نحو وعي إسلامي راشد بقلم / ماهر إبراهيم جعوان
نحو وعي إسلامي راشد بقلم / ماهر إبراهيم جعوان
الصحوة الإسلامية هي الأمل المنشود لاستيقاظ هذه الأمة من سباتها العميق بل هي طوق النجاة للبشرية جمعاء مما تعانية من جور وظلم واضطراب وقلق وسيطرة المادة والخواء الروحي وغياب القيم وغيرها من مشكلات العصر ، بل الصحوة الإسلامية هي سفينة النجاة كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه : " لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلي عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة " ، وحتي تحقق الصحوة أهدافها الكبري لابد من الالتقاء علي فكر موحد يجمع ولا يفرق ، نجتمع علي كلمة سواء نتعاون فيما اتفقنا فيه من العقائد وكليات هذا الدين ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه من أراء فقهية وفروع ،حتي نكون يداً واحدة نصنع المستقبل لديننا وأمتنا في وجه أعدائنا الذين يعملون علي تفريقنا وتمزيقنا ، شعارهم في ذلك " فرق تسد "
لابد من تجاوز الخلاف الفقهي "لتعذرالاجتماع عليه لأن ذلك يتنافي مع طبيعة هذا الدين وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقي ويخلد ويماشي العصور ويساير الأزمان وهو لهذا سهل مرن هين لين لا جور فيه ولا تشديد فالإجماع علي أمر فرعي متعذر لاختلاف العقول ؟ وتباين الدلالات ؟ وسعة العلم وضيقه فهذا يبلغه ما لا يبلغ الآخر ،
وقد قال مالك لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة، واختلاف البيئات وإنك لتري الإمام الشافعي رحمه الله يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر وهو في كليهما أخذ بما استبان له ؟ وما أتضح عنده لا يعدوا أن يتحري الحق في كليهما ؟ واختلاف الاطمئنان القلبي للرواية حسب الجرح والتعديل للراوي عند كل إمام ، فلهذه الأسباب يُلتمس العذر للمخالفين في الفرعيات وهذا الخلاف لا يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون علي الخير ، ألسنا مسلمون وهم كذلك ، ألسنا نحب أن ننزل علي حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك ، ففيم الخلاف إذن ؟(1)
يقول الإمام الشاطبي في الموافقات 4/221 "في بيان أن الخلاف في الأمور الفرعية راجع في الحقيقة إلي الوفاق ، لاتفاق أطرافه علي تحري مقصود الشارع وهو واحد "
ومن هنا يظهر وجه الموالاه والتحاب والتعاطف في مابين المختلفين في مسائل الاجتهاد ، حتي لم يصيروا شيعاً ولا تفرقوا فرقاً لأنهم مجتمعون علي طلب الشارع، فاختلاف الطرف غير مؤثر كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة كرجل تقربه الصلاة وآخر يقربه الصيام وآخر تقربه الصدقة إلي غير ذلك من العبادات فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود وإن اختلفوا في أصناف التوجه فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحد(2) يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله"إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "الحديث
فالمفتي والجندي والقاضي إذا تكلموا بالشئ بحسب اجتهادهم،اجتهاداً أو تقليداً قاصدين لإتباع الرسولصلي الله عليه وسلم بمبلغ علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين؟وإن كانوا قد أخطئوا خطئاً مجمعاً عليه(3)
ويوضح شيخ الإسلام أن " الخلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط ، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شئ تهاجرا لم يسد بين المسلمين عصمة ولا أخوة "(4)
والأئمة الأعلام في هذه الأمة " كانوا يتناظرون في هذه المسألة مناظرة مشورة ومناصحة ، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين (5)
فهذا الأمام مالك يقول "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه " وكذلك الأمام أبو حنيفة يقول " رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب " وأيضا الإمام الشافعي يوضح أنه ما ناظر أحداً إلا وتمني أن يأتي الخير علي لسان مناظره
ويقول عمر بن عبدالعزيز " ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يختلفوا ، لأنهم إذا اجتمعوا علي قول فخالفه رجل كان ضالاً وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة" ويقول الإمام أحمد " الخلاف سعة "
ويقول القاسم بن محمد بن أبي بكر " لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم في العمل ، لا يعمل الواحد منهم إلا لأنه يري في ذلك سعة "
ويقول يحي بن سعيد " أهل العلم أهل توسعة ، وما برح المفتون يختلفون فيحل هذا ويحرم هذا فلا يعيب هذا علي هذا" ويقول الإمام الشاطبي " إن اختلافهم كان رحمة بالأمة"(6) ويقول الإمام البنا " وكل يأخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلي الله عليه وسلم وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقاً للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم أولي بالاتباع ، ولكن لا نعرض للأشخاص فيما اختلف فيه بطعن أو تجريح ونكلهم إلي نياتهم وقد أفضوي إلي ما قدموا " (7)
فما رأينا أحداً منهم يتهم الآخر بالفسق أو بالجهل أو بالبدعة أو بالانحراف عن الهدي النبوي " ما عرفت إليهم هذه الكلمات سبيلاً ، ما رأينا إلا كل حب وتقدير واحترام ونصح وإرشاد فيجب علينا تحديد الأصول والفروع وتقدير الأولويات ، فلا يؤدي النزاع علي الجزئيات إلي إهدار الكليات، ولا يتورط المختلفون حول نافلة في التجني علي فريضة ، فتوضع المسألة في نصابها دون غلوا ولا ترخص ولا يؤدي ذلك إلي المراء المزموم والتعصب
كما يقول الإمام البنا " والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين ولا يؤدي إلي خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد نصيب ، ولا مانع من التحقيق العلمي النزية في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون علي الوصول للحقيقة من غير أن يجر ذلك إلي المراء المزموم والتعصب"(8)
فلا ينبغي لأبناء الصحوة الإسلامية أن يتقوقعوا حول أنفسهم ويضيقوا واسعاً بل الواجب كما يقول شيخ الإسلام " أن يعطي كل ذي حق حقه ويوسع ما وسعه الله ورسوله ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله ، ويراعي في ذلك ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية والمقاصد الشرعية ويعلم أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم"(9)
ولا يجوز أن نقع في هذا الخطأ الذي بينه بن تيمية رحمه الله :" لقد غلط كثير من المتفقهة والمتصوفة وأصحاب الآراء فيما شنعوا علي ما عند الآخرين من باطل ولم يعترفوا بما عندهم من حق "(10)
إن كان هذا الحال مع من عنده باطل يدعوا إليه فكيف بأهل الحق إذا ما اختلفوا فقهياً فيما اختلف فيه أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة الصالح
ولا يجوز لنا أن نكون من " الأشرار يتبعون مساؤي الناس ويتركون محاسنهم كما يتتبع الذباب المواضع الفاسدة في الجسد ويترك الصحيح منه "(11)
ويجب أن نعلم "أن شرعية الاختلاف لا تلغي أفضلية الاتفاق والآمال العريضة لابد لها من نفوس عالية ، والتأصيل أساس في درء الفتن والنص الشرعي حجة ، وأما التحليل فلكل مورده"(12)
وفي الرفق والتأني وحسن الظن وإقالة العثرات والتماس الأعذاروالتأول ما يفيد في سد أبواب الأذي " قاعدة التأول وهي من القواعد الفقهية الصحيحة التي سدت أبواباً من الأذي أن تتأول للمخطئ وأنه ضحية شبهه غير متعمد ، مجتهد غير منحرف ، ركبته ساعة غفلة غير مبيت للأمر ، ولقد اقتتل الصحابة رضي الله عنهم فتأولوا لهم ، والقضاة يجتهدون في درء الحدود بالشبهات ، واحتاطوا أبعد الاحتياط في تكفير المسلم ما لم يكن قد أتي أمراً لا يمكن صرفه عن معني الكفر وأشياء من هذا الجنس تجعل تأنيك ورفقك ليس بغريب علي الحس الفقهي "(13)
وما فقه الواقع عند النبي صلي الله عليه وسلم منا ببعيد حين امتنع عن قتل كبير المنافين حتي لا تقول العرب أن محمداً يقتل أصحابه وحين امتنع عن هدم الكعبة شرفها الله لأن المجتمع غير مؤهل لذلك لولا أن قومك حديثي عهد بجاهلية لهدمت البيت ولأقمته علي قواعد إبراهيم عليه السلام ،وحادثة صلاة العصر في بني قريظة إلا خير دليل وبرهان علي تعدد الصواب بين المتخالفين
فما أحوجنا إلي ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي
لقد تَخالفنا والمُخالفُ قد يُخالفه العشير في الرأي تَضًغِنُ العقول وليس تَضًغِنُ الصدور
تقييم:
0
0