العذاب ليس له طبقة
للدكتور مصطفى محمود
العذاب ليس له طبقة
الذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى لأنه لا يجد الماء الصالح للشرب .
و ساكن الزمالك الذي يجد الماء و النور و السخان و التكييف و التليفون و التليفيزيون
لو استمعت إليه لوجدته يشكو مر الشكوى هو الآخر من سوء الهضم و السكر و الضغط
و المليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به ، يشكو الكآبة و الخوف من الأماكن المغلقة و الوسواس و الأرق و القلق .
و الذي أعطاه الله الصحة و المال و الزوجة الجميلة يشك في زوجته الجميلة و لا يعرف طعم الراحة .
و الرجل الناجح المشهور النجم الذي حالفه الحظ في كل شيء
و انتصر في كل معركة لم يستطع أن ينتصر على ضعفه و خضوعه للمخدر
فأدمن الكوكايين و انتهى إلى الدمار .
و الملك الذي يملك الأقدار و المصائر و الرقاب تراه عبدا لشهوته خادما لأطماعه ذليلا لنزواته .
و بطل المصارعة أصابه تضخم في القلب نتيجة تضخم في العضلات .
كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعد الفوارق.
و برغم غنى الأغنياء و فقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة و الشقاء الدنيوي متقارب .
فالله يأخذ بقدر ما يعطي و يعوض بقدر ما يحرم و ييسر بقدر ما يعسر ..
و لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه و لرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلال الموازين الظاهرية .. و لما شعر بحسد و لا بحقد و لا بزهو و لا بغرور .
إنما هذه القصور و الجواهر و الحلي و اللآلئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب .. و في داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات و الآهات الملتاعة .
و الحاسدون و الحاقدون و المغترون و الفرحون مخدوعون في الظواهر غافلون عن الحقائق .
و لو أدرك السارق هذا الإدراك لما سرق و لو أدركه القاتل لما قتل و لو عرفه الكذاب لما كذب .
و لو علمناه حق العلم لطلبنا الدنيا بعزة الأنفس و لسعينا في العيش بالضمير و لتعاشرنا بالفضيلة
فلا غالب في الدنيا و لا مغلوب في الحقيقة
و الحظوظ كما قلنا متقاربة في باطن الأمر
و محصولنا من الشقاء و السعادة متقارب برغم الفوارق الظاهرة بين الطبقات ..
فالعذاب ليس له طبقة و إنما هو قاسم مشترك بين الكل ..
يتجرع منه كل واحد كأسا وافية ثم في النهاية تتساوى الكؤوس برغم اختلاف المناظر و تباين الدرجات و الهيئات
و ليس اختلاف نفوسنا هو اختلاف سعادة و شقاء و إنما اختلاف مواقف ..
فهناك نفس تعلو على شقائها و تتجاوزه و ترى فيه الحكمة و العبرة
و تلك نفوس مستنيرة ترى العدل و الجمال في كل شيء و تحب الخالق في كل أفعاله ..
و هناك نفوس تمضغ شقاءها و تجتره و تحوله إلى حقد أسود و حسد أكال ..
و تلك هي النفوس المظلمة الكافرة بخالقها المتمردة على أفعاله .
و كل نفس تمهد بموقفها لمصيرها النهائي في العالم الآخر ..
حيث يكون الشقاء الحقيقي ..
أو السعادة الحقيقية ..
فأهل الرضا إلى النعيم و أهل الحقد إلى الجحيم .
أما الدنيا فليس فيها نعيم و لا جحيم إلا بحكم الظاهر فقط
بينما في الحقيقة تتساوى الكؤوس التي يتجرعها الكل ..
و الكل في تعب .
و ليس بالشقاء و النعيم اختلفت و لا بالحظوظ المتفاوتة تفاضلت و لا بما يبدو على الوجوه من ضحك و بكاء تنوعت .
فذلك هو المسرح الظاهر الخادع .
و تلك هي لبسة الديكور و الثياب التنكرية التي يرتديها الأبطال حيث يبدو أحدنا ملكاو الآخر صعلوكا و حيث يتفاوت أمامنا المتخم و المحروم .
أما وراء الكواليس .
أما على مسرح القلوب .
أما في كوامن الأسرار و على مسرح الحق و الحقيقة ..
فلا يوجد ظالم و لا مظلوم و لا متخم و لا محروم ..
و إنما عدل مطلق و استحقاق نزيه يجري على سنن ثابتة لا تتخلف
حيث يمد الله يد السلوى الخفية يحنو بها على المحروم و ينير بها ضمائر العميان و يلاطف أهل المسكنة
و يؤنس الأيتام و المتوحدين في الخلوات و يعوض الصابرين حلاوة في قلوبهم ..
ثم يميل بيد القبض و الخفض فيطمس على بصائر المترفين و يوهن قلوب المتخمين و يؤرق عيون الظالمين و يرهل أبدان المسرفين ..
و تلك هي الرياح الخفية المنذرة التي تهب من الجحيم و النسمات المبشرة التي تأتي من الجنة ..
و المقدمات التي تسبق اليوم الموعود ..
يوم تنكشف الأستار و تهتك الحجب و تفترق المصائر إلى شقاء حق و إلى نعيم حق ..
يوم لا تنفع معذرة .. و لا تجدي تذكرة .
و أهل الحكمة في راحة لأنهم أدركوا هذا بعقولهم
و أهل الله في راحة لأنهم أسلموا إلى الله في ثقة و قبلوا ما يجريه عليهم
و رأوا في أفعاله عدلا مطلقا دون أن يتعبوا عقولهم فأراحو عقولهم أيضا ،
فجمعوا لأنفسهم بين الراحتين
راحة القلب و راحة العقل
فأثمرت الراحتان راحة ثالثة هي راحة البدن ..
بينما شقى أصحاب العقول بمجادلاتهم.
أما أهل الغفلة و هم الأغلبية الغالبة فمازالوا يقتل بعضهم بعضا من أجل اللقمة و المرأة و الدرهم و فدان الأرض ،
ثم لا يجمعون شيئا إلا مزيدا من الهموم و أحمالا من الخطايا و ظمأ لا يرتوي و جوعا لا يشبع.
فانظر من أي طائفة من هؤلاء أنت ..
و اغلق عليك بابك و ابك على خطيئتك .
--
-- منقووول