سيــــدي المعلـــــــــم..
قصــــــــــــــــــة قصـــــــــيرةسيدي المعلــــــــــــــــــم
الإهــــــــــــــــــداء ...
إلى الصديــــــق الكريم جمـال ...
مني إليك التحيات القلبية ....
كنت أود لو ان حروفي إليك كانت مددا لا مدادا ...
لكن قد يشفع لي عندكم صدق الشعور ...
..تحت شجرة بالقرب من المحطة قبالة المقهى ...جلس وحيدا .. صوب نظره إلى الأرض وكأنه يبحث عن شيء ضاع منه ..كان هذا الوقت عصرا ..السماء ملبدة بالغيوم ..الأرض مبللة بالرذاذ.. نظر يمينا وشمالا ثم مشى متثاقلا وكأن قدميه مكبلتين بالأغلال ..يبدو انه لا يعرف أين يذهب ؟ ومـاذا يريد ؟ هاهو يتكئ على سياج يحيط بالمباني .. يفتش بعينيه وسط المارة عن صديق له لم يره منذ مدة طويلة ..يراقب ساعته بين الفينة والأخرى..تبدو على وجهه ملامح القلق وتوتر الأعصاب ، بسرعة خاطفة يقترب من سيارة أجرة يسأل صاحبها عن الإتجاه الذي يأخذه ، يركب ويبتعد عن المدينة ، لقد قرر أن يقضي ليلته هذه عند احد الأقارب ، كان الرجل معلما ولقد أصابه ما أصاب القوم في هذا الزمن القاسي زوجته وأبناءه في مدينة بعيدة وهو يعمل هنا ويتسول المبيت ، إيه ..ما أكثر متسولو المبيت هذه الأيام ..يصل إلى بيت قريبه بعد غروب الشمس بقليل ، بعد العشاء استلقى على وسادة يستمع إلى دقات المطر على سقف البيت ..أطلق العنان لخياله ..دون أن يغمض له جفن في هذه الليلة إلا قليلا ..تزداد عيناه اتساعا في تلك الظلمة ، ويزداد قلبه خفقانا ..إنه بجسده هنا بين المطايا ولكنه يجول بقلبه وروحه بين الأزقة ،يتقابل مع الناس ، يفرح مع هذا ويحزن مع ذاك ..يشتري لأولاده اللعب والهدايا ولزوجته الفستان ويتفاوض مع الباعة وتزداد فرحته حين يرجع إلى أولاده وزوجته بما يحتاجونه من هدايا وضرورات المعيشة ، فتزداد دقات قلبه خفقانا ويضحك حتى يسمع صوته ، يتقلب في فراشه مستغفرا الله ..لقد نسي السيد المعلم انه لم يتقاضى راتبه منذ أربعة أشهر ...ماأطول هذا الليل وما أقسى اليوم القادم ..
يغالبه الكرى فينام ..يصحو على دقات باب الغرفة إنه مضيفه ..صباح الخير ياصاحبي ان الوقت قد حان لتهيء نفسك للذهاب للعمل ،لأن المسافة بعيدة ..لقد كانت بشائر الفجر ترسل خيوطها في الأفق .. بعدها تهيأصاحبنا ، وكان إبريق القهوة حاضرا ،
تناول فطور الصباح مع قريبه ..خرج لتوه من البيت شاكرا مضيفه ..الذي طلب منه الرجوع مساءا ..وقتها بدأت طلائع الأشباح البشرية في الحركة ...كانت الطريق خالية من المارة إلا من هم على شاكلته من متسولي المبيت ..يتبادلون التحية ..تلك رسالة الشعور المتبادل والهم الواحد..إنهم الكادحون في هذه الدنيا ..يمزق صمت الصباح صوت محرك سيارة قادمة ..عسى أن يكون صاحبها كادحا من الدرجة الثانية ...قبل الثامنة بقليل يصل سيدنا المعلم باب المدرسة ...يواجهه التلاميذ بسيل من التحية ، ويقابلهم بابتسامة ملؤها الحب والتفاؤل ..يحي زملاءه المعلمين ..ينظم صف تلاميذه ..يأمرهم بالإستعداد ...يدخلون واحدا تلو الآخر ..يجلسون ..يأمرهم المعلم بإخراج الأدوات ،
وبصوت عال مسموع يقول السيد المعلم : درسنا اليوم ، الأسرة وواجبات الأبناء تجاه الآباء..انتبهوا ياأبنائي ..ماهي واجبات الأبناء تجاه الآباء..؟يجيب أحدهم : واجب الأبناء هو طاعة الآباء ..يرد المعلم : أحسنت ..إجلس ويرتفع صوت التلاميذ ، ياسيدي المعلم ..عرفنا واجبات الأبناء ولم نعرف واجبات الآباء تجاه الأبناء ..؟
ياأبنائي ..إن من واجبات الآباء تجاه أبنائهم ..حسن تسميتهم ..وتربيتهم ورعايتهم في المأكل والملبس وكل مايحتاجونه من الضروريات..التلاميذ يلفهم سكون وهم يصغون إلى معلمهم وكأن على رؤوسهم الطير ..لقد كان يلقي عليهم الدرس بكثير من الصدق والتأثر ،فاستقبلوه بانتباه كبير واستماع حسن ...
إن نظرات السيد المعلم اليوم كانت تحمل معاني الشفقة لأولئك الصغار ، وكانوا عزاءه في أولاده الذين لم يستطع أن يجد لهم بيتا يأويهم وقدرا من الدفء وكرم العيش ..ينطلق صوت من وسط القاعة ..سيدي المعلم ..ليس لي قلم ..يرد المعلم أين قلمك.؟ ياسيدي المعلم ..لم يستطع ابي أن يشتري لي قلما ..فهو لا يعمل منذ مدة طويلة ..يابني خذ قلمي واجتهد أكثر وستكون لك مني جائزة إذا اجتهدت وتحصلت على المرتبة الأولى في هذا الفصل ...ينتقل المعلم من درس إلى درس ومن طفل إلى طفل ..
مرغبا لهذا ..منبها لذاك..ماسحا رأس هذه ..حتى كان المساء ..
وينتهي يوم العمل للسيد المعلم..تبدأ رحلة جديدة ، متراكمة أكدارها ..وعرة مسالكها ..يودع تلاميذه ..ينطلق بخطى مسرعة ..فكره مشغول بحال أسرته البعيدة..سيرجع للمبيت هذه الليلة عند قريبه ..ودائما يمني نفسه بالقول ...عسى الغد أن يأتي بجديـــــــــــــــــد .....
ــــ النـــــــهاية ..ـــ
نشرت في جريدة العالم السياسي بتاريخ :
01 / 03 / 1998