتحال، وعيوبا تقطع عليه سعيه وتسلب منه كسبه، وجد أفات وأدواء عادت بسببها النفس مريضة عليلة، فلما وجد العبد ذلك تألم، وألمه دليل حياة قلبه، فالله أكبر بها التيقظ فالإيلام.
الإشارة الرابعة:
فإذا عرفت ما تقدم، كان حق كل تكبيرة منك أن تقع من القلب موقعها، فكأن قلبك هو المقصود بتلك التكبيرة، ليستخلص منها ما تقدم معرفته، لتستثمر فيه أنواعا من العبودية والتعلق بالله الكبير سبحانه، فالله أكبر، كلمة مداد حروفها نور به تنكشف من النفس عيوب وآفات، ليحصل بها تيقظ وإيلام، تيقظ لما يجد العبد من نفسه لما نادى عليها بالتكبير، فرأى منها توانيا دون تحصيل عبوديته، وفتورا لا يسلم معه سير ولا ارتحال، وعيوبا تقطع عليه سعيه وتسلب منه كسبه، وجد أفات وأدواء عادت بسببها النفس مريضة عليلة، فلما وجد العبد ذلك تألم، وألمه دليل حياة قلبه، فالله أكبر بها التيقظ فالإيلام.
ثم الله أكبر مرة أخرى لينكشف بنورها خفاء آخر، ما كان للعبد أن يلحظه بدونها، لينكشف عور آخر من نفسه، ليتيقن معه تشخيص الداء، ويتبين فيه محل الاتهام، ألا تسمع حروفها وقد رجع إليك صداها حاكيا، كاشفا عن نفسك ما فيها، ما حال بينها وبين ما يرقيها ويزكيها، فإذا بها هي الجانية، هي موضع الاتهام، "فالله أكبر" يتيقن بها الاتهام، كيف؟! فالمتهم بين جنبيك لم يخرج عن ذلك، فالمتهم الذي أتي بكل أسباب البلاء إنما هو نفسك، نفسك هي ذلك الشخص المتهم، فالتكبيرة الأولى بانت بها العيوب فحصل منها الإيلام، والتكبيرة الثانية انكشفت الجناية وتبين الاتهام.
فحق تلك الأيام أن تكوني يا نفس فيها منقطعة لله عن كل ما سواه، حق تلك الأعمال إصلاح به تجبرين العيوب، وتزكية بها تنالين الترقي، لكن بالتكبير تنكشفين، وبذكر الله تُفضَحين، أين الإصلاح؟؟، أين التعبد والتعلق بالله؟؟، أين مفارقة العيوب؟؟، أين هجران الذنوب؟؟، أين تغير العادات؟؟، أين مخالفة المألوفات؟؟، كل ذلك لم يكن، بل ما زال منك ما كان.
فحق تلك الأيام أن تكوني يا نفس فيها منقطعة لله عن كل ما سواه، حق تلك الأعمال إصلاح به تجبرين العيوب، وتزكية بها تنالين الترقي، لكن بالتكبير تنكشفين، وبذكر الله تُفضَحين، أين الإصلاح؟؟، أين التعبد والتعلق بالله؟؟، أين مفارقة العيوب؟؟، أين هجران الذنوب؟؟، أين تغير العادات؟؟، أين مخالفة المألوفات؟؟، كل ذلك لم يكن، بل ما زال منك ما كان.
ثم تكبيرة ثالثة، الله أكبر، تستحدث في القلب قوة وعزما على حكم النفس، على إلزامها بما عاهدت عليه من قبل ربها، بما فيه نجاتها، فالله أكبر عهد وإلزام، الله أكبر يقضي بها على عيوبه فتذهب، الله أكبر يرمي بها على آفاته فتدك.
فتكبيراته الثلاث تنبيه وإيلام، فافتضاح واتهام، فعهد وإلزام.
فحق ذلك بعدها أن يتهيأ قلبه لكلمة الحق، وشهادة الصدق لا إله إلا الله، ليعلن العبد بقلبه أن مدار كل ذلك على كلمة الإخلاص، على كلمة النجاة، على الكلمة التي أنزل الله -عز وجل- كتباً وأرسل رسلاً ليدعوَ الناس أجمعهم إليها، "لا إله إلا الله" تلك الكلمة التي قام لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنادى العرب أجمعهم وقال أيها الناس أيها العرب قولوا "لا إله إلا الله" تفلحوا، تلك الكلمة التي بها نجاة الآخرة وتمكين الدنيا، "لا إله" نفيٌ عن كل شيء، لِتَسْلُب بذاك النفي كل شيء إدعاءه، تسلب كل هذه الأسباب، تسلب كل مدعٍ ما ادعاه، لا إله على الإطلاق، نفيٌ وسلب تام، لم يعد يصح لأحد أي ادعاء، لا برهان ولا تصديق، "لا إله"، فلا تجد في قلبك توكلاً على أحد، ولا استعانةً بأحد، ولا رجاء في أحد، ولا خوفاً من أحد، كل ذلك ينفى بمقتضى قولك لا إله. ثم ترد ذلك كله لتثبته في شيء واحد، لا ترى حقا لأحد سواه، "إلا الله"-سبحانه وتعالى-، "لا إله" سلبٌ ونفيٌ تام، "إلا الله" إثباتٌ مطلق تام، على قدر ما نفَيْتَ عن كل مدعٍ من الخلق شيئاً تتوكل به عليه، تستعين بِهِ، تخاف بسببه منه، ترجوه لأمرٍ فيه، على قدر ما تنفيه عنه، على قدر ما تثبته للواحد القهار، تجعل ذلك كله في الله وبالله ولله وعلى الله ومن الله، "فلا إله إلا الله" لا تتوكلوا إلا عليه، ولا تخافوا إلا منه، ولا ترجوا إلا إياه، ولا تستعينوا إلا به، ولا تحبوا إلا فيه، ولا تبغضوا إلا له، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [سورة الأنعام: الآية162-163]
"لا إله إلا الله والله أكبر" ثم تكبيرة رابعة، تكبيرة تجبر نقص ما حقه أن يكون في قلبك من التوحيد بعد شهادة الحق وكلمة الإخلاص، علما وعملا، فإن دافع علمك بالله شبهة، فالله أكبر، وإن عارض عملك شهوة فالله أكبر، فأنت تدفع بتكبيرك الشبهات، وترد عن نفسك الشهوات، فالله أكبر من كل ذلك، فالله أكبر من قوادح توحيدك، فالله أكبر من آفات ونقائص عبوديتك، فينجبر من القلب ذلك ويلتئم جرحه، فالله أكبر جبر والتئام.
"الله أكبر ولله الحمد" تكبيرة خامسةً تثبت ذلك وتوثقه، تستشعر فيها وكأنك صرت الأن في حصن حصين، في قلعةٍ متينة ربها الله، صرت الآن في حصنه، في حرزه، في حراسته، في معيته، في حزبه، في نصرته، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [سورة الزمر: الآية 36] فأنت حققت بذلك عبوديةً كريمة، صرت بها في حسب الله تعالى.
الله أكبر ولله الحمد" تكبيرة خامسةً تثبت ذلك وتوثقه، تستشعر فيها وكأنك صرت الأن في حصن حصين، في قلعةٍ متينة ربها الله، صرت الآن في حصنه، في حرزه، في حراسته، في معيته، في حزبه، في نصرته، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [سورة الزمر: الآية 36] فأنت حققت بذلك عبوديةً كريمة، صرت بها في حسب الله تعالى.
"الله أكبر" تكبيرةٌ خامسة حقها أن تجد في قلبك بعدها أمناً وسلاماً، قد صرتَ في حفظ الله الكريم، في حفظ الله الحفيظ، في حفظ الله المتين، فأيُ شبهةٍ تعتريك بعد ذلك!! وأي شهوةٍ تغريك بعد ذلك، فأنت الذي تولاك الله، حق تلك التكبيرات بعدها أن تجد ذلك الأمن والسلام، فيأتي الحمد بعد ذلك في موقعه "الله أكبر ولله الحمد" لا لغيره، فالحمد كله لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة الإيمان، والحمد لله على تعليمه القرآن، والحمد لله على وحيه لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وترى الحمد إثباتاً لنعمة الله عليك، الذي وهبك ذلك كله، لا لسببٍ فيك ولا لقوةٍ بك ولا لحولٍ لك، بل لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد أعطاك بغير سبب ووهبك بغير سؤال، فإن كبَّرت فقد ابتدأك بتشريع التكبير، وإن حَمَدت فقد ابتدأك بقبول ذلك منك، فهو الأول فمنه كل شيء، وهو الآخر فإليه كل شيء، فالله -عز وجل- منه كل خير وإليه، فكل خير تجده فحق ذلك أن تجد قلبك يصرخ بأن الحمد لله لا لغيره "فالله أكبر ولله الحمد".
فالله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد