هكدا مصر والمصرييين..............
مصر وأهميتها للأمة الإسلامية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين؛ فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس: إن أعظم معجزة قدمها الإسلام للعالم، أن جمع بين هذه الشعوب المسلمة تحت مظلة إياك نعبد وإياك نستعين، وإن أعظم نفع قدمه عليه الصلاة والسلام للدنيا؛ أن آخى بين القلوب وألف بين الأرواح، قال تعالى: "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" الأنفال:63.
وقد ينسى بعض السفهاء هذا التأليف، وهذا الإخاء؛ لجهلهم بهذا الدين العظيم.
نما إلى علمي أن أخاً مصرياً يشكو من الجفاء والاستخفاف من بعض الناس، وشافهني بعضهم بهذا؛ فقلت: لا بد أن أؤدب بعض السفهاء، وأن أقلم أظفارهم، وأن أخبرهم ما هي مصر؟ وماذا تعني مصر؟ ومن هم المصريون؟ وماذا يعني وادي النيل؟
من أين أبدأ يا مصر؟ وكيف أتحدث؟ وبأي لسان أنطق؟
إنني سوف أدخل التاريخ من أوسع أبوابه إذا ذكرت مصر.
وإن الدنيا سوف تصفق لي ويصدقني الدهر إذا ذكرت مصر.
مصر المسلمة التي شكرت ربها، وسجدت لمولاها.
مصر التي قدمت قلوبها طاعة لربها، وجرت دماؤها بمحبه نبيها عليه الصلاة والسلام.
إن لك يا مصر في عالم البطولة قصة، وفي دنيا التضحيات مكان، وفي مسار العبقريات كرسي لا ينسى.
دخلت مصر في الإسلام طوعاً، ودخل الإسلام قلب مصر حباً، وأحب المصريون ربهم تبارك وتعالى فذادوا عن دينه، وحموا شرعه، ونشروا منهجه، وأحب المصريون محمداً عليه الصلاة والسلام كأشد ما يحب التلاميذ شيخهم، والطلاب أستاذهم، والأبطال قائدهم.
معذرةً يا مصر! إن بعض السفهاء لا يعرفون هذه الوحدة التي ألفها محمد عليه الصلاة والسلام؛ إنهم لم يدخلوا جامعته الكبرى التي جعل أعضاءها كل خير في الدهر، وكل إنسان في المعمورة.
معذرة يا مصر .. يا أرض الأزهر الوضاء.. ويا أرض البطولة والفداء.. ويا أرض العبقرية والأذكياء!
أنا أعلم أن في الشعوب فسقة ومجرمين، وأنهم لا يستحقون الثناء -ولا أستثني شعباً- ولكن تبقى الكثرة الكاثرة من المؤمنين المصلين العابدين المضحين الطاهرين؛ فحق عليَّ -على منبر محمد عليه الصلاة والسلام- أن أشكر أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها.. هنا وهناك، اليوم وغداً وأمس.
أي جامعة في الدنيا تحمل ثقافةً ليس فيها مصر؟ وأي مؤسسه علمية في المعمورة ليس فيها مصر؟ وأي مسار ثقافي لم يشارك فيه المصريون بعقولهم وأبصارهم وبصائرهم؟ فقد أنزلت سفينة الفضاء الأمريكية على سطح القمر بقدرة الواحد الأحد ثم بعقل مصري.
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن لأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون كفعلهم وإن حاولوا في النائبات وأجملوا
إنني لا أنتظر شكراً من أحد إلا من الله على هذا الكلام؛ ولكني أريد أن أرد على بعض الأقوام الذين أصابتهم لوثة الوطنية والعرق، والبلد، واللغة المزعومة، والقومية المفترية.
موقف مصر في عام الرمادة
أصاب المسلمين في عهد عمر رضي الله عنه قحطٌ أكل الأخضر واليابس (عام الرمادة) وقال عمر : "والله لا آكل سمناً ولا سميناً حتى يكشف الله الغمة عن المسلمين" وبقى مهموماً هماً يتأوه منه ليلاً ونهاراً، نزل الأعراب حوله في العاصمة الإسلامية المدينة المنورة بخيامهم، كان يبكي على المنبر عام الرمادة، وينظر إلى الأطفال وهم يتضورون جوعاً أمامه، وود أن جسمه خبزاً يقدمه للأطفال.
وأخذ يقول: "يا ليت أم عمر لم تلد عمر .. يا ليتني ما عرفت الحياة.. آه يا عمر كم قتلت من أطفال المسلمين" لأنه يرى أنه هو المسؤول الأول عن الأكباد الحرَّى، والبطون الجائعة، وفي الأخير تذكر عمر أن له في مصر إخواناً في الله، وأن مصر بلداً معطاءً، سوف يدفع الغالي والرخيص لإنقاذ العاصمة الإسلامية، وكان والي مصر عمرو بن العاص الداهية العملاق، كتب له عمر رسالة، وهذا نصها:"بسم الله الرحمن الرحيم، من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى عمرو بن العاص
أمَّا بَعْـد: فوا غوثاه... وا غوثاه... والسلام"
وأخذها عمرو بن العاص، وجمع المصريين ليقرأ الرسالة المحترقة الملتهبة الباكية المؤثرة أمامهم؛ ولما قرأها عمرو؛ أجاب عمر على الهواء مباشرة، وقال: "لا جرم! والله لأرسلن لك قافلة من الطعام أولها عندك في المدينة وآخرها عندي في مصر".
وجاد المصريون بأموالهم كما يجود الصادقون مع ربهم، وبذلوا الطعام، وحملوا الجمال وذهبت القافلة تزحف كالسيل، وتسير كالليل، تحمل النماء والحياة والخير والزرق والعطاء لعاصمة الإسلام.
ودعا لهم عمر، وحفظها التاريخ لهم حفظاً لا ينساه أبد الدهر.
جهاد مصر للتتار
دخل التتار العالم الإسلامي فدمروه.. هدموا المساجد، ومزقوا المصاحف، وذبحوا الشيوخ، وقتلوا الأطفال، وعبثوا بالأعراض، بل دمروا عاصمة الدنيا بغداد، وزحفوا إلى مصر ليحتلوها، وخرج المصريون وراء الملك المسلم قطز الذي يحمل لافتة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكانت عين جالوت.
والذي حث الناس على الجهاد هو العالم سلطان العلماء العز بن عبد السلام.
والتقى التتار الأمة البربرية البشعة، التي لم يعلم في تاريخ الإنسان أمة أشرس ولا أقوى ولا أشجع منها، التقوا بالمسلمين المصريين؛ بجيل محمد عليه الصلاة والسلام، ولما حضرت المعركة والتقى الجمعان، قام قطز فألقى لأمته من على رأسه، وأخذ يهتف في المعركة: وا إسلاماه… وا إسلاماه… وا إسلاماه…
فقدموا المهج رخيصة، وسكبوا الدماء هادرة معطاءة طاهرة، وانتصر الإسلام وسحق التتار، ومنيوا بهزيمة لم يسمع بمثلها في التاريخ.
إنها بطولات أريد منها أن أصل إلى كلمة واحدة؛ أن أقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء: أسأت؛ وأن أُعلم الجهلة التاريخ، وألا ينشئوا مرة ثانية على عرق جاهلي جنسي لا يتصل بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
مصر والعدوان الثلاثي
أتى العدوان الثلاثي الغاشم يريد اجتياح مصر، وخرج المؤمنون بعقيدتهم وتوحيدهم يدافعون الدول الثلاث، خرجوا يهتفون مع صباح مصر:
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا
أنتركهم يغصبون العروبة أرض الأبوة والسؤددا
فجرد حسامك من غمده فليس له اليوم أن يغمدا
وسحقوا العدوان الثلاثي، واندحر العميل الغادر الغاشم بنصر الله ثم بضربات المؤمنين، وكلكم يعلم أن العالم الإسلامي حارب إسرائيل ما يقارب أربعين سنة، فكانت مصر أكثر الأمة جراحاً، وأعظمها تضحيةً، وأكبرها إنفاقاً، وأجلها مصيبةً.. قدمت آلاف وملايين الأبناء البررة المؤمنين، والدماء، والآراء.
ولـمصر في قلب الزمان رسالة مكتوبة يصغي لها الأحياء.
من مصر تبدأ قصة في طيها تروي الحوادث والعلا سيناء.
ولـمصر آيات الوفاء ندية أبناؤها الأصداء والأنداء
هي مصر إن أنشدتها متشوقاً طرب الزمان وغنت الورقاء
ما مصر إلا الفجر والدمع السخي وإنها سر المحبة حاؤها والباء
د/ عائض القرنى