السيرة النبوية الشريفة
في غار حرآء الرسول (ص)
ولما تقاربت سنه الأربعين وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه ، حبب إليه الخلاء فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة _ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد _ ومعه أهله قريباً منه فيقيم فيه شهر رمضان يطعم من جاءه من المساكين ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية ولكن ليس بين يديه طريق واضح ولا منهج محدد ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه .
وكان اختياره لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم ولابد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى .
لابد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة وهموم الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة .
وهكذا دبر الله لمحمد وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض وتعديل خط التاريخ : دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان مع روح الوجود الطليقة ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله .
جبريل ينزل بالوحي
ولما تكامل له أربعون سنة _ وهي رأس الكمال وقيل : ولها تبعث الرسل _ بدأت آثار النبوة تتلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة وتلك الآثار هي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح حتى مضت على ذلك ستة أشهر _ ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة ، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاُ من النبوة _ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض فأكرمه بالنبوة وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن .
وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا ويوافق 10 أغسطس سنة 610م وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية وستة أشهر ، و12 يوماً وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و12 يوماً .
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت شعلة من نور اللاهوت أخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة وعدلت خط التاريخ . فقالت عائشة رضي الله عنها :
أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه _ وهو التعبد _ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ ، فقال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما انا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) فرجع رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة مالي وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله مايخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة _ وكان امرؤ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي _ فقالت له خديجة : يا ابن عم ! اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزله الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال رسول الله أو مخرجي هم ؟ قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ...
روى الطبري وابن هشام مايفيد انه خرج من غار حراء بعدما فوجئ بالوحي ثم رجع وأثم جواره وبعد ذلك رجع إلى مكة ورواية الطبري تلقي ضوءاً على سبب خروجه وهاك نصها : قال رسول الله بعد ذكر مجئ الوحي : ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون كنت لا أطيق ان انظر إليهما قال : قلت : إن الأبعد _ يعني نفسه شاعر أو مجنون إلا تحدث بها عن قريش أبداً ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها ، فلأستريحن ! قال : فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد !! أنت رسول الله وأنا جبريل قال : فرفعت رأسي إلى السماء فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل قال : فوقفت أنظر إليه وشغلني ذلك عما أردت فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فمازلت واقفاً أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مقامي ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها ( ملتصقاً بها مائلاً إليها ) فقالت : يا أبا القاسم ! أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت : أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ، ثم قامت فأنطلقت إلى ورقة وأخبرته فقال: قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له : فليثبت فرجعت خديجة وأخبرته بقول ورقة فلما قضى رسول الله جواره وانصرف إلى مكة لقيه ورقة وقال بعد أن سمع منه خبره : والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى
فترة الوحي
أما مدة فترة الوحي فروى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد أنها كانت أياماً وهذا الذي يترجح بل يتعين بعد إدارة النظر في جميع الجوانب وأما ما اشتهر من أنها دامت طيلة ثلاث سنين أو سنتين ونصف فلا يصح بحال وليس هذا موضع التفصيل في رده .
وقد بقي رسول الله في أيام الفترة كئيباً محزوناً تعتريه الحيرة والدهشة فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه : وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي فيما بلغنا الحزن عدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غداً لمثل ذلك فإذا أوفي بذروة الجبل تبدي له جبريل فقال له مثلك ذلك .
جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية
قال ابن حجر : وكان ذلك ( أن انقطاع الوحي أياماً ) ليذهب ما كان وجده من الروع وليحصل له التشوف إلى العود فلما تقلصت ظلال الحيرة وثبتت أعلام الحقيقة وعرف معرفة اليقين أنه أضحى نبياً لله الكبير المتعال وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء وصار تشوفه وارتقابه لمجئ الوحي سبباً في ثباته واحتماله عندما يعود وجاءه جبريل للمرة الثانية .
روى البخاري عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يحدث عن فترة الوحي قال فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني فرملوني فأنزل الله : يا أيها المدثر إلى قوله : فاهجر ثم حمي الوحي وتتابع .
استطراد في بيان أقسام الوحي
قبل أن نأخذ في تفصيل حياة الرسالة والنبوة نرى أن نتعرف أقسام الوحي الذي هو مصدر الرسالة ومدد الدعوة قال ابن القيم _ وهو يذكر مراتب الوحي :
الثانية : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال النبي إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته .
الثالثة : أنه كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً .
الرابعة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وكان أشده عليه فيلتبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها .
الخامسة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .
السادسة : ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها .
السابعة : كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم الله موسى بن عمران هذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء .
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة : وهي تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف .
انتهى مع تلخيص يسير في بيان المرتبة الأولى والثامنة ، والحق أن هذه الأخيرة ليست بثابتة .
ولما تقاربت سنه الأربعين وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه ، حبب إليه الخلاء فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة _ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد _ ومعه أهله قريباً منه فيقيم فيه شهر رمضان يطعم من جاءه من المساكين ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية ولكن ليس بين يديه طريق واضح ولا منهج محدد ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه .
وكان اختياره لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم ولابد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى .
لابد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة وهموم الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة .
وهكذا دبر الله لمحمد وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض وتعديل خط التاريخ : دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان مع روح الوجود الطليقة ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله .
جبريل ينزل بالوحي
ولما تكامل له أربعون سنة _ وهي رأس الكمال وقيل : ولها تبعث الرسل _ بدأت آثار النبوة تتلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة وتلك الآثار هي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح حتى مضت على ذلك ستة أشهر _ ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة ، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاُ من النبوة _ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض فأكرمه بالنبوة وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن .
وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا ويوافق 10 أغسطس سنة 610م وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية وستة أشهر ، و12 يوماً وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و12 يوماً .
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت شعلة من نور اللاهوت أخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة وعدلت خط التاريخ . فقالت عائشة رضي الله عنها :
أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه _ وهو التعبد _ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ ، فقال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما انا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) فرجع رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة مالي وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله مايخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة _ وكان امرؤ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي _ فقالت له خديجة : يا ابن عم ! اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزله الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال رسول الله أو مخرجي هم ؟ قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ...
روى الطبري وابن هشام مايفيد انه خرج من غار حراء بعدما فوجئ بالوحي ثم رجع وأثم جواره وبعد ذلك رجع إلى مكة ورواية الطبري تلقي ضوءاً على سبب خروجه وهاك نصها : قال رسول الله بعد ذكر مجئ الوحي : ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون كنت لا أطيق ان انظر إليهما قال : قلت : إن الأبعد _ يعني نفسه شاعر أو مجنون إلا تحدث بها عن قريش أبداً ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها ، فلأستريحن ! قال : فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد !! أنت رسول الله وأنا جبريل قال : فرفعت رأسي إلى السماء فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل قال : فوقفت أنظر إليه وشغلني ذلك عما أردت فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فمازلت واقفاً أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مقامي ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها ( ملتصقاً بها مائلاً إليها ) فقالت : يا أبا القاسم ! أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت : أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ، ثم قامت فأنطلقت إلى ورقة وأخبرته فقال: قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له : فليثبت فرجعت خديجة وأخبرته بقول ورقة فلما قضى رسول الله جواره وانصرف إلى مكة لقيه ورقة وقال بعد أن سمع منه خبره : والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى
فترة الوحي
أما مدة فترة الوحي فروى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد أنها كانت أياماً وهذا الذي يترجح بل يتعين بعد إدارة النظر في جميع الجوانب وأما ما اشتهر من أنها دامت طيلة ثلاث سنين أو سنتين ونصف فلا يصح بحال وليس هذا موضع التفصيل في رده .
وقد بقي رسول الله في أيام الفترة كئيباً محزوناً تعتريه الحيرة والدهشة فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه : وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي فيما بلغنا الحزن عدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غداً لمثل ذلك فإذا أوفي بذروة الجبل تبدي له جبريل فقال له مثلك ذلك .
جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية
قال ابن حجر : وكان ذلك ( أن انقطاع الوحي أياماً ) ليذهب ما كان وجده من الروع وليحصل له التشوف إلى العود فلما تقلصت ظلال الحيرة وثبتت أعلام الحقيقة وعرف معرفة اليقين أنه أضحى نبياً لله الكبير المتعال وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء وصار تشوفه وارتقابه لمجئ الوحي سبباً في ثباته واحتماله عندما يعود وجاءه جبريل للمرة الثانية .
روى البخاري عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يحدث عن فترة الوحي قال فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني فرملوني فأنزل الله : يا أيها المدثر إلى قوله : فاهجر ثم حمي الوحي وتتابع .
استطراد في بيان أقسام الوحي
قبل أن نأخذ في تفصيل حياة الرسالة والنبوة نرى أن نتعرف أقسام الوحي الذي هو مصدر الرسالة ومدد الدعوة قال ابن القيم _ وهو يذكر مراتب الوحي :
الثانية : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال النبي إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته .
الثالثة : أنه كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً .
الرابعة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وكان أشده عليه فيلتبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها .
الخامسة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .
السادسة : ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها .
السابعة : كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم الله موسى بن عمران هذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء .
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة : وهي تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف .
انتهى مع تلخيص يسير في بيان المرتبة الأولى والثامنة ، والحق أن هذه الأخيرة ليست بثابتة .