الشيخ محفوظ نحناح -داعية الجزائر
يعتبر الشيخ محفوظ نحناح جزءً من ظاهرة الحركة الإسلامية المعاصرة، أو بالأحرى معلمًا من معالم حركات التغيير المنطلقة من ثوابت الأمة الإسلامية في العصر الحالي.
والمثير في ظاهرة الشيخ محفوظ نحناح، هو ذلك التعامل من جهة، ومن الوسائل والأساليب التي اتخذها في عملية التغيير ومنهجية المعارضة السياسية، أو بالأحرى منهجية الإصلاح السياسي في وطنه الجزائر، وفي مسار الحركة الإسلامية عمومًا.
فالشيخ محفوظ نحناح، انطلقت من مصادر فكره، فهو ابن المدرسة الإسلامية الأصيلة والطموحة نحو تطبيق حقيقي لنظرية "الإسلام صالح لكل زمان ومكان"، وإخراجها من دائرة المجاملات، ومن دائرة النظري المثالي إلى دائرة التطبيق الواقعي.
تأتي هذه الأوراق اليوم لإلقاء الضوء على هذه اشخصيةالمتميزة في إدارة التغيير، وإدارة الإصلاح السياسي، وجمع المفارقات التي ظلت ما يقارب نصف قرن متناثرة في مفاهيم التيار الوطني والإسلامي، العربي، القومي، وكذا التيار النخبوي والشعبي، والتي انتظمت كلها في عقد واحد.
ويضاف إلى ذلك أن الشيخ محفوظ نحناح أصبح مثار جدل ومثار التباس عند الكثير من الباحثين والمفكرين والدعاة بسبب بُعدهم عنه، أو بسبب العجز عن مواكبته، أو بسبب تنازع خفي تدفع إليه الرغبة في بسط السيطرة على العمل الدعوي والسياسي، وما يتطلبان من جهد لتوسعة التنظيم.
فالشيخ محفوظ نحناح مثار جدل في نظرية التغيير بين خصومه وبين مؤيديه، صاحبت هذا الجدل وأضفت عليه نوعًا من التضخيم الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم الإسلامي والتي تعلقت بموضوع الإسلام والتغيير السياسي، والعنف الذي ارتبط بالإسلام، والإسلام السياسي، وتجارب الجهاد و32323232ط الثوري والعصيان المدني الذى ارتبط بموضوع الإسلام، ورد الفعل على الاستعمار الذي اعتدى على الشعوب الإسلامية، أو على الاضطهاد الذي مارسته الأنظمة على الحركات الإسلامية، والقمع الكبير الذي قمعت به هذه الحركات وقمع به الفكر الإسلامي وضيق عليه.
هذه الموجة أضفت حقيقة التضخيم على أعمال الشيخ محفوظ نحناح التي اندرجت دائمًا في سياق جديد غير السياق المعهود في الحركات الإسلامية عبر العالم، كما صاحب هذا الجدل الكم الهائل من الشبهات والإثارات والتفسيرات المتناقضة لمواقف الشيخ محفوظ نحناح، التي عمدت بعض الأطراف الخصمة له- بسبب المنافسة والمزاحمة، أو الخصمة للإسلام وللجزائر- إلى تضخيمها ونشر الإشاعة والأراجيف حولها، وعمدت بعض الأطراف الإسلامية التي رأت في فكر الشيخ محفوظ نحناح المعتدل والمرحلي خطرًا على تطرفاتها وعلى آنيتها وعلى محاولتها في جني الثمار سريعًا، وعلى حساب إدخال البلاد وإدخال الشعب كله في متاهة الفتن، هذه الفتن التي وجدت دائمًا من فيهم القابلية لإذكائها أو الاقتيات منها.
• أسس التكوين الفكري للشيخ محفوظ نحناح
الشيخ محفوظ نحناح نحت نحتًا، وكانت عصاميته أهم وأبرز عوامل التأثير في مساره السياسي، ولكن قوة التأثير التي كانت تتميز بها مرحلة التكوين السياسي للشيخ محفوظ نحناح، قوة التغيير لدى الزعماء الكبار في العالم الإسلامي كانت جد كبيرة وعلى رأس هؤلاء.
1- رجالات الحركة الوطنية الذين عاصر الشيخ محفوظ نحناح بعضهم، وتربى في مدرسة الإرشاد التي هي مدرسة الحركة الوطنية، تلك الحركة التي كانت تتميز بتعددية وثراء كبيرين جدًا في التعامل السياسي وفي الرؤية السياسية، وبالرغم من أن الاستعمار فرض - خلال عدة محاولات- عملية المسخ داخل الأمة إلا أن الحركة الوطنية كانت تتميز بالصلابة، وتتميز بالواقعية التي صنعت جيلاً نستطيع القول أنه جيل الثورة الذي تشرب من الحركة الوطنية مفاهيم الوطنية ومفاهيم الإسلام واستحضر معاني الحرية والتحرر والانعتاق والكرامة الإنسانية والشخصية الوطنية ومفاهيم الثبات، ومفاهيم الاستقلال ومفاهيم الصراع، وبالرغم من اختلاف المدارس الموجودة فقد كانت الحركة الوطنية بكل شرائحها تفرض تغييرًا حقيقيًا وقويًا على السياحة التي استقوت في عملية التعبئة الجماهيرية بالشعار الثلاثي الرادع: "الإسلام ديننا، العربية لغتنا، والجزائر وطننا".
2- القسم الثاني الذي كان له تأثير كبير جدًا في شخصية الشيخ محفوظ نحناح هو جمعية العلماء المسلمين، ذلك أن جمعية العلماء المسلمين جزء من الحركة الوطنية، إلا أنها تتميز بالإسلامية التي جعلتها نموذجًا آخر غير 32323232وذج العادي في الحركة الوطنية، من خلال اقترانها بالإسلام واقترانها بالمفاهيم الإسلامية، وبالتربية الإسلامية، هذه التربية التي صاغها رجال كبار لهم تأثيرٌ كبير، وعلى رأس هؤلاء المؤثرين الفاعلين منهم في شخصية الشيخ محفوظ نحناح ثلاث:
• أولاً: الشيخ عبد الحميد بن باديس
الرجل المؤسس لجمعية العلماء المسلمين والزعيم الروحي للجزائر، والمفسر للقرآن والمصلح والداعية 32323232وذج، الذي كان سلفي المنهج، صوفي الحياة، مجاهدًا ضد الاستعمار بكل ما أتاه الله من قوة، عامل وحدة وتجميع لكل علماء الأمة وعلماء الوطن، صاحب فضل على الحركة الإصلاحية في الجزائر بلا منازع.
• ثانيًا: الشيخ البشير الإبراهيمي
الرئيس الأول لجمعية العلماء المسلمين، بعد الشيخ ابن باديس، وأحد مؤسسيها الرئيسيين، والرجل العالم الفذ الذي كان عملاقًا في مناحي الفكر والأدب واللغة والإصلاح، وكان صاحب صولة، ولعله أكثر الناس تأثيرًا في الشيخ محفوظ نحناح، وأقرب الناس إلى شخصيته، هو ذلك الرمز الشيخ البشير الإبراهيمي، الذي نقل حقيقة الثورة الجزائرية وهموم الجزائر إلى كل أنحاء العالم الإسلامي، وبذلك فكّ الحصار عن الجزائر تاريخًا وانتماء وثورة، وفجر برحلاته الوجدان الإسلامي الخامد بفعل الاستعمار.
• ثالثًا: الشيخ الفضيل الورتلاني:
الرجل الذي تجاوز حدود الوطن ليصبح مصلحًا عالميًا وداعية من أهم دعاة الأمة الإسلامية، وسفير الإسلام في عدة دول، وأحد الرموز الذين ظل الشيخ محفوظ يعتبرهم من أهم أساطين التأثير في الحركة الإسلامية ومسار الحركة الإسلامية، والشيخ الفضيل الورتلاني، قرين للشيخ البشير الإبراهيمي، وأحد السياسيين المحنكين والعلماء الفطاحل والمصلحين المجددين الذين قاموا بالعمل الإصلاحي والتأثير في مدارس التغيير السياسي، وكان أكثر الناس احتكاكًا بمدارس التغيير في مصر واليمن وسوريا وفي تركيا وفي الجزائر طبعًا.
وهذه الشخصيات الثلاث تعكس تأثير جمعية العلماء المسلمين في شخصية الشيخ محفوظ نحناح، ولكنها أيضًا ذات بعد شخصي أو تأثير شخصي متميز.
• مدرسة الإمام حسن البنا رمزٌ آخر للتأثير الإيجابي القوي
إلى جانب ذلك تأثر الشيخ محفوظ نحناح بمدرسة حسن البنا، مجدد القرن العشرين، وزعيم حركة الإخوان المسلمين، وأحد الذين نقلوا فكر الإسلام من النظرية إلى التطبيق، وأحد الذين عملوا على وحدة الأمة الإسلامية وتخليصها من الاستعمار، وعملوا أيضًا على طرح نظرية حقيقية متكاملة للبناء الإسلامي، والنظام الإسلامي في الدولة والمجتمع، بما لم يسبقه إليه غيره من المصلحين، وكان تأثيره بارزًا في حياة الشيخ محفوظ نحناح وفي عمله؛ لأن الإمام حسن البنا -رحمه الله- رغم هيامه بجغرافية مصر ودولتها وتاريخها العظيم، فإنه ليس رجلاً محدود العمل في دولة أو قطر، بل يملك نظرة عالمية، ونظرته في ضرورة الدعوة والإصلاح العالمي كانت ذات تأثير عالمي أيضًا، وكان الاعتدال الذي يتصف به الإمام حسن البنا والوسطية التي يتميز بها، والربط بين المعاصرة والأصالة، وضرورة أن يحمل المصلحون مشاعل الإصلاح من خلال وقود العصر، كان هذا له تأثير في حياة الشيخ محفوظ نحناح وفي فكره وممارسته، ويعتبر الإمام حسن البنا صاحب مدرسة أخرجت رجالاً آخرين مثل سيد قطب والشيخ محمد الغزالي والشيخ القرضاوي ومن شابههم، ولكن تأثير الإمام حسن البنا في الشيخ محفوظ نحناح كان متميزًا.
• ومن الأساتذة الذين تغذى من لبان وطنيتهم أستاذان جليلان:
الأستاذ محمد محفوظي أحد أركان ح****** الشعب ورمز من رموز المثقف المزدوج الرافض للاستعمار وسياسة الاندماج والثائر على الظلم والظالمين، وقد كان له تأثير كبير في فكر الشيخ محفوظ نحناح المتعلق بالثقافة والشخصية والمرأة واللغة العربية والوطنية، بحيث نهل على يديه هذه المعارف، فضلاً عن حضوره الدروس والخطب والمحاضرات التي كان يشرف عليها ويلقيها الأستاذ الثائر محمد محفوظي.
وعندما امتد العمر بالشيخ محفوظ نحناح كتب الله له أن يتمتع بالفكر النير الثابت الذي تمثل في فكر الأستاذ المفكر مالك بن نبي، الذي أدى دورًا في تفتيق ذهن النخب الدعوية في ظروف تحولات وطنية عميقة.
وهناك شخصية عالمية أزهرية يمثلها العلامة الإمام محمد متولي الشعراوي الذي كان يلازم دروسه وندواته في العاصمة والبليدة، وكان يتشرب معاني القرآن الكريم ويتذوق ألفاظه على غير سابق من أهل التفسير، وقد كان لهذا العالِم النحرير تأثيرٌ في الساحة الجزائرية وفي نخبها، التي كانت تحضر ندواته وتتملى محاسن اللفظ العربي في القرآن الكريم في مرحلة تاريخية تتسم بتجسيد العودة إلى أصول الشعب الجزائري.
أما الداعية الملهم الشيخ محمد الغزالي، فقد كانت كتبه مرجعًا له في فهم الإسلام منذ أن كان يدرس بعض فصول كتاب "ظلام من الغرب" في دروس خاصة تحت قبة مسجد ابن سعدون بالبليدة، والذي أكدته المحبة المتبادلة واللقاءات المباشرة، بعد أن تيسر للشيخ الغزالي أن عين أستاذًا بالجامعة الإسلامية بقسطنطينة، فقد كان الشيخ نعم السند لهذا العالم الفذ الذي وجد خصومًا له من العلمانيين الاستئصاليين، وخصومًا آخرين من المنسوبين إلى الأصولية المتطرفة، ولله في خلقه شئون.
• مدرسة الإمام ابن تيمية إشعاع التاريخ والنص
وكان من أبرز من أثر في حياة الشيخ محفوظ نحناح تاريخيًا مؤلفات الإمام ابن تيمية - رحمه الله-، الذي قاد مدرسة للإصلاح والاجتهاد في ظرف تعطل فيه الاجتهاد الفكري، وحصل الجمود السياسي في الأمة، وكانت آثار مدرسة ابن تيمية بادية في فكر الشيخ محفوظ نحناح وفي اجتهاداته وفي تحرره الفقهي من المذهبية ومن الرؤى الضيقة من الحدود المعطلة للتغيير الاجتماعي والتغيير السياسي، والإمام ابن تيمية مدرسة، علاوة على أنها فكرية، ومدرسة سلفية فقهية، فهو مدرسة جهادية إصلاحية تغييرية وتربوية، وكان مصلحًا وصابرًا محتسبًا رغم الأذى الذي لحقه، ويتكرر هذا مع الشيخ محفوظ نحناح.
فالشيخ محفوظ نحناح، كان عالمًا ومفكرًا وسياسيًا صابرًا على ما لحقه في السجن، ولم يتركه ذلك يحقد على ساجنيه، بل كان باستمرار يحمل شعار العفو، مستدلاً دائمًا بالقول المأثور عن سيدنا عيسي عليه السلام "كلٌّ ينفق مما عنده".
ونستطيع القول: إن تأثير المدارس الفكرية، والمدارس السياسية لم يكن على الشخصية في حد ذاتها، ولكن كان تأثيرها على مدرسة محفوظ نحناح المتميز الآن بصيغ الحوار والانفتاح وصيغة المشاركة السياسية، وصيغة الاعتدال والسلم التي أصبحت مدرسة تكسر نمطية التعامل التي حلت في الدول الحديثة العربية والإسلامية بعد الاستعمار، نمطية الصراع بين السلطة وشعبها، إلى نمطية جديدة هي التعاون والتواؤم وتجميع الطاقات المختلفة والاتفاق في الحد الأدنى، ووجود مساحات وفضاءات جديدة للتلاقي والتعاون مبنية على أساس الحوار وعلى أساس الصراحة، وعلى أساس التوافق وعلى أساس الاحتكام إلى حريات الشعوب.
• مراحل التكوين والبناء
لقد مرت مراحل تكوين الشيخ محفوظ نحناح الفكري والسياسي بعدة مراحل:
1- كانت مرحلة النشأة الفكرية، وهي مرحلة التفاعل الحضاري الذي فرضه الاستعمار على الأمة الإسلامية، وولد فعلاً جهاديًا فكريًا ثقافيًا، رفض القابلية للاستعمار والخضوع له، وقاد هذا الفكر مجموعة من الفطاحلة، أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وعبد الحميد ابن باديس، والبشير الإبراهيمي، ومالك بن نبي، وأحمد عرابي، والبارودي، والشيخ المودودي، والشيخ السباعي، وعلماء العراق، وعلماء سوريا، وزعمائها الوطنيين، وكذا أمثال الأمير عبد القادر رحمة الله عليه، والشيخ بوعمامة، فهذه الشخصيات كانت نماذج حقيقة من العديد من 32323232اذج التي أثرت في عملية الرفض للمستعمر وفي التبعية، وهذا أنتج أمثال الشيخ محفوظ نحناح، وكان التفاعل يأخذ أكثر من شكل فكري، وسياسي ونضالي، قتال مسلح، وانتفاضات.
2- كانت المرحلة الثانية، وهي مرحلة مشاركة الشيخ محفوظ نحناح في الثورة الجزائرية، هذه المشاركة التي صنعت منه الشخصية الملتزمة بمسئولية التغيير والقادرة على هذا التغيير، لأن الثورة الجزائرية ضربت أروع الأمثلة في القدرة على التغيير بأبسط الإمكانات، لأنها توفرت على الإرادة التي تضمنت قوة الرغبة في الاختيار، كما توفرت على العقيدة، والتنظيم، وضوح الهدف رغم قوة الخصم والعدو، وكل هذا أثر حقيقة في المنظومة الفكرية للشيخ محفوظ نحناح، وحولها إلى منظومة ديناميكية، لا تعيش الترف الفكري ولكن تعيش التغيير الفكري.
3- كانت المرحلة الثالثة وهي مرحلة الاستقلال مرحلة أعطت فرصًا لإطارات الجزائر عمومًا، منها فرص التعليم الجامعي، هذه الفرص الجامعية التي أُعيد من خلالها تكوين إطارات الجزائر التي حرمها الاستعمار من الالتحاق بالدراسة، عوضوها بعد الاستقلال بالالتحاق بمقاعد الدراسة، حيث أصبحت فضاءات التدريس مركزًا حقيقيًا لتفاعل العلم مع التجربة الثورية، وتفاعل العلم مع التجارب العالمية الموجودة، وقد كان الشيخ محفوظ نحناح طالب أدب، وكان من الذين أسسوا المسجد الجامعي الأول "مسجد الجامعة المركزية"، وكان أول من يحاضر فيه الأستاذ المفكر مالك بن نبي، الرجل المفكر الذي أثر في شخصية الشيخ محفوظ نحناح المتميزة، فمالك بن نبي صاحب تجربة فكرية رائدة، وكان صاحب علاقة مع بعض الأنظمة العربية، بحيث تمكن من الإطلاع على عمق تجربة ما بعد الاستعمار من ناحية، وتجربة الثورة الجزائرية من ناحية ثانية، وكان يقدم طروحات لتجديد الفكر ولتجديد النظام العربي والنظام الإسلامي، وفق محور (طانجا جاكرتا)، ووفق نظرية التحالفات التي كان يطرحها كـ(الآفروأسيوية) التي كانت مقهورة أمام تجاذب قطبي الصراع: الاشتراكي والرأسمالي.
كانت الجامعة محل صياغة الشخصية القيادية للشيخ محفوظ نحناح، والشخصية المستفيدة من التجربة العالمية في الحركة الإسلامية من ناحية ثانية.
ثم جاءت مرحلة الثورة الزراعية أو الثورات الثلاث التي قام بها النظام آنذاك، والذي اتجه وجهة شيوعية اشتراكية، فرضت الوقوف في وجهها، فكان أحد الذين وقفوا ضد ظلم تأميم أملاك الناس، وضد التوجه الأيديولوجي للدولة الجزائرية بعيدًا عن ثوابتها، وضد الضغط الشيوعي على مسار الدولة الجزائرية، التي ارتمت في أحضان الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، بحكم الثورة وبحكم العلاقة مع روسيا والصين وكوبا، كان أحد الواقفين ضد هذا الاتجاه هو الشيخ محفوظ نحناح، والذي زج به في السجن مع مجموعة من خيرة مؤسسي حركته في بداية تأسيسها وفي سنواتها الأولى، "التأسيس التنظيمي، والتأسيس السياسي" رغم المنع القانوني لهذا الموضوع.
مرحلة ما بعد السجن، التي صيغت فيها شخصية الشيخ صياغة جديدة جمعت تجربة ما قبل الاستقلال وتجربة الاستقلال وتجربة الجامعة، وتجربة السجن والمعارضة التي اتخذت أشكالاً حادة في ذلك الوقت، وتجربة السجن في حد ذاتها كفترة للحرية والتفكير لإعادة الحسابات، وبدأت مرحلة ما بعد السجن تنسجم مع تطور كبير جدًا في الصحوة الإسلامية على مستوى الجامعات، وكان خروج الشيخ محفوظ نحناح من السجن بداية مرحلة جديدة لانتشار تنظيم الحركة التي أسسها وتوسع أفقها، وبداية طروحات فكرية متميزة على رأسها فكرة التنسيق العالمي والعلاقة مع التنظيمات الأخرى في الحركة الإسلامية العالمية، وعلى رأسها أيضًا المعارضة للسلطة، وكيفياتها، والإسلام السياسي وغير ذلك من المواضيع التي كانت ومازالت محل جدل حقيقي داخل الساحة الفكرية والساحة ال32323232ة المتأثرة سلبًا وإيجابًا بما يجري في الساحة الدولية من أحداث جسام تستوجب التحليل وتعميق النظر في تفاعلاتها وانعكاساتها، وقد تنبه مبكرًا إلى ما يمكن أن يحصل من اندفاع أو انزلاق يتسبب في زعزعة الاستقرار بفعل فاعل، يقصد إجهاض الصحوة الإسلامية أو إثارة فتنة أهلية، أو الدفع نحو المجهول، خصوصًا وأن التجربة الأفغانية والإيرانية وزوال دولة الصومال ماثلة للعيان.
• مرحلة التعددية السياسية في الجزائر
أفرزت التعددية السياسية في الجزائر تحديات جديدة:
أ- التحدي الأول: هو التحدي ضد الإسلام، عندما أصبح الإسلام ممثلاً من عدة أطراف: بعضها متطرفة، وبعضها شعوبية، ووبعضها الآخر يتمثل في احتكار السلطة الجزائرية الإسلام بعيدًا عن ترقيته، مما فرض تحديًا جديدًا على حركة الشيخ وشخصيته، وفي هذه المرحلة نكاد نقول إن شخصية الشيخ ذابت في حركته، وأصبح رمزًا للحركة أكثر منه رمزا للشخصية الخاصة الذاتية المتميز بها.
هذا التحدي على موضوع الإسلام، فرض مسئوليات جديدة: ضرورة حماية الإسلام من التطرف، حماية الإسلام من الغلو، حماية الإسلام من التشويه والانزلاقات التي كان يرى أنها ستعطي مسوغات للأنظمة الجائرة وأزلامها من العلمانيين فرصة الانقضاض على الحصون الإسلامية.
ب- التحدي الثاني هو المحافظة على الدولة الجزائرية، لأن طروحات التقسيم وطروحات اللادولة، وطروحات الفوضى في إدارة الدولة وتسيير الدولة، فرضت فرضًا جديدًا على الجميع، وهو حماية الدولة الجزائرية من الانهيار بعد عملية الانزلاق، مما اقتضى نوعًا من فقه الأولويات، فقه درء المفاسد المقدم على جلب المصالح، وبرز بما يسمى بالمشاركة، والذي يقوم على أساس واضح هو القول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت، التعاون مع كل الأطراف سواء كانت في المعارضة أو في السلطة، تعاون على أساس المبادئ الوطنية المشتركة، ولعل هذا الموقع أصبح موقع الاعتدال الذي سيعاديه المتطرفون من كل لون.
لقد أدرك محفوظ نحناح أن للتشدد أسبابًا ذاتية وسياسية وتحريكية داخلية وخارجية، لكن الشيخ يفقه جيدًا وبعمق أن آفة التشدد تعود في تكوينها ونشأتها، إلى أن ظرف التحول الذي عاشته الجزائر بعيد الإعلان عن الاستقلال كان أحد المكونات الأساسية لهذه الآفة، كما أن أجهزة الدولة الناشئة الفتية مرشحة لأن تتهم بأنها لم تقم بدورها في التحصين للذات الوطنية، ما عدا التغافل عن بناء المساجد التي تتطلبه وضعية الخروج من قبضة الاستعمار، كما أنها - أجهزة الدولة - لم تُعد الجرعة الكافية لحماية الأسرة والمجتمع والجامعة والإدارة والشباب، وانفسح المجال أمام الدعوات الهدامة والأفكار المادية المستوردة، بما جعل ذلك خميرة الفتن والأزمات، وبتوفر أجواء التغريب تتهيأ طرق الغلو والتشدد، غير أن ثمة من يذهب مذهبًا وجد له مسارات إعلامية تروج له، وهو أن التشدد مرده الفقر، والبيوت القصديرية، وأحزمة الفقراء حول المدن، وانعدام أسباب الحياة الرغيدة والكريمة، فضلاً عمن يقول إن السبب الأوحد: هو القمع، والبطش، والاقتصاد والتهميش وانتهاك حقوق المواطنة، والمحن واتساع هوة فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، والشعور باللهفة في كسر الجسور بينهما.
في هذه المرحلة تحول الشيخ من شخصية وطنية أو من شخصية قطرية إلى شخصية عالمية، وأضفى هذا حقيقة إضافات على الشخصية في حد ذاتها وعلى الفكر في حد ذاته، فأصبحت اللقاءات والزايارات الدولية التي قام بها والمشاركة المتعددة في إدارة الفكر العالمي وفي مؤتمرات الفكر العالمي أصبحت ذات تأثير مباشر وواضح في مسار وتشكيل شخصية الشيخ محفوظ نحناح، وفي رؤاه السياسية، وفي مواقفه وفي وخطواته النضالية التي لم تستبعد التأثير الإقليمي والتأثير الدولي والتأثير الوطني، ولا تأثير المواقف المتخذة من طرف شخصيته في هذا المستوي وانعكاساتها على الوطن وعلى الإقليم وعلى الإسلام، وعلى التوجه الذي تسير فيه الحركة التي يترأسها الشيخ محفوظ نحناح، حركة مجتمع السلم.
جـ- التحدي الثالث: تحدي الأزمة التي صاحبت الجزائر، تضاف إلى هذا الموضوع، فالأزمة شكلت في شخصية الشيخ محفوظ نحناح توازنًا آخر، توازن الفتنة، وتوازن الأزمة التي تقتضي رؤىً جديدة، وتقتضي حسابات جديدة، وتأجيل عداوات، وتأجيل خلافات وربما تعاونًا مع الخصوم على أشياء مشتركة أو ضرورات مشتركة مثل ضرورة تمدين النظام السياسي، أو ضرورة التنسيق من أجل المحافظة على الحريات العامة والخاصة، أو ضرورة الإبقاء على الدولة وتقوية مؤسساتها، أو ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية، أو إصلاح شرعية الحكم المعطوبة، وهو الذي يمكن التمثيل له بالتحالفات التي قام بها الشيخ محفوظ نحناح في أكثر من اتجاه، ودعا إليها في أكثر من مناسبة.
د- التحدي الرابع: تحدي رئاسة الجمهورية الذي كان هو النقلة النوعية التي انتقلها الشيخ محفوظ نحناح في مساره، ومسار الحركة الإسلامية، كأول زعيم إسلامي يترشح لرئاسة الجمهورية ويصوت عليه الشعب بأغلبية ساحقة، ويعرف الجميع ذلك، ولكن التزوير الذي حدث ضده من طرف النظام الذي كان حليفًا له، أثر حقيقة في شخصية الشيخ محفوظ نحناح وفي حساباته، وأثر في مسار الحركة تأثيرًا واضحًا، سواء في تعاطيها مع الضغط أو ردود الأفعال المتولدة لدى الشعب الجزائري اتجاه مثل هذه القضية، أو في موضوع الثقة في السلطة القائمة كشريك للمحافظة على هذه الدولة، التي هي دولة جميع الجزائريين، ومما أثر في هذا الأمر أيضًا، أن وزن الشيخ أصبح في الساحة الجزائرية رقمًا رئيسيًا، لا يمكن للحساب أن يكون بدونه، وهو ما اقتضى لدى خصوم الشيخ وعلى رأسهم متنفذون فاعلون في السلطة القائمة أن يطعنوا في شخصية الشيخ التاريخية وماضيه التاريخي، ويطعنوا في وجوده السياسي بمنعه من حق طبيعي دستوري في الترشح للانتخابات الرئاسية التي أصبح الجميع يعرف أنه إذا ترشح سيفوز بها.
غير أن هذا الموضوع الحساس يجب أن يدرج ضمن مسلسل دولي لافت للنظر: فالسماح لأنور إبرهيم في ماليزيا ثم تنحيته وتشويهه، والسماح لنجم الدين أربكان وتنحيته ثم حرمانه من حقوقه السياسية، والدفع بالترابي إلى أن يؤسس شبه دولة ثم تنحيته، والضغط على الإصلاح في اليمن وإبعاده من الساحة، وتيسير الطريق أمام الجبهة الإسلامية وقياداتها ثم استبعادها بكل الوسائل الممكنة وإدخالها في النفق المظلم، وإقصاء راشد الغنوشي ومطاردته ومنعه وحصاره إعلاميًا وتشتيت رجاله، هذا وغيره يفرض نظرة فاحصة وتحليلاً عميقًا تتجلى به كثير من الحقائق التي يعجز ضيقو الأفكار أن يوفوها حقها من البحث والاستنتاج.
هـ- التحدي الخامس تحدي تخريب الإسلام: لقد لاحظ محاولات استبعاد الإسلام من الساحة، ثم محاولات الربط المتعمد بين التسييس والتحزيب، وأدرك أن التحزيب للإسلام ومقدساته يتسبب في مآسٍ على النفس والمجتمع والوطن، وظن التسييس من صلب الإسلام، وما دام ثمة من يدعو إلى فصل الدين عن الدولة أو إفراغ الدولة من التدين أو احتكار الدولة للدين أو احتكار ح****** ما للدين فإن الجميع - وشبه للجزائر - سيقع في أخطار الانقسام والتشرذم والتخلف.
و- التحدي السادس تحدي الربط بين ما هو طني وقومي وإسلامي: منذ عقد من الزمن تناثرت فكرة الوطنية والقومية والإسلامية حتى بلغ دعاة هذه التيارات إلى درجة الصدام، وضاعت المصالح المشتركة للأوطان والشعوب، وصار هذا الصراع تحديًا أمام الغيورين من أبناء هذا الوطن الإسلامي الشاسع، وبات الربط بين الوطنية والقومية والإسلامية يشكل (أسمنت) استقرار للوطن العربي والإسلامي، وفضيلة الشيخ محفوظ نحناح كان من دعاة هذا الربط عبر التأسيس لفكرة المؤتمرات لتجسير العلاقة بين القوميين والإسلاميين والوطنيين، لتتوج فيما بعد بمؤسسات وتنظيمات ترعى وتجسد الفكرة، لتحقيق مشروع تكامل بين كل أطياف التيارات السياسية في وطننا العربي والإسلامي بما يحقق الت323232ة والاستقرار.
• الشخصية المتكاملة
إن اكتمال شخصية محفوظ نحناح في هذا الاتجاه لم يأت اعتباطًا، وإنما جاء من تناغم ثلاثية واضحة، الثلاثة الواضحة هي: أولاً: الاستقرار النفسي، ووضوح في الهوية وفي الماهية
فهو يحرص على تعاطي الخبر والمعلومة، كما يحرص على قراءة وِرْد القرآن، كما يحرص على الاهتمام بشئون حركته، هذا الجانب الشخصي المتميز يطبعه جانب تنظيمي انتشاري واسع مثلته فئات الحركة، وتنوع عطاءاتها الفكرية والثقافية والسياسية والنفسية والرياضية والجمعوية والأدبية التي لم يخل منها موقع من مواقع الجزائر.
ومثلها في المقابل هذا التعاطي مع السلطة الجزائرية، وهو المشاركة بمجموعة وزراء ومجموعة برلمانيين، ومجموعة منتخبين عبر الوطن، كلهم أصبحوا يشكلون أجزاء مهمة في صياغة هذه الشخصية التي تتعاطى مع الحدث، وبنفس محددات الحكمة والهدوء والتوازن ومعرفة الواقع.
وإذ تبدو حقيقة شخصية محفوظ نحناح للمراقب البعيد تحمل كثيرًا من التناقضات، فهي ليست كذلك، وإنما هي شخصية مركبة وذات زعامة تعلو همتها لتتحمل مسئوليتها تحملاً كاملاً في كل الاتجاهات، مما يدفع بخصوم الشيخ محفوظ نحناح- وفي بعض الأحيان حتى محبيه- أن يصرحوا بعدم فهم بعض المفاصل، وليس من اليسير أن يجمع الإنسان بين الحامض والحلو والمر، والحار والبارد في نفس الشيء، إلا إذا كان يحمل قوة مقاومة حقيقية تستطيع أن تؤهله لإدارة هذه المتناقضات، ولذلك كان الزعماء دائمًا يحملون صور الجميع بين مجموعة المتناقضات، هي التي تجعل منهم قياديين وتؤهلهم لإدارة شئون شعوبهم، وتحمل تناقضات هذه الشعوب، وتعمل على التقريب بينها وإيجار التناغم والانسجام بينها بما يستصعبه كثير من الخلق.
وثانيًا: العمل من أجل الجماعة:
الشيخ محفوظ نحناح لا يمثل شخصًا، ولا يمثل فئة ولا يمثل شعبية ولا يمثل مرحلة تاريخية، بقدر ما يمثل الجميع أو يعمل لصالح الجميع من خلال الاهتمام والانشغال بهموم الجميع، على اختلاف تركيبهم وعلى اختلاف تناقضاتهم، ومن هنا يعمل مع الجميع ضمن قواعد التشاور والتنظيم، والائتلاف والتنسيق والتنازل، ضمن وضوح المصلحة العامة وتغليبها على المصلحة الخاصة، وهذا لا يتأتى إلا بالبحث العميق عن نقاط التلاقي مع محاوريه، واجتناب نقاط التنافر، إلا ما كان متعلقًا بالثوابت والدماء وإثارة تطويق دعاويهم، وتعففًا وتنزها عن الخوض مع الخائضين، ولعل هذا من أحسن الرد على من لا يستحقون ردًا، وكأن لسان حاله يقول: "موتوا بغيظكم" أو: "فاصفح الصفح الجميل".
وثالثًا: الإيمان بالاتجاهات المتعددة والأطياف المختلفة:
فالشيخ محفوظ نحناح لا يؤمن بأسود وأبيض، ولا يؤمن بـ: "إذا لم تكن معي فأنت ضدي"، ولا يؤمن بنظرية التطرف، بل يؤمن بنظرية التشارك والتمازج بين الأطياف والأشياء، وتولد عملية التزاوج بين الأطياف ألوانًا جديدة إبداعية رائعة، تستطيع أن تقوم في المجمع وتؤدي أدوارًا أكثر إيجابية.
الشيخ محفوظ نحناح لا يؤمن بحدية الأشياء، وإنما يؤمن بنسبيتها، فليس هنالك صواب مطلق أو خطأ مطلق، وإنما هناك صواب نسبي وخطأ نسبي، حرص نسبي، هنالك أشياء نسبية، وتمسك بهذه النسبية حديث النبي "صلي الله عليه وسلم": "إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" "أخرجه الإمام أحمد والبيقي، ولذلك تعالج أمور شخصيتنا بهذه النظرة، وقد تبدو أحيانًا تحمل بعض التناقضات، ولكنها تحمل حقيقة الانسجام بين المتضادات، والجمع بين هذه المتضادات في نظرية تستفيد من كل ذلك، دون أن تسمح بالتصادم بين جزئياتها.
وهو لا يرى الحق في جهة من الجهات، ولا بالمقابل الخطأ المطلق لجهة من الجهات، ويعتبر الحوار مجالاً مفتوحًا حتى للشيطان، والشيطان هو أكبر ممثل للشر، كان الحوار موجودًا بين أكبر ممثل للشر - وهو الشيطان- وبين الله سبحانه وتعالى، فمن باب أولى أن تكون هنالك مساحات لهذا التعاطي النسبي مع جميع الأشياء
تقييم:
0
0
والمثير في ظاهرة الشيخ محفوظ نحناح، هو ذلك التعامل من جهة، ومن الوسائل والأساليب التي اتخذها في عملية التغيير ومنهجية المعارضة السياسية، أو بالأحرى منهجية الإصلاح السياسي في وطنه الجزائر، وفي مسار الحركة الإسلامية عمومًا.
فالشيخ محفوظ نحناح، انطلقت من مصادر فكره، فهو ابن المدرسة الإسلامية الأصيلة والطموحة نحو تطبيق حقيقي لنظرية "الإسلام صالح لكل زمان ومكان"، وإخراجها من دائرة المجاملات، ومن دائرة النظري المثالي إلى دائرة التطبيق الواقعي.
تأتي هذه الأوراق اليوم لإلقاء الضوء على هذه اشخصيةالمتميزة في إدارة التغيير، وإدارة الإصلاح السياسي، وجمع المفارقات التي ظلت ما يقارب نصف قرن متناثرة في مفاهيم التيار الوطني والإسلامي، العربي، القومي، وكذا التيار النخبوي والشعبي، والتي انتظمت كلها في عقد واحد.
ويضاف إلى ذلك أن الشيخ محفوظ نحناح أصبح مثار جدل ومثار التباس عند الكثير من الباحثين والمفكرين والدعاة بسبب بُعدهم عنه، أو بسبب العجز عن مواكبته، أو بسبب تنازع خفي تدفع إليه الرغبة في بسط السيطرة على العمل الدعوي والسياسي، وما يتطلبان من جهد لتوسعة التنظيم.
فالشيخ محفوظ نحناح مثار جدل في نظرية التغيير بين خصومه وبين مؤيديه، صاحبت هذا الجدل وأضفت عليه نوعًا من التضخيم الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم الإسلامي والتي تعلقت بموضوع الإسلام والتغيير السياسي، والعنف الذي ارتبط بالإسلام، والإسلام السياسي، وتجارب الجهاد و32323232ط الثوري والعصيان المدني الذى ارتبط بموضوع الإسلام، ورد الفعل على الاستعمار الذي اعتدى على الشعوب الإسلامية، أو على الاضطهاد الذي مارسته الأنظمة على الحركات الإسلامية، والقمع الكبير الذي قمعت به هذه الحركات وقمع به الفكر الإسلامي وضيق عليه.
هذه الموجة أضفت حقيقة التضخيم على أعمال الشيخ محفوظ نحناح التي اندرجت دائمًا في سياق جديد غير السياق المعهود في الحركات الإسلامية عبر العالم، كما صاحب هذا الجدل الكم الهائل من الشبهات والإثارات والتفسيرات المتناقضة لمواقف الشيخ محفوظ نحناح، التي عمدت بعض الأطراف الخصمة له- بسبب المنافسة والمزاحمة، أو الخصمة للإسلام وللجزائر- إلى تضخيمها ونشر الإشاعة والأراجيف حولها، وعمدت بعض الأطراف الإسلامية التي رأت في فكر الشيخ محفوظ نحناح المعتدل والمرحلي خطرًا على تطرفاتها وعلى آنيتها وعلى محاولتها في جني الثمار سريعًا، وعلى حساب إدخال البلاد وإدخال الشعب كله في متاهة الفتن، هذه الفتن التي وجدت دائمًا من فيهم القابلية لإذكائها أو الاقتيات منها.
• أسس التكوين الفكري للشيخ محفوظ نحناح
الشيخ محفوظ نحناح نحت نحتًا، وكانت عصاميته أهم وأبرز عوامل التأثير في مساره السياسي، ولكن قوة التأثير التي كانت تتميز بها مرحلة التكوين السياسي للشيخ محفوظ نحناح، قوة التغيير لدى الزعماء الكبار في العالم الإسلامي كانت جد كبيرة وعلى رأس هؤلاء.
1- رجالات الحركة الوطنية الذين عاصر الشيخ محفوظ نحناح بعضهم، وتربى في مدرسة الإرشاد التي هي مدرسة الحركة الوطنية، تلك الحركة التي كانت تتميز بتعددية وثراء كبيرين جدًا في التعامل السياسي وفي الرؤية السياسية، وبالرغم من أن الاستعمار فرض - خلال عدة محاولات- عملية المسخ داخل الأمة إلا أن الحركة الوطنية كانت تتميز بالصلابة، وتتميز بالواقعية التي صنعت جيلاً نستطيع القول أنه جيل الثورة الذي تشرب من الحركة الوطنية مفاهيم الوطنية ومفاهيم الإسلام واستحضر معاني الحرية والتحرر والانعتاق والكرامة الإنسانية والشخصية الوطنية ومفاهيم الثبات، ومفاهيم الاستقلال ومفاهيم الصراع، وبالرغم من اختلاف المدارس الموجودة فقد كانت الحركة الوطنية بكل شرائحها تفرض تغييرًا حقيقيًا وقويًا على السياحة التي استقوت في عملية التعبئة الجماهيرية بالشعار الثلاثي الرادع: "الإسلام ديننا، العربية لغتنا، والجزائر وطننا".
2- القسم الثاني الذي كان له تأثير كبير جدًا في شخصية الشيخ محفوظ نحناح هو جمعية العلماء المسلمين، ذلك أن جمعية العلماء المسلمين جزء من الحركة الوطنية، إلا أنها تتميز بالإسلامية التي جعلتها نموذجًا آخر غير 32323232وذج العادي في الحركة الوطنية، من خلال اقترانها بالإسلام واقترانها بالمفاهيم الإسلامية، وبالتربية الإسلامية، هذه التربية التي صاغها رجال كبار لهم تأثيرٌ كبير، وعلى رأس هؤلاء المؤثرين الفاعلين منهم في شخصية الشيخ محفوظ نحناح ثلاث:
• أولاً: الشيخ عبد الحميد بن باديس
الرجل المؤسس لجمعية العلماء المسلمين والزعيم الروحي للجزائر، والمفسر للقرآن والمصلح والداعية 32323232وذج، الذي كان سلفي المنهج، صوفي الحياة، مجاهدًا ضد الاستعمار بكل ما أتاه الله من قوة، عامل وحدة وتجميع لكل علماء الأمة وعلماء الوطن، صاحب فضل على الحركة الإصلاحية في الجزائر بلا منازع.
• ثانيًا: الشيخ البشير الإبراهيمي
الرئيس الأول لجمعية العلماء المسلمين، بعد الشيخ ابن باديس، وأحد مؤسسيها الرئيسيين، والرجل العالم الفذ الذي كان عملاقًا في مناحي الفكر والأدب واللغة والإصلاح، وكان صاحب صولة، ولعله أكثر الناس تأثيرًا في الشيخ محفوظ نحناح، وأقرب الناس إلى شخصيته، هو ذلك الرمز الشيخ البشير الإبراهيمي، الذي نقل حقيقة الثورة الجزائرية وهموم الجزائر إلى كل أنحاء العالم الإسلامي، وبذلك فكّ الحصار عن الجزائر تاريخًا وانتماء وثورة، وفجر برحلاته الوجدان الإسلامي الخامد بفعل الاستعمار.
• ثالثًا: الشيخ الفضيل الورتلاني:
الرجل الذي تجاوز حدود الوطن ليصبح مصلحًا عالميًا وداعية من أهم دعاة الأمة الإسلامية، وسفير الإسلام في عدة دول، وأحد الرموز الذين ظل الشيخ محفوظ يعتبرهم من أهم أساطين التأثير في الحركة الإسلامية ومسار الحركة الإسلامية، والشيخ الفضيل الورتلاني، قرين للشيخ البشير الإبراهيمي، وأحد السياسيين المحنكين والعلماء الفطاحل والمصلحين المجددين الذين قاموا بالعمل الإصلاحي والتأثير في مدارس التغيير السياسي، وكان أكثر الناس احتكاكًا بمدارس التغيير في مصر واليمن وسوريا وفي تركيا وفي الجزائر طبعًا.
وهذه الشخصيات الثلاث تعكس تأثير جمعية العلماء المسلمين في شخصية الشيخ محفوظ نحناح، ولكنها أيضًا ذات بعد شخصي أو تأثير شخصي متميز.
• مدرسة الإمام حسن البنا رمزٌ آخر للتأثير الإيجابي القوي
إلى جانب ذلك تأثر الشيخ محفوظ نحناح بمدرسة حسن البنا، مجدد القرن العشرين، وزعيم حركة الإخوان المسلمين، وأحد الذين نقلوا فكر الإسلام من النظرية إلى التطبيق، وأحد الذين عملوا على وحدة الأمة الإسلامية وتخليصها من الاستعمار، وعملوا أيضًا على طرح نظرية حقيقية متكاملة للبناء الإسلامي، والنظام الإسلامي في الدولة والمجتمع، بما لم يسبقه إليه غيره من المصلحين، وكان تأثيره بارزًا في حياة الشيخ محفوظ نحناح وفي عمله؛ لأن الإمام حسن البنا -رحمه الله- رغم هيامه بجغرافية مصر ودولتها وتاريخها العظيم، فإنه ليس رجلاً محدود العمل في دولة أو قطر، بل يملك نظرة عالمية، ونظرته في ضرورة الدعوة والإصلاح العالمي كانت ذات تأثير عالمي أيضًا، وكان الاعتدال الذي يتصف به الإمام حسن البنا والوسطية التي يتميز بها، والربط بين المعاصرة والأصالة، وضرورة أن يحمل المصلحون مشاعل الإصلاح من خلال وقود العصر، كان هذا له تأثير في حياة الشيخ محفوظ نحناح وفي فكره وممارسته، ويعتبر الإمام حسن البنا صاحب مدرسة أخرجت رجالاً آخرين مثل سيد قطب والشيخ محمد الغزالي والشيخ القرضاوي ومن شابههم، ولكن تأثير الإمام حسن البنا في الشيخ محفوظ نحناح كان متميزًا.
• ومن الأساتذة الذين تغذى من لبان وطنيتهم أستاذان جليلان:
الأستاذ محمد محفوظي أحد أركان ح****** الشعب ورمز من رموز المثقف المزدوج الرافض للاستعمار وسياسة الاندماج والثائر على الظلم والظالمين، وقد كان له تأثير كبير في فكر الشيخ محفوظ نحناح المتعلق بالثقافة والشخصية والمرأة واللغة العربية والوطنية، بحيث نهل على يديه هذه المعارف، فضلاً عن حضوره الدروس والخطب والمحاضرات التي كان يشرف عليها ويلقيها الأستاذ الثائر محمد محفوظي.
وعندما امتد العمر بالشيخ محفوظ نحناح كتب الله له أن يتمتع بالفكر النير الثابت الذي تمثل في فكر الأستاذ المفكر مالك بن نبي، الذي أدى دورًا في تفتيق ذهن النخب الدعوية في ظروف تحولات وطنية عميقة.
وهناك شخصية عالمية أزهرية يمثلها العلامة الإمام محمد متولي الشعراوي الذي كان يلازم دروسه وندواته في العاصمة والبليدة، وكان يتشرب معاني القرآن الكريم ويتذوق ألفاظه على غير سابق من أهل التفسير، وقد كان لهذا العالِم النحرير تأثيرٌ في الساحة الجزائرية وفي نخبها، التي كانت تحضر ندواته وتتملى محاسن اللفظ العربي في القرآن الكريم في مرحلة تاريخية تتسم بتجسيد العودة إلى أصول الشعب الجزائري.
أما الداعية الملهم الشيخ محمد الغزالي، فقد كانت كتبه مرجعًا له في فهم الإسلام منذ أن كان يدرس بعض فصول كتاب "ظلام من الغرب" في دروس خاصة تحت قبة مسجد ابن سعدون بالبليدة، والذي أكدته المحبة المتبادلة واللقاءات المباشرة، بعد أن تيسر للشيخ الغزالي أن عين أستاذًا بالجامعة الإسلامية بقسطنطينة، فقد كان الشيخ نعم السند لهذا العالم الفذ الذي وجد خصومًا له من العلمانيين الاستئصاليين، وخصومًا آخرين من المنسوبين إلى الأصولية المتطرفة، ولله في خلقه شئون.
• مدرسة الإمام ابن تيمية إشعاع التاريخ والنص
وكان من أبرز من أثر في حياة الشيخ محفوظ نحناح تاريخيًا مؤلفات الإمام ابن تيمية - رحمه الله-، الذي قاد مدرسة للإصلاح والاجتهاد في ظرف تعطل فيه الاجتهاد الفكري، وحصل الجمود السياسي في الأمة، وكانت آثار مدرسة ابن تيمية بادية في فكر الشيخ محفوظ نحناح وفي اجتهاداته وفي تحرره الفقهي من المذهبية ومن الرؤى الضيقة من الحدود المعطلة للتغيير الاجتماعي والتغيير السياسي، والإمام ابن تيمية مدرسة، علاوة على أنها فكرية، ومدرسة سلفية فقهية، فهو مدرسة جهادية إصلاحية تغييرية وتربوية، وكان مصلحًا وصابرًا محتسبًا رغم الأذى الذي لحقه، ويتكرر هذا مع الشيخ محفوظ نحناح.
فالشيخ محفوظ نحناح، كان عالمًا ومفكرًا وسياسيًا صابرًا على ما لحقه في السجن، ولم يتركه ذلك يحقد على ساجنيه، بل كان باستمرار يحمل شعار العفو، مستدلاً دائمًا بالقول المأثور عن سيدنا عيسي عليه السلام "كلٌّ ينفق مما عنده".
ونستطيع القول: إن تأثير المدارس الفكرية، والمدارس السياسية لم يكن على الشخصية في حد ذاتها، ولكن كان تأثيرها على مدرسة محفوظ نحناح المتميز الآن بصيغ الحوار والانفتاح وصيغة المشاركة السياسية، وصيغة الاعتدال والسلم التي أصبحت مدرسة تكسر نمطية التعامل التي حلت في الدول الحديثة العربية والإسلامية بعد الاستعمار، نمطية الصراع بين السلطة وشعبها، إلى نمطية جديدة هي التعاون والتواؤم وتجميع الطاقات المختلفة والاتفاق في الحد الأدنى، ووجود مساحات وفضاءات جديدة للتلاقي والتعاون مبنية على أساس الحوار وعلى أساس الصراحة، وعلى أساس التوافق وعلى أساس الاحتكام إلى حريات الشعوب.
• مراحل التكوين والبناء
لقد مرت مراحل تكوين الشيخ محفوظ نحناح الفكري والسياسي بعدة مراحل:
1- كانت مرحلة النشأة الفكرية، وهي مرحلة التفاعل الحضاري الذي فرضه الاستعمار على الأمة الإسلامية، وولد فعلاً جهاديًا فكريًا ثقافيًا، رفض القابلية للاستعمار والخضوع له، وقاد هذا الفكر مجموعة من الفطاحلة، أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وعبد الحميد ابن باديس، والبشير الإبراهيمي، ومالك بن نبي، وأحمد عرابي، والبارودي، والشيخ المودودي، والشيخ السباعي، وعلماء العراق، وعلماء سوريا، وزعمائها الوطنيين، وكذا أمثال الأمير عبد القادر رحمة الله عليه، والشيخ بوعمامة، فهذه الشخصيات كانت نماذج حقيقة من العديد من 32323232اذج التي أثرت في عملية الرفض للمستعمر وفي التبعية، وهذا أنتج أمثال الشيخ محفوظ نحناح، وكان التفاعل يأخذ أكثر من شكل فكري، وسياسي ونضالي، قتال مسلح، وانتفاضات.
2- كانت المرحلة الثانية، وهي مرحلة مشاركة الشيخ محفوظ نحناح في الثورة الجزائرية، هذه المشاركة التي صنعت منه الشخصية الملتزمة بمسئولية التغيير والقادرة على هذا التغيير، لأن الثورة الجزائرية ضربت أروع الأمثلة في القدرة على التغيير بأبسط الإمكانات، لأنها توفرت على الإرادة التي تضمنت قوة الرغبة في الاختيار، كما توفرت على العقيدة، والتنظيم، وضوح الهدف رغم قوة الخصم والعدو، وكل هذا أثر حقيقة في المنظومة الفكرية للشيخ محفوظ نحناح، وحولها إلى منظومة ديناميكية، لا تعيش الترف الفكري ولكن تعيش التغيير الفكري.
3- كانت المرحلة الثالثة وهي مرحلة الاستقلال مرحلة أعطت فرصًا لإطارات الجزائر عمومًا، منها فرص التعليم الجامعي، هذه الفرص الجامعية التي أُعيد من خلالها تكوين إطارات الجزائر التي حرمها الاستعمار من الالتحاق بالدراسة، عوضوها بعد الاستقلال بالالتحاق بمقاعد الدراسة، حيث أصبحت فضاءات التدريس مركزًا حقيقيًا لتفاعل العلم مع التجربة الثورية، وتفاعل العلم مع التجارب العالمية الموجودة، وقد كان الشيخ محفوظ نحناح طالب أدب، وكان من الذين أسسوا المسجد الجامعي الأول "مسجد الجامعة المركزية"، وكان أول من يحاضر فيه الأستاذ المفكر مالك بن نبي، الرجل المفكر الذي أثر في شخصية الشيخ محفوظ نحناح المتميزة، فمالك بن نبي صاحب تجربة فكرية رائدة، وكان صاحب علاقة مع بعض الأنظمة العربية، بحيث تمكن من الإطلاع على عمق تجربة ما بعد الاستعمار من ناحية، وتجربة الثورة الجزائرية من ناحية ثانية، وكان يقدم طروحات لتجديد الفكر ولتجديد النظام العربي والنظام الإسلامي، وفق محور (طانجا جاكرتا)، ووفق نظرية التحالفات التي كان يطرحها كـ(الآفروأسيوية) التي كانت مقهورة أمام تجاذب قطبي الصراع: الاشتراكي والرأسمالي.
كانت الجامعة محل صياغة الشخصية القيادية للشيخ محفوظ نحناح، والشخصية المستفيدة من التجربة العالمية في الحركة الإسلامية من ناحية ثانية.
ثم جاءت مرحلة الثورة الزراعية أو الثورات الثلاث التي قام بها النظام آنذاك، والذي اتجه وجهة شيوعية اشتراكية، فرضت الوقوف في وجهها، فكان أحد الذين وقفوا ضد ظلم تأميم أملاك الناس، وضد التوجه الأيديولوجي للدولة الجزائرية بعيدًا عن ثوابتها، وضد الضغط الشيوعي على مسار الدولة الجزائرية، التي ارتمت في أحضان الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، بحكم الثورة وبحكم العلاقة مع روسيا والصين وكوبا، كان أحد الواقفين ضد هذا الاتجاه هو الشيخ محفوظ نحناح، والذي زج به في السجن مع مجموعة من خيرة مؤسسي حركته في بداية تأسيسها وفي سنواتها الأولى، "التأسيس التنظيمي، والتأسيس السياسي" رغم المنع القانوني لهذا الموضوع.
مرحلة ما بعد السجن، التي صيغت فيها شخصية الشيخ صياغة جديدة جمعت تجربة ما قبل الاستقلال وتجربة الاستقلال وتجربة الجامعة، وتجربة السجن والمعارضة التي اتخذت أشكالاً حادة في ذلك الوقت، وتجربة السجن في حد ذاتها كفترة للحرية والتفكير لإعادة الحسابات، وبدأت مرحلة ما بعد السجن تنسجم مع تطور كبير جدًا في الصحوة الإسلامية على مستوى الجامعات، وكان خروج الشيخ محفوظ نحناح من السجن بداية مرحلة جديدة لانتشار تنظيم الحركة التي أسسها وتوسع أفقها، وبداية طروحات فكرية متميزة على رأسها فكرة التنسيق العالمي والعلاقة مع التنظيمات الأخرى في الحركة الإسلامية العالمية، وعلى رأسها أيضًا المعارضة للسلطة، وكيفياتها، والإسلام السياسي وغير ذلك من المواضيع التي كانت ومازالت محل جدل حقيقي داخل الساحة الفكرية والساحة ال32323232ة المتأثرة سلبًا وإيجابًا بما يجري في الساحة الدولية من أحداث جسام تستوجب التحليل وتعميق النظر في تفاعلاتها وانعكاساتها، وقد تنبه مبكرًا إلى ما يمكن أن يحصل من اندفاع أو انزلاق يتسبب في زعزعة الاستقرار بفعل فاعل، يقصد إجهاض الصحوة الإسلامية أو إثارة فتنة أهلية، أو الدفع نحو المجهول، خصوصًا وأن التجربة الأفغانية والإيرانية وزوال دولة الصومال ماثلة للعيان.
• مرحلة التعددية السياسية في الجزائر
أفرزت التعددية السياسية في الجزائر تحديات جديدة:
أ- التحدي الأول: هو التحدي ضد الإسلام، عندما أصبح الإسلام ممثلاً من عدة أطراف: بعضها متطرفة، وبعضها شعوبية، ووبعضها الآخر يتمثل في احتكار السلطة الجزائرية الإسلام بعيدًا عن ترقيته، مما فرض تحديًا جديدًا على حركة الشيخ وشخصيته، وفي هذه المرحلة نكاد نقول إن شخصية الشيخ ذابت في حركته، وأصبح رمزًا للحركة أكثر منه رمزا للشخصية الخاصة الذاتية المتميز بها.
هذا التحدي على موضوع الإسلام، فرض مسئوليات جديدة: ضرورة حماية الإسلام من التطرف، حماية الإسلام من الغلو، حماية الإسلام من التشويه والانزلاقات التي كان يرى أنها ستعطي مسوغات للأنظمة الجائرة وأزلامها من العلمانيين فرصة الانقضاض على الحصون الإسلامية.
ب- التحدي الثاني هو المحافظة على الدولة الجزائرية، لأن طروحات التقسيم وطروحات اللادولة، وطروحات الفوضى في إدارة الدولة وتسيير الدولة، فرضت فرضًا جديدًا على الجميع، وهو حماية الدولة الجزائرية من الانهيار بعد عملية الانزلاق، مما اقتضى نوعًا من فقه الأولويات، فقه درء المفاسد المقدم على جلب المصالح، وبرز بما يسمى بالمشاركة، والذي يقوم على أساس واضح هو القول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت، التعاون مع كل الأطراف سواء كانت في المعارضة أو في السلطة، تعاون على أساس المبادئ الوطنية المشتركة، ولعل هذا الموقع أصبح موقع الاعتدال الذي سيعاديه المتطرفون من كل لون.
لقد أدرك محفوظ نحناح أن للتشدد أسبابًا ذاتية وسياسية وتحريكية داخلية وخارجية، لكن الشيخ يفقه جيدًا وبعمق أن آفة التشدد تعود في تكوينها ونشأتها، إلى أن ظرف التحول الذي عاشته الجزائر بعيد الإعلان عن الاستقلال كان أحد المكونات الأساسية لهذه الآفة، كما أن أجهزة الدولة الناشئة الفتية مرشحة لأن تتهم بأنها لم تقم بدورها في التحصين للذات الوطنية، ما عدا التغافل عن بناء المساجد التي تتطلبه وضعية الخروج من قبضة الاستعمار، كما أنها - أجهزة الدولة - لم تُعد الجرعة الكافية لحماية الأسرة والمجتمع والجامعة والإدارة والشباب، وانفسح المجال أمام الدعوات الهدامة والأفكار المادية المستوردة، بما جعل ذلك خميرة الفتن والأزمات، وبتوفر أجواء التغريب تتهيأ طرق الغلو والتشدد، غير أن ثمة من يذهب مذهبًا وجد له مسارات إعلامية تروج له، وهو أن التشدد مرده الفقر، والبيوت القصديرية، وأحزمة الفقراء حول المدن، وانعدام أسباب الحياة الرغيدة والكريمة، فضلاً عمن يقول إن السبب الأوحد: هو القمع، والبطش، والاقتصاد والتهميش وانتهاك حقوق المواطنة، والمحن واتساع هوة فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، والشعور باللهفة في كسر الجسور بينهما.
في هذه المرحلة تحول الشيخ من شخصية وطنية أو من شخصية قطرية إلى شخصية عالمية، وأضفى هذا حقيقة إضافات على الشخصية في حد ذاتها وعلى الفكر في حد ذاته، فأصبحت اللقاءات والزايارات الدولية التي قام بها والمشاركة المتعددة في إدارة الفكر العالمي وفي مؤتمرات الفكر العالمي أصبحت ذات تأثير مباشر وواضح في مسار وتشكيل شخصية الشيخ محفوظ نحناح، وفي رؤاه السياسية، وفي مواقفه وفي وخطواته النضالية التي لم تستبعد التأثير الإقليمي والتأثير الدولي والتأثير الوطني، ولا تأثير المواقف المتخذة من طرف شخصيته في هذا المستوي وانعكاساتها على الوطن وعلى الإقليم وعلى الإسلام، وعلى التوجه الذي تسير فيه الحركة التي يترأسها الشيخ محفوظ نحناح، حركة مجتمع السلم.
جـ- التحدي الثالث: تحدي الأزمة التي صاحبت الجزائر، تضاف إلى هذا الموضوع، فالأزمة شكلت في شخصية الشيخ محفوظ نحناح توازنًا آخر، توازن الفتنة، وتوازن الأزمة التي تقتضي رؤىً جديدة، وتقتضي حسابات جديدة، وتأجيل عداوات، وتأجيل خلافات وربما تعاونًا مع الخصوم على أشياء مشتركة أو ضرورات مشتركة مثل ضرورة تمدين النظام السياسي، أو ضرورة التنسيق من أجل المحافظة على الحريات العامة والخاصة، أو ضرورة الإبقاء على الدولة وتقوية مؤسساتها، أو ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية، أو إصلاح شرعية الحكم المعطوبة، وهو الذي يمكن التمثيل له بالتحالفات التي قام بها الشيخ محفوظ نحناح في أكثر من اتجاه، ودعا إليها في أكثر من مناسبة.
د- التحدي الرابع: تحدي رئاسة الجمهورية الذي كان هو النقلة النوعية التي انتقلها الشيخ محفوظ نحناح في مساره، ومسار الحركة الإسلامية، كأول زعيم إسلامي يترشح لرئاسة الجمهورية ويصوت عليه الشعب بأغلبية ساحقة، ويعرف الجميع ذلك، ولكن التزوير الذي حدث ضده من طرف النظام الذي كان حليفًا له، أثر حقيقة في شخصية الشيخ محفوظ نحناح وفي حساباته، وأثر في مسار الحركة تأثيرًا واضحًا، سواء في تعاطيها مع الضغط أو ردود الأفعال المتولدة لدى الشعب الجزائري اتجاه مثل هذه القضية، أو في موضوع الثقة في السلطة القائمة كشريك للمحافظة على هذه الدولة، التي هي دولة جميع الجزائريين، ومما أثر في هذا الأمر أيضًا، أن وزن الشيخ أصبح في الساحة الجزائرية رقمًا رئيسيًا، لا يمكن للحساب أن يكون بدونه، وهو ما اقتضى لدى خصوم الشيخ وعلى رأسهم متنفذون فاعلون في السلطة القائمة أن يطعنوا في شخصية الشيخ التاريخية وماضيه التاريخي، ويطعنوا في وجوده السياسي بمنعه من حق طبيعي دستوري في الترشح للانتخابات الرئاسية التي أصبح الجميع يعرف أنه إذا ترشح سيفوز بها.
غير أن هذا الموضوع الحساس يجب أن يدرج ضمن مسلسل دولي لافت للنظر: فالسماح لأنور إبرهيم في ماليزيا ثم تنحيته وتشويهه، والسماح لنجم الدين أربكان وتنحيته ثم حرمانه من حقوقه السياسية، والدفع بالترابي إلى أن يؤسس شبه دولة ثم تنحيته، والضغط على الإصلاح في اليمن وإبعاده من الساحة، وتيسير الطريق أمام الجبهة الإسلامية وقياداتها ثم استبعادها بكل الوسائل الممكنة وإدخالها في النفق المظلم، وإقصاء راشد الغنوشي ومطاردته ومنعه وحصاره إعلاميًا وتشتيت رجاله، هذا وغيره يفرض نظرة فاحصة وتحليلاً عميقًا تتجلى به كثير من الحقائق التي يعجز ضيقو الأفكار أن يوفوها حقها من البحث والاستنتاج.
هـ- التحدي الخامس تحدي تخريب الإسلام: لقد لاحظ محاولات استبعاد الإسلام من الساحة، ثم محاولات الربط المتعمد بين التسييس والتحزيب، وأدرك أن التحزيب للإسلام ومقدساته يتسبب في مآسٍ على النفس والمجتمع والوطن، وظن التسييس من صلب الإسلام، وما دام ثمة من يدعو إلى فصل الدين عن الدولة أو إفراغ الدولة من التدين أو احتكار الدولة للدين أو احتكار ح****** ما للدين فإن الجميع - وشبه للجزائر - سيقع في أخطار الانقسام والتشرذم والتخلف.
و- التحدي السادس تحدي الربط بين ما هو طني وقومي وإسلامي: منذ عقد من الزمن تناثرت فكرة الوطنية والقومية والإسلامية حتى بلغ دعاة هذه التيارات إلى درجة الصدام، وضاعت المصالح المشتركة للأوطان والشعوب، وصار هذا الصراع تحديًا أمام الغيورين من أبناء هذا الوطن الإسلامي الشاسع، وبات الربط بين الوطنية والقومية والإسلامية يشكل (أسمنت) استقرار للوطن العربي والإسلامي، وفضيلة الشيخ محفوظ نحناح كان من دعاة هذا الربط عبر التأسيس لفكرة المؤتمرات لتجسير العلاقة بين القوميين والإسلاميين والوطنيين، لتتوج فيما بعد بمؤسسات وتنظيمات ترعى وتجسد الفكرة، لتحقيق مشروع تكامل بين كل أطياف التيارات السياسية في وطننا العربي والإسلامي بما يحقق الت323232ة والاستقرار.
• الشخصية المتكاملة
إن اكتمال شخصية محفوظ نحناح في هذا الاتجاه لم يأت اعتباطًا، وإنما جاء من تناغم ثلاثية واضحة، الثلاثة الواضحة هي: أولاً: الاستقرار النفسي، ووضوح في الهوية وفي الماهية
فهو يحرص على تعاطي الخبر والمعلومة، كما يحرص على قراءة وِرْد القرآن، كما يحرص على الاهتمام بشئون حركته، هذا الجانب الشخصي المتميز يطبعه جانب تنظيمي انتشاري واسع مثلته فئات الحركة، وتنوع عطاءاتها الفكرية والثقافية والسياسية والنفسية والرياضية والجمعوية والأدبية التي لم يخل منها موقع من مواقع الجزائر.
ومثلها في المقابل هذا التعاطي مع السلطة الجزائرية، وهو المشاركة بمجموعة وزراء ومجموعة برلمانيين، ومجموعة منتخبين عبر الوطن، كلهم أصبحوا يشكلون أجزاء مهمة في صياغة هذه الشخصية التي تتعاطى مع الحدث، وبنفس محددات الحكمة والهدوء والتوازن ومعرفة الواقع.
وإذ تبدو حقيقة شخصية محفوظ نحناح للمراقب البعيد تحمل كثيرًا من التناقضات، فهي ليست كذلك، وإنما هي شخصية مركبة وذات زعامة تعلو همتها لتتحمل مسئوليتها تحملاً كاملاً في كل الاتجاهات، مما يدفع بخصوم الشيخ محفوظ نحناح- وفي بعض الأحيان حتى محبيه- أن يصرحوا بعدم فهم بعض المفاصل، وليس من اليسير أن يجمع الإنسان بين الحامض والحلو والمر، والحار والبارد في نفس الشيء، إلا إذا كان يحمل قوة مقاومة حقيقية تستطيع أن تؤهله لإدارة هذه المتناقضات، ولذلك كان الزعماء دائمًا يحملون صور الجميع بين مجموعة المتناقضات، هي التي تجعل منهم قياديين وتؤهلهم لإدارة شئون شعوبهم، وتحمل تناقضات هذه الشعوب، وتعمل على التقريب بينها وإيجار التناغم والانسجام بينها بما يستصعبه كثير من الخلق.
وثانيًا: العمل من أجل الجماعة:
الشيخ محفوظ نحناح لا يمثل شخصًا، ولا يمثل فئة ولا يمثل شعبية ولا يمثل مرحلة تاريخية، بقدر ما يمثل الجميع أو يعمل لصالح الجميع من خلال الاهتمام والانشغال بهموم الجميع، على اختلاف تركيبهم وعلى اختلاف تناقضاتهم، ومن هنا يعمل مع الجميع ضمن قواعد التشاور والتنظيم، والائتلاف والتنسيق والتنازل، ضمن وضوح المصلحة العامة وتغليبها على المصلحة الخاصة، وهذا لا يتأتى إلا بالبحث العميق عن نقاط التلاقي مع محاوريه، واجتناب نقاط التنافر، إلا ما كان متعلقًا بالثوابت والدماء وإثارة تطويق دعاويهم، وتعففًا وتنزها عن الخوض مع الخائضين، ولعل هذا من أحسن الرد على من لا يستحقون ردًا، وكأن لسان حاله يقول: "موتوا بغيظكم" أو: "فاصفح الصفح الجميل".
وثالثًا: الإيمان بالاتجاهات المتعددة والأطياف المختلفة:
فالشيخ محفوظ نحناح لا يؤمن بأسود وأبيض، ولا يؤمن بـ: "إذا لم تكن معي فأنت ضدي"، ولا يؤمن بنظرية التطرف، بل يؤمن بنظرية التشارك والتمازج بين الأطياف والأشياء، وتولد عملية التزاوج بين الأطياف ألوانًا جديدة إبداعية رائعة، تستطيع أن تقوم في المجمع وتؤدي أدوارًا أكثر إيجابية.
الشيخ محفوظ نحناح لا يؤمن بحدية الأشياء، وإنما يؤمن بنسبيتها، فليس هنالك صواب مطلق أو خطأ مطلق، وإنما هناك صواب نسبي وخطأ نسبي، حرص نسبي، هنالك أشياء نسبية، وتمسك بهذه النسبية حديث النبي "صلي الله عليه وسلم": "إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" "أخرجه الإمام أحمد والبيقي، ولذلك تعالج أمور شخصيتنا بهذه النظرة، وقد تبدو أحيانًا تحمل بعض التناقضات، ولكنها تحمل حقيقة الانسجام بين المتضادات، والجمع بين هذه المتضادات في نظرية تستفيد من كل ذلك، دون أن تسمح بالتصادم بين جزئياتها.
وهو لا يرى الحق في جهة من الجهات، ولا بالمقابل الخطأ المطلق لجهة من الجهات، ويعتبر الحوار مجالاً مفتوحًا حتى للشيطان، والشيطان هو أكبر ممثل للشر، كان الحوار موجودًا بين أكبر ممثل للشر - وهو الشيطان- وبين الله سبحانه وتعالى، فمن باب أولى أن تكون هنالك مساحات لهذا التعاطي النسبي مع جميع الأشياء
تقييم:
0
0