لا اخفى ابدأ اعجابى بهذا الملك
كان رجل اسس دولة حررة القدس هو من وحد العرب واسس الانتصارات
كان نور الدين محمود واضح الرؤية والهدف منذ أن تسلم الحكم حتى يوم وفاته، إذ كان عليه واجب الجهاد لتحرير الأرض من الصليبيين المعتدين وعلى رأسها بيت المقدس، وتوفير الأمان للناس، لذلك وضع أسس سياسة متكاملة تتضمن توحيد بلاد الشام أولاً، ثم توحيد بلاد الشام ومصر التي كانت تعاني من الاضطرابات وفوضى الحكم ثانيًا، وطرد الصليبيين من المنطقة ثالثًا
وكان التوحيد في نظره يتضمن توحيد الصف والهدف في آن واحد، فأما توحيد الصف فهو جمع بلاد الشام ومصر في إطار سلطة سياسية واحدة، وأما توحيد الهدف فهو جمع المسلمين تحت راية مذهب واحد هو مذهب أهل السنة.
كان -رحمه الله- من مبادئه الرئيسية، أن الأمة حتى تستطيع أن تواجه لا بد أن تُعَدّ، ولا يمكن لأمة ضعيفة مفككة أن تنتصر، فلا بد من إعدادها إيمانيًّا وفكريًّا وعقائديًّا واجتماعيًّا وجهاديًّا واقتصاديًّا... ولا بد أن تكون عادلة.
جهاده ضد الصليبيين والفاطميين:
واستهل حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة أنطاكية الصليبية، واستولى على عدة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة "جوسلين الثاني" لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي، وكانت هزيمة الصليبيين في الرّها أشد من هزيمتهم الأولى.
وكان نور الدين -كما يقول ابن الأثير- إذا فتح حصنًا لا يرحل عنه حتى يملأه رجالاً وذخائر تكفيه عشر سنين خوفا من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين؛ فتكون حصونهم مستعدة غير محتاجة لشيء.
سعى محمود دائما إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب ودها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق سنة (541هـ/ 1147م) وتزوج ابنته، عصمت الدين خاتون، وقد أثمر هذا الزواج، بعد عشرين سنة من الصبر على قضاء الله وقدره، عن ابنة وولدين، هما أحمد الذي توفي طفلاً، والصالح إسماعيل الذي توفي عنه أبوه وهو بعد غلام، فاهتمت أمه عصمة الدين بتربيته ولم تفسده بتدليلها -كونه ابنها الوحيد- بل عملت على تأهيله للقيام بالأعباء العِظام التي تنتظره.. والخاتون هي التي ستكون زوجة صلاح الدين الأيوبي بعد وفاة نور الدين محمود، لتنال بذلك الشرف مرتين.
أحكم نور الدين سيطرته على شمالي العراق والشام ، وأدرك أن سيطرة الشيعة الإسماعيلية الفاطمية على مصر يمثل خطرًا كبيرًا؛ لأنهم يخضعونها لمفاوضاتهم مع الصليبيين، ويتجهون لقضاء مصالحهم ولو ذهبت بلاد المسلمين إلى الجحيم؛ ولهذا أرسل لفتح مصر جيشًا بقيادة "أسد الدين شيركوه" وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي ابتدأت من سنة خمسمائة وتسع وخمسون للهجرة واستمرت نحو خمس سنوات حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة خمسمائة وأربع وستون للهجرة.
وتولى شيركوه الوزارة للخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي، وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم. وتوجه لمصر ضربات قوية، غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين في مصر.
وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية.
زهده وتواضعه:
كان قائدا ربانيا بمعنى الكلمة، فقد كان يقضي ليله في قيام الله وقراءة القرآن والدعاء والاستغفار، وكان كثير التفكر في ملكوت الله عز وجل. كان كثير الصمت كأبيه، لا يتكلم إلا بالكلام المحسوب القليل، وعاش حياة الزهد رحمه الله، وهذه سيرة كل المجددين في تاريخ الأمة، وكان وقورا تمام الوقار، غير متفحش، طيب المجلس، زاهدا تمام الزهد فقد 'كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا وعندما شكت له زوجته الضائقة المادية أعطاها ثلاثة دكاكين له بحمص. وقال 'ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين ،لا أخونهم ولا أخوض في نار جهنم لأجلك".
ولزهده في أبهة الحكم والسلطان لم يكن له راتب يتقاضاه، وإنما كان يأكل ويلبس من ملك له، كان قد اشتراه من ماله، ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة البلد الذي يحل فيه.
وكان في ليالي السلم ينام قليلا ثم يصحوا، وكان يلبس الصوف تقشفا، ويأتي المسجد خفية حتى لا يراه الناس مصليا فيه ذاكرا إلى الفجر. ويمضي ليالي الحرب في المناجاة والتضرع. وتلكم بعض الخصال التي جعلت نور الدين محمود ينجح خلال مدة حكمه في تحرير معظم بلاد الشام من الاحتلال الصليبي، ويصبح قاب قوسين أو أدنى من تحرير بيت المقدس.
اتسع ملكه حتى صار من أقوى ملوك زمانه، لكنه مع ذلك كان من أشد المتواضعين، ومن قصص تواضعه أن الخليفة العباسي أرسل إليه خطابا جاء فيه ما يلي: " اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثابر، نور الدين وعدته وركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، راضيا إمامتي وأثيرها، فخر الملة ومجدها، شمس المعالي وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محيي العدل في العالمين منصف الظلوم من المظلومين وناصر دولة أمير المؤمنين"، وكان قد أرسل له بهذا الكلام ليقره كي يدعوا له المسلمون في كل خطب المسلمين بهذا الدعاء، فرد عليه نور الدين قائلا: رجاء أن توقف كل هذا الدعاء وأن تكتفي بقولك اللهم وأصلح عبدك الفقير نور الدين ابن زنكي". وكل ما ذكره الخليفة العباسي هو حقيقة في هذا الورع التقي نور الدين محمود.
وقال له قائل ذات مرة: بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف. فقال محمود: "ومن محمود حتى يقال هذا؟! حفظ الله الإسلام قبلي، لا إله إلا هو".
هتمامه بالعلم وبالجهاد في سبيل الله:
كان نور الدين محبا للعلم والعلماء، فقد كان عالما في الفقه الحنفي، وقد قام باستقدام العلماء من كل مكان ومن كل المذاهب، وتطبيق الشريعة في كل أركان مملكته، ومن أبرز صفاته أنه كان يثق بالعلماء ثقة مطلقة، ولا يسمح لأحد أن يتناول واحدًا منهم بمقالة سوء
فازدادت منزلة العلماء سموًّا، وأصبحوا محل ثقة جمهور المسلمين وتقديرهم، واستطاع نور الدين أن يستغل بذكاء مواهب العلماء البارزين في عصره، ويستعين بهم في دعم المذهب السني. كما كان مهتما بإنشاء القلاع والحصون وإعداد الجيوش والحشد العسكري الكبير، وقد ألف كتابا كاملا عن الجهاد في سبيل الله، وفي عهده عُرف الحمام الزاجل، فأنشأ له هيئة خاصة ليتناقل الرسائل بين مختلف أنحاء البلاد، وكانت لديه خطط سياسية وعسكرية على مستوى عال جدا.
فوق كل هذا، ومع أنه عاش في زمن حروب، إلا أنه لم يغفل جانب الإعمار في بلاده، فقام بإنشاء المدارس والمساجد والمستشفيات منها المستشفى النوري الذي بقي مشتغلا لمدة 800 سنة متصلة.
كان نور الدين مهتما بالرياضة، خاصة رياضة البولو، وهي عبارة عن لعبة بالكرة فوق الخيول، فلامه ذات مرة على ذلك بقولهم له كيف تلعب والبلاد الإسلامية محتلة، فأجابهم قائلا بأنه لا يلعب ولكنه يدرب الناس على الجهاد في سبيل الله، لكن النفوس تمل أحيانا ولا تحب الجهاد في سبيل الله في أرض المعارك، فأعلمها في ساحة الرياضة.
اهتمامه بالفقراء والمساكين:
عمل على كفالة الأيتام، وتزويج الأرامل و إغناء الفقراء وجعل أوقافا للمرضى والضعفاء والأيتام في حلب وفي سائر البلاد الإسلامية الأخرى، وحينما رأى بعض المقربين منه كثرة خروجه للجهاد وارتفاع التكاليف الباهظة لهذه الغزوات، قالوا له: "إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء، والفقراء، والصوفية، والقراء، وغيرهم، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح؛ فغضب من ذلك وقال: والله! إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم؛ كيف أقطع صلات قوم يدافعون عني، وأنا نائم على فراشي، بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني، بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحلُّ لي أن أعطيه غيرهم؟".
وفاته:
وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر فاجأته الحمى واشتد به المرض، حتى لقي الله في 11 من شوال سنة 569 للهجرة ،15 من مايو 1174م ، وهو في التاسعة والخمسين من عمره وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة وعظم المصيبة التي حلت بهم.
مع أنه مات على فراشه، إلا أنه يعرف في التاريخ الإسلامي بنور الدين محمود الشهيد، لشدة طلبه الشهادة، فأعطاه الله هذا اللقب مع أنه لم يمت في ميدان المعركة، فقد كان طالبا للشهادة في كل حياته. وانتهت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي فحقق ما كان أمنية في الصدور وخاطرا في العقول.
شكرا
العمده على