الأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي الحديث
لا شك أن ((الدعوة إلى تصحيح المفاهيم)) عمل كبير الأهمية في هذه المرحلة من حياة أمتنا وحياة فكرنا الإسلامي وثقافتنا العربية، وهو يتطلب منا إلقاء نظرة واسعة على الأخطاء الكثيرة التي تواترت في العصر الحديث ومن خلال كثير من الأبحاث والمؤلفات والكتب الدراسية المقررة والمناهج التعليمية المختلفة والتي حاول النفوذ الأجنبي والاستعمار الفكري فرضها ودعمها وتعميقها وصقلها وإعطاءها صورة الحقائق الأساسية التي لا تقبل الشك بينما هي زائفة ليس لها أصل علمي تعتمد عليه أو سند تاريخي يضمن الثقة بها.
ويمكن أن نقسم هذه الأخطاء أساساً إلى عدة أصول عامة:
(أخطاء تاريخية أصبحت حقائق)
(أولاً) وفي مقدمتها: حملات الاستعمار على افريقيا وآسيا التي توصف في الكتب المدرسية بأنها طلائع الكشوف الجغرافية: حيث تقول هذه الكتب ما يأتي:
((شهدت أوروبا في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر حركة اكتشافات جغرافية واسعة وقد وصل الأوروبيون إلى الهند بالدوران حول افريقيا الجنوبية)).
والواقع أن هذه ليست كشوفاً جغرافية ولكنها فتوحات استعمارية كانت بعيدة عن روح العلم وعن أسلوب الكشف وكانت المراحل الأولى للاستعمار قد حملت في مضمونها أساساً مفهوماً خطيراً هو العمل على تطويق عالم الإسلام من الخلف.
فالبرتغاليون لم يكتشفوا الهند ولم يكتشفوا افريقيا، أما الهند فكانت معروفة في أوروبا منذ العصور القديمة.
ولم يكن هنري الملاح وفاسكودي جاما والبوكرك مكتشفين علماء بقدر ما كانوا غزاة طامحين إلى الفتح والسيطرة يحملون في أعماق أنفسهم روح الكراهية والتعصب ضد المسلمين.
فقد كانت تصرفاتهم وأعمالهم في مختلف البلاد الإسلامية والمواني العربية التي نزلوا بها تدل على هذا الحد البالغ العنف.
وأن هذه الحملات انطلقت من الأندلس: إسبانيا والبرتغال بعد تحررها من النفوذ الإسلامي والعربي كرد فعل لذلك ورغبة في الانتقام والغزو.
ولذلك فإن من أخطاء كتبنا المدرسية والتاريخية المختلفة أنها تصوّر هنري الملاح عالماً ومكتشفاً أو تصور فاسكودي جاما على أنه رحالة مخلص للعلم، بينما كان الجدير بها أن تعرفه على حقيقته في رحلاته التي تحمل طابع العنف، ومن أمثلة ذلك ما فعل في رحلته الثانية إلى آسيا قبل وصوله إلى شواطئ الهند حيث اتّجه بمدافعه الثقيلة إلى المراكب الإسلامية التي تحمل الحجاج من مكة أحرقها وأغرقها بعد أن نقل أموال الحجاج وأمتعتهم إلى أسطوله وبعد أن حظر على رجاله إنقاذ الغرقى منهم وفيهم النساء والأطفال حتى هلكوا جميعاً.
وكل ما تورده الكتب العربية عن اكتشاف أوروبا لإفريقيا هو نوع من الخطأ المحض، فقد كان عبور المحيط الهندي من سواحل افريقيا الشرقية إلى آسيا معروفاً من البحارة العرب والهنود منذ قرون.
وينطبق هذا على ما وصفت به رحلة صمويل بيكر إلى منابع النيل واهتدائه إلى بحيرة البرت وأنه وصل إلى بلاد بِكْر لم تطأها قدم إنسان، فقد سبق صمويل بيكر إلى هذه المناطق كثير من مؤرخي العرب ورحّالتهم، وقد وصفوا قبائل النيل قبيلة قبيلة وشرحوا عاداتها وأخلاقها وقارنوا بين تواريخها ولغاتها.
فالاستكشاف لم يكن في الحق إلا طلائع الاستعمار ولم يكن له طابع علمي وإنما كان قائماً على العنف والتعصب، ولم يكن في الحق ارتياداً لأرض بكر بل كان مسبوقاً بكثير من الرحالة المسلمين والعرب.
(ثانياً) ومن هذه الأخطاء القول بأن النهضة في العالم العربي إنما كان مصدرها حملة نابوليون وأن العرب والمسلمين لم يستيقظوا من نومهم حتى أيقظهم الغرب.
وهو قول لا سند تاريخي ولا علمي له، فإن العالم الإسلامي والأمة العربية قد استيقظت قبل الحملة الفرنسية بأمدٍ طويل، هذه اليقظة التي بدأت في منتصف القرن الثامن عشر أو حوالي عام 1750م على التحديد حينما انبعثت صيحة الإمام محمد بن عبدالوهاب في قلب الجزيرة العربية بدعوة التوحيد، وما كان لها من أصداء في العالم الإسلامي كله.
وهذا يسبق وصول الحملة الفرنسية بأكثر من نصف قرن ويسبق وصول الارساليات التبشيرية بمئة عام على الأقل.
وقبل وصول الحملة الفرنسية كانت حركة العلماء في الأزهر قد وضعت أول وثيقة لحقوق الإنسان حينما أخذت العهد المكتوب على الأمراء المماليك بأن لا يظلموا الرعية ولا يفرضوا عليها أي ضرائب أو قيود.
(ثالثاً) ما يوصف بأنه ((الاحتلال التركي)) وذلك ما يذهب إليه كثير من المؤرخين والباحثين حين يصفون الرابطة التي كانت قائمة بين العرب والأتراك داخل نطاق الدولة العثمانية على أنه احتلال تركي أو استعمار تركي بينما هو لم يكن كذلك في الحقيقة وأصدق ما يصوَّر به أنه اندماج بين العرب والعثمانيين في وحدة إسلامية شاملة بعد أن ضعُفت القوى العربية وقوي المماليك والسلاجقة واتسع الخطر الأوروبي مرة أخرى وحاول استئناف الحروب الصليبية مرة أخرى.
والمعروف أن العرب قبل قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية بعد أن ضعُفت قوى المماليك في مصر والبربر في المغرب وأصبحوا هدفاً لحملات صليبية جديدة، وقد وجدوا في العثمانيين منتعشاً جديداً للإسلام وقوة شابة بدوية مقاتلة، رفعت راية الإسلام عالية خفاقة وأعادت ذكرى الابطال الأوائل في سبيل إعزاز الإسلام ونشره.
كما رحب العرب في مصر والشام بالوحدة الإسلامية العثمانية بعد أن نقموا على دولة المماليك إهمالها شأنهم في المرحلة الأخيرة فحاربوا في صفوف العثمانيين، والواقع أنه لم يكن في هذه المرحلة خلاف جذري بين العرب والترك، فقد كان الطابع الإسلامي هو الوحدة الأساسية بين العناصر المختلفة والوحدات المنظمة تحت لواء الوحدة الإسلامية الكبرى، ومن الحق أن يقال إن العثمانيين قد قاموا في المرحلة الأولى بتمثيل مفهوم الإسلام في نطاق الحكم وتحركوا من خلال إطاره. ويشير المؤرخون بأن العثمانيين قد اقتفوا أثر الخلفاء في العدل والتسامح وتمثلوا أعمالهم، واتخذوهم قدوة وعملوا على جمع القلوب إليهم بتقدير العلماء والأتقياء وإنشاء الجوامع والمدارس.
ومن هنا كان القول بأن الرابطة بين العرب والترك كانت استعمارية إنما هو من الألفاظ المدخولة التي فرضها الغزو الفكري والتغريب، أما ما كان من الخلاف بين الترك والعرب بعد تنحي السلطان عبدالحميد وفي ظل حكم الاتحاديين فذلك أمر آخر له عوامله وجرائره ويحتاج إلى دراسة خاصة.
(رابعاً) ((العصور الوسطى))
عبارة تتردد على الألسنة في محاولة تصوير العصر الإسلامي الزاهي بأنه هو من العصور الوسطى المظلمة. ومن الحق أن يقال أن العصور الوسطى تاريخياً إنما هي الفترة الواقعة بين سقوط روما في القرن الرابع المسيحي وبين عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، هذه الفترة يطلق عليها الأوروبيون: فترة العصور الوسطى المظلمة، حيث سادت أوروبا مرحلة من أسوأ مراحل الضعف والتأخر، ولكن هذه الفترة بالذات ومنذ القرن السادس الميلادي في العالم الإسلامي هي فجر الإسلام، وامتدادها هو امتداد الحضارة الإسلامية وقيام الدولة الإسلامية التي وصلت إلى حدود الصين شرقاً وحدود فرنسا غرباً والتي قامت خلال هذه المرحلة الطويلة بدور ضخم في التنوير والعدل شمل هذه المنطقة الكبرى من العالم وبلغ أوروبا نفسها، هذه المرحلة كانت بالنسبة للمشرق والعالم الإسلامي مرحلة ضياء وقوة وحضارة، ولذلك فإن إطلاق كلمة العصور الوسطى إنما هو إطلاق ظالم. فالعصور الوسطى المظلمة إنما كانت كذلك بالنسبة للغرب وحده. ولكنها كانت مضيئة مشرقة بالنسبة للهند والفرس والعرب ومصر والمغرب كله والأندلس أيضاً.
(خامساً) ((رجال الدين))
كلمة غربية مستوردة يُحاول الكُتّاب والمفكرون أن يطلقوها على العلماء المتخصصين في دراسات العقائد والفقه والشريعة والتفسير. والذين تكون دراستهم في الأغلب مستمدةً من المعاهد الإسلامية الخالصة: كالأزهر والزيتونة والقرويين وغيرهم، والواقع أن الإسلام لا يعرف طبقة معينة يمكن أن تسمى رجال الدين، لها نظام خاص أو حقوق معينة أو نفوذ من أي نوع، ولكنْ هناك علماء متخصصون في الدراسات الإسلامية والدينية.
(سادساً) ((انتاج مرحلة الضعف والتخلف))
إن فترة ضعف العالم الإسلامي هي السابقة لمرحلة اليقظة الحديثة وما ظهر منها من إنتاج وآثار غلب عليها طابع الجمود والتقليد لا يمكن أن يمثل بحال جوهر الفكر الإسلامي أو يُتخذ سنداً لرمي الإسلام وفكره بالقصور والتخلف وخاصة فيما يتعلق بالجبرية التي سادت مفهوم الصوفية أو دخول عناصر الفلسفات القديمة الهندية والفارسية والمجوسية تحمل مفاهيم لا تتفق مع جوهر التوحيد كوحدة الوجود والحلول والاتحاد، والمفروض أن يحاكم الفكر الإسلامي إلى أصوله الأولى وإلى إنتاج أعلامه الروّاد ولا يحاكم إلى إنتاج فترة الضعف والجمود، فالفكر الإسلامي في جوهره الأصيل ما زال مضيئاً إيجابياً مؤثراً معطياً للأمم المختلفة والعصور المتعددة دفعات التقدم والبناء والحيوية.
(سابعاً) ((تأخر العرب والمسلمين مصدره الإسلام))
هذه دعوى يرددها النفوذ الاستعماري وأتباعه من دعاة التغريب والشعوبية وتلقى آذاناً صاغية، ولكنها حين تُعرض على منهاج العلم والتاريخ يبدو زيفها واضحاً وضوحاً لا لبس فيه، ومن الحق أن يقال إن تأخر العرب والمسلمين إنما يرجع أساساً إلى الانحراف عن مفهوم الإسلام، فلو أن العالم الإسلامي ظل مرتبطاً بمقومات الإسلام وقيمه الأساسية لم ينحرف عنها لما وقع في هذه الأزمة. والواقع أنَّ تخلّف المسلمين هذا عن مقومات فكرهم من القوة واليقظة والوحدة هو الذي مكّن الغرب من احتلالهم، وهم في هذه المرحلة لم يكونوا يمثِّلون الإسلام، وكان الإسلام محجوباً بهم، والقول بأن تأخر المسلمين مصدره الإسلام مردود بتجربة التاريخ، فقد أقام الإسلام حضارةً ضخمةً في ظل عقيدته ومفاهيمه واستطاع أن يقدّم للإنسانية نموذجاً فذًّا من التقاء العلم بروح الدين، كما أهدى الإنسانية المنهج العلمي التجريبي الذي قامت على أساسه الحضارةُ الحديثةُ.
وبعد، فإن القضية الكبرى في مجال الأخطاء الشائعة هي قضية ((الفكر الإسلامي)) نفسه ومقوماته وأسسه وما وجّه إليها من شبهات وما جرى حولها من محاولات التشكيك والخلط.
ويمكن أن نقسم هذه الأخطاء أساساً إلى عدة أصول عامة:
(أخطاء تاريخية أصبحت حقائق)
(أولاً) وفي مقدمتها: حملات الاستعمار على افريقيا وآسيا التي توصف في الكتب المدرسية بأنها طلائع الكشوف الجغرافية: حيث تقول هذه الكتب ما يأتي:
((شهدت أوروبا في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر حركة اكتشافات جغرافية واسعة وقد وصل الأوروبيون إلى الهند بالدوران حول افريقيا الجنوبية)).
والواقع أن هذه ليست كشوفاً جغرافية ولكنها فتوحات استعمارية كانت بعيدة عن روح العلم وعن أسلوب الكشف وكانت المراحل الأولى للاستعمار قد حملت في مضمونها أساساً مفهوماً خطيراً هو العمل على تطويق عالم الإسلام من الخلف.
فالبرتغاليون لم يكتشفوا الهند ولم يكتشفوا افريقيا، أما الهند فكانت معروفة في أوروبا منذ العصور القديمة.
ولم يكن هنري الملاح وفاسكودي جاما والبوكرك مكتشفين علماء بقدر ما كانوا غزاة طامحين إلى الفتح والسيطرة يحملون في أعماق أنفسهم روح الكراهية والتعصب ضد المسلمين.
فقد كانت تصرفاتهم وأعمالهم في مختلف البلاد الإسلامية والمواني العربية التي نزلوا بها تدل على هذا الحد البالغ العنف.
وأن هذه الحملات انطلقت من الأندلس: إسبانيا والبرتغال بعد تحررها من النفوذ الإسلامي والعربي كرد فعل لذلك ورغبة في الانتقام والغزو.
ولذلك فإن من أخطاء كتبنا المدرسية والتاريخية المختلفة أنها تصوّر هنري الملاح عالماً ومكتشفاً أو تصور فاسكودي جاما على أنه رحالة مخلص للعلم، بينما كان الجدير بها أن تعرفه على حقيقته في رحلاته التي تحمل طابع العنف، ومن أمثلة ذلك ما فعل في رحلته الثانية إلى آسيا قبل وصوله إلى شواطئ الهند حيث اتّجه بمدافعه الثقيلة إلى المراكب الإسلامية التي تحمل الحجاج من مكة أحرقها وأغرقها بعد أن نقل أموال الحجاج وأمتعتهم إلى أسطوله وبعد أن حظر على رجاله إنقاذ الغرقى منهم وفيهم النساء والأطفال حتى هلكوا جميعاً.
وكل ما تورده الكتب العربية عن اكتشاف أوروبا لإفريقيا هو نوع من الخطأ المحض، فقد كان عبور المحيط الهندي من سواحل افريقيا الشرقية إلى آسيا معروفاً من البحارة العرب والهنود منذ قرون.
وينطبق هذا على ما وصفت به رحلة صمويل بيكر إلى منابع النيل واهتدائه إلى بحيرة البرت وأنه وصل إلى بلاد بِكْر لم تطأها قدم إنسان، فقد سبق صمويل بيكر إلى هذه المناطق كثير من مؤرخي العرب ورحّالتهم، وقد وصفوا قبائل النيل قبيلة قبيلة وشرحوا عاداتها وأخلاقها وقارنوا بين تواريخها ولغاتها.
فالاستكشاف لم يكن في الحق إلا طلائع الاستعمار ولم يكن له طابع علمي وإنما كان قائماً على العنف والتعصب، ولم يكن في الحق ارتياداً لأرض بكر بل كان مسبوقاً بكثير من الرحالة المسلمين والعرب.
(ثانياً) ومن هذه الأخطاء القول بأن النهضة في العالم العربي إنما كان مصدرها حملة نابوليون وأن العرب والمسلمين لم يستيقظوا من نومهم حتى أيقظهم الغرب.
وهو قول لا سند تاريخي ولا علمي له، فإن العالم الإسلامي والأمة العربية قد استيقظت قبل الحملة الفرنسية بأمدٍ طويل، هذه اليقظة التي بدأت في منتصف القرن الثامن عشر أو حوالي عام 1750م على التحديد حينما انبعثت صيحة الإمام محمد بن عبدالوهاب في قلب الجزيرة العربية بدعوة التوحيد، وما كان لها من أصداء في العالم الإسلامي كله.
وهذا يسبق وصول الحملة الفرنسية بأكثر من نصف قرن ويسبق وصول الارساليات التبشيرية بمئة عام على الأقل.
وقبل وصول الحملة الفرنسية كانت حركة العلماء في الأزهر قد وضعت أول وثيقة لحقوق الإنسان حينما أخذت العهد المكتوب على الأمراء المماليك بأن لا يظلموا الرعية ولا يفرضوا عليها أي ضرائب أو قيود.
(ثالثاً) ما يوصف بأنه ((الاحتلال التركي)) وذلك ما يذهب إليه كثير من المؤرخين والباحثين حين يصفون الرابطة التي كانت قائمة بين العرب والأتراك داخل نطاق الدولة العثمانية على أنه احتلال تركي أو استعمار تركي بينما هو لم يكن كذلك في الحقيقة وأصدق ما يصوَّر به أنه اندماج بين العرب والعثمانيين في وحدة إسلامية شاملة بعد أن ضعُفت القوى العربية وقوي المماليك والسلاجقة واتسع الخطر الأوروبي مرة أخرى وحاول استئناف الحروب الصليبية مرة أخرى.
والمعروف أن العرب قبل قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية بعد أن ضعُفت قوى المماليك في مصر والبربر في المغرب وأصبحوا هدفاً لحملات صليبية جديدة، وقد وجدوا في العثمانيين منتعشاً جديداً للإسلام وقوة شابة بدوية مقاتلة، رفعت راية الإسلام عالية خفاقة وأعادت ذكرى الابطال الأوائل في سبيل إعزاز الإسلام ونشره.
كما رحب العرب في مصر والشام بالوحدة الإسلامية العثمانية بعد أن نقموا على دولة المماليك إهمالها شأنهم في المرحلة الأخيرة فحاربوا في صفوف العثمانيين، والواقع أنه لم يكن في هذه المرحلة خلاف جذري بين العرب والترك، فقد كان الطابع الإسلامي هو الوحدة الأساسية بين العناصر المختلفة والوحدات المنظمة تحت لواء الوحدة الإسلامية الكبرى، ومن الحق أن يقال إن العثمانيين قد قاموا في المرحلة الأولى بتمثيل مفهوم الإسلام في نطاق الحكم وتحركوا من خلال إطاره. ويشير المؤرخون بأن العثمانيين قد اقتفوا أثر الخلفاء في العدل والتسامح وتمثلوا أعمالهم، واتخذوهم قدوة وعملوا على جمع القلوب إليهم بتقدير العلماء والأتقياء وإنشاء الجوامع والمدارس.
ومن هنا كان القول بأن الرابطة بين العرب والترك كانت استعمارية إنما هو من الألفاظ المدخولة التي فرضها الغزو الفكري والتغريب، أما ما كان من الخلاف بين الترك والعرب بعد تنحي السلطان عبدالحميد وفي ظل حكم الاتحاديين فذلك أمر آخر له عوامله وجرائره ويحتاج إلى دراسة خاصة.
(رابعاً) ((العصور الوسطى))
عبارة تتردد على الألسنة في محاولة تصوير العصر الإسلامي الزاهي بأنه هو من العصور الوسطى المظلمة. ومن الحق أن يقال أن العصور الوسطى تاريخياً إنما هي الفترة الواقعة بين سقوط روما في القرن الرابع المسيحي وبين عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، هذه الفترة يطلق عليها الأوروبيون: فترة العصور الوسطى المظلمة، حيث سادت أوروبا مرحلة من أسوأ مراحل الضعف والتأخر، ولكن هذه الفترة بالذات ومنذ القرن السادس الميلادي في العالم الإسلامي هي فجر الإسلام، وامتدادها هو امتداد الحضارة الإسلامية وقيام الدولة الإسلامية التي وصلت إلى حدود الصين شرقاً وحدود فرنسا غرباً والتي قامت خلال هذه المرحلة الطويلة بدور ضخم في التنوير والعدل شمل هذه المنطقة الكبرى من العالم وبلغ أوروبا نفسها، هذه المرحلة كانت بالنسبة للمشرق والعالم الإسلامي مرحلة ضياء وقوة وحضارة، ولذلك فإن إطلاق كلمة العصور الوسطى إنما هو إطلاق ظالم. فالعصور الوسطى المظلمة إنما كانت كذلك بالنسبة للغرب وحده. ولكنها كانت مضيئة مشرقة بالنسبة للهند والفرس والعرب ومصر والمغرب كله والأندلس أيضاً.
(خامساً) ((رجال الدين))
كلمة غربية مستوردة يُحاول الكُتّاب والمفكرون أن يطلقوها على العلماء المتخصصين في دراسات العقائد والفقه والشريعة والتفسير. والذين تكون دراستهم في الأغلب مستمدةً من المعاهد الإسلامية الخالصة: كالأزهر والزيتونة والقرويين وغيرهم، والواقع أن الإسلام لا يعرف طبقة معينة يمكن أن تسمى رجال الدين، لها نظام خاص أو حقوق معينة أو نفوذ من أي نوع، ولكنْ هناك علماء متخصصون في الدراسات الإسلامية والدينية.
(سادساً) ((انتاج مرحلة الضعف والتخلف))
إن فترة ضعف العالم الإسلامي هي السابقة لمرحلة اليقظة الحديثة وما ظهر منها من إنتاج وآثار غلب عليها طابع الجمود والتقليد لا يمكن أن يمثل بحال جوهر الفكر الإسلامي أو يُتخذ سنداً لرمي الإسلام وفكره بالقصور والتخلف وخاصة فيما يتعلق بالجبرية التي سادت مفهوم الصوفية أو دخول عناصر الفلسفات القديمة الهندية والفارسية والمجوسية تحمل مفاهيم لا تتفق مع جوهر التوحيد كوحدة الوجود والحلول والاتحاد، والمفروض أن يحاكم الفكر الإسلامي إلى أصوله الأولى وإلى إنتاج أعلامه الروّاد ولا يحاكم إلى إنتاج فترة الضعف والجمود، فالفكر الإسلامي في جوهره الأصيل ما زال مضيئاً إيجابياً مؤثراً معطياً للأمم المختلفة والعصور المتعددة دفعات التقدم والبناء والحيوية.
(سابعاً) ((تأخر العرب والمسلمين مصدره الإسلام))
هذه دعوى يرددها النفوذ الاستعماري وأتباعه من دعاة التغريب والشعوبية وتلقى آذاناً صاغية، ولكنها حين تُعرض على منهاج العلم والتاريخ يبدو زيفها واضحاً وضوحاً لا لبس فيه، ومن الحق أن يقال إن تأخر العرب والمسلمين إنما يرجع أساساً إلى الانحراف عن مفهوم الإسلام، فلو أن العالم الإسلامي ظل مرتبطاً بمقومات الإسلام وقيمه الأساسية لم ينحرف عنها لما وقع في هذه الأزمة. والواقع أنَّ تخلّف المسلمين هذا عن مقومات فكرهم من القوة واليقظة والوحدة هو الذي مكّن الغرب من احتلالهم، وهم في هذه المرحلة لم يكونوا يمثِّلون الإسلام، وكان الإسلام محجوباً بهم، والقول بأن تأخر المسلمين مصدره الإسلام مردود بتجربة التاريخ، فقد أقام الإسلام حضارةً ضخمةً في ظل عقيدته ومفاهيمه واستطاع أن يقدّم للإنسانية نموذجاً فذًّا من التقاء العلم بروح الدين، كما أهدى الإنسانية المنهج العلمي التجريبي الذي قامت على أساسه الحضارةُ الحديثةُ.
وبعد، فإن القضية الكبرى في مجال الأخطاء الشائعة هي قضية ((الفكر الإسلامي)) نفسه ومقوماته وأسسه وما وجّه إليها من شبهات وما جرى حولها من محاولات التشكيك والخلط.