البُكَاء من خشية الله
البُكَاء من خشية الله
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (1)
البُكَاء
من خشية الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللهe، وبعد..
فإن الطاعة توجب القرب من الله سبحانه وتعالى..
وكلما ازداد القرب من الله قوي الأنس به..
والعكس صحيح.. فالمعصية توجب البعد عن الله سبحانه وتعالى..
وكلما ازداد البعد عن الله قويت الوحشة..
هذه الكلمات هي مجمل الإجابة على أسئلة الكثيرين:
لماذا نشعر بقسوة ووحشة في قلوبنا؟
لماذا نشعر أننا بعيدين عن اللهU؟
لماذا لا نستشعر حلاوة الإيمان؟
لماذا جفت أعيننا عن البكاء من خشية الله؟
لماذا تمر علينا العبر والعظات وعيوننا جامدة كأننا جمادات وأحجار؟
هذه الكلمات هي مجمل الإجابة..
والإجمال يحتاج إلى تفصيل..
فنقف معاً على عجالة في هذه الرسالة على تفصيلٍ حول عبادة من أجلِّ العبادات..
عبادة حُرم منها الكثيرون.. وغفل عنها الكثيرون إلا من رحم الله..
عبادة.. لو علم الخلق فضلها لما كان حالهم كما ترى..
إنها عبادة البكاء من خشية اللهU.. وما أعظمها من عبادة!
نقف وقفات مع هذه العبادة العظيمة..
وقفة.. نعلم فيها فضل البكاء من خشية الله وثمراته..
ووقفة أخرى.. نعلم فيها السبب في جفاف أعيننا عن البكاء من خشية الله..
ووقفة ثالثة هي لُبُّ الموضوع.. نعلم فيها السبل الميسرة للبكاء من خشية اللهU..
ثم وقفتنا الأخيرة.. نتأمل فيها أحوال البكَّائين وعلى رأسهم سيد المرسلين محمدe.. لعلنا نقتدي بهم ونتأسى بهديهم..
هذا.. ونسأل الله أن يجعلنا من الطائعين، وألا يحرمنا لذة الطاعة، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وألا يجعلنا ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.. نعوذ بالله من الخذلان.
ربيع الآخر 1425هـ/ يونيه 2004م
/
الوقفة الأولى: فضل البكاء من خشية الله وثمراته
1. الباكون من خشية الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
قال رسول اللهe: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..)، وذكر منهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
فيوم يشتد الكرب على الخلق، وتدنو الشمس من الرءوس، ويغرق الناس في عرقهم، يكون الباكون من خشية الله ضمن سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
2. الباكون من خشية الله لا يدخلون النار، بل ولا تمسهم:
قال رسول اللهe: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضّرْع).
فكما أن رجوع اللبن في الضرع بعد حلبه أمر يستحيل وقوعه فكذلك دخول الباكين من خشية الله النار أمر يستحيل وقوعه.
وقال رسول اللهe: (عينان لا تمسهما النار..)، وذكر منهما: (عين بكت من خشية الله).
3. الباكون من خشية الله يفوزون بحب الله تعالى لهم:
قال رسول اللهe: (ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين..)، وذكر من القطرتين: (قطرة دموع من خشية الله تعالى).
فاللهم ارزقنا حبك ولا تحرمنا فنكون من الخاسرين.
4. الباكون من خشية الله يفوزون بشجرة طوبى في الجنة:
قال رسول اللهe: (طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته).
وقد وصف النبيe شجرة طوبى فقال: (طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها).
5. الباكون من خشية الله يفوزون بكونهم طائعين للنبيe في أمره بالبكاء:
سأل أحد الصحابة رسول اللهe فقال: يا رسول الله ما النجاة؟، قالe: (أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك).
فمن امتثل هذا الأمر فاز بشرف طاعة النبيe.
6. الباكون من خشية الله يحظون بالاقتداء بالنبيe وصحبه:
وأنعم به من شرف فقد كان من هدي النبيe والصحابة من بعده البكاء من خشية الله كما سنعلم في الوقفة الرابعة بإذن الله تعالى.
7. الباكون من خشية الله يحظون بالاقتداء بالأنبياء الذين أنعم الله عليهم:
قال تعالى: )أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا( [(58) سورة مريم].
تُتلَى عليهم آيات الله، فتَلقى الآيات قلوبَ أفضل البشر..
تخر القلوب ساجدة..
ثم تهوى الأبدان..
تلامس الهامات الثرى..
و.. تسيل دموع الشوق والمحبة والإجلال.. ودموع الخوف والخشية..
فاللهم )اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ( [(6، 7) سورة الفاتحة].
8. الباكون من خشية الله يزيدهم الله إيماناً:
فمعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والبكاء من خشية الله من أشرف الطاعات وأحبها إلى الله ولها أثرها البين في زيادة الإيمان.
9. الباكون من خشية الله يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون ويجعل لهم المخرج من كل ضيق:
قال تعالى: )وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(
[(2-3) سورة الطلاق].
10. الباكون من خشية الله يجعل الله لهم من أمرهم يسراً:
قال تعالى: )وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا( [(4) سورة الطلاق].
11. الباكون من خشية الله يتذكرون بكاءهم في الدنيا وخوفهم من ربهمU بعد دخولهم الجنة:
فما أعظمها من لذة وما أجمله من موقف ذلك الذي حكاه الله عنهم، قال تعالى: )وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ(
[(25-28) سورة الطور].
الوقفة الثانية: السبب في جفاف العين عن البكاء
بعد أن وقفنا على فضل البكاء من خشية الله، لماذا نجد أن عيوننا ما زالت جامدة وكأن الموعظة لم تؤثر فيها إلا من رحم الله؟
إنه الداء العضال عباد الله.. الداء الذي يستحق المصاب به أن يعاقبه الله في الدنيا والآخرة..
إنه داء المعصية..
فالمعصية حائل بين العين وبين البكاء، فمن آثار المعاصي والذنوب:
1. الوحشة التي يجدها العاصي في قلبه..
يجد وحشة بينه وبين الله..
وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة..
والله إنها لوحشة لو اجتمعت لها لذات الدنيا بأسرها ما حرَّكت منها شيئاً..
نسأل الله العافية..
2. الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه..
وهذه الظلمة ليست مجازاً أو تشبيهاً..
إنها ظلمة حقيقية يحس بها العاصي كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم..
فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة..
وتقوى هذه الظلمة في القلب حتى تظهر على العين..
فإذا ظهرت على العين جف الدمع، وقست العين..
ثم تقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سواداً يراه الناس..
فما أقبح المعاصي وأدنسها!
قال ابن عباسt: (إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق).
3. توهن القلب وتمرضه..
فيصير القلب مريضاً ضعيفاً..
ولكن المعصية لا تتوقف.. توهن القلب أكثر وأكثر، وتمرضه أكثر وأكثر حتى..
حتى يموت القلب..
فيصبح القلب ميتاً أسودَ مربادّاً.. نعوذ بالله من ذلك.
4. تطبع على قلب صاحبها حتى يصير من الغافلين، فقد قال تعالى: )كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( [(14) سورة المطففين].
فالقلب يصدأ من المعصية كما يصدأ الحديد..
فإذا زادت المعصية غلب الصدأ..
ويزيد الصدأ ويزيد حتى يصير راناً..
ثم يغلب حتى يصير قفلاً على القلب..
قال تعالى: )أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( [(24) سورة محمد]..
فيصير القلب في غشاوة، فيتولاه الشيطان ويسوقه حيث أراد..
وللمعاصي آثار أخرى في الدنيا والآخرة ينبغي لطالب النجاة أن يقف عليها ويتأملها حتى يكون على حذر، ومن أفضل ما كتب في ذلك كتاب [الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي] للإمام ابن القيم، و[تحذير الداني والقاصي من آثار الذنوب والمعاصي] للشيخ أحمد فريد حفظه الله، فمن أراد الاستزادة فليراجعهما.
الوقفة الثالثة:
السبل الميسرة للبكاء من خشية اللهU
ما أشد قسوة قلوبنا..
ما أضعفنا في طريق السالكين إلا من رحم الله..
لقد كان السلفy يبكون من خشية الله، وتفيض أعينهم من الدمع، شوقاً له وحباً دون أن يحصوا الأسباب الميسرة للبكاء من خشية الله، أو يرقموها، ويحفظوها..
كانت أنهار الدموع المخلصة لا تتوقف من مآقيهم..
استشعروا حلاوة الإيمان، وذاقوها، واستمتعوا بالبكاء من خشية الله دون أن يحصوا سبله، ولكنهم طهرت قلوبهم فتفضل المنان عليهم وفتح عليهم من أبواب بركته وفضله، نسال الله أن يفتح علينا..
استمع إلى أحد السلف وهو يقول: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها) يقصد حلاوة الإيمان..
واستمع إلى آخر وهو يقول: (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف)..
ولكن حال المرضى أمثالنا إلا من رحم الله- أن يبحثوا عن الأسباب المعينة والجالبة للبكاء من خشية الله..
يبحثوا عن الدواء بعد أن ملأ الداء القلب واستشرى في البدن..
ولا يكفي علم هذه السبل دون العمل بها، فعلمها دون العمل بها قد يستوي فيه البر والفاجر، والمؤمن والكافر..
فلا تقرأ هذه السبل إن كنت تنوي غير العمل بها، فقد كان سفيان الثوري يقول: (قالت لي والدتي: يا بني، لا تتعلم العلم إلا إذا نويت العمل به، وإلا فهو وبال عليك يوم القيامة).
فهيا.. واستعن بالله تعالى..
1. الإخلاص للهU في البكاء، بل وفي الرغبة في البكاء:
قال تعالى: )وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء( [(5) سورة البينة].
وقال رسول اللهe: (ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب).
فاسأل نفسك عبد الله لماذا تبكي؟ ولماذا تريد أن تبكي؟
هل تقصد بذلك وجه الله تعالى؟ أم من أجل أن يقول الناس باكٍ.. تقيّ.. خاشع؟
هل تريد بذلك ثواب الله أم ثواب الناس؟
اعلم أن البكاء من خشية الله عبادة من العبادات، فإن خلصت فيه النية قُبل، وزكا، ونمت بركته..
وإن قصد به غير وجه الله تعالى حبط، وضاع، وخسرت صفقته..
ولا يخدعنك الشيطان فتظن أنك كامل الإخلاص كبعض الجهال من أهل زماننا إذا سمع أحدهم مَن يتحدث عن الرياء والعجب ظن أنه بمنأى عن ذلك..
لا تكن كذلك فتكون كالمريض الذي يُخدِّر موضع الألم حتى إذا ضاع الشعور به ظن أنه قد شفي وأن المرض انتهي ولا يشعر أن المرض يقرض جسده قرضاً..
واعلم أخي- أن الإخلاص عزيز..
قال أحد السلف: (أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي وكأنه ينبت فيه على لون آخر).
وكان من دعاء بعض السلف: (اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت).
فاحذر أن تكون منافقاً وأنت لا تشعر، مرائياً من حيث لا تعلم.
هذا هو الحسن البصري التابعي العالم العابد يقول لنفسه التي بين جنبيه: (تتكلمين بكلام الصالحين القانتين العابدين، وتفعلين فعل الفاسقين المنافقين المرائين، والله ما هذه صفات المخلصين)، وهو مَن هو!
وهذا يوسف بن أسباط يقول: (ما حاسبت نفسي قط إلا وظهر لي أنني مراءٍ خالص).
وإليك قول من لُقِّب بعابد الحرمين.. الفضيل بن عياض.. كان يقول عن قول الله تعالى )لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ( [(8) سورة الأحزاب]: (إذا كان يسأل الصادقين عن صدقهم مثل إسماعيل وعيسى عليهما السلام، فكيف بالكاذبين أمثالنا؟) فبماذا ننعت أنفسنا؟
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطابt: (من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله).
فما علامات الإخلاص في البكاء من خشية الله؟
أولاً: ألا تجد في نفسك محبةَ أن يمدحك الناس لبكائك أو يُثنوا عليك.
فإن أصابك هذا المرض ووجدت في نفسك حب مدح الناس لك والثناء عليك، فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية، ثم تبلع الإجابات بماء الإخلاص:
س: هل سينفعك العباد بشيء يوم القيامة؟
س: هل سيقف معك أثناء العرض على الله من مدحك ليمدحك أمام الله ويدافع عنك؟
س: ثم هل تعلم أن الممدوح عند الناس قد يكون من شر الناس عند الله؟، فمدح الناس لك ليس مقياساً لقبول طاعاتك.
فلا تنشغل بمدح الناس أو ثنائهم فتتعب نفسك وتضر دينك ويحبط عملك كله.
ثانياً: ألا تجد في قلبك عجباً بطاعتك:
فقد يبتعد الباكي عن أعين الناس، أو يداريه عنهم طلباً للإخلاص ولكن يتسرب العجب بالعمل إلى نفسه ويرى أنه قد عمل شيئاً عظيماً.
فإن أصابك هذا المرض وهو العجب بالطاعة- فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية أيضاً، وتفعل بها كسابقتها:
س: من صاحب الفضل عليك في هذا الأمر؟
س: من الذي رزقك شرف البكاء من خشيته؟
س: هل المعقول فيمن يُعطى شيئاً لم يخترعه أو يصنعه أن يعجب به أم يبادر بشكر المعطي على تفضله وإنعامه؟
س: ثم هل تضمن حالك غداً؟
س: هل تضمن أنك ستستمر على الطاعة؟
س: هل تعلم أيختم لك بالخير أم بالشر؟
س: فهل يعقل أن تعجب بعمل أنت في شك من دوامه؟
نسأل الله الثبات.
ثالثاً: ألا تجد في قلبك استصغاراً للآخرين أو احتقاراً لهم لأنك صاحب طاعة لم ينالوا شرفها.
فإن أصابك هذا المرض -وهو احتقار الآخرين- فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية ثم تلحقها بسابقتها:
س: هل تعلم أن من تزدريه قد يكون أتقى لله منك وأطهر قلباً وأخلص نية وأزكى عملاً؟
س: هل تضمن أن الله قد قبل منك طاعة البكاء من خشيته؟
س: هل تعلم أن الله لعله قبل من هذا الرجل عملاً فأدخله به الجنة، وأنت قد تكون لم يقبل منك صرفاً ولا عدلاً؟
فإن أجبت على هذه الأسئلة وتخلصت من أمراض الإخلاص المذكورة فلا تظن أنك قد حققت الإخلاص، فتكون كالمريض الذي أخذ الدواء فظن أنه قد شفي.
اتهم نفسك دائماً.. واحذر أن تكون مرائياً من حيث لا تعلم.
واعلم أن من ادعى أنه حقق الإخلاص فهو رأس المرائين نعوذ بالله من ذلك.
2. الدعاء:
قال تعالى: )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( [(60) سورة غافر].
وقال النبيe: (الدعاء هو العبادة).
وكان من هدي النبيe أن يدعو اللهU أن يعينه على الطاعة، فقد كان من ذكره دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
فادع اللهU أن يلين قلبك، وأن يرزقك نعمة البكاء من خشيته، واغتنم أوقات الاستجابة وأحوالها: كوقت السحر، وساعة الجمعة وهي آخر ساعة بعد العصر قبل صلاة المغرب، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود، وفي السفر، وأثناء الصيام، ووقت الإفطار، وغيرها من أوقات وأحوال الاستجابة.
3. السعي لتحصيل حلاوة الإيمان:
فإن من ثمرات حلاوة الإيمان البكاء من خشية الله (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
وقد ذكر النبيe أحوال تحصيل حلاوة الإيمان فقال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
فحب اللهU يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب اللهU؟
نحب الله بمطالعة أسمائه وصفاته، وآثار فضله وإنعامه على خلقه، ورحمته بهم، ونحبه بقراءة كلامه وهو القرآن- بتدبر، والتقرب إلى الله بالنوافل، ودوام الذكر بالقلب واللسان، ونحبه بالخلوة به وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل لمناجاته وتلاوة كلامه، ونحبه بطاعته فيما أمر به والابتعاد عما نهى عنه.
وحب النبيe يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب النبيe؟
نحبه بمطالعة سيرته، ومعرفة شمائله وأخلاقه، والتشبه به في الظاهر والباطن، وطاعته فيما أمر به، والابتعاد عما نهى عنه.
وكذلك حب عباد الله الصالحين حباً مجرداً من أغراض الدنيا (لا يحبه إلا لله) يجلب حلاوة الإيمان.
وبغض الكفر بمعرفة مظاهره، وصور الشرك، وعواقب الكفر للحذر منه، ومعاداة الكفار والبراء منهم.. كل ذلك يجلب حلاوة الإيمان.
فاحرص على ذلك تكن من الراشدين بإذن الله.
4. تعلُّم العلم الشرعي، وخصوصاً علم العقيدة:
قال تعالى: )إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء( [(28) سورة فاطر].
وقال تعالى: )قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا( [(107- 109) سورة الإسراء].
وقال أحد السلف في تفسير هذه الآية: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفع، لأن الله نعت العلماء فقال: )قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ.. (الآية).
فالعلم الشرعي يورث في القلب خشية ورهبة..
وعلم العقيدة والتوحيد خصوصاً يزيد الإيمان ويورث في القلب ما لا يورثه غيره من العلوم.
فاحرص على تعلم علم العقيدة، وأنصحك بأن تقرأ كتابي [منة الرحمن] و[العبودية] للشيخ ياسر برهامي، وكتاب [عقيدة المؤمن] للشيخ أبي بكر الجزائري، وكتاب [العقيدة في ضوء الكتاب والسنة] للشيخ عمر سليمان الأشقر.
5. ذكر الموت، وما بعده من أهوال:
قال رسول اللهe: (أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه).
ويقود التفكر بالموت إلى التفكر فيما بعده من أهوال القبور والبرزخ وأهوال يوم القيامة وأهوال النار نعوذ بالله منها.
قال النبيe عندما سمع هو وصحابته صوتاً مرتفعاً: (هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها).
وقال رسول اللهe: (يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أُرسلت فيها السفن لجرت).
وقال رسول اللهe: (يأيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في خدودهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فيسيل أي الدم- فيُقرح العيون).
وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (إن أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يقول: "إنكم ماكثون"، ثم يدعون ربهم فيقولون: "ربنا أخرجنا منها فإن عُدنا فإنا ظالمون" فلا يجيبهم مثل الدنيا، ثم يقول: )اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ( [(108) سورة المؤمنون]، ثم ييأس القوم، فما هو إلا الزفير والشهيق، تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير).
وقال الحسن البصري: (يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده أن يطول حزنه).
وقال إبراهيم التيمي: (ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأن أهل الجنة قالوا: )الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ([(34) سورة فاطر]، وينبغي لمن لم يُشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: )إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ( [(26) سورة الطور]).
6. زيارة القبور، واتباع الجنائز:
قال رسول اللهe: (إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة) وفي رواية: (فإنها تُرق القلب وتُدمع العين وتُذكر الآخرة).
فالقبور هي الواعظ الصامت، فأكثر من زيارة القبور يرق قلبك وتدمع عينك من خشية الله تعالى.
قال الأعمش: (إن كنا لنشهد الجنازة فلا ندري من نعزِّي من القوم) أي لأن كل من يسير في الجنازة يبكي، فلا تستطيع تمييز أهل الميت من غيرهم.
7. قراءة القرآن بتدبر، والإكثار من الذكر:
قال تعالى: )لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( [(21) سورة الحشر].
وقال تعالى: )أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( [(24) سورة محمد].
وقراءة القرآن لها أثر كبير في طرد الشيطان، ورقة القلب، وبكاء العين..
لم لا، والقرآن كلام الله تبارك وتعالى؟
فاقرأ القرآن وكأنه عليك أنزل، واهتم بتفسيره قدر المستطاع، واعلم أن القلوب الميتة تحيا بالذكر خاصة القرآن- كما تحيا الأرض الميتة بنزول المطر.
8. سماع القراءة الخاشعة للقرآن الكريم:
عن طريق الشرائط المسجلة، فاستمع إن شئت- إلى تلاوة محمد صديق المنشاوي يجوب بك بحار الخشية..
واستمع إن شئت- إلى تلاوة أحمد العجمي، وابك ولا تمنع دموعك..
واستمع إن شئت- إلى مشاري راشد أو أبي بكر الشاطري أو غيرهم من أصحاب التلاوة الخاشعة فستجد لذلك بإذن الله- أثره العظيم في لين القلب ورقته.
9. الإكثار من قراءة كتب الرقائق، وسماع المواعظ عن طريق الدروس أو الشرائط المسجلة:
فأما كتب الرقائق: فاحرص على أن تكون لأهل السنة المستدلين بالكتاب والسنة وأقوال السلف، وإياك ثم إياك وكتب الصوفية وأهل البدع، فهي تزيدك بعداً ووحشة أضعاف ما تفيدك.
فاحرص على قراءة النسخ المحققة من كتب الإمام ابن القيم [مدارج السالكين]، و[الفوائد]، و[مفتاح دار السعادة]، و[الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي] وغيرها.
وكذلك كتب الشيخ أحمد فريد ومن أروعها: [البحر الرائق في الزهد والرقائق]، و[التقوى الغاية المنشودة والدرة المفقودة]، و[تذكير النفوس المؤمنة بأسباب حسن الخاتمة وسوء الخاتمة]، وغيرها.
واحرص على حضور مجالس الوعظ لمن عرف بموافقة السنة واستدلاله بالصحيح من الأحاديث، فالمواعظ سياط تضرب بها القلوب فتؤثِّر في القلوب كتأثير السياط في البدن.
كان الحسن البصري إذا خرج إلى الناس فكأنه رجل عاين الآخرة، ثم جاء يُخبر عنها، وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدون الدنيا شيئاً..
وكان سفيان الثوري يتعزَّى بمجالسه عن الدنيا..
وكان أحمد لا تُذكر الدنيا في مجالسه، ولا تُذكر عنده..
فإن عجزت أن تجد مجالس للوعظ فإن الله رزقنا نعمة لم يعطها لسلفنا وهي نعمة الشرائط المسجلة، فاحرص على سماع شرائط المواعظ للمشايخ: محمد حسين يعقوب، ومحمد حسان، ونبيل العوضي، وإبراهيم الدويش، وعلي القرني، ومحمد العريفي، وخالد الراشد، وغيرهم ممن عرف بموافقته لأهل السنة والاستدلال بالصحيح من الأحاديث وحسن الأسلوب والصدق في التعبير.
10. محاسبة النفس:
أمر اللهU عباده أن يحاسبوا أنفسهم فقال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ( [(18) سورة الحشر].
وأقسم تعالى بالنفس اللوامة فقال: )لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ( [(1، 2) سورة القيامة].
وقال رسول اللهe: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإنَّ محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تُهلكه).
وقال ابن مسعودt: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا).
وقال عمر بن الخطابt: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوا قبل أن توزنوا).
وقال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه).
فطوبى لمن حاسب نفسه فعلم ذنوبه وتقصيره ففاضت عيناه من خشية الله، وخوفاً من تقصيره، وقد قال النبيe: (وابك على خطيئتك).
11. الخشوع في الصلاة:
قال رسول اللهe: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع).
فما أجملها من صلاة يستشعر صاحبها أن هذه الصلاة هي آخر عهده بالدنيا..
أناشدك بالله أن تصلي ركعتين وتخيل أنك ستموت بعدهما مباشرة.. استشعر هذا جيداً.. كيف تكون هذه الصلاة؟ ما تأثيرها في نفسك؟ هل شعرت بتغيير بعدها؟
تخيل أن كل صلواتك بهذه الصورة.. هل يلين قلبك إن صلى كل صلواته صلاة مودع؟
لو كان القلب صخراً للان بفضل الله وإنعامه..
فما أجملها من نصيحة من خير البشر وحبيب رب العالمينe: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع)!
12. الخوف من عدم قبول الأعمال:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله )وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ( [(60) سورة المؤمنون]، أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟، قال: (لا يا بنت أبي بكر، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو يخاف أن لا يتقبل منه).
فكن على خوف ألا يتقبل منك.
13. عدم الإكثار من الضحك:
قال رسول اللهe: (لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).
وموت القلب يمنع دمع العين.
14. الزهد في الدنيا:
فإن حب الدنيا سبب في قسوة القلب، والصد عن سبيل الله..
والزهد فيها سبب في لين القلوب وخشوعها، وبكاء العيون ودموعها..
وهيا نقف وقفة سريعة نعلم فيها كيف كان عيش النبيe وكيف كان طعامه وكيف كان شرابه ولباسه وأثاثه..
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمدe من خبز شعير يومين متتابعين حتى قُبض رسول اللهe).
وقالت أيضاً: (إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول اللهe نار).
ولما سُئلت عن طعام رسول اللهe قالت: (الأسودان: التمر والماء).
وعن أنسt قال: (ما أعلم النبيe رأى رغيفاً مرققاً -أي واسع رقيق- حتى لحق بالله).
وقال النعمان بن بشيرt: (لقد رأيت نبيكمe وما يجد من الدَّقل -أي التمر الرديء- يملأ به بطنه).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان فراش رسول اللهe من أُدم -أي جلد- حشوه ليف).
وعن أبي بردة قال: (أخرجت إلينا عائشة كساءً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبض روح النبيe في هذين).
وقال سيد الزاهدين محمدe: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
وكان ابن عمرt يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
فإن جمدت عيناك بعد كل هذا فعليك بـ..
15. التباكي:
والتباكي دون البكاء في المنزلة والمرتبة ولكنه سبيل البكاء لأن المتباكي ممن يجاهد نفسه ويحاسبها، وممن يسعون لتحقيق مرضاة اللهU، واللهU يقول: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا( [(69) سورة العنكبوت].
فمن جاهد نفسه في التباكي وأخلص في ذلك فهو على الطريق بإذن الله.
قال رسول اللهe: (يأيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا).
وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (ابكوا، فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا، لو تعلموا العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره ولبكى حتى ينقطع صوته).
16. مطالعة أحوال البكائين:
فإنها تدفع باغي الفلاح للتشبه بهم..
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
وهذه هي وقفتنا الرابعة والأخيرة بإذن الله.
^ ^ ^
الوقفة الرابعة: من أحوال البكائين
الأخبار في أحوال البكائين من خشية الله كثيرة.. ولكننا نقف على بعضها فليس هذا موضع استقصائها.
1. سيد البكائين والناس أجمعين حبيبنا محمد e:
لم يكن بكاؤه بشهيق ورفع صوت، ولكن كانت عيناه تدمعان حتى تسيل الدموع، ويسمع لصدره أزيز.
وكان رسول اللهe يبكي عند سماع القرآن:
قال عبد الله بن مسعودt: (قال لي النبيe: "اقرأ علي"، فقرأت عليه بسورة النساء حتى إذا بلغت )فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا( [(41) سورة النساء]، فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان).
وكان رسول اللهe يبكي في الصلاة:
قال علي بن أبي طالبt: (لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول اللهe تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح).
وعن عبد الله بن الشِّخِّيرt قال: (رأيت رسول اللهe يصلي بنا وفي صدره أزيز أي صوت البكاء- كأزيز المرجل وهو القدر إذا غلت- من البكاء).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما كان ليلة من الليالي قال أي النبيe-: "يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي"، قلت: "والله إني أحب قربك، وأحب ما يسرك"، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكيe حتى بلَّ لحيته، قالت: ثم بكى حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: "يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟" قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟")
وكان يبكي عند القبور:
قال البراء بن عازبt: (بينما نحن مع رسول اللهe إذ بصر بجماعة فقال: "علام اجتمع عليه هؤلاء؟"، قيل: "على قبر يحفرونه"، قال: ففزع رسول اللهe، فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلَّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا، قال: (أي إخواني لمثل هذا فأعدوا).
2. صحابة النبيy جملة:
كان الصحابةy بكائين من خشية الله، وقد تعلموا هذا الهدي من النبيe.
وعظهم رسول الله ذات يوم قائلاً: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) فغطوا وجوههم يبكون ولهم خنين.
3. أبو بكر الصديقt:
اشتهر عنه البكاء في الصلاة حتى أن السيدة عائشة لما قال النبيe: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قالت: (إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس).
4.عمر بن الخطابt:
كان بكاؤه يسمع من آخر الصفوف، فقد قال عبد الله بن شداد: (سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ )إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ( [(86) سورة يوسف]).
5.عثمان بن عفانt:
كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: (تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟) قال: (إن رسول اللهe قال: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج فما بعده أشد منه").
6. عبد الرحمن بن عوفt:
يُقدم له طعام فيقول: (أُعطينا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلَت لنا) ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
7. سلمان الفارسيt:
يقول: (أبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة).
8. أم أيمن رضي الله عنها حاضنة رسول اللهe:
يزورها أبو بكر وعمر بعد وفاة النبيe فتبكي.. يسألانها: (ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول اللهe)، فتقول: (ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول اللهe، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها).
9. الحسن البصري:
يؤتى بكوز من ماء ليُفطر عليه.. يدنيه من فيه.. ثم يبكي ويقول: (ذكرتُ أمنية أهل النار قولهم: )أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ( [(50) سورة الأعراف]، وذكرت ما أجيبوا )إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ( [(50) سورة الأعراف].
10. إبراهيم النخعي:
يبكي في مرضه فيسألوه عن سبب بكائه فيقول: (وكيف لا أبكي وأنا أنتظر رسولاً من ربي يبشرني إما بهذه وإما بهذه؟).
^ ^ ^
خاتمة
ها قد انتهي لقاؤنا أخي الحبيب، أو كاد أن ينتهي..
فهل دمعت عينك؟ هل ارتجف قلبك؟
إن كانت الإجابة بالنفي فدعني أسألك..
هل ضمنت الجنة أخي؟
هل ضمنت النجاة من النار؟
فما بالي أراك وكأنك أمنت هذا المشهد..
قال رسول اللهe: (يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أُرسلت فيها السفن لجرت).
وقال رسول اللهe: (يأيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في خدودهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فيسيل أي الدم- فيُقرح العيون).
دموع في الخدود.. غزيرة متتابعة.. والوجه الجميل قد امتلأ بالأخاديد..
يبكون حتى تنتهي دموعهم..
ولكن الألم مستمر والخطب عظيم.. فيبكون الدم..
أخي.. قف أمام المرآة، وتخيل وجهك وقد شوهته الأخاديد والدم يسيل من عينيك..
تخيل نفسك.. واسألها..
يا نفس.. متى تبكين؟
أتبكين الدموع اليوم فتثابين.. أم تبكين الدم غداً حيث لا ثواب ولا أجر على البكاء؟
يا نفس.. أنت أمام خيارين.. فاختاري ما يسرُّك..
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
^ ^ ^
مصادر استفدت منها:
1. زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن القيم.
2. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام ابن القيم.
3. البكاء من خشية الله للشيخ حسين بن عودة العوايشة.
4. منطلقات طالب العلم للشيخ محمد حسين يعقوب.
5. حياة الصحابة للشيخ الكاندهلوي.
6. فضل الغني الحميد للشيخ ياسر برهامي.
7. مختصر النصيحة للشيخ محمد إسماعيل.
8. أوقف الشمس للشيخ مصطفى دياب.
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (1)
البُكَاء
من خشية الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللهe، وبعد..
فإن الطاعة توجب القرب من الله سبحانه وتعالى..
وكلما ازداد القرب من الله قوي الأنس به..
والعكس صحيح.. فالمعصية توجب البعد عن الله سبحانه وتعالى..
وكلما ازداد البعد عن الله قويت الوحشة..
هذه الكلمات هي مجمل الإجابة على أسئلة الكثيرين:
لماذا نشعر بقسوة ووحشة في قلوبنا؟
لماذا نشعر أننا بعيدين عن اللهU؟
لماذا لا نستشعر حلاوة الإيمان؟
لماذا جفت أعيننا عن البكاء من خشية الله؟
لماذا تمر علينا العبر والعظات وعيوننا جامدة كأننا جمادات وأحجار؟
هذه الكلمات هي مجمل الإجابة..
والإجمال يحتاج إلى تفصيل..
فنقف معاً على عجالة في هذه الرسالة على تفصيلٍ حول عبادة من أجلِّ العبادات..
عبادة حُرم منها الكثيرون.. وغفل عنها الكثيرون إلا من رحم الله..
عبادة.. لو علم الخلق فضلها لما كان حالهم كما ترى..
إنها عبادة البكاء من خشية اللهU.. وما أعظمها من عبادة!
نقف وقفات مع هذه العبادة العظيمة..
وقفة.. نعلم فيها فضل البكاء من خشية الله وثمراته..
ووقفة أخرى.. نعلم فيها السبب في جفاف أعيننا عن البكاء من خشية الله..
ووقفة ثالثة هي لُبُّ الموضوع.. نعلم فيها السبل الميسرة للبكاء من خشية اللهU..
ثم وقفتنا الأخيرة.. نتأمل فيها أحوال البكَّائين وعلى رأسهم سيد المرسلين محمدe.. لعلنا نقتدي بهم ونتأسى بهديهم..
هذا.. ونسأل الله أن يجعلنا من الطائعين، وألا يحرمنا لذة الطاعة، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وألا يجعلنا ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.. نعوذ بالله من الخذلان.
ربيع الآخر 1425هـ/ يونيه 2004م
/
الوقفة الأولى: فضل البكاء من خشية الله وثمراته
1. الباكون من خشية الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
قال رسول اللهe: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..)، وذكر منهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
فيوم يشتد الكرب على الخلق، وتدنو الشمس من الرءوس، ويغرق الناس في عرقهم، يكون الباكون من خشية الله ضمن سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
2. الباكون من خشية الله لا يدخلون النار، بل ولا تمسهم:
قال رسول اللهe: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضّرْع).
فكما أن رجوع اللبن في الضرع بعد حلبه أمر يستحيل وقوعه فكذلك دخول الباكين من خشية الله النار أمر يستحيل وقوعه.
وقال رسول اللهe: (عينان لا تمسهما النار..)، وذكر منهما: (عين بكت من خشية الله).
3. الباكون من خشية الله يفوزون بحب الله تعالى لهم:
قال رسول اللهe: (ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين..)، وذكر من القطرتين: (قطرة دموع من خشية الله تعالى).
فاللهم ارزقنا حبك ولا تحرمنا فنكون من الخاسرين.
4. الباكون من خشية الله يفوزون بشجرة طوبى في الجنة:
قال رسول اللهe: (طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته).
وقد وصف النبيe شجرة طوبى فقال: (طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها).
5. الباكون من خشية الله يفوزون بكونهم طائعين للنبيe في أمره بالبكاء:
سأل أحد الصحابة رسول اللهe فقال: يا رسول الله ما النجاة؟، قالe: (أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك).
فمن امتثل هذا الأمر فاز بشرف طاعة النبيe.
6. الباكون من خشية الله يحظون بالاقتداء بالنبيe وصحبه:
وأنعم به من شرف فقد كان من هدي النبيe والصحابة من بعده البكاء من خشية الله كما سنعلم في الوقفة الرابعة بإذن الله تعالى.
7. الباكون من خشية الله يحظون بالاقتداء بالأنبياء الذين أنعم الله عليهم:
قال تعالى: )أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا( [(58) سورة مريم].
تُتلَى عليهم آيات الله، فتَلقى الآيات قلوبَ أفضل البشر..
تخر القلوب ساجدة..
ثم تهوى الأبدان..
تلامس الهامات الثرى..
و.. تسيل دموع الشوق والمحبة والإجلال.. ودموع الخوف والخشية..
فاللهم )اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ( [(6، 7) سورة الفاتحة].
8. الباكون من خشية الله يزيدهم الله إيماناً:
فمعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والبكاء من خشية الله من أشرف الطاعات وأحبها إلى الله ولها أثرها البين في زيادة الإيمان.
9. الباكون من خشية الله يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون ويجعل لهم المخرج من كل ضيق:
قال تعالى: )وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(
[(2-3) سورة الطلاق].
10. الباكون من خشية الله يجعل الله لهم من أمرهم يسراً:
قال تعالى: )وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا( [(4) سورة الطلاق].
11. الباكون من خشية الله يتذكرون بكاءهم في الدنيا وخوفهم من ربهمU بعد دخولهم الجنة:
فما أعظمها من لذة وما أجمله من موقف ذلك الذي حكاه الله عنهم، قال تعالى: )وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ(
[(25-28) سورة الطور].
الوقفة الثانية: السبب في جفاف العين عن البكاء
بعد أن وقفنا على فضل البكاء من خشية الله، لماذا نجد أن عيوننا ما زالت جامدة وكأن الموعظة لم تؤثر فيها إلا من رحم الله؟
إنه الداء العضال عباد الله.. الداء الذي يستحق المصاب به أن يعاقبه الله في الدنيا والآخرة..
إنه داء المعصية..
فالمعصية حائل بين العين وبين البكاء، فمن آثار المعاصي والذنوب:
1. الوحشة التي يجدها العاصي في قلبه..
يجد وحشة بينه وبين الله..
وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة..
والله إنها لوحشة لو اجتمعت لها لذات الدنيا بأسرها ما حرَّكت منها شيئاً..
نسأل الله العافية..
2. الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه..
وهذه الظلمة ليست مجازاً أو تشبيهاً..
إنها ظلمة حقيقية يحس بها العاصي كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم..
فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة..
وتقوى هذه الظلمة في القلب حتى تظهر على العين..
فإذا ظهرت على العين جف الدمع، وقست العين..
ثم تقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سواداً يراه الناس..
فما أقبح المعاصي وأدنسها!
قال ابن عباسt: (إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق).
3. توهن القلب وتمرضه..
فيصير القلب مريضاً ضعيفاً..
ولكن المعصية لا تتوقف.. توهن القلب أكثر وأكثر، وتمرضه أكثر وأكثر حتى..
حتى يموت القلب..
فيصبح القلب ميتاً أسودَ مربادّاً.. نعوذ بالله من ذلك.
4. تطبع على قلب صاحبها حتى يصير من الغافلين، فقد قال تعالى: )كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( [(14) سورة المطففين].
فالقلب يصدأ من المعصية كما يصدأ الحديد..
فإذا زادت المعصية غلب الصدأ..
ويزيد الصدأ ويزيد حتى يصير راناً..
ثم يغلب حتى يصير قفلاً على القلب..
قال تعالى: )أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( [(24) سورة محمد]..
فيصير القلب في غشاوة، فيتولاه الشيطان ويسوقه حيث أراد..
وللمعاصي آثار أخرى في الدنيا والآخرة ينبغي لطالب النجاة أن يقف عليها ويتأملها حتى يكون على حذر، ومن أفضل ما كتب في ذلك كتاب [الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي] للإمام ابن القيم، و[تحذير الداني والقاصي من آثار الذنوب والمعاصي] للشيخ أحمد فريد حفظه الله، فمن أراد الاستزادة فليراجعهما.
الوقفة الثالثة:
السبل الميسرة للبكاء من خشية اللهU
ما أشد قسوة قلوبنا..
ما أضعفنا في طريق السالكين إلا من رحم الله..
لقد كان السلفy يبكون من خشية الله، وتفيض أعينهم من الدمع، شوقاً له وحباً دون أن يحصوا الأسباب الميسرة للبكاء من خشية الله، أو يرقموها، ويحفظوها..
كانت أنهار الدموع المخلصة لا تتوقف من مآقيهم..
استشعروا حلاوة الإيمان، وذاقوها، واستمتعوا بالبكاء من خشية الله دون أن يحصوا سبله، ولكنهم طهرت قلوبهم فتفضل المنان عليهم وفتح عليهم من أبواب بركته وفضله، نسال الله أن يفتح علينا..
استمع إلى أحد السلف وهو يقول: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها) يقصد حلاوة الإيمان..
واستمع إلى آخر وهو يقول: (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف)..
ولكن حال المرضى أمثالنا إلا من رحم الله- أن يبحثوا عن الأسباب المعينة والجالبة للبكاء من خشية الله..
يبحثوا عن الدواء بعد أن ملأ الداء القلب واستشرى في البدن..
ولا يكفي علم هذه السبل دون العمل بها، فعلمها دون العمل بها قد يستوي فيه البر والفاجر، والمؤمن والكافر..
فلا تقرأ هذه السبل إن كنت تنوي غير العمل بها، فقد كان سفيان الثوري يقول: (قالت لي والدتي: يا بني، لا تتعلم العلم إلا إذا نويت العمل به، وإلا فهو وبال عليك يوم القيامة).
فهيا.. واستعن بالله تعالى..
1. الإخلاص للهU في البكاء، بل وفي الرغبة في البكاء:
قال تعالى: )وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء( [(5) سورة البينة].
وقال رسول اللهe: (ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب).
فاسأل نفسك عبد الله لماذا تبكي؟ ولماذا تريد أن تبكي؟
هل تقصد بذلك وجه الله تعالى؟ أم من أجل أن يقول الناس باكٍ.. تقيّ.. خاشع؟
هل تريد بذلك ثواب الله أم ثواب الناس؟
اعلم أن البكاء من خشية الله عبادة من العبادات، فإن خلصت فيه النية قُبل، وزكا، ونمت بركته..
وإن قصد به غير وجه الله تعالى حبط، وضاع، وخسرت صفقته..
ولا يخدعنك الشيطان فتظن أنك كامل الإخلاص كبعض الجهال من أهل زماننا إذا سمع أحدهم مَن يتحدث عن الرياء والعجب ظن أنه بمنأى عن ذلك..
لا تكن كذلك فتكون كالمريض الذي يُخدِّر موضع الألم حتى إذا ضاع الشعور به ظن أنه قد شفي وأن المرض انتهي ولا يشعر أن المرض يقرض جسده قرضاً..
واعلم أخي- أن الإخلاص عزيز..
قال أحد السلف: (أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي وكأنه ينبت فيه على لون آخر).
وكان من دعاء بعض السلف: (اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت).
فاحذر أن تكون منافقاً وأنت لا تشعر، مرائياً من حيث لا تعلم.
هذا هو الحسن البصري التابعي العالم العابد يقول لنفسه التي بين جنبيه: (تتكلمين بكلام الصالحين القانتين العابدين، وتفعلين فعل الفاسقين المنافقين المرائين، والله ما هذه صفات المخلصين)، وهو مَن هو!
وهذا يوسف بن أسباط يقول: (ما حاسبت نفسي قط إلا وظهر لي أنني مراءٍ خالص).
وإليك قول من لُقِّب بعابد الحرمين.. الفضيل بن عياض.. كان يقول عن قول الله تعالى )لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ( [(8) سورة الأحزاب]: (إذا كان يسأل الصادقين عن صدقهم مثل إسماعيل وعيسى عليهما السلام، فكيف بالكاذبين أمثالنا؟) فبماذا ننعت أنفسنا؟
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطابt: (من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله).
فما علامات الإخلاص في البكاء من خشية الله؟
أولاً: ألا تجد في نفسك محبةَ أن يمدحك الناس لبكائك أو يُثنوا عليك.
فإن أصابك هذا المرض ووجدت في نفسك حب مدح الناس لك والثناء عليك، فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية، ثم تبلع الإجابات بماء الإخلاص:
س: هل سينفعك العباد بشيء يوم القيامة؟
س: هل سيقف معك أثناء العرض على الله من مدحك ليمدحك أمام الله ويدافع عنك؟
س: ثم هل تعلم أن الممدوح عند الناس قد يكون من شر الناس عند الله؟، فمدح الناس لك ليس مقياساً لقبول طاعاتك.
فلا تنشغل بمدح الناس أو ثنائهم فتتعب نفسك وتضر دينك ويحبط عملك كله.
ثانياً: ألا تجد في قلبك عجباً بطاعتك:
فقد يبتعد الباكي عن أعين الناس، أو يداريه عنهم طلباً للإخلاص ولكن يتسرب العجب بالعمل إلى نفسه ويرى أنه قد عمل شيئاً عظيماً.
فإن أصابك هذا المرض وهو العجب بالطاعة- فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية أيضاً، وتفعل بها كسابقتها:
س: من صاحب الفضل عليك في هذا الأمر؟
س: من الذي رزقك شرف البكاء من خشيته؟
س: هل المعقول فيمن يُعطى شيئاً لم يخترعه أو يصنعه أن يعجب به أم يبادر بشكر المعطي على تفضله وإنعامه؟
س: ثم هل تضمن حالك غداً؟
س: هل تضمن أنك ستستمر على الطاعة؟
س: هل تعلم أيختم لك بالخير أم بالشر؟
س: فهل يعقل أن تعجب بعمل أنت في شك من دوامه؟
نسأل الله الثبات.
ثالثاً: ألا تجد في قلبك استصغاراً للآخرين أو احتقاراً لهم لأنك صاحب طاعة لم ينالوا شرفها.
فإن أصابك هذا المرض -وهو احتقار الآخرين- فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية ثم تلحقها بسابقتها:
س: هل تعلم أن من تزدريه قد يكون أتقى لله منك وأطهر قلباً وأخلص نية وأزكى عملاً؟
س: هل تضمن أن الله قد قبل منك طاعة البكاء من خشيته؟
س: هل تعلم أن الله لعله قبل من هذا الرجل عملاً فأدخله به الجنة، وأنت قد تكون لم يقبل منك صرفاً ولا عدلاً؟
فإن أجبت على هذه الأسئلة وتخلصت من أمراض الإخلاص المذكورة فلا تظن أنك قد حققت الإخلاص، فتكون كالمريض الذي أخذ الدواء فظن أنه قد شفي.
اتهم نفسك دائماً.. واحذر أن تكون مرائياً من حيث لا تعلم.
واعلم أن من ادعى أنه حقق الإخلاص فهو رأس المرائين نعوذ بالله من ذلك.
2. الدعاء:
قال تعالى: )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( [(60) سورة غافر].
وقال النبيe: (الدعاء هو العبادة).
وكان من هدي النبيe أن يدعو اللهU أن يعينه على الطاعة، فقد كان من ذكره دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
فادع اللهU أن يلين قلبك، وأن يرزقك نعمة البكاء من خشيته، واغتنم أوقات الاستجابة وأحوالها: كوقت السحر، وساعة الجمعة وهي آخر ساعة بعد العصر قبل صلاة المغرب، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود، وفي السفر، وأثناء الصيام، ووقت الإفطار، وغيرها من أوقات وأحوال الاستجابة.
3. السعي لتحصيل حلاوة الإيمان:
فإن من ثمرات حلاوة الإيمان البكاء من خشية الله (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
وقد ذكر النبيe أحوال تحصيل حلاوة الإيمان فقال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
فحب اللهU يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب اللهU؟
نحب الله بمطالعة أسمائه وصفاته، وآثار فضله وإنعامه على خلقه، ورحمته بهم، ونحبه بقراءة كلامه وهو القرآن- بتدبر، والتقرب إلى الله بالنوافل، ودوام الذكر بالقلب واللسان، ونحبه بالخلوة به وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل لمناجاته وتلاوة كلامه، ونحبه بطاعته فيما أمر به والابتعاد عما نهى عنه.
وحب النبيe يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب النبيe؟
نحبه بمطالعة سيرته، ومعرفة شمائله وأخلاقه، والتشبه به في الظاهر والباطن، وطاعته فيما أمر به، والابتعاد عما نهى عنه.
وكذلك حب عباد الله الصالحين حباً مجرداً من أغراض الدنيا (لا يحبه إلا لله) يجلب حلاوة الإيمان.
وبغض الكفر بمعرفة مظاهره، وصور الشرك، وعواقب الكفر للحذر منه، ومعاداة الكفار والبراء منهم.. كل ذلك يجلب حلاوة الإيمان.
فاحرص على ذلك تكن من الراشدين بإذن الله.
4. تعلُّم العلم الشرعي، وخصوصاً علم العقيدة:
قال تعالى: )إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء( [(28) سورة فاطر].
وقال تعالى: )قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا( [(107- 109) سورة الإسراء].
وقال أحد السلف في تفسير هذه الآية: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفع، لأن الله نعت العلماء فقال: )قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ.. (الآية).
فالعلم الشرعي يورث في القلب خشية ورهبة..
وعلم العقيدة والتوحيد خصوصاً يزيد الإيمان ويورث في القلب ما لا يورثه غيره من العلوم.
فاحرص على تعلم علم العقيدة، وأنصحك بأن تقرأ كتابي [منة الرحمن] و[العبودية] للشيخ ياسر برهامي، وكتاب [عقيدة المؤمن] للشيخ أبي بكر الجزائري، وكتاب [العقيدة في ضوء الكتاب والسنة] للشيخ عمر سليمان الأشقر.
5. ذكر الموت، وما بعده من أهوال:
قال رسول اللهe: (أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه).
ويقود التفكر بالموت إلى التفكر فيما بعده من أهوال القبور والبرزخ وأهوال يوم القيامة وأهوال النار نعوذ بالله منها.
قال النبيe عندما سمع هو وصحابته صوتاً مرتفعاً: (هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها).
وقال رسول اللهe: (يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أُرسلت فيها السفن لجرت).
وقال رسول اللهe: (يأيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في خدودهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فيسيل أي الدم- فيُقرح العيون).
وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (إن أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يقول: "إنكم ماكثون"، ثم يدعون ربهم فيقولون: "ربنا أخرجنا منها فإن عُدنا فإنا ظالمون" فلا يجيبهم مثل الدنيا، ثم يقول: )اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ( [(108) سورة المؤمنون]، ثم ييأس القوم، فما هو إلا الزفير والشهيق، تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير).
وقال الحسن البصري: (يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده أن يطول حزنه).
وقال إبراهيم التيمي: (ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأن أهل الجنة قالوا: )الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ([(34) سورة فاطر]، وينبغي لمن لم يُشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: )إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ( [(26) سورة الطور]).
6. زيارة القبور، واتباع الجنائز:
قال رسول اللهe: (إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة) وفي رواية: (فإنها تُرق القلب وتُدمع العين وتُذكر الآخرة).
فالقبور هي الواعظ الصامت، فأكثر من زيارة القبور يرق قلبك وتدمع عينك من خشية الله تعالى.
قال الأعمش: (إن كنا لنشهد الجنازة فلا ندري من نعزِّي من القوم) أي لأن كل من يسير في الجنازة يبكي، فلا تستطيع تمييز أهل الميت من غيرهم.
7. قراءة القرآن بتدبر، والإكثار من الذكر:
قال تعالى: )لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( [(21) سورة الحشر].
وقال تعالى: )أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( [(24) سورة محمد].
وقراءة القرآن لها أثر كبير في طرد الشيطان، ورقة القلب، وبكاء العين..
لم لا، والقرآن كلام الله تبارك وتعالى؟
فاقرأ القرآن وكأنه عليك أنزل، واهتم بتفسيره قدر المستطاع، واعلم أن القلوب الميتة تحيا بالذكر خاصة القرآن- كما تحيا الأرض الميتة بنزول المطر.
8. سماع القراءة الخاشعة للقرآن الكريم:
عن طريق الشرائط المسجلة، فاستمع إن شئت- إلى تلاوة محمد صديق المنشاوي يجوب بك بحار الخشية..
واستمع إن شئت- إلى تلاوة أحمد العجمي، وابك ولا تمنع دموعك..
واستمع إن شئت- إلى مشاري راشد أو أبي بكر الشاطري أو غيرهم من أصحاب التلاوة الخاشعة فستجد لذلك بإذن الله- أثره العظيم في لين القلب ورقته.
9. الإكثار من قراءة كتب الرقائق، وسماع المواعظ عن طريق الدروس أو الشرائط المسجلة:
فأما كتب الرقائق: فاحرص على أن تكون لأهل السنة المستدلين بالكتاب والسنة وأقوال السلف، وإياك ثم إياك وكتب الصوفية وأهل البدع، فهي تزيدك بعداً ووحشة أضعاف ما تفيدك.
فاحرص على قراءة النسخ المحققة من كتب الإمام ابن القيم [مدارج السالكين]، و[الفوائد]، و[مفتاح دار السعادة]، و[الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي] وغيرها.
وكذلك كتب الشيخ أحمد فريد ومن أروعها: [البحر الرائق في الزهد والرقائق]، و[التقوى الغاية المنشودة والدرة المفقودة]، و[تذكير النفوس المؤمنة بأسباب حسن الخاتمة وسوء الخاتمة]، وغيرها.
واحرص على حضور مجالس الوعظ لمن عرف بموافقة السنة واستدلاله بالصحيح من الأحاديث، فالمواعظ سياط تضرب بها القلوب فتؤثِّر في القلوب كتأثير السياط في البدن.
كان الحسن البصري إذا خرج إلى الناس فكأنه رجل عاين الآخرة، ثم جاء يُخبر عنها، وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدون الدنيا شيئاً..
وكان سفيان الثوري يتعزَّى بمجالسه عن الدنيا..
وكان أحمد لا تُذكر الدنيا في مجالسه، ولا تُذكر عنده..
فإن عجزت أن تجد مجالس للوعظ فإن الله رزقنا نعمة لم يعطها لسلفنا وهي نعمة الشرائط المسجلة، فاحرص على سماع شرائط المواعظ للمشايخ: محمد حسين يعقوب، ومحمد حسان، ونبيل العوضي، وإبراهيم الدويش، وعلي القرني، ومحمد العريفي، وخالد الراشد، وغيرهم ممن عرف بموافقته لأهل السنة والاستدلال بالصحيح من الأحاديث وحسن الأسلوب والصدق في التعبير.
10. محاسبة النفس:
أمر اللهU عباده أن يحاسبوا أنفسهم فقال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ( [(18) سورة الحشر].
وأقسم تعالى بالنفس اللوامة فقال: )لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ( [(1، 2) سورة القيامة].
وقال رسول اللهe: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإنَّ محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تُهلكه).
وقال ابن مسعودt: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا).
وقال عمر بن الخطابt: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوا قبل أن توزنوا).
وقال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه).
فطوبى لمن حاسب نفسه فعلم ذنوبه وتقصيره ففاضت عيناه من خشية الله، وخوفاً من تقصيره، وقد قال النبيe: (وابك على خطيئتك).
11. الخشوع في الصلاة:
قال رسول اللهe: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع).
فما أجملها من صلاة يستشعر صاحبها أن هذه الصلاة هي آخر عهده بالدنيا..
أناشدك بالله أن تصلي ركعتين وتخيل أنك ستموت بعدهما مباشرة.. استشعر هذا جيداً.. كيف تكون هذه الصلاة؟ ما تأثيرها في نفسك؟ هل شعرت بتغيير بعدها؟
تخيل أن كل صلواتك بهذه الصورة.. هل يلين قلبك إن صلى كل صلواته صلاة مودع؟
لو كان القلب صخراً للان بفضل الله وإنعامه..
فما أجملها من نصيحة من خير البشر وحبيب رب العالمينe: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع)!
12. الخوف من عدم قبول الأعمال:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله )وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ( [(60) سورة المؤمنون]، أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟، قال: (لا يا بنت أبي بكر، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو يخاف أن لا يتقبل منه).
فكن على خوف ألا يتقبل منك.
13. عدم الإكثار من الضحك:
قال رسول اللهe: (لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).
وموت القلب يمنع دمع العين.
14. الزهد في الدنيا:
فإن حب الدنيا سبب في قسوة القلب، والصد عن سبيل الله..
والزهد فيها سبب في لين القلوب وخشوعها، وبكاء العيون ودموعها..
وهيا نقف وقفة سريعة نعلم فيها كيف كان عيش النبيe وكيف كان طعامه وكيف كان شرابه ولباسه وأثاثه..
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمدe من خبز شعير يومين متتابعين حتى قُبض رسول اللهe).
وقالت أيضاً: (إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول اللهe نار).
ولما سُئلت عن طعام رسول اللهe قالت: (الأسودان: التمر والماء).
وعن أنسt قال: (ما أعلم النبيe رأى رغيفاً مرققاً -أي واسع رقيق- حتى لحق بالله).
وقال النعمان بن بشيرt: (لقد رأيت نبيكمe وما يجد من الدَّقل -أي التمر الرديء- يملأ به بطنه).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان فراش رسول اللهe من أُدم -أي جلد- حشوه ليف).
وعن أبي بردة قال: (أخرجت إلينا عائشة كساءً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبض روح النبيe في هذين).
وقال سيد الزاهدين محمدe: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
وكان ابن عمرt يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
فإن جمدت عيناك بعد كل هذا فعليك بـ..
15. التباكي:
والتباكي دون البكاء في المنزلة والمرتبة ولكنه سبيل البكاء لأن المتباكي ممن يجاهد نفسه ويحاسبها، وممن يسعون لتحقيق مرضاة اللهU، واللهU يقول: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا( [(69) سورة العنكبوت].
فمن جاهد نفسه في التباكي وأخلص في ذلك فهو على الطريق بإذن الله.
قال رسول اللهe: (يأيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا).
وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (ابكوا، فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا، لو تعلموا العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره ولبكى حتى ينقطع صوته).
16. مطالعة أحوال البكائين:
فإنها تدفع باغي الفلاح للتشبه بهم..
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
وهذه هي وقفتنا الرابعة والأخيرة بإذن الله.
^ ^ ^
الوقفة الرابعة: من أحوال البكائين
الأخبار في أحوال البكائين من خشية الله كثيرة.. ولكننا نقف على بعضها فليس هذا موضع استقصائها.
1. سيد البكائين والناس أجمعين حبيبنا محمد e:
لم يكن بكاؤه بشهيق ورفع صوت، ولكن كانت عيناه تدمعان حتى تسيل الدموع، ويسمع لصدره أزيز.
وكان رسول اللهe يبكي عند سماع القرآن:
قال عبد الله بن مسعودt: (قال لي النبيe: "اقرأ علي"، فقرأت عليه بسورة النساء حتى إذا بلغت )فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا( [(41) سورة النساء]، فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان).
وكان رسول اللهe يبكي في الصلاة:
قال علي بن أبي طالبt: (لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول اللهe تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح).
وعن عبد الله بن الشِّخِّيرt قال: (رأيت رسول اللهe يصلي بنا وفي صدره أزيز أي صوت البكاء- كأزيز المرجل وهو القدر إذا غلت- من البكاء).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما كان ليلة من الليالي قال أي النبيe-: "يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي"، قلت: "والله إني أحب قربك، وأحب ما يسرك"، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكيe حتى بلَّ لحيته، قالت: ثم بكى حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: "يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟" قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟")
وكان يبكي عند القبور:
قال البراء بن عازبt: (بينما نحن مع رسول اللهe إذ بصر بجماعة فقال: "علام اجتمع عليه هؤلاء؟"، قيل: "على قبر يحفرونه"، قال: ففزع رسول اللهe، فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلَّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا، قال: (أي إخواني لمثل هذا فأعدوا).
2. صحابة النبيy جملة:
كان الصحابةy بكائين من خشية الله، وقد تعلموا هذا الهدي من النبيe.
وعظهم رسول الله ذات يوم قائلاً: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) فغطوا وجوههم يبكون ولهم خنين.
3. أبو بكر الصديقt:
اشتهر عنه البكاء في الصلاة حتى أن السيدة عائشة لما قال النبيe: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قالت: (إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس).
4.عمر بن الخطابt:
كان بكاؤه يسمع من آخر الصفوف، فقد قال عبد الله بن شداد: (سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ )إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ( [(86) سورة يوسف]).
5.عثمان بن عفانt:
كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: (تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟) قال: (إن رسول اللهe قال: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج فما بعده أشد منه").
6. عبد الرحمن بن عوفt:
يُقدم له طعام فيقول: (أُعطينا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلَت لنا) ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
7. سلمان الفارسيt:
يقول: (أبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة).
8. أم أيمن رضي الله عنها حاضنة رسول اللهe:
يزورها أبو بكر وعمر بعد وفاة النبيe فتبكي.. يسألانها: (ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول اللهe)، فتقول: (ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول اللهe، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها).
9. الحسن البصري:
يؤتى بكوز من ماء ليُفطر عليه.. يدنيه من فيه.. ثم يبكي ويقول: (ذكرتُ أمنية أهل النار قولهم: )أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ( [(50) سورة الأعراف]، وذكرت ما أجيبوا )إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ( [(50) سورة الأعراف].
10. إبراهيم النخعي:
يبكي في مرضه فيسألوه عن سبب بكائه فيقول: (وكيف لا أبكي وأنا أنتظر رسولاً من ربي يبشرني إما بهذه وإما بهذه؟).
^ ^ ^
خاتمة
ها قد انتهي لقاؤنا أخي الحبيب، أو كاد أن ينتهي..
فهل دمعت عينك؟ هل ارتجف قلبك؟
إن كانت الإجابة بالنفي فدعني أسألك..
هل ضمنت الجنة أخي؟
هل ضمنت النجاة من النار؟
فما بالي أراك وكأنك أمنت هذا المشهد..
قال رسول اللهe: (يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أُرسلت فيها السفن لجرت).
وقال رسول اللهe: (يأيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في خدودهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فيسيل أي الدم- فيُقرح العيون).
دموع في الخدود.. غزيرة متتابعة.. والوجه الجميل قد امتلأ بالأخاديد..
يبكون حتى تنتهي دموعهم..
ولكن الألم مستمر والخطب عظيم.. فيبكون الدم..
أخي.. قف أمام المرآة، وتخيل وجهك وقد شوهته الأخاديد والدم يسيل من عينيك..
تخيل نفسك.. واسألها..
يا نفس.. متى تبكين؟
أتبكين الدموع اليوم فتثابين.. أم تبكين الدم غداً حيث لا ثواب ولا أجر على البكاء؟
يا نفس.. أنت أمام خيارين.. فاختاري ما يسرُّك..
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
^ ^ ^
مصادر استفدت منها:
1. زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن القيم.
2. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام ابن القيم.
3. البكاء من خشية الله للشيخ حسين بن عودة العوايشة.
4. منطلقات طالب العلم للشيخ محمد حسين يعقوب.
5. حياة الصحابة للشيخ الكاندهلوي.
6. فضل الغني الحميد للشيخ ياسر برهامي.
7. مختصر النصيحة للشيخ محمد إسماعيل.
8. أوقف الشمس للشيخ مصطفى دياب.