قصة مول البركي والسلطان لكحل
تقرير الاستاذ مصطفى المرتجي
nasri
أثارت قضية هجوم السلطان الأكحل[1] على زاوية مول البركي، الكثير من التأويل، وتناسلت حولها الخرافات، وحيكت الروايات، ولم يلف الغموض قضية أكثر من هذه القضية، وظلت كثير من الأسئلة معلقة بدون أجوبة. من قبيل: من هو السلطان الأكحل هذا الذي تتحدث عنه الأخبار؟ وما علاقته بمول البركي وبباقي الزوايا؟، في أي عصر وفترة تم هجومه على مول البركي؟ وهل هاجم زوايا أخرى غير زاوية مول البركي؟ و ما هي العوامل والأسباب الكامنة وراء هذا الهجوم، إذا كان قد تم فعلا هذا الهجوم؟ هذه الأسئلة، وكثير مثلها، لا يجد إجابة مقنعة في كتب التاريخ والسير و المغازي وكتب التصوف. ويبدو أن عمدة الأمر في هذه القضية ، هو الرواية الشفوية، التي غلفت جزءا كبيرا من تاريخ الأولياء في المغرب بصفة عامة، وفي عبدة بصفة خاصة.فقد اعتمدت جل الكتابات التاريخية في المغرب، قديمها وحديثها، في تدبيج تاريخ الأولياء، خصوصا مع ما أنيط بهم من كرامات، على الرواية الشفوية، غير أن هذه الأخيرة، رغم أهميتها في ردم الهوة الكبيرة التي يشكو منها تاريخ الأولياء، ليس لها من سند توثيقي أو مادي ، يعطيها قوة الحجية والمصداقية. فباستثناء التو اثر، المعروف في الرواية الشفوية، لا يمكن قبول حجية هذه الأخيرة أو الركون إلى حيثياتها، دون تمحصيها وتقليبها على كل الأوجه و الهيآت، وإلا فما سنصل إليه من أحكام، لا يعدو أن يكون ضرب أسداس في أخماس. وما يقال عن أولياء عبدة، يقال عن سيدي عبدالرحمن مول البركي، فقد بالغت الرواية ، وتناسل الأخبار، وسعة الخيال الشعبي على إضفاء مجموعة من الكرامات على هذا الولي. من جملة هذه الكرامات ، صده لجيش السلطان الأكحل، بالناموس والنحل، وتحول بابه من " القبلة إلى البحر"[2] على أثر هذا الهجوم. وقد حيكت حول هذه الحادثة الكثير من الروايات والأخبار، يتناقلها البعيد قبل القريب، ويذكرها حفدته ومريدوه وخدامه في حلهم و ترحالهم، ويستعملونها أثناء التبرك بهذا الولي الصالح، وأثناء الفاتحة والزيارة والدعاء لخدامه، ويروونها في كل المجاميع والاحتفالات الطقوسية والدينية. يروونها بطرق شتى، وبأساليب مختلفة، يغلفها الفخر والزهو بهذا الولي الذي قهر أكبر الجبابرة والطغاة، إلا أن لب القصة ، لا يضيع بين ثنايا هذه التفاصيل التي يفرضها الحكي، بل يظل هو عينه، أي قهر السلطان مول البركي للسلطان الأكحل. وتزعم بعض الروايات الأخرى، أن الأمر لا يتعلق بالسلطان الأكحل بل بيهودي هو الذي هاجم مول البركي، بينما تزعم أخرى بأن السلطان الأكحل هذا هو منصور بن يعقوب أخو للاشافية، إلا أننا لانعرف في تاريخ المغرب شخصية بهذا الاسم، أما للاشافية فقد حملت هذا الاسم أكثر من صالحة في المغرب، وتزعم هذا الرواية أن للاشافية اختطفها قوم من الشام ولحق بهم السلطان الأكحل ليستردها منهم. و بين أن في هذه الرواية كثير من الخلط والجهل بالتاريخ، وإنما هو الخيال الشعبي الذي يعمل في إطار الذاكرة الجماعية، وانطلاقا من الضمير الجمعي. وتعتبر هاتان الروايتان الأضعف في هذه القصة، بينما يبقى المتفق عليه عند أغلب الناس من حفدة مول البركي أو من غيرهم، رغم أن للسلطان الأكحل حكاية في كل مناطق المغرب، تلوكها الألسنة عند العامة، هو ذلك الملك الذي جاء بجيشه الجرار وهاجم مول البركي في زاويته. و نسوق هنا صلب الحكاية دون النظر في بعض الاختلافات التي تبرز من حين لآخر، لدى هذا الراوي أو ذاك. لقد هاجم هذا الملك سيدي عبدالرحمن مول البركي في زاويته، ولما وصل إلى المكان المعروف بسهب كداني في الجهة الشرقية الشمالية من الزاوية، صده الولي الصالح بضربة قوية من مدفع حشوته البارود والحجارة، خرجت طلقاته من الركن الأيسر للضريح بعد أن استدار إلى الغرب، ولازالت أثار هذه الضربة بادية إلى اليوم.و لما خرجت هذه الطلقة أصابت العدو في مقتل، مخلفة وراءها حفرة عميقة لازالت معالمها بادية إلى اليوم بسهل سهب كداني، عند المكان المعروف بحجرة العبار وعندها سلط عليه جيشا عرمرما من نوع آخر، قوامه الناموس والنحل، أكل الأفراد والدواب، وأتى على الأخضر واليابس، بينما تكفل ولي آخر ، هو سيدي كه[3]، بإمطار جيش العدو بوابل من قذائف نارية، وتبعا فلول جيش السلطان الأكحل حتى مكان يعرف بسيوم، قرب الولي الصالح سيدي أحمد بن عباد ، شرقا من الزاوية الغنيمية. أي على بعد عشر كيلومترات، من مكان الهجوم الأول. حتى تفرق جمع الأعداء وخارت قواهم واندحروا يجرون ذيول الهزيمة. وبذلك يسدل الستار على فصل جديد من فصول جهاد مول البركي ضد البرتغال، أو من تحالف معه. وسنعود لمناقشة قضية السلطان الأكحل هذا لمعرفة حقيقته، وأهدافه ، ولماذا هاجم بعض الزوايا وخرب بعضها الآخر، وهجر بعض الأولياء وأقفل زواياهم، بل وحاك لهم المكائد والدسائس قبل أن يتخلص منهم ، ولمعرفة من هو السلطان الأكحل هذا، لابد من العودة إلى الوراء، للوقوف عند البدايات الأولى لقيام الدولة السعدية بالجنوب المغربي، وشروط البيعة وقوانينها عند ملوك هذه الدولة ، التي آلت على نفسها تحرير المغرب من السيطرة الأجنبية المتمثلة في البرتغال والأسبان ، بعدما تقاعس حكام بني وطاس، والوحدات السياسية التي ظهرت بالشمال، عن أداء هذا الدور، ولم تستطع المقاومة الشعبية أن تذهب بعيدا في هذا الاتجاه. لقد أحدث الاحتلال الأجنبي للشواطئ المغربية، ردود فعل قوية في الداخل، سواء من العلماء والأولياء والأشراف[4] أم من لدن الفئات الشعبية، وقد خاب ظن المغاربة في الوطاسيين الذين لم يستطيعوا لا تحرير الشواطئ من الاحتلال ولا توحيد البلاد ، فكان لابد من بديل ، وكان لابد من قوة سياسية جديدة توحد المغرب وتحرر ثغوره، وكان هذا شأن الدعوة التي قامت في بلاد السوس. لقد أثارت الحملات الأجنبية على هذه المنطقة رد فعل قوي من قبل الأهالي، وتوحدوا فيما بينهم، وكونوا جبهة رفض للاحتلال خصوصا وقد استسلمت جل الشواطئ المغربية لهذا الاحتلال. لقد كانت هذه المنطقة محل مولد الجز ولية التي عم إشعاعها كل جهات المغرب، وبالتالي لابد أن يكون لأتباعها دور كبير في مقاومة المحتل بشتى الطرق والوسائل، خصوصا إذا نحن استحضرنا ما قاله الإمام محمد بن سليمان الجزولي في هذا الصدد : " ...إن دولتنا دولة المجتهدين المجاهدين في سبيل الله..."[5] ، وقد اتجه السكان، في هذه الظروف الصعبة، إلى أحد المشايخ المعروف بورعه واستقامته ونفوذه القوي بين القبائل السوسية، هو الإمام محمد بن مبارك بقرية ( أقا )، وكان ذا مكانة كبيرة بين السكان، يقدرونه ويحترمونه، ويأتمرون بأوامره حتى أنه سن لهم "... أياما معلومة في كل شهر يسمونها أيام سيدي محمد بن مبارك، لا يحمل فيها أحد سلاحا ولا يقدر أحد على المشاجرة فيها ويجتمع الرجل مع قاتل أبيه وولده وما يقدر أن يكلمه، وذلك شائع عند قبائل العرب والبربر من أهل سوس..."[6] ، وحاولوا مبايعته على أمرهم، إلا أنه رفض ذلك، لثقل الأمانة، لكنه دلهم ،في المقابل، على أحد أشراف ( تاكمادارت) بدرعة، ألا هو المولى محمد بن عبدالرحمن، الذي عرف عنه ورعه، وتمسكه بسيرة السلف الصالح، وحثه الناس على الجهاد، بل ومرابطته من أجل ذلك، إذ كان "... يستنفر الناس للرباط بأقدير حيث كان النصارى دمرهم الله..."[7]، وكان يحظى بنفوذ قوي بين القبائل، فعرضوا عليه الأمر فقبله، فاجتمع بهم في قرية ( تدسي ) قرب تارودانت، وخطب فيهم خطبة بلسانهم، حض فيها على الجهاد ، وفصل فيها المهام والواجبات والحقوق، وفي ذلك يقول الزياني : "...خطبهم خطبة عجيبة بلسان البربر، ذكر فيها ووعظ، وحض على الجهاد ..."[8] واستعرض أوضاع البلاد و ما آلت إليه من ضعف وتقهقر. وبعد هذه الخطبة تمت مبايعته بالإجماع بتزكية من العلماء والصلحاء، و اتفق مع كل القبائل أن تجهز كل واحدة عشرة أفراد من أبنائها بالعتاد والسلاح، فكان له ذلك، واجتمعت له نواة جيش مكون من خمسمائة رجل، فباشر مهامه الجديدة من مقره بسوس. لما وصل إلى السوس ، أعلن بيعة ابنه الأكبر المولى أحمد ليكون له عونا على الجهاد، خصوصا وأنه شاب يتوقد حماسة وقوة، فصار المولى أحمد هذا يلقب بملك السوس، بينما تلقب المولى محمد بلقب ( القائم بأمر الله )، وبذلك نشأت الدولة السعدية، فأخذ المولى أحمد على عاتقه الجهاد ضد نصارى البرتغال وعملائهم، كما كان تواقا إلى بسط نفوذه على كل المغرب، وللوصول إلى هذه الغاية ، استغل كل الموارد الفلاحية والتجارية ، وأبرم عدة اتفاقيات مع التجار غير البرتغاليين، ثم بدأ بأول هجوماته على مراكز الاحتلال البرتغالي ، وكان ذلك على مركز سانتكروز يوم الثامن عشر من غشت سنة 1511 ميلادية وعزز هجوماته العسكرية بفرض حصار اقتصادي على كل مراكز تواجد البرتغال بالسوس، والضرب على أيدي كل من حاول التعامل معهم، تم حرر سنة 1516 مدينة تارودانت وماسا واحتل بعض المواقع الاسترتيجية المحيطة بحصن سانتكروز، فضيق الخناق على البرتغاليين، وبسط نفوذه على بلاد سوس، ثم تطلع إلى بسط نفوذه إلى بلاد الحوز والشياظمة وعبدة، وقد كان له بها كثير من الأنصار وذلك منذ زمن ليس بالقليل، خصوصا بعد أن انتقل أبوه المولى محمد بن عبدالرحمن إلى الشياظمة واستقر بها ، وهكذا قام بحملة على مدينة مراكش فاحتلها في أوائل يناير سنة 1525 وجعلها عاصمة لملكه، وبذلك بدأت الدولة تأخذ بعدها الحقيقي. وبدأ المولى أحمد الأعرج يتطلع إلى غزو فاس وبالتالي توحيد المغرب تحت راية السعديين، ساعده في ذلك الهدنة التي عقدها مع البرتغال كما ساعده ضعف الوطاسيين خصوصا بعد وفاة ملكهم محمد البرتغالي في شهر ماي من سنة 1526 وبيعة أخيه أبي حسون الذي لم يستمر في الحكم سوى خمسة أشهر أو نيف، إذ سرعان ما عزله ابن أخيه المولى أحمد وتولى السلطة بدلا منه وذلك في شتنبر من نفس السنة. وبعدها استقر وضع الوطاسيين في فاس، ولكي يتفرغ حاكمهم أحمد الو طاسي للسعديين، حاول أن يؤمن جانب البرتغاليين، فكلف وزيره المولى إبراهيم بن علي بن راشد الإدريسي بالاتصال ببرتغالي أصيلا ، كما كلف أحمد العطار قائده على تادلا بالاتصال ببرتغاليي أسفي، وقد تم له ذلك، فحاصر مدينة مراكش، وكبد السعديين الكثير من الخسائر في الأرواح والعتاد، وكاد أن يدخلها فاتحا، لولا أن جاءه نبأ ثورة ابن عمه مسعود بن الناصر بمكناس فقفل راجعا لإخماد هذه الثورة فحصل له ذلك بوساطة من وزيره، فاقتيد ابن عمه هذا إلى فاس وبقي في سجنه إلى أن مات[9]. ولتقوية نفوذ الوطاسيين في المغرب، حاولوا خلق تحالفات على أكثر من صعيد، وهكذا تحالفوا مع الأتراك ضد الأسبان والبرتغال كما حاولوا استمالة الفرنسيين وملكهم فرانسوا الأول، العدو اللذوذ لملك اسبانيا شارلكان. ثم اشتبكوا مع السعديين في حروب كثيرة منها معركة بوعقبة قرب وادي العبيد ، وذلك يوم 24، يوليو سنة 1536 لكنهم انهزموا شر هزيمة. بعد ذلك "... تدخل كبار القوم، وعقد صلح بين الطرفين، كتبه العالم محمد عبد الواحد الونشريسي حيث أصبح الشمال للوطاسيين والجنوب للسعديين، واتخذ وادي أم الربيع كخط فاصل بينهما كما احتفظ الوطاسيون بسجلماسة وبتافيلالت بينما أعطيت درعة للسعديين بالإضافة إلى تادلا وتامسنا ..."[10]. بعد هزيمتهم هذه حاول الوطاسيون استمالة البرتغاليين من جديد، فدخل هؤلاء معهم في مفاوضات درء للخطر السعدي الذي يتهدد الأمتين المسيحيتين.كما دخلوا مع السعديين في مفاوضات كذلك. بل وقعوا معهم هدنة يوم 25 أبريل سنة 1537 لمدة ثلاث سنوات.ووقعوا أخرى مع الوطاسيين يوم 24 يونيو سنة 1538 ، وقد حاول كل من السعديين والوطاسيين الاستفادة من هذه الهدنة لتقوية جانبه ، كل على طريقته. وكان للانتصارات التي حققها المولى محمد نائب المولى أحمد على سوس وتحريره لحصن سانتكروز يوم 12 مارس سنة 1541 أثر كبير على سياسة البرتغال في المنطقة إذ سرعان ما أمرت حاميات أسفي و أزمور بالجلاء عن هذه المدن، وتحصين حامية مازكن. وقد أظهرت هذه الانتصارات حكام الدولة السعدية كمحررين لثغور المغرب المحتلة وجعلتهم قاب قوسين أو أدنى من الاستيلاء على فاس وبالتالي توحيد المغرب. إلا أن الخلاف الذي نشب بين الأخوين المولى أحمد والمولى محمد حول اقتسام غنائم سانتكروز، حيث طالب المولى أحمد بنصفها في حين أنكر عليه ذلك المولى محمد، ومحاولة تولية المولى أحمد لابنه دون أخيه المولى محمد، وبذلك يخالف ما سنه والده القائم بأمر الله، في أن لا يتولى الملك إلا الأكبر سنا في العائلة " ... أما مولانا محمد الأكبر فقد عهد لأولاده مولانا أحمد ومولانا محمد الشيخ و إخوانهما ألا يتولى الخلافة منهم ولا من أولادهم إلا الأكبر فالأكبر، فالتزموا ذلك، إلى أن كبر أولادهم فطلب المولى محمد من المولى أحمد الوفاء بذلك فامتنع. فقاتله على ذلك..."[11]، ورغم تدخل الأولياء ورجال الدين للصلح بين الأخوين، إلا أن الحروب بينهما ظلت سجالا، إلى أن انتصر المولى محمد على أخيه المولى محمد في معركة وادي الكاهرا قرب وادي العبيد وذلك سنة 1544 ، ففر المولى أحمد مع أسرته إلى زاوية سيدي عبدالله بن ساسي ومنها إلى سجلماسة بالجنوب المغربي. فجعل المولى محمد من مراكش عاصمة ملكه، ومنها استمر في الدعوة إلى الجهاد وتحرير المغرب ، ومنها كذلك قارع الوطاسيين ونازلهم فانتصر عليهم في معركة درنة في شتنبر من سنة 1545 وأسر ملكهم أحمد الوطاسي، إلا أنه لم يزحف إلى فاس بل أكثر من ذلك أطلق سراح الملك الوطاسي بعد سنتين قضاهما في السجن، بعد أن تنازل له هذا الأخير على مكناسة وبلاد الغرب، وصاهره، إلا أن الوطاسيين نكتوا عهدهم وتحالفوا مع خصوم المولى أحمد ، فدارت بين الفريقين معركة واد سبو يوم الثاني من ماي سنة 1548 انهزمت خلالها قوات المولى محمد ، إلا أن هذه الهزيمة لم تنقص من عزيمة محمد الشيخ فحاصر فاس من جديد ، إلى أن سقطت[12] ، فتقوى نفوذ المولى محمد وزادت قوة دولته، وبايعه حكام الإمارات ورؤساء القبائل ، وبقضائه على أخيه أحمد الأعرج وأسره، وإخراجه لآبي حسون الذي كان قد استولى على مدينة فاس من جديد، بعد أن كان دخلها على أكتاف الأتراك في اليوم الثامن من يناير من سنة 1554 ، وقبضه على كل من اشتم فيه رائحة الخيانة والتحريض كالزقاق والونشريسي وحرزوز بمكناسة، يكون الجو قد صفا من جديد للمولى محمد[13]، فبدا كخصم عنيد للأتراك، يلح على منازلتهم في الجزائر نفسها[14]، وهذا ما يفسر التقارب الذي حصل بين السعديين والبرتغال بوساطة من حاكم مازيغن، والتي أسفرت عن هدنة بين الطرفين لمدة ستة أشهر ، وقعت بداية سنة 1555 ، بل أكثر من ذلك تم التحضير، في فاس، لهجوم محتمل سعدي- إسباني على الأتراك، ونتيجة لهذا التقارب السعدي، البرتغالي الإسباني، بعث الأتراك إلى المولى محمد وفدا يخطب وده، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فعاد رسول الترك خائبا[15] ، وبدأ الأتراك يفكرون في التخلص من المولى محمد، فتم لهم ذلك عند زوال يوم الأربعاء 27 ذي الحجة سنة 964 هجرية الموافق ليوم 23 أكتوبر من سنة 1557 م، أثناء إحدى زياراته التفقدية لمدينة تارودانت.وعلى أثر ذلك، بويع ابنه المولى عبدالله بالخلافة، وكان بمدينة فاس، ولقب نفسه بالغالب بالله. كان أول عمل قام به، هو الانتقام من قتلة أبيه[16]، وإخماد بعض الثورات التي ظهرت هنا وهناك إثر هذا الاغتيال ، ثم جهز جيشه لملاقاة الأتراك في معركة قرب وادي اللبن ، هزمهم فيها شر هزيمة[17] ، وبالتالي يتضح بأن الحاكم السعدي الجديد يسير على نهج أبيه في مقارعة الأتراك لكبح نزعتهم التوسعية في المغرب، والتحالف مع الاسبان والبرتغال، بل والتقرب كذلك من فرنسا وانجلترا، أما على مستوى آخر فإن الأتراك قاموا بإيواء بعض من معارضي الأمير السعدي، خصوصا بعضا من إخوته الذين رفضوا مبايعة ابنه المولى محمد،فبدأ يتخلص منهم بالاغتيال ، واحدا تلو الآخر، حتى قتل منهم ثلاثة وفر الباقون إلى خارج المغرب. ولما توفي المولى عبدالله الغالب، وولي ابنه المولى محمد الملك من بعده ، ازدادت رغبة الأتراك بالاستيلاء على المغرب فاستغلوا فرصة مطالبة عبد الملك وأحمد السعدي بأحقيتهما في العرش واستنجادهما بالأتراك.و درء للخطر الذي أصبح يشكله الأتراك على المغرب، عمد محمد المتوكل، إلى السير على نهج أبيه في التقرب من الدول المسيحية، وهكذا عقد اتفاقية تجارية مع الانجليز، لعلها الوحيدة في فترة حكمه القصير للمغرب، من جهة أخرى ، أمدت الدولة العثمانية عبد الملك بقوات عسكرية، دخل بها في حرب مع المتوكل، فانتصر عليه في معركة الروكان مما مهد له الطريق إلى فاس، ومنها لاحق المتوكل إلى مراكش[18] ، إلا أن هذا الأخير فر إلى سوس، ومنها بدأ يؤلب القبائل على عمه، فكانت الحرب بينهما سجالا لم تفتر خلال سنتين خاضا خلالها أربع وعشرين معركة[19] انهزم في جميعها المتوكل[20]. وكان لهذه الحرب الأهلية أثرها على الأوضاع الداخلية، حتى كادت أركان الدولة تنهار، وقد وصف الفشتالي ذلك بقوله : "... نفقت ... أسواق الفتن وأظلم الجو... بالهرج في سائر أقطار المغرب حتى تنمرت الرعايا و استنسر بغاتها وطغى الجند... وتعطل الخراج منذ سنين حتى نفذ الطارف و التالد... وكاد سلك الدولة ينتثر..."[21]. في هذه الآونة لم يضعف المتوكل أو يكل له ساعد، بل على العكس من ذلك، التجأ إلى شمال المغرب، حيث طلب مساعدة ملك البرتغال[22]، ثم انتقل إلى سبتة وبقي بها أربعة أشهر، ثم وصل إلى طنجة ، لينتظر بها وصول الملك البرتغالي على رأس جيش يغزو به المغرب، فيسترد المتوكل ملكه من عمه عبد الملك، ومن طنجة وجه رسالة إلى علماء المغرب وأوليائه وشرفائه، قال الناصري في الاستقصا : " ... وكان محمد بن عبد الله المذكور قد كتب عند خروجه بجيش البرتغال إلى بلاد الإسلام، رسالة بعث بها إلى أعيان المغرب من علمائه وأشرافه وذوي رأيه، يغمض عليهم بها في نكث بيعته، ونقضها ومبايعة عمه من غير موجب شرعي، وقال لهم: "... ما استصرخت بالنصارى حتى عدمت النصرة من المسلمين، وقد قال العلماء: "... أنه يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقه، بكل ما أمكنه..."، وتهددهم فيها وأبرق وأرعد، وقال: "... فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وسمى النصارى: أهل العدوة واستنكف من تسميتهم نصارى، فأجابه علماء الإسلام رضوان الله عليهم عن رسالته تلك برسالة دامغة لجيش أباطيلة وفاضحة لركيك تأويله،..."[23]. أما عمه عبد الملك ، فقد تمت له السيطرة على كل أرجاء المغرب باستثناء منطقة الغرب ، أي القصر الكبير وأصيلا و العرائش، فقد كانت تحت سيطرة عبد الكريم بن تودة صهر المتوكل. وبخصوص موقفه من تدخل البرتغال في المغرب، فقد كتب رسالة إلى البلاط البرتغالي ليثنيه عما عزم عيه. لكن الأمر كان مقضيا، ولم يلتفت ملك البرتغال إلى تحذيرات عبد الملك السعدي أو تحذيرات ملك إسبانيا. فوصل بقواته إلى ضواحي مدينة أصيلا يوم الاثنين 12 يوليوز سنة 1578 ، في هذه الأثناء أعد عبد الملك السعدي جيشه واستعد لملاقاة العدو الغازي ، و نادى بالجهاد المقدس في كل أرجاء المغرب، " ... ولما سمعت جنود الله وأنصاره وحماة دينه من العرب والعجم...حملتهم الغيرة الإسلامية والحمية الإيمانية وتجدد لهم نور الإيمان وأشرق عليهم شعاع لا يقاس... عقد الراية المنصورة بالله وسط جامع المنصور بعد أن ختم عليها أهل الله حملة القرآن مائة ختمة وصحيح البخاري وضجوا عند ذلك بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير والدعاء له و للإسلام بالنصر والتمكين..."[24]، وفي خضم الاستعداد للحرب أقدم الأتراك على تسميم عبد الملك ، "... قال ابن القاضي[25] كان سبب وفاة السلطان أبي مروان رحمه الله، أنه سقي سما، وذلك أن قائد الترك الذين كانوا معه، واسمه رمضان العلج، بعث إلى بعض قواده أن يتلقاه بكعك مسموم، هدية للسلطان المذكور، وقت مرورهم عليه وقصد بذلك قتله، وذلك بعد أخذه به مدينة فاس، ليثبت لهم الملك بها، فلم يكمل الله مرادهم، لما شهدوه من عظيم جيش المغرب، فهذا كان سببا في موته رحمه الله..."[26]. وصلت جيوش البرتغال إلى وادي المخازن يوم الأحد 3 غشت سنة 1578 ، فالتقى الجمعان يوم الاثنين 30 جمادى الأولى سنة 986 هجرية الموافق لرابع غشت سنة 1578 [27] ، فدارت الدائرة على الأعداء فقتل دون سبستيان ومحمد المتوكل[28] ، أما عبد الملك فمات صبيحة المعركة[29]. وعلى أثر ذلك ، جمع المولى أحمد الشرفاء ووجهاء القوم وكبار قواد الجيش ، وأخبرهم بموت أخيه، فبايعوه، إلا أن الأتراك حاولوا الدعوة للمولى إسماعيل بن عبد الملك ، ففر المولى أحمد خوفا على نفسه، غير أن المغاربة لم يقبلوا بغيره خليفة عليهم . وكان أول ما قام به المولى أحمد هو دفن أخيه بفاس وسلخ جلد المتوكل وحشوه بالتبن والطواف بمراكش ليكون عبرة لمن أراد التطاول على الشرعية والاحتماء بالنصارى.
الآن وقد استعرضنا مجمل تاريخ الدولة السعدية ، وما كان بين الإخوة والأعمام من منافرات وصراعات حول السلطة والحكم، لابد أن نطرح السؤال حول من: من بين أمراء الدولة السعدية يمكن أن يكون هو السلطان الأكحل الذي تحدثت عنه الحكايات الشعبية، هل هو محمد الشيخ الذي تولى الحكم بعد أن أزاح أخاه أحمد الأعرج وامتحن أرباب الزوايا وطالبهم بخزائن بني مرين، بل وأخرج أبي محمد عبدالله الكوش من زاويته، ورحله إلى فاس حيث مات ودفن هناك؟ أما هو الغالب بالله الذي كان ، كما تقول الرواية تواقا إلى سفك الدماء ، بل قتل ثلاثة من إخوته، وفر الباقون إلى الجزائر، وأوصى بالخلافة لابنه محمد المتوكل ، رغم مخالفة ذلك لتراتبية الخلافة عند السعديين حيث يتولاها الأكبر سنا كما حدد ذلك مؤسس الدولة الأول المولى محمد القائم بأمر الله؟ أم هو محمد المتوكل الذي حكي عنه بأنه كان متكبرا تياها غير مبال بأحد ولا متوقفا فيالدماءعسوفا على الرعية..."[30]،وجاءذكره مرتبطا بهذه الصفة عند منويل كما نقل ذلك الناصري في الاستقصا؟، " ... قال لما استولى عبد الملك السعدي المدعو عند أهل المغرب بمولاي ملوك على ملك المغرب، وطرد ابن أخيه مولاي محمد المعروف بالأكحل يعني المسلوخ..."[31].ولكن قبل ذلك، نعرج على الأثر المكتوب، حديثا، لقصة السلطان الأكحل مع السلطان سيدي عبدالرحمن مول البركي، والمتمثل في ما ورد عند (Antona ) ، حيث يقول : "...فالسلطان الأسود، تلك الشخصية الغامضة التي نجدها دائما مذكورة عبر الأساطير، جاء يوما إلى قبيلة الولي الصالح، وكان يريد أن يقوم بقياس مقدار سلطته على السكان. وعندها دارت باب الضريح للولي مول البركي متوجهة نحو الغرب، فما هي إلا لحظات حتى وجد المهاجمون أنفسهم محاطين بسحابة من النحل فألزمتهم التراجع..."[32] . غير أن القول بأن هذه الشخصية أسطورية، أمر فيه نظر، إذ تؤكد كل الوقائع التاريخية بأن المقصود بهذا اللقب هو أبو عبد الله محمد المتوكل السعدي[33]. ولا يختلف اثنان، من كون الدولة السعدية قامت على أكتاف الزوايا والعلماء والمجاهدين من الأشراف، من مريدي الإمام محمد بن سليمان الجزولي[34]. وكان من جملة أهدافها القضاء على الوطاسيين وإجلاء البرتغاليين عن الثغور المغربية المحتلة، كأسفي، و أزمور، و أكادير وغيرها، وقد تم لها ذلك فتوطدت أركانها بمختلف ربوع المغرب، وتمكنت من قهر البرتغاليين، و الاسبان، والتملص، إلى حد ما، من الأتراك، وذلك بفعل الدور الذي لعبته الزوايا والعلماء والأشراف، في حض الناس على الرجوع إلى ينابيع الإسلام الصافية، ومكافحة أهواء النفس وكبح جماحها، والجهاد ضد الغزاة المحتلين، برا وبحرا. إلا أن العلاقة بين المخزن السعدي والزوايا، لم تكن دائما على ما يرام، إذ يحفظ لنا التاريخ المغربي كثيرا من الصراعات والخلافات ، بل والصدامات بين ملوك الدولة السعدية والعلماء وأرباب الزوايا، من ذلك ما قام به الخليفة أبي عبدالله الشيخ من امتحان للزوايا ، مما نجده مفصلا في كتاب الاستقصا للناصري، حيث يقول : "...امتحان السلطان أبي عبد الله الشيخ أرباب الزوايا والمنتسبين والسبب في ذلك . لما كانت سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، أمر السلطان أبو عبد الله الشيخ بامتحان أرباب الزوايا والمتصدرين للمشيخة خوفا على ملكه منهم لما كان للعامة فيهم من الاعتقاد والمحبة والوقوف عند إشاراتهم، والتعبد بما يتأولونه من عباراتهم، ألا ترى أن بيعة والده أبي عبد الله القائم لم تنعقد إلا بهم، ولا ولج بيت الملك إلا من بابهم، فامتحن جماعة منهم كالشيخ أبي محمد الكوش فأخلى زاويته بمراكش وأمر برحيله إلى فاس.
وفي الدوحة : لما امتحن السلطان أبو عبد الله الشيخ زوايا المغرب قيل: لأبي علي الحسن بن عيسى المصباحي دفين الدعادع(ة) التي على وادي مضى من عمل القصر: "... ألا تخشى من هذا السلطان؟..."، فقال: "... إنما الخشية من الله ومع هذا فالماء والقبلة لا يقدر أحد على نزعهما، والباقي متروك لمن طلبه..." . وكان السلطان المذكور يطالب أرباب الزوايا بودائع أمراء بني مرين ويتهمهم بها. وبعث خديمه يوما إلى الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر المشترائي، دفين مكناسة، يطالبه بشيء من ذلك، فوجده جالسا بناحية زاويته يضفر الدوم، وإذا بطائر، لعله اللقلاق سلح أمامه، فما رفع أبو عثمان بصره حتى سقط الطائر ميتا متطاير الريش، فلما رأى الخديم ذلك فزع وولى هاربا. قاله: في الممتع، والله تعالى أعلم ...".[35] . قد يكون السلطان الأكحل هو أبي عبدالله الشيخ الذي امتحن الزوايا، كما رأينا سابقا، وشرد أبي محمد عبد الله الكوش[36] ، إلا أن هذا الملك لم يكن خارجا عن الشرعية، وإنما الذي دفعه إلى ذلك هو حرصه على صيانة أركان دولته من التصدع، وقد صرح بهذا السبب الناصري نفسه، حين قال: "... خوفا على ملكه منهم..." ، وهذا كما نعرف حكم قبل ألمسلوخ بسنوات عديدة، إذا وصل إلى السلطة بعد خلافه مع أخيه حول اقتسام غنائم حصن سانتكروز ، كما أشرنا إلى ذلك في موضعه، ثم أوصى بالخلافة من بعده، لابنه الغالب بالله ، ويبقى من المرجح أن المقصود بالسلطان الأكحل، هو محمد المتوكل، حيث تنص بعض الوثائق التاريخية على ذلك، كما تؤكده الوقائع والأحداث، حيث اعتبر خارجا عن الشرعية لغصبه للخلافة واستنجاده بالنصارى ضد المسلمين ، و معلوم أنه لما أكرهه عمه على الخروج من فاس ثم من مراكش ، أخد يطوف في أرجاء المغرب، يدعو لنفسه ويكره الناس على بيعته ولابد أن يصطدم أثناء ذلك بأرباب الزوايا والعلماء والأشراف والأولياء والصالحين، من ذلك ما ذكر في سيرة الولي الصالح سيدي محمد ين موسى المعروف عند العامة بأبي الشتاء[37] الخمار دفين آمركو بفشتالة، حيث تذكر الأخبار المتواترة بأن سيدي عبدالله بن حسون دفين سلا، قال للسلطان الأكحل محمد المتوكل ،ملك فاس، وكانت السنة جعفاء، لم تمطر فيها السماء ، بأن سيدي محمد بن موسى مستجاب الدعاء ، ولعل الخير يأتي على يديه فتمطر السماء، فطلبه السلطان هذا ، فلم يجب دعوته، وتعلل بانشغاله بعبادة ربه،فرحل إليه السلطان الأكحل في قبيلته، فالتقاه على ضفة نهر سبو، في مكان يسمى بالحجرة الشريفة، وصلى الشيخ بهم صلاة الاستسقاء ثم رفع أكفه بالدعاء قائلا : " ... اللهم إن السلطان الأصغر يسألك أنت السلطان الأكبر المطر لعبادك...". و ما إن أكمل الشيخ دعاءه، حتى تلبدت السماء بالغيوم وبدأت تمطر قبل أن يصل السلطان الأكحل إلى فاس, ولما انفض الجمع ورحل كل إلى حال سبيله، ذهب الشيخ أبي الشتاء إلى سيدي عبدالله بن حسون ولامه على فضح أمره لهذا السلطان، إذ يعتبر الجفاف عقابا من الله لمن حاد عن جادة الصواب، وقيل بأنه قال له : "...إن عصفورين لا يسعهما عش واحد ولا بد لأحدهما أن يغادر...".[38] وقيل بأن سيدي عبدالله بن حسون قال للشيخ أبي الشتاء : " ... إنك ضيف علينا ونحن أصحاب البلاد فنحن نغادر وأنتم تبقون...". ويؤكد ما ورد هنا في سيرة أبي الشتاء الخمار وقصته مع محمد المتوكل ، أنه طارئ على البلد وهذا ما أكده صاحب مرآة المحاسن ، وصاحب الاستقصا، من كون هذا الولي جاء من الشاوية واستقر بالمنطقة[39]، ,وأنه لم يكن راضيا عن محمد المتوكل لاغتصابه الحكم من عمه عبد الملك، ولتيهه وعجرفته، لذلك رفض القدوم إليه بفاس متعللا بالعبادة والانقطاع إلى الله تعالى، وأخفى عنه سر ولايته، ولما جاءه في مقر إقامته لام سيدي عبد الله بن حسون على فضح سره. كما تؤكد هذه الحادثة على أن محمد المتوكل هو المقصود بالسلطان الأكحل وليس أبي عبد الله الشيخ الذي امتحن أرباب الزوايا ورحل أبي محمد عبدالله الكوش من زاويته نحو فاس حيث توفي، إذ حكم المتوكل مابين سنتي 981 هـ و983 هـ ، وكانت فاس عاصمة ملكه، قبل أن يخرجه عنها عمه عبد الملك السعدي، فيلجأ إلى البرتغال ثم يموت في معركة وادي المخازن فيسلخ جلده ويحشى بالتبن ويطوف به في أرجاء البلاد، ويسمى بالسلطان الأكحل المعروف عند العامة بالمسلوخ[40]، مما بسطنا القول فيه سابقا. أما أبي عبد الله الشيخ ، فرغم أنه كان "... مولعا بتدبيرأمر الرعية مستيقظا في أموره حازما غير متوقف في سفك الدماء..." إلا أنه "... لما دخل فاسا حاول أن يتأدب بأدب أهل الحاضرة، فـ "... تأنق على يد رجل وامرأة، فأما الرجل فقاسم الزرهوني، فإنه رتب للسلطان أبي عبد الله الشيخ، هيئة السلاطين في ملابسهم، ودخولهم، وخروجهم، وآداب أصحابهم، وكيفية مثولهم بين أيديهم، وأما المرأة فالعريفة بنت خجو، فإنها علمته سيرة الملوك في منازلهم، وحالاتهم في الطعام واللباس، وعاداتهم مع النساء، وغير ذلك، فاكتسى ملك الشيخ بذلك طلاوة، وازداد في عيون العامة رونقا وحلاوة، بسبب جريانه على العوائد الحضرية،... ولم يزل السلطان أبو عبد الله الشيخ يدور على مدن المغرب وأمصاره، ويطيل الإقامة بفاس..."[41] فمن تكن هذه سيرته، لا يمكن إلا أن تحبه رعيته وأن تواليه لا أن تعاديه كما فعلت مع محمد المتوكل المسلوخ، أضف إلى ذلك أن أبا عبدالله الشيخ لم يكن في يوم من الأيام خارج الشرعية.بل على العكس من ذلك الذي كان خارجا عنها واستعان كما قلنا، بالنصارى لحرب المسلمين ، هو محمد المتوكل، وهو ما لم يغفره له العلماء والأشراف وشيوخ الطرق والصوفية وأرباب الزوايا خصوصا وأن الدولة السعدية قامت على أكتاف هؤلاء ، يقومون بالدعوة لخلفائها في أرجاء المغرب، يحثون الناس على ذلك، ويحثون على الجهاد لدحر العدو البرتغالي الذي بدأ يتغلغل في الثغور المغربية. وقد قام هؤلاء بدور كبير في كل المعارك التي خاضها السعديون ضد خصومهم في الداخل وضد المحتل. وقد شاركوا في معركة وادي المخازن الشهيرة. وقاوموا الخروج عن الشرعية ومقتضيات البيعة، ذلك الخروج المتمثل فيما قام به أبو عبد الله محمد المتوكل المسلوخ، الذي احتمى بنصارى الضفة الأخرى، وثار على عمه عبد المالك السعدي، الملك الشرعي للمغرب. وقد وجه علماء المغرب وأولياؤه إلى أبي عبد الله محمد المتوكل المعروف بالمسلوخ[42] ، والأكحل كذلك[43]، رسالة يدعونه فيها إلى الرجوع عما هو فيه، والاعتراف بشرعية ملك عمه، ولأهمية هذه الرسالة في الدلالة على شخصية السلطان الأكحل ، نوردها كاملة كما نقلها الناصري في كتابه الاستقصا:
" الحمد لله كما يجب لجلاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير أنبيائه و أرساله، و الرضى عن آله و أصحابه، الذين هجروا دين الكفر فما نصروه ولا استنصروا به، حتى أسس الله دين الإسلام بشروط صحته وكماله.
وبعد، فهذا جواب من كافة الشرفاء والعلماء والصلحاء والأجناد، من أهل المغرب وفقهم الله، لمولانا محمد بن مولانا عبد الله السعدي، عن كتابه الذي استدعاهم فيه لحكم الكتاب والسنة، واستدل بحججه الواهية المنكبة عن الصواب، قائلين له عن أول حجة صدر بها الخطاب، لو رجعت على نفسك اللوم والعتاب، لعلمت أنك المحجوج والمصاب، فقولك: خلعنا بيعتك التي التزمناها، وطوقناها أعناقنا وعقدناها، فلا والله ما كان ذلك منا عن هوى متبع ولا على سبيل خارج عن طريق الشرع مبتدع، وإنما ذلك منا على منهج الشرع وطريقه، وعلى سبيل الحق وتحقيقه، وسنشرح لك ذلك ونبينه، ونسطره لك بالأدلة الشرعية التي ترقيه وتزينه، نعم كنت سلطانا بما عقد لك والدك من البيعة، وترك لك من الأموال والعدد والحصون مما لم يتهيأ مثله لأحد من أسلافكم الكرام رضوان الله عليهم، فجاهدوا بما حصل لهم من ذلك في الله حق جهاده، حتى استخلصوا من أيدي الكفار رقاب عباد الله وحصون بلاده، وأسسوا لدين الله قواعد وأركانا، وملكوا من المغرب بلادا معتبرة وأوطانا، فلما وصل ذلك إليك ألقت إليك العباد أعنتها، وملكتك أزمتها، غير مبدلين ولا مغيرين، ولا باغين ولا منكرين، إلى أن قام عليك عمك بحجته التي لا يمكنك جحدها، حسبما ثبت كما يجب عقدها، فخرجت مبادرا له بدفعها، ولقيته بها وأنت واسطة عقدها، وحامل راية عهدها، وعمك في فئة لا يخطر على بال عاقل أن يقابل جندا من جنودك، أو يدافع ما تحت لواء من ألويتك وبنودك، فما هو إلا أن جرى القتال، وحضر النزال، رجعت على عقبك هاربا هروب مطرود بقصاص، وجنودك تناديك ولات حين مناص، فتركت عددك ومحلتك بكل ما فيها، وخلفتها لعدوك ينهبها ويسبيها، وهربت عن مدينة فاس المحروسة وسكانها ينادونك: لمن تركتنا وإلى من تكلنا ؟ فلم تلتفت إليهم، وأسلمت بلادهم على ما فيها من خزائن ا لأموال والعدد الوافرة والرجال والأسوار المرتفعة المانعة، والمدينة المشهورة الجامعة، فأصبح أهلها واليد العادية من المفسدين تريد أن تمتد إلى الحريم والأولاد، و الطارف و التالد، ولا دافع عن الضعفاء والمساكين إلا الله تعالى، الذي قال في مثلهم: "... ومن أصدق من الله قيلا.."، "... لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا،..." فما أمكنهم بعد هروبك عنهم وإسلامك لهم فوضى مهملين إلا النظر في أمرهم، وإعمال الفكر في التدبير على أنفسهم، فبينما هم على ذلك إذا بعمك بجنوده على باب مدينتهم قائما بحجته، سالكا في ذلك سبيل أبيه رحمه الله و محجته، حسبما تقرر ذلك عندكم وظهر، ولم يخف عنكم منه عين ولا أثر، إذ كان مولانا محمد الجد الأكبر عهد لأولاده مولانا أحمد، ومولانا محمد الشيخ وإخوانهم، لا يتولى الخلافة منهم ولا من أولادهم إلا الأكبر فالأكبر، فالتزموا ذلك إلى أن كبر أولادهم فطلب جدك من عمك الوفاء بذلك فامتنع، فقاتله على ذلك حتى تم له الأمر وانتظم، فعهد لوالدك الذي كان أكبر أولاده، فلم ينازعه أحد في ذلك إلى أن ألقى والدك رحمه الله ذلك، وعهد إليك فلم ينازعكم أحد، فأبى الله إلا الحق فأعطى ملكه لعمك الذي هو أكبركم بعد أبيك، فإن سلمت هذا فأي حجة تدلي بها وأي طريق تعتمد عليها ؟ وإن أنكرت هذا فلا أثر لخلافة أبيك من قبلك ولا لجدك من قبله لثبوتها لعمكم مولانا أحمد، إذ لا حجة حينئذ لجدك في القيام على عمك، فخلافته صحيحة لبيعة جدك له، فلم يبق إلا التغلب الذي تدلي به في مسألة عمك وفي قيامه عليك، فإن كنت تريد أن تسقط حجته بالتغلب عليك فحجتك أبين في السقوط لعدم ثبوت الخلافة لمن عقدها لك، إذ المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، فلم يبق بينكم إلا: "... والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا..." فيلزمك على هذا أن تثبت ما عقده مولانا الجد رحمة الله، وعليه فالخلافة لعمك القائم عليك إذ هو أكبركم في هذا التاريخ.
فإن قلت: إن ما عقده الجد غير صحيح، قلنا: فقد ذكر الإمام الماوردي رحمه الله ورضي عنه في كتاب الأحكام السلطانية له في باب عقد الخلافة : أن عبد الملك بن مروان رتبها في الأكبر فالأكبر من بنيه فلم ينازعه أحد في ذلك.
فإن قلت: فعل عبد الملك ليس بحجة، قلنا: سكوت العلماء على ذلك وهم ما هم في زمانه هو الحجة، إذ لا يمكن أن يسكتوا على باطل، وإقرار أهل العصر الواحد على مسألة من المسائل واتفاقهم عليها، يقوم مقام الإجماع الذي هو حجة الله في أرضه، وكان أيضا من محفوظات علماء فاس المحروسة ما أخرجه مسلم رضي الله عنه في صحيحه في كتاب الإمارة، ما نصه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند رأسه يقال هذه غدرة فلان بن فلان، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة..." قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله في كتاب إكمال المعلم على شرح فوائد مسلم : "... يعني لم يحطهم ولم ينصح لهم ولم يف بالعقد الذي تقلده من أمرهم..."، وفي الباب نفسه عنه (صلعم)ما نصه: "... ما من أمير استرعاه الله رعية ثم لم ينصح لهم إلا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام...". وفي الإكمال نفسه قال القاضي: "... والذي عليه الناس: إن القوم إذا بقوا فوضى مهملين لا إمام لهم فلهم أن يتفقوا على إمام يبايعونه، ويستخلفونه عليهم، ينصف بعضهم من بعض، ويقيم لهم الحدود...". فلما أسلمتهم وأضحوا بغير إمام، وعمك يدلي بحجته التي ذكرنا لك مع ما حفظوه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح، و أيسوا من رجوعك إليهم، وبقوا فوضى مهملين لم يسعهم إلا الرجوع إلى ما عليه الناس رضوان الله عليهم، فاتفقوا على أن يبايعوا عمك لما ذكرنا لك من الحجج التي لا يسعك جحدها إلا على وجه المكابرة، فاطمأن الناس وسكنوا وانفتحت السبل وأقيمت الحدود وارتفعت اليد العادية.
فإن قلت: كان يجب على أهل فاس أن يقاتلوا على البيعة التي التزموها لك، قلنا: إنما يلزمهم القتال أن لو أقمت بين أظهرهم، فيكون قتالهم على وجه شرعي، لأن القتال على الحدود الشرعية إنما يكون بعد نصب إمام يصدر الناس عن رأيه، ولا يمكنك أيضا جحدها إيه. ثم وصلت إلى مراكش الغراء التي تجبى إليها الأموال من البوادي والأمصار، وتشد إليها الرحال من سائر الأقطار، فلقيك أهلها بالترحاب والسرور، وأنواع الفرح والحبور، فوجدت خزائنها تتدرج ملئا من كل شيء، فأما أسوارها ورحابها فهي كما قيل: تربة الولي، ومدرج الحلي، وحضرة الملك الأولي، والبرج النير الجلي، فحللتها وتمكنت من أموالها وخزائنه،ا ووافقك أهلها فما نكثوا ولا غدروا، ولا خرجوا عليك في سلطانك ولا أنكروا، فطلبت أيضا قتال عمك وجندت جنودا لا يجمعها ديوان حافظ، ولا يعهدها لسان لافظ، فخرجت إليه تجر أعنة الخيل وراءك كالسيول، والرماة قد ملأت الهضاب والتلول، فما كان من حديثك إلا أن وقع القتال وحضر النزال، بادرت هاربا محكما للعادة، تاركا للرؤساء من أجنادك والقادة، فحلت بهم الخطوب والرزايا، واختطفتهم أيدي المنايا، فتركت أيضا محلتك بما فيها من حريمك وأموالك وعدتك، ثم أسرعت هاربا إلى مراكش فما صدك عنها أحد من أهلها، ولا قال لك أحد لست ببعلها فعملوا على القتال معك والتمنع بأسوارها الحصينة، والحصار داخل المدينة، فلما كان الليل غدرتهم وغادرت بناتك وأخواتك وعماتك ونسائك، وخرجت عنهم من القصبة وتركتهم لا بواب عليهم ولا حارس، ولا راجل ولا فارس، فيالها من مصيبة ما أعظمها، ومن داهية ما أعضلها. ولولا فضل الله ولطفه ووعده بتطهير أهل البيت لامتدت إليهم أيدي السفلة من الفسقة فأي حجة تبقى لك بعد هذا؟ وأي كلام لك بين الرجال يا هذا ؟ ثم جاءك عمك أيضا بما سلف من الحجج فوجد أهلها في لطف الله سبحانه وهم يحرسون أولادهم وديارهم من اليد العادية، فأنقذهم الله به أيضا فبايعوا عمك بما سلف من الحجج، واطمأنوا وسكنوا ثم هربت للجبل عند صاحبه[44] فصرتما في نهب أموال الرعية وسفك دمائهم، وأكثر ما صفا لك من ذلك أهل الذمة المصغرون بحكم القرآن، الداخلون تحت عهد سيد الثقلين في الأمن والأمان فأنت وهم في استيلائك عليهم وظلمك إياهم كما قيل .إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين
ولم تبال بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "... أنا خصيم من ظلم ذميا يوم القيامة..." ثم خربت العامر، وأفسدت ما شيدت الأسلاف للإسلام من المآثر، فلما رأى أهل السوس الأقصى ذلك أيقنوا أنك إنما قصدت خراب الإسلام وأهله، فنكب عنك أهل الدين والعلم منهم وبقيت كما قيل،: "... في خلف كجلد الأجرب...&
أثارت قضية هجوم السلطان الأكحل[1] على زاوية مول البركي، الكثير من التأويل، وتناسلت حولها الخرافات، وحيكت الروايات، ولم يلف الغموض قضية أكثر من هذه القضية، وظلت كثير من الأسئلة معلقة بدون أجوبة. من قبيل: من هو السلطان الأكحل هذا الذي تتحدث عنه الأخبار؟ وما علاقته بمول البركي وبباقي الزوايا؟، في أي عصر وفترة تم هجومه على مول البركي؟ وهل هاجم زوايا أخرى غير زاوية مول البركي؟ و ما هي العوامل والأسباب الكامنة وراء هذا الهجوم، إذا كان قد تم فعلا هذا الهجوم؟ هذه الأسئلة، وكثير مثلها، لا يجد إجابة مقنعة في كتب التاريخ والسير و المغازي وكتب التصوف. ويبدو أن عمدة الأمر في هذه القضية ، هو الرواية الشفوية، التي غلفت جزءا كبيرا من تاريخ الأولياء في المغرب بصفة عامة، وفي عبدة بصفة خاصة.فقد اعتمدت جل الكتابات التاريخية في المغرب، قديمها وحديثها، في تدبيج تاريخ الأولياء، خصوصا مع ما أنيط بهم من كرامات، على الرواية الشفوية، غير أن هذه الأخيرة، رغم أهميتها في ردم الهوة الكبيرة التي يشكو منها تاريخ الأولياء، ليس لها من سند توثيقي أو مادي ، يعطيها قوة الحجية والمصداقية. فباستثناء التو اثر، المعروف في الرواية الشفوية، لا يمكن قبول حجية هذه الأخيرة أو الركون إلى حيثياتها، دون تمحصيها وتقليبها على كل الأوجه و الهيآت، وإلا فما سنصل إليه من أحكام، لا يعدو أن يكون ضرب أسداس في أخماس. وما يقال عن أولياء عبدة، يقال عن سيدي عبدالرحمن مول البركي، فقد بالغت الرواية ، وتناسل الأخبار، وسعة الخيال الشعبي على إضفاء مجموعة من الكرامات على هذا الولي. من جملة هذه الكرامات ، صده لجيش السلطان الأكحل، بالناموس والنحل، وتحول بابه من " القبلة إلى البحر"[2] على أثر هذا الهجوم. وقد حيكت حول هذه الحادثة الكثير من الروايات والأخبار، يتناقلها البعيد قبل القريب، ويذكرها حفدته ومريدوه وخدامه في حلهم و ترحالهم، ويستعملونها أثناء التبرك بهذا الولي الصالح، وأثناء الفاتحة والزيارة والدعاء لخدامه، ويروونها في كل المجاميع والاحتفالات الطقوسية والدينية. يروونها بطرق شتى، وبأساليب مختلفة، يغلفها الفخر والزهو بهذا الولي الذي قهر أكبر الجبابرة والطغاة، إلا أن لب القصة ، لا يضيع بين ثنايا هذه التفاصيل التي يفرضها الحكي، بل يظل هو عينه، أي قهر السلطان مول البركي للسلطان الأكحل. وتزعم بعض الروايات الأخرى، أن الأمر لا يتعلق بالسلطان الأكحل بل بيهودي هو الذي هاجم مول البركي، بينما تزعم أخرى بأن السلطان الأكحل هذا هو منصور بن يعقوب أخو للاشافية، إلا أننا لانعرف في تاريخ المغرب شخصية بهذا الاسم، أما للاشافية فقد حملت هذا الاسم أكثر من صالحة في المغرب، وتزعم هذا الرواية أن للاشافية اختطفها قوم من الشام ولحق بهم السلطان الأكحل ليستردها منهم. و بين أن في هذه الرواية كثير من الخلط والجهل بالتاريخ، وإنما هو الخيال الشعبي الذي يعمل في إطار الذاكرة الجماعية، وانطلاقا من الضمير الجمعي. وتعتبر هاتان الروايتان الأضعف في هذه القصة، بينما يبقى المتفق عليه عند أغلب الناس من حفدة مول البركي أو من غيرهم، رغم أن للسلطان الأكحل حكاية في كل مناطق المغرب، تلوكها الألسنة عند العامة، هو ذلك الملك الذي جاء بجيشه الجرار وهاجم مول البركي في زاويته. و نسوق هنا صلب الحكاية دون النظر في بعض الاختلافات التي تبرز من حين لآخر، لدى هذا الراوي أو ذاك. لقد هاجم هذا الملك سيدي عبدالرحمن مول البركي في زاويته، ولما وصل إلى المكان المعروف بسهب كداني في الجهة الشرقية الشمالية من الزاوية، صده الولي الصالح بضربة قوية من مدفع حشوته البارود والحجارة، خرجت طلقاته من الركن الأيسر للضريح بعد أن استدار إلى الغرب، ولازالت أثار هذه الضربة بادية إلى اليوم.و لما خرجت هذه الطلقة أصابت العدو في مقتل، مخلفة وراءها حفرة عميقة لازالت معالمها بادية إلى اليوم بسهل سهب كداني، عند المكان المعروف بحجرة العبار وعندها سلط عليه جيشا عرمرما من نوع آخر، قوامه الناموس والنحل، أكل الأفراد والدواب، وأتى على الأخضر واليابس، بينما تكفل ولي آخر ، هو سيدي كه[3]، بإمطار جيش العدو بوابل من قذائف نارية، وتبعا فلول جيش السلطان الأكحل حتى مكان يعرف بسيوم، قرب الولي الصالح سيدي أحمد بن عباد ، شرقا من الزاوية الغنيمية. أي على بعد عشر كيلومترات، من مكان الهجوم الأول. حتى تفرق جمع الأعداء وخارت قواهم واندحروا يجرون ذيول الهزيمة. وبذلك يسدل الستار على فصل جديد من فصول جهاد مول البركي ضد البرتغال، أو من تحالف معه. وسنعود لمناقشة قضية السلطان الأكحل هذا لمعرفة حقيقته، وأهدافه ، ولماذا هاجم بعض الزوايا وخرب بعضها الآخر، وهجر بعض الأولياء وأقفل زواياهم، بل وحاك لهم المكائد والدسائس قبل أن يتخلص منهم ، ولمعرفة من هو السلطان الأكحل هذا، لابد من العودة إلى الوراء، للوقوف عند البدايات الأولى لقيام الدولة السعدية بالجنوب المغربي، وشروط البيعة وقوانينها عند ملوك هذه الدولة ، التي آلت على نفسها تحرير المغرب من السيطرة الأجنبية المتمثلة في البرتغال والأسبان ، بعدما تقاعس حكام بني وطاس، والوحدات السياسية التي ظهرت بالشمال، عن أداء هذا الدور، ولم تستطع المقاومة الشعبية أن تذهب بعيدا في هذا الاتجاه. لقد أحدث الاحتلال الأجنبي للشواطئ المغربية، ردود فعل قوية في الداخل، سواء من العلماء والأولياء والأشراف[4] أم من لدن الفئات الشعبية، وقد خاب ظن المغاربة في الوطاسيين الذين لم يستطيعوا لا تحرير الشواطئ من الاحتلال ولا توحيد البلاد ، فكان لابد من بديل ، وكان لابد من قوة سياسية جديدة توحد المغرب وتحرر ثغوره، وكان هذا شأن الدعوة التي قامت في بلاد السوس. لقد أثارت الحملات الأجنبية على هذه المنطقة رد فعل قوي من قبل الأهالي، وتوحدوا فيما بينهم، وكونوا جبهة رفض للاحتلال خصوصا وقد استسلمت جل الشواطئ المغربية لهذا الاحتلال. لقد كانت هذه المنطقة محل مولد الجز ولية التي عم إشعاعها كل جهات المغرب، وبالتالي لابد أن يكون لأتباعها دور كبير في مقاومة المحتل بشتى الطرق والوسائل، خصوصا إذا نحن استحضرنا ما قاله الإمام محمد بن سليمان الجزولي في هذا الصدد : " ...إن دولتنا دولة المجتهدين المجاهدين في سبيل الله..."[5] ، وقد اتجه السكان، في هذه الظروف الصعبة، إلى أحد المشايخ المعروف بورعه واستقامته ونفوذه القوي بين القبائل السوسية، هو الإمام محمد بن مبارك بقرية ( أقا )، وكان ذا مكانة كبيرة بين السكان، يقدرونه ويحترمونه، ويأتمرون بأوامره حتى أنه سن لهم "... أياما معلومة في كل شهر يسمونها أيام سيدي محمد بن مبارك، لا يحمل فيها أحد سلاحا ولا يقدر أحد على المشاجرة فيها ويجتمع الرجل مع قاتل أبيه وولده وما يقدر أن يكلمه، وذلك شائع عند قبائل العرب والبربر من أهل سوس..."[6] ، وحاولوا مبايعته على أمرهم، إلا أنه رفض ذلك، لثقل الأمانة، لكنه دلهم ،في المقابل، على أحد أشراف ( تاكمادارت) بدرعة، ألا هو المولى محمد بن عبدالرحمن، الذي عرف عنه ورعه، وتمسكه بسيرة السلف الصالح، وحثه الناس على الجهاد، بل ومرابطته من أجل ذلك، إذ كان "... يستنفر الناس للرباط بأقدير حيث كان النصارى دمرهم الله..."[7]، وكان يحظى بنفوذ قوي بين القبائل، فعرضوا عليه الأمر فقبله، فاجتمع بهم في قرية ( تدسي ) قرب تارودانت، وخطب فيهم خطبة بلسانهم، حض فيها على الجهاد ، وفصل فيها المهام والواجبات والحقوق، وفي ذلك يقول الزياني : "...خطبهم خطبة عجيبة بلسان البربر، ذكر فيها ووعظ، وحض على الجهاد ..."[8] واستعرض أوضاع البلاد و ما آلت إليه من ضعف وتقهقر. وبعد هذه الخطبة تمت مبايعته بالإجماع بتزكية من العلماء والصلحاء، و اتفق مع كل القبائل أن تجهز كل واحدة عشرة أفراد من أبنائها بالعتاد والسلاح، فكان له ذلك، واجتمعت له نواة جيش مكون من خمسمائة رجل، فباشر مهامه الجديدة من مقره بسوس. لما وصل إلى السوس ، أعلن بيعة ابنه الأكبر المولى أحمد ليكون له عونا على الجهاد، خصوصا وأنه شاب يتوقد حماسة وقوة، فصار المولى أحمد هذا يلقب بملك السوس، بينما تلقب المولى محمد بلقب ( القائم بأمر الله )، وبذلك نشأت الدولة السعدية، فأخذ المولى أحمد على عاتقه الجهاد ضد نصارى البرتغال وعملائهم، كما كان تواقا إلى بسط نفوذه على كل المغرب، وللوصول إلى هذه الغاية ، استغل كل الموارد الفلاحية والتجارية ، وأبرم عدة اتفاقيات مع التجار غير البرتغاليين، ثم بدأ بأول هجوماته على مراكز الاحتلال البرتغالي ، وكان ذلك على مركز سانتكروز يوم الثامن عشر من غشت سنة 1511 ميلادية وعزز هجوماته العسكرية بفرض حصار اقتصادي على كل مراكز تواجد البرتغال بالسوس، والضرب على أيدي كل من حاول التعامل معهم، تم حرر سنة 1516 مدينة تارودانت وماسا واحتل بعض المواقع الاسترتيجية المحيطة بحصن سانتكروز، فضيق الخناق على البرتغاليين، وبسط نفوذه على بلاد سوس، ثم تطلع إلى بسط نفوذه إلى بلاد الحوز والشياظمة وعبدة، وقد كان له بها كثير من الأنصار وذلك منذ زمن ليس بالقليل، خصوصا بعد أن انتقل أبوه المولى محمد بن عبدالرحمن إلى الشياظمة واستقر بها ، وهكذا قام بحملة على مدينة مراكش فاحتلها في أوائل يناير سنة 1525 وجعلها عاصمة لملكه، وبذلك بدأت الدولة تأخذ بعدها الحقيقي. وبدأ المولى أحمد الأعرج يتطلع إلى غزو فاس وبالتالي توحيد المغرب تحت راية السعديين، ساعده في ذلك الهدنة التي عقدها مع البرتغال كما ساعده ضعف الوطاسيين خصوصا بعد وفاة ملكهم محمد البرتغالي في شهر ماي من سنة 1526 وبيعة أخيه أبي حسون الذي لم يستمر في الحكم سوى خمسة أشهر أو نيف، إذ سرعان ما عزله ابن أخيه المولى أحمد وتولى السلطة بدلا منه وذلك في شتنبر من نفس السنة. وبعدها استقر وضع الوطاسيين في فاس، ولكي يتفرغ حاكمهم أحمد الو طاسي للسعديين، حاول أن يؤمن جانب البرتغاليين، فكلف وزيره المولى إبراهيم بن علي بن راشد الإدريسي بالاتصال ببرتغالي أصيلا ، كما كلف أحمد العطار قائده على تادلا بالاتصال ببرتغاليي أسفي، وقد تم له ذلك، فحاصر مدينة مراكش، وكبد السعديين الكثير من الخسائر في الأرواح والعتاد، وكاد أن يدخلها فاتحا، لولا أن جاءه نبأ ثورة ابن عمه مسعود بن الناصر بمكناس فقفل راجعا لإخماد هذه الثورة فحصل له ذلك بوساطة من وزيره، فاقتيد ابن عمه هذا إلى فاس وبقي في سجنه إلى أن مات[9]. ولتقوية نفوذ الوطاسيين في المغرب، حاولوا خلق تحالفات على أكثر من صعيد، وهكذا تحالفوا مع الأتراك ضد الأسبان والبرتغال كما حاولوا استمالة الفرنسيين وملكهم فرانسوا الأول، العدو اللذوذ لملك اسبانيا شارلكان. ثم اشتبكوا مع السعديين في حروب كثيرة منها معركة بوعقبة قرب وادي العبيد ، وذلك يوم 24، يوليو سنة 1536 لكنهم انهزموا شر هزيمة. بعد ذلك "... تدخل كبار القوم، وعقد صلح بين الطرفين، كتبه العالم محمد عبد الواحد الونشريسي حيث أصبح الشمال للوطاسيين والجنوب للسعديين، واتخذ وادي أم الربيع كخط فاصل بينهما كما احتفظ الوطاسيون بسجلماسة وبتافيلالت بينما أعطيت درعة للسعديين بالإضافة إلى تادلا وتامسنا ..."[10]. بعد هزيمتهم هذه حاول الوطاسيون استمالة البرتغاليين من جديد، فدخل هؤلاء معهم في مفاوضات درء للخطر السعدي الذي يتهدد الأمتين المسيحيتين.كما دخلوا مع السعديين في مفاوضات كذلك. بل وقعوا معهم هدنة يوم 25 أبريل سنة 1537 لمدة ثلاث سنوات.ووقعوا أخرى مع الوطاسيين يوم 24 يونيو سنة 1538 ، وقد حاول كل من السعديين والوطاسيين الاستفادة من هذه الهدنة لتقوية جانبه ، كل على طريقته. وكان للانتصارات التي حققها المولى محمد نائب المولى أحمد على سوس وتحريره لحصن سانتكروز يوم 12 مارس سنة 1541 أثر كبير على سياسة البرتغال في المنطقة إذ سرعان ما أمرت حاميات أسفي و أزمور بالجلاء عن هذه المدن، وتحصين حامية مازكن. وقد أظهرت هذه الانتصارات حكام الدولة السعدية كمحررين لثغور المغرب المحتلة وجعلتهم قاب قوسين أو أدنى من الاستيلاء على فاس وبالتالي توحيد المغرب. إلا أن الخلاف الذي نشب بين الأخوين المولى أحمد والمولى محمد حول اقتسام غنائم سانتكروز، حيث طالب المولى أحمد بنصفها في حين أنكر عليه ذلك المولى محمد، ومحاولة تولية المولى أحمد لابنه دون أخيه المولى محمد، وبذلك يخالف ما سنه والده القائم بأمر الله، في أن لا يتولى الملك إلا الأكبر سنا في العائلة " ... أما مولانا محمد الأكبر فقد عهد لأولاده مولانا أحمد ومولانا محمد الشيخ و إخوانهما ألا يتولى الخلافة منهم ولا من أولادهم إلا الأكبر فالأكبر، فالتزموا ذلك، إلى أن كبر أولادهم فطلب المولى محمد من المولى أحمد الوفاء بذلك فامتنع. فقاتله على ذلك..."[11]، ورغم تدخل الأولياء ورجال الدين للصلح بين الأخوين، إلا أن الحروب بينهما ظلت سجالا، إلى أن انتصر المولى محمد على أخيه المولى محمد في معركة وادي الكاهرا قرب وادي العبيد وذلك سنة 1544 ، ففر المولى أحمد مع أسرته إلى زاوية سيدي عبدالله بن ساسي ومنها إلى سجلماسة بالجنوب المغربي. فجعل المولى محمد من مراكش عاصمة ملكه، ومنها استمر في الدعوة إلى الجهاد وتحرير المغرب ، ومنها كذلك قارع الوطاسيين ونازلهم فانتصر عليهم في معركة درنة في شتنبر من سنة 1545 وأسر ملكهم أحمد الوطاسي، إلا أنه لم يزحف إلى فاس بل أكثر من ذلك أطلق سراح الملك الوطاسي بعد سنتين قضاهما في السجن، بعد أن تنازل له هذا الأخير على مكناسة وبلاد الغرب، وصاهره، إلا أن الوطاسيين نكتوا عهدهم وتحالفوا مع خصوم المولى أحمد ، فدارت بين الفريقين معركة واد سبو يوم الثاني من ماي سنة 1548 انهزمت خلالها قوات المولى محمد ، إلا أن هذه الهزيمة لم تنقص من عزيمة محمد الشيخ فحاصر فاس من جديد ، إلى أن سقطت[12] ، فتقوى نفوذ المولى محمد وزادت قوة دولته، وبايعه حكام الإمارات ورؤساء القبائل ، وبقضائه على أخيه أحمد الأعرج وأسره، وإخراجه لآبي حسون الذي كان قد استولى على مدينة فاس من جديد، بعد أن كان دخلها على أكتاف الأتراك في اليوم الثامن من يناير من سنة 1554 ، وقبضه على كل من اشتم فيه رائحة الخيانة والتحريض كالزقاق والونشريسي وحرزوز بمكناسة، يكون الجو قد صفا من جديد للمولى محمد[13]، فبدا كخصم عنيد للأتراك، يلح على منازلتهم في الجزائر نفسها[14]، وهذا ما يفسر التقارب الذي حصل بين السعديين والبرتغال بوساطة من حاكم مازيغن، والتي أسفرت عن هدنة بين الطرفين لمدة ستة أشهر ، وقعت بداية سنة 1555 ، بل أكثر من ذلك تم التحضير، في فاس، لهجوم محتمل سعدي- إسباني على الأتراك، ونتيجة لهذا التقارب السعدي، البرتغالي الإسباني، بعث الأتراك إلى المولى محمد وفدا يخطب وده، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فعاد رسول الترك خائبا[15] ، وبدأ الأتراك يفكرون في التخلص من المولى محمد، فتم لهم ذلك عند زوال يوم الأربعاء 27 ذي الحجة سنة 964 هجرية الموافق ليوم 23 أكتوبر من سنة 1557 م، أثناء إحدى زياراته التفقدية لمدينة تارودانت.وعلى أثر ذلك، بويع ابنه المولى عبدالله بالخلافة، وكان بمدينة فاس، ولقب نفسه بالغالب بالله. كان أول عمل قام به، هو الانتقام من قتلة أبيه[16]، وإخماد بعض الثورات التي ظهرت هنا وهناك إثر هذا الاغتيال ، ثم جهز جيشه لملاقاة الأتراك في معركة قرب وادي اللبن ، هزمهم فيها شر هزيمة[17] ، وبالتالي يتضح بأن الحاكم السعدي الجديد يسير على نهج أبيه في مقارعة الأتراك لكبح نزعتهم التوسعية في المغرب، والتحالف مع الاسبان والبرتغال، بل والتقرب كذلك من فرنسا وانجلترا، أما على مستوى آخر فإن الأتراك قاموا بإيواء بعض من معارضي الأمير السعدي، خصوصا بعضا من إخوته الذين رفضوا مبايعة ابنه المولى محمد،فبدأ يتخلص منهم بالاغتيال ، واحدا تلو الآخر، حتى قتل منهم ثلاثة وفر الباقون إلى خارج المغرب. ولما توفي المولى عبدالله الغالب، وولي ابنه المولى محمد الملك من بعده ، ازدادت رغبة الأتراك بالاستيلاء على المغرب فاستغلوا فرصة مطالبة عبد الملك وأحمد السعدي بأحقيتهما في العرش واستنجادهما بالأتراك.و درء للخطر الذي أصبح يشكله الأتراك على المغرب، عمد محمد المتوكل، إلى السير على نهج أبيه في التقرب من الدول المسيحية، وهكذا عقد اتفاقية تجارية مع الانجليز، لعلها الوحيدة في فترة حكمه القصير للمغرب، من جهة أخرى ، أمدت الدولة العثمانية عبد الملك بقوات عسكرية، دخل بها في حرب مع المتوكل، فانتصر عليه في معركة الروكان مما مهد له الطريق إلى فاس، ومنها لاحق المتوكل إلى مراكش[18] ، إلا أن هذا الأخير فر إلى سوس، ومنها بدأ يؤلب القبائل على عمه، فكانت الحرب بينهما سجالا لم تفتر خلال سنتين خاضا خلالها أربع وعشرين معركة[19] انهزم في جميعها المتوكل[20]. وكان لهذه الحرب الأهلية أثرها على الأوضاع الداخلية، حتى كادت أركان الدولة تنهار، وقد وصف الفشتالي ذلك بقوله : "... نفقت ... أسواق الفتن وأظلم الجو... بالهرج في سائر أقطار المغرب حتى تنمرت الرعايا و استنسر بغاتها وطغى الجند... وتعطل الخراج منذ سنين حتى نفذ الطارف و التالد... وكاد سلك الدولة ينتثر..."[21]. في هذه الآونة لم يضعف المتوكل أو يكل له ساعد، بل على العكس من ذلك، التجأ إلى شمال المغرب، حيث طلب مساعدة ملك البرتغال[22]، ثم انتقل إلى سبتة وبقي بها أربعة أشهر، ثم وصل إلى طنجة ، لينتظر بها وصول الملك البرتغالي على رأس جيش يغزو به المغرب، فيسترد المتوكل ملكه من عمه عبد الملك، ومن طنجة وجه رسالة إلى علماء المغرب وأوليائه وشرفائه، قال الناصري في الاستقصا : " ... وكان محمد بن عبد الله المذكور قد كتب عند خروجه بجيش البرتغال إلى بلاد الإسلام، رسالة بعث بها إلى أعيان المغرب من علمائه وأشرافه وذوي رأيه، يغمض عليهم بها في نكث بيعته، ونقضها ومبايعة عمه من غير موجب شرعي، وقال لهم: "... ما استصرخت بالنصارى حتى عدمت النصرة من المسلمين، وقد قال العلماء: "... أنه يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقه، بكل ما أمكنه..."، وتهددهم فيها وأبرق وأرعد، وقال: "... فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وسمى النصارى: أهل العدوة واستنكف من تسميتهم نصارى، فأجابه علماء الإسلام رضوان الله عليهم عن رسالته تلك برسالة دامغة لجيش أباطيلة وفاضحة لركيك تأويله،..."[23]. أما عمه عبد الملك ، فقد تمت له السيطرة على كل أرجاء المغرب باستثناء منطقة الغرب ، أي القصر الكبير وأصيلا و العرائش، فقد كانت تحت سيطرة عبد الكريم بن تودة صهر المتوكل. وبخصوص موقفه من تدخل البرتغال في المغرب، فقد كتب رسالة إلى البلاط البرتغالي ليثنيه عما عزم عيه. لكن الأمر كان مقضيا، ولم يلتفت ملك البرتغال إلى تحذيرات عبد الملك السعدي أو تحذيرات ملك إسبانيا. فوصل بقواته إلى ضواحي مدينة أصيلا يوم الاثنين 12 يوليوز سنة 1578 ، في هذه الأثناء أعد عبد الملك السعدي جيشه واستعد لملاقاة العدو الغازي ، و نادى بالجهاد المقدس في كل أرجاء المغرب، " ... ولما سمعت جنود الله وأنصاره وحماة دينه من العرب والعجم...حملتهم الغيرة الإسلامية والحمية الإيمانية وتجدد لهم نور الإيمان وأشرق عليهم شعاع لا يقاس... عقد الراية المنصورة بالله وسط جامع المنصور بعد أن ختم عليها أهل الله حملة القرآن مائة ختمة وصحيح البخاري وضجوا عند ذلك بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير والدعاء له و للإسلام بالنصر والتمكين..."[24]، وفي خضم الاستعداد للحرب أقدم الأتراك على تسميم عبد الملك ، "... قال ابن القاضي[25] كان سبب وفاة السلطان أبي مروان رحمه الله، أنه سقي سما، وذلك أن قائد الترك الذين كانوا معه، واسمه رمضان العلج، بعث إلى بعض قواده أن يتلقاه بكعك مسموم، هدية للسلطان المذكور، وقت مرورهم عليه وقصد بذلك قتله، وذلك بعد أخذه به مدينة فاس، ليثبت لهم الملك بها، فلم يكمل الله مرادهم، لما شهدوه من عظيم جيش المغرب، فهذا كان سببا في موته رحمه الله..."[26]. وصلت جيوش البرتغال إلى وادي المخازن يوم الأحد 3 غشت سنة 1578 ، فالتقى الجمعان يوم الاثنين 30 جمادى الأولى سنة 986 هجرية الموافق لرابع غشت سنة 1578 [27] ، فدارت الدائرة على الأعداء فقتل دون سبستيان ومحمد المتوكل[28] ، أما عبد الملك فمات صبيحة المعركة[29]. وعلى أثر ذلك ، جمع المولى أحمد الشرفاء ووجهاء القوم وكبار قواد الجيش ، وأخبرهم بموت أخيه، فبايعوه، إلا أن الأتراك حاولوا الدعوة للمولى إسماعيل بن عبد الملك ، ففر المولى أحمد خوفا على نفسه، غير أن المغاربة لم يقبلوا بغيره خليفة عليهم . وكان أول ما قام به المولى أحمد هو دفن أخيه بفاس وسلخ جلد المتوكل وحشوه بالتبن والطواف بمراكش ليكون عبرة لمن أراد التطاول على الشرعية والاحتماء بالنصارى.
الآن وقد استعرضنا مجمل تاريخ الدولة السعدية ، وما كان بين الإخوة والأعمام من منافرات وصراعات حول السلطة والحكم، لابد أن نطرح السؤال حول من: من بين أمراء الدولة السعدية يمكن أن يكون هو السلطان الأكحل الذي تحدثت عنه الحكايات الشعبية، هل هو محمد الشيخ الذي تولى الحكم بعد أن أزاح أخاه أحمد الأعرج وامتحن أرباب الزوايا وطالبهم بخزائن بني مرين، بل وأخرج أبي محمد عبدالله الكوش من زاويته، ورحله إلى فاس حيث مات ودفن هناك؟ أما هو الغالب بالله الذي كان ، كما تقول الرواية تواقا إلى سفك الدماء ، بل قتل ثلاثة من إخوته، وفر الباقون إلى الجزائر، وأوصى بالخلافة لابنه محمد المتوكل ، رغم مخالفة ذلك لتراتبية الخلافة عند السعديين حيث يتولاها الأكبر سنا كما حدد ذلك مؤسس الدولة الأول المولى محمد القائم بأمر الله؟ أم هو محمد المتوكل الذي حكي عنه بأنه كان متكبرا تياها غير مبال بأحد ولا متوقفا فيالدماءعسوفا على الرعية..."[30]،وجاءذكره مرتبطا بهذه الصفة عند منويل كما نقل ذلك الناصري في الاستقصا؟، " ... قال لما استولى عبد الملك السعدي المدعو عند أهل المغرب بمولاي ملوك على ملك المغرب، وطرد ابن أخيه مولاي محمد المعروف بالأكحل يعني المسلوخ..."[31].ولكن قبل ذلك، نعرج على الأثر المكتوب، حديثا، لقصة السلطان الأكحل مع السلطان سيدي عبدالرحمن مول البركي، والمتمثل في ما ورد عند (Antona ) ، حيث يقول : "...فالسلطان الأسود، تلك الشخصية الغامضة التي نجدها دائما مذكورة عبر الأساطير، جاء يوما إلى قبيلة الولي الصالح، وكان يريد أن يقوم بقياس مقدار سلطته على السكان. وعندها دارت باب الضريح للولي مول البركي متوجهة نحو الغرب، فما هي إلا لحظات حتى وجد المهاجمون أنفسهم محاطين بسحابة من النحل فألزمتهم التراجع..."[32] . غير أن القول بأن هذه الشخصية أسطورية، أمر فيه نظر، إذ تؤكد كل الوقائع التاريخية بأن المقصود بهذا اللقب هو أبو عبد الله محمد المتوكل السعدي[33]. ولا يختلف اثنان، من كون الدولة السعدية قامت على أكتاف الزوايا والعلماء والمجاهدين من الأشراف، من مريدي الإمام محمد بن سليمان الجزولي[34]. وكان من جملة أهدافها القضاء على الوطاسيين وإجلاء البرتغاليين عن الثغور المغربية المحتلة، كأسفي، و أزمور، و أكادير وغيرها، وقد تم لها ذلك فتوطدت أركانها بمختلف ربوع المغرب، وتمكنت من قهر البرتغاليين، و الاسبان، والتملص، إلى حد ما، من الأتراك، وذلك بفعل الدور الذي لعبته الزوايا والعلماء والأشراف، في حض الناس على الرجوع إلى ينابيع الإسلام الصافية، ومكافحة أهواء النفس وكبح جماحها، والجهاد ضد الغزاة المحتلين، برا وبحرا. إلا أن العلاقة بين المخزن السعدي والزوايا، لم تكن دائما على ما يرام، إذ يحفظ لنا التاريخ المغربي كثيرا من الصراعات والخلافات ، بل والصدامات بين ملوك الدولة السعدية والعلماء وأرباب الزوايا، من ذلك ما قام به الخليفة أبي عبدالله الشيخ من امتحان للزوايا ، مما نجده مفصلا في كتاب الاستقصا للناصري، حيث يقول : "...امتحان السلطان أبي عبد الله الشيخ أرباب الزوايا والمنتسبين والسبب في ذلك . لما كانت سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، أمر السلطان أبو عبد الله الشيخ بامتحان أرباب الزوايا والمتصدرين للمشيخة خوفا على ملكه منهم لما كان للعامة فيهم من الاعتقاد والمحبة والوقوف عند إشاراتهم، والتعبد بما يتأولونه من عباراتهم، ألا ترى أن بيعة والده أبي عبد الله القائم لم تنعقد إلا بهم، ولا ولج بيت الملك إلا من بابهم، فامتحن جماعة منهم كالشيخ أبي محمد الكوش فأخلى زاويته بمراكش وأمر برحيله إلى فاس.
وفي الدوحة : لما امتحن السلطان أبو عبد الله الشيخ زوايا المغرب قيل: لأبي علي الحسن بن عيسى المصباحي دفين الدعادع(ة) التي على وادي مضى من عمل القصر: "... ألا تخشى من هذا السلطان؟..."، فقال: "... إنما الخشية من الله ومع هذا فالماء والقبلة لا يقدر أحد على نزعهما، والباقي متروك لمن طلبه..." . وكان السلطان المذكور يطالب أرباب الزوايا بودائع أمراء بني مرين ويتهمهم بها. وبعث خديمه يوما إلى الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر المشترائي، دفين مكناسة، يطالبه بشيء من ذلك، فوجده جالسا بناحية زاويته يضفر الدوم، وإذا بطائر، لعله اللقلاق سلح أمامه، فما رفع أبو عثمان بصره حتى سقط الطائر ميتا متطاير الريش، فلما رأى الخديم ذلك فزع وولى هاربا. قاله: في الممتع، والله تعالى أعلم ...".[35] . قد يكون السلطان الأكحل هو أبي عبدالله الشيخ الذي امتحن الزوايا، كما رأينا سابقا، وشرد أبي محمد عبد الله الكوش[36] ، إلا أن هذا الملك لم يكن خارجا عن الشرعية، وإنما الذي دفعه إلى ذلك هو حرصه على صيانة أركان دولته من التصدع، وقد صرح بهذا السبب الناصري نفسه، حين قال: "... خوفا على ملكه منهم..." ، وهذا كما نعرف حكم قبل ألمسلوخ بسنوات عديدة، إذا وصل إلى السلطة بعد خلافه مع أخيه حول اقتسام غنائم حصن سانتكروز ، كما أشرنا إلى ذلك في موضعه، ثم أوصى بالخلافة من بعده، لابنه الغالب بالله ، ويبقى من المرجح أن المقصود بالسلطان الأكحل، هو محمد المتوكل، حيث تنص بعض الوثائق التاريخية على ذلك، كما تؤكده الوقائع والأحداث، حيث اعتبر خارجا عن الشرعية لغصبه للخلافة واستنجاده بالنصارى ضد المسلمين ، و معلوم أنه لما أكرهه عمه على الخروج من فاس ثم من مراكش ، أخد يطوف في أرجاء المغرب، يدعو لنفسه ويكره الناس على بيعته ولابد أن يصطدم أثناء ذلك بأرباب الزوايا والعلماء والأشراف والأولياء والصالحين، من ذلك ما ذكر في سيرة الولي الصالح سيدي محمد ين موسى المعروف عند العامة بأبي الشتاء[37] الخمار دفين آمركو بفشتالة، حيث تذكر الأخبار المتواترة بأن سيدي عبدالله بن حسون دفين سلا، قال للسلطان الأكحل محمد المتوكل ،ملك فاس، وكانت السنة جعفاء، لم تمطر فيها السماء ، بأن سيدي محمد بن موسى مستجاب الدعاء ، ولعل الخير يأتي على يديه فتمطر السماء، فطلبه السلطان هذا ، فلم يجب دعوته، وتعلل بانشغاله بعبادة ربه،فرحل إليه السلطان الأكحل في قبيلته، فالتقاه على ضفة نهر سبو، في مكان يسمى بالحجرة الشريفة، وصلى الشيخ بهم صلاة الاستسقاء ثم رفع أكفه بالدعاء قائلا : " ... اللهم إن السلطان الأصغر يسألك أنت السلطان الأكبر المطر لعبادك...". و ما إن أكمل الشيخ دعاءه، حتى تلبدت السماء بالغيوم وبدأت تمطر قبل أن يصل السلطان الأكحل إلى فاس, ولما انفض الجمع ورحل كل إلى حال سبيله، ذهب الشيخ أبي الشتاء إلى سيدي عبدالله بن حسون ولامه على فضح أمره لهذا السلطان، إذ يعتبر الجفاف عقابا من الله لمن حاد عن جادة الصواب، وقيل بأنه قال له : "...إن عصفورين لا يسعهما عش واحد ولا بد لأحدهما أن يغادر...".[38] وقيل بأن سيدي عبدالله بن حسون قال للشيخ أبي الشتاء : " ... إنك ضيف علينا ونحن أصحاب البلاد فنحن نغادر وأنتم تبقون...". ويؤكد ما ورد هنا في سيرة أبي الشتاء الخمار وقصته مع محمد المتوكل ، أنه طارئ على البلد وهذا ما أكده صاحب مرآة المحاسن ، وصاحب الاستقصا، من كون هذا الولي جاء من الشاوية واستقر بالمنطقة[39]، ,وأنه لم يكن راضيا عن محمد المتوكل لاغتصابه الحكم من عمه عبد الملك، ولتيهه وعجرفته، لذلك رفض القدوم إليه بفاس متعللا بالعبادة والانقطاع إلى الله تعالى، وأخفى عنه سر ولايته، ولما جاءه في مقر إقامته لام سيدي عبد الله بن حسون على فضح سره. كما تؤكد هذه الحادثة على أن محمد المتوكل هو المقصود بالسلطان الأكحل وليس أبي عبد الله الشيخ الذي امتحن أرباب الزوايا ورحل أبي محمد عبدالله الكوش من زاويته نحو فاس حيث توفي، إذ حكم المتوكل مابين سنتي 981 هـ و983 هـ ، وكانت فاس عاصمة ملكه، قبل أن يخرجه عنها عمه عبد الملك السعدي، فيلجأ إلى البرتغال ثم يموت في معركة وادي المخازن فيسلخ جلده ويحشى بالتبن ويطوف به في أرجاء البلاد، ويسمى بالسلطان الأكحل المعروف عند العامة بالمسلوخ[40]، مما بسطنا القول فيه سابقا. أما أبي عبد الله الشيخ ، فرغم أنه كان "... مولعا بتدبيرأمر الرعية مستيقظا في أموره حازما غير متوقف في سفك الدماء..." إلا أنه "... لما دخل فاسا حاول أن يتأدب بأدب أهل الحاضرة، فـ "... تأنق على يد رجل وامرأة، فأما الرجل فقاسم الزرهوني، فإنه رتب للسلطان أبي عبد الله الشيخ، هيئة السلاطين في ملابسهم، ودخولهم، وخروجهم، وآداب أصحابهم، وكيفية مثولهم بين أيديهم، وأما المرأة فالعريفة بنت خجو، فإنها علمته سيرة الملوك في منازلهم، وحالاتهم في الطعام واللباس، وعاداتهم مع النساء، وغير ذلك، فاكتسى ملك الشيخ بذلك طلاوة، وازداد في عيون العامة رونقا وحلاوة، بسبب جريانه على العوائد الحضرية،... ولم يزل السلطان أبو عبد الله الشيخ يدور على مدن المغرب وأمصاره، ويطيل الإقامة بفاس..."[41] فمن تكن هذه سيرته، لا يمكن إلا أن تحبه رعيته وأن تواليه لا أن تعاديه كما فعلت مع محمد المتوكل المسلوخ، أضف إلى ذلك أن أبا عبدالله الشيخ لم يكن في يوم من الأيام خارج الشرعية.بل على العكس من ذلك الذي كان خارجا عنها واستعان كما قلنا، بالنصارى لحرب المسلمين ، هو محمد المتوكل، وهو ما لم يغفره له العلماء والأشراف وشيوخ الطرق والصوفية وأرباب الزوايا خصوصا وأن الدولة السعدية قامت على أكتاف هؤلاء ، يقومون بالدعوة لخلفائها في أرجاء المغرب، يحثون الناس على ذلك، ويحثون على الجهاد لدحر العدو البرتغالي الذي بدأ يتغلغل في الثغور المغربية. وقد قام هؤلاء بدور كبير في كل المعارك التي خاضها السعديون ضد خصومهم في الداخل وضد المحتل. وقد شاركوا في معركة وادي المخازن الشهيرة. وقاوموا الخروج عن الشرعية ومقتضيات البيعة، ذلك الخروج المتمثل فيما قام به أبو عبد الله محمد المتوكل المسلوخ، الذي احتمى بنصارى الضفة الأخرى، وثار على عمه عبد المالك السعدي، الملك الشرعي للمغرب. وقد وجه علماء المغرب وأولياؤه إلى أبي عبد الله محمد المتوكل المعروف بالمسلوخ[42] ، والأكحل كذلك[43]، رسالة يدعونه فيها إلى الرجوع عما هو فيه، والاعتراف بشرعية ملك عمه، ولأهمية هذه الرسالة في الدلالة على شخصية السلطان الأكحل ، نوردها كاملة كما نقلها الناصري في كتابه الاستقصا:
" الحمد لله كما يجب لجلاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير أنبيائه و أرساله، و الرضى عن آله و أصحابه، الذين هجروا دين الكفر فما نصروه ولا استنصروا به، حتى أسس الله دين الإسلام بشروط صحته وكماله.
وبعد، فهذا جواب من كافة الشرفاء والعلماء والصلحاء والأجناد، من أهل المغرب وفقهم الله، لمولانا محمد بن مولانا عبد الله السعدي، عن كتابه الذي استدعاهم فيه لحكم الكتاب والسنة، واستدل بحججه الواهية المنكبة عن الصواب، قائلين له عن أول حجة صدر بها الخطاب، لو رجعت على نفسك اللوم والعتاب، لعلمت أنك المحجوج والمصاب، فقولك: خلعنا بيعتك التي التزمناها، وطوقناها أعناقنا وعقدناها، فلا والله ما كان ذلك منا عن هوى متبع ولا على سبيل خارج عن طريق الشرع مبتدع، وإنما ذلك منا على منهج الشرع وطريقه، وعلى سبيل الحق وتحقيقه، وسنشرح لك ذلك ونبينه، ونسطره لك بالأدلة الشرعية التي ترقيه وتزينه، نعم كنت سلطانا بما عقد لك والدك من البيعة، وترك لك من الأموال والعدد والحصون مما لم يتهيأ مثله لأحد من أسلافكم الكرام رضوان الله عليهم، فجاهدوا بما حصل لهم من ذلك في الله حق جهاده، حتى استخلصوا من أيدي الكفار رقاب عباد الله وحصون بلاده، وأسسوا لدين الله قواعد وأركانا، وملكوا من المغرب بلادا معتبرة وأوطانا، فلما وصل ذلك إليك ألقت إليك العباد أعنتها، وملكتك أزمتها، غير مبدلين ولا مغيرين، ولا باغين ولا منكرين، إلى أن قام عليك عمك بحجته التي لا يمكنك جحدها، حسبما ثبت كما يجب عقدها، فخرجت مبادرا له بدفعها، ولقيته بها وأنت واسطة عقدها، وحامل راية عهدها، وعمك في فئة لا يخطر على بال عاقل أن يقابل جندا من جنودك، أو يدافع ما تحت لواء من ألويتك وبنودك، فما هو إلا أن جرى القتال، وحضر النزال، رجعت على عقبك هاربا هروب مطرود بقصاص، وجنودك تناديك ولات حين مناص، فتركت عددك ومحلتك بكل ما فيها، وخلفتها لعدوك ينهبها ويسبيها، وهربت عن مدينة فاس المحروسة وسكانها ينادونك: لمن تركتنا وإلى من تكلنا ؟ فلم تلتفت إليهم، وأسلمت بلادهم على ما فيها من خزائن ا لأموال والعدد الوافرة والرجال والأسوار المرتفعة المانعة، والمدينة المشهورة الجامعة، فأصبح أهلها واليد العادية من المفسدين تريد أن تمتد إلى الحريم والأولاد، و الطارف و التالد، ولا دافع عن الضعفاء والمساكين إلا الله تعالى، الذي قال في مثلهم: "... ومن أصدق من الله قيلا.."، "... لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا،..." فما أمكنهم بعد هروبك عنهم وإسلامك لهم فوضى مهملين إلا النظر في أمرهم، وإعمال الفكر في التدبير على أنفسهم، فبينما هم على ذلك إذا بعمك بجنوده على باب مدينتهم قائما بحجته، سالكا في ذلك سبيل أبيه رحمه الله و محجته، حسبما تقرر ذلك عندكم وظهر، ولم يخف عنكم منه عين ولا أثر، إذ كان مولانا محمد الجد الأكبر عهد لأولاده مولانا أحمد، ومولانا محمد الشيخ وإخوانهم، لا يتولى الخلافة منهم ولا من أولادهم إلا الأكبر فالأكبر، فالتزموا ذلك إلى أن كبر أولادهم فطلب جدك من عمك الوفاء بذلك فامتنع، فقاتله على ذلك حتى تم له الأمر وانتظم، فعهد لوالدك الذي كان أكبر أولاده، فلم ينازعه أحد في ذلك إلى أن ألقى والدك رحمه الله ذلك، وعهد إليك فلم ينازعكم أحد، فأبى الله إلا الحق فأعطى ملكه لعمك الذي هو أكبركم بعد أبيك، فإن سلمت هذا فأي حجة تدلي بها وأي طريق تعتمد عليها ؟ وإن أنكرت هذا فلا أثر لخلافة أبيك من قبلك ولا لجدك من قبله لثبوتها لعمكم مولانا أحمد، إذ لا حجة حينئذ لجدك في القيام على عمك، فخلافته صحيحة لبيعة جدك له، فلم يبق إلا التغلب الذي تدلي به في مسألة عمك وفي قيامه عليك، فإن كنت تريد أن تسقط حجته بالتغلب عليك فحجتك أبين في السقوط لعدم ثبوت الخلافة لمن عقدها لك، إذ المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، فلم يبق بينكم إلا: "... والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا..." فيلزمك على هذا أن تثبت ما عقده مولانا الجد رحمة الله، وعليه فالخلافة لعمك القائم عليك إذ هو أكبركم في هذا التاريخ.
فإن قلت: إن ما عقده الجد غير صحيح، قلنا: فقد ذكر الإمام الماوردي رحمه الله ورضي عنه في كتاب الأحكام السلطانية له في باب عقد الخلافة : أن عبد الملك بن مروان رتبها في الأكبر فالأكبر من بنيه فلم ينازعه أحد في ذلك.
فإن قلت: فعل عبد الملك ليس بحجة، قلنا: سكوت العلماء على ذلك وهم ما هم في زمانه هو الحجة، إذ لا يمكن أن يسكتوا على باطل، وإقرار أهل العصر الواحد على مسألة من المسائل واتفاقهم عليها، يقوم مقام الإجماع الذي هو حجة الله في أرضه، وكان أيضا من محفوظات علماء فاس المحروسة ما أخرجه مسلم رضي الله عنه في صحيحه في كتاب الإمارة، ما نصه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند رأسه يقال هذه غدرة فلان بن فلان، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة..." قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله في كتاب إكمال المعلم على شرح فوائد مسلم : "... يعني لم يحطهم ولم ينصح لهم ولم يف بالعقد الذي تقلده من أمرهم..."، وفي الباب نفسه عنه (صلعم)ما نصه: "... ما من أمير استرعاه الله رعية ثم لم ينصح لهم إلا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام...". وفي الإكمال نفسه قال القاضي: "... والذي عليه الناس: إن القوم إذا بقوا فوضى مهملين لا إمام لهم فلهم أن يتفقوا على إمام يبايعونه، ويستخلفونه عليهم، ينصف بعضهم من بعض، ويقيم لهم الحدود...". فلما أسلمتهم وأضحوا بغير إمام، وعمك يدلي بحجته التي ذكرنا لك مع ما حفظوه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح، و أيسوا من رجوعك إليهم، وبقوا فوضى مهملين لم يسعهم إلا الرجوع إلى ما عليه الناس رضوان الله عليهم، فاتفقوا على أن يبايعوا عمك لما ذكرنا لك من الحجج التي لا يسعك جحدها إلا على وجه المكابرة، فاطمأن الناس وسكنوا وانفتحت السبل وأقيمت الحدود وارتفعت اليد العادية.
فإن قلت: كان يجب على أهل فاس أن يقاتلوا على البيعة التي التزموها لك، قلنا: إنما يلزمهم القتال أن لو أقمت بين أظهرهم، فيكون قتالهم على وجه شرعي، لأن القتال على الحدود الشرعية إنما يكون بعد نصب إمام يصدر الناس عن رأيه، ولا يمكنك أيضا جحدها إيه. ثم وصلت إلى مراكش الغراء التي تجبى إليها الأموال من البوادي والأمصار، وتشد إليها الرحال من سائر الأقطار، فلقيك أهلها بالترحاب والسرور، وأنواع الفرح والحبور، فوجدت خزائنها تتدرج ملئا من كل شيء، فأما أسوارها ورحابها فهي كما قيل: تربة الولي، ومدرج الحلي، وحضرة الملك الأولي، والبرج النير الجلي، فحللتها وتمكنت من أموالها وخزائنه،ا ووافقك أهلها فما نكثوا ولا غدروا، ولا خرجوا عليك في سلطانك ولا أنكروا، فطلبت أيضا قتال عمك وجندت جنودا لا يجمعها ديوان حافظ، ولا يعهدها لسان لافظ، فخرجت إليه تجر أعنة الخيل وراءك كالسيول، والرماة قد ملأت الهضاب والتلول، فما كان من حديثك إلا أن وقع القتال وحضر النزال، بادرت هاربا محكما للعادة، تاركا للرؤساء من أجنادك والقادة، فحلت بهم الخطوب والرزايا، واختطفتهم أيدي المنايا، فتركت أيضا محلتك بما فيها من حريمك وأموالك وعدتك، ثم أسرعت هاربا إلى مراكش فما صدك عنها أحد من أهلها، ولا قال لك أحد لست ببعلها فعملوا على القتال معك والتمنع بأسوارها الحصينة، والحصار داخل المدينة، فلما كان الليل غدرتهم وغادرت بناتك وأخواتك وعماتك ونسائك، وخرجت عنهم من القصبة وتركتهم لا بواب عليهم ولا حارس، ولا راجل ولا فارس، فيالها من مصيبة ما أعظمها، ومن داهية ما أعضلها. ولولا فضل الله ولطفه ووعده بتطهير أهل البيت لامتدت إليهم أيدي السفلة من الفسقة فأي حجة تبقى لك بعد هذا؟ وأي كلام لك بين الرجال يا هذا ؟ ثم جاءك عمك أيضا بما سلف من الحجج فوجد أهلها في لطف الله سبحانه وهم يحرسون أولادهم وديارهم من اليد العادية، فأنقذهم الله به أيضا فبايعوا عمك بما سلف من الحجج، واطمأنوا وسكنوا ثم هربت للجبل عند صاحبه[44] فصرتما في نهب أموال الرعية وسفك دمائهم، وأكثر ما صفا لك من ذلك أهل الذمة المصغرون بحكم القرآن، الداخلون تحت عهد سيد الثقلين في الأمن والأمان فأنت وهم في استيلائك عليهم وظلمك إياهم كما قيل .إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين
ولم تبال بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "... أنا خصيم من ظلم ذميا يوم القيامة..." ثم خربت العامر، وأفسدت ما شيدت الأسلاف للإسلام من المآثر، فلما رأى أهل السوس الأقصى ذلك أيقنوا أنك إنما قصدت خراب الإسلام وأهله، فنكب عنك أهل الدين والعلم منهم وبقيت كما قيل،: "... في خلف كجلد الأجرب...&