الرقة لؤلؤة المدن الشرقية
الرقة لؤلؤة المدن الشرقية
في أقصى الشرق من سوريا تقع مدينة الرقة التي تحتفظ بأوابدها وآثارها وملامحها الجمالية المحاطة بنهر الفرات. وتعتبر الرقة من أقدم مدن بلاد الشام، وعبر التاريخ مرت عليها نكبات قاسية وغزوات مفاجئة، ومنها عبر هولاكو مع جيشه الغازي إلى المدن القريبة، وفيها أقام هارون الرشيد فترات طويلة، وماضيها يؤرخ للإنسان الحجري وهو يبني أول أسس حياته في الكهوف العميقة. ويكشف متحف الرقة عن بصمات كل الحقب القديمة، لتشير المدينة إلى استمرار بقائها عبر الأزمنة وتصديها للتغيرات الطارئة، بينما يستمر ترميم بعض آثارها المتهدمة، وأهمها سورها الواسع بإشراف من اليونيسكو، مما جعلها إحدى المحطات السياحية للأفواج الآتية من العالم لتقرأ من جديد سطور الحياة القديمة.
إذا كانت مصر هي هبة النيل كما تؤرخ الأساطير القديمة، فإن مدينة الرقة السورية التي تقع على ضفة نهر الفرات اليسرى بين حلب 180 كيلومتراً ودير الزور 105 كيلومترات هي هبة الفرات، ولؤلؤة المدن الشرقية في سوريا. تبوأت هذه المدينة دوراً استراتيجياً مهماً عبر التاريخ، وشكّلت جسراً متقدماً على أحد حدود العالم القديم، وأصبحت فيما بعد مركزاً بارزاً من المراكز الحضارية العربية الإسلامية في أوج انتشار دولة الإسلام.
والرقة، بفتح الراء، جمعها رقاق وهي بقعة الماء الرقيقة والمنبسطة التي تبقى في منخفض إلى جانب نهر أو بحر بعد انحسار الفيضان أو المد، ولهذا كانت هناك رقاق كثيرة في البلدان العربية، في العراق على شاطئ دجلة، وفي مصر على شاطئ النيل، وفي الكويت على ساحل الخليج. والرقاق على شاطئ الفرات أكثر من واحدة منها رقة واسط، والسوداء، والحمراء، والبيضاء وهذه الأخيرة هي الرقة السورية التي عناها الشاعر في حملة عياض بن غنم عندما فتحها عام 17 للهجرة بقوله:
وصادفنا الفرات غداة سرنا
أخذنا الرقة البيضاء لما
رأينا الشهر لوَّح بالهلال
كان اسم المدينة الرقة البيضاء حين فتحها العرب المسلمون، وقبل الفتح الإسلامي كان اسمها آماد، فقد كانت آنذاك عاصمة ديار مضر، مثلما كانت الموصل عاصمة ديار ربيعة، وكانت آماد عاصمة ديار بكر في شرقي ما يدعى بالأناضول، نزحت إليها القبائل العربية في مواسم جدب العرب ثم استوطنوها فنُسبت إليها. واسم “الرقة” لم يكن أول أسمائها، ففي القرن الثالث قبل الميلاد كان اسمها “نيقفوريوم” على اسم أحد قادة الاسكندر الكبير ممن ورثوا سلطانه الواسع بعد وفاته، ثم أصبح اسمها “كاينيكوس” باسم قائد آخر، أو باسم راهب وثني اشتهر فيها، وفي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد كانت تعرف باسم “توتول” وهو اسم تردد كثيراً في الأماكن التي اكتُشفت في آثار مملكة ماري.
أما مدينة الرقة الهلنستية التي بناها سلوقس نيكاتور وسماها “نيقفوريوم” فتعود إلى 3000-2000 قبل الميلاد، وتقع شرقي باب بغداد القائم حتى الآن وتعود إلى القرن الأول والثاني والثالث، وتليها الرقة البيزنطية التي عاشت بين القرنين الثالث والسابع للميلاد. وفي الربع الأخير من القرن السابع أقام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور مدينة جديدة على نمط بغداد الدائري أطلق عليها اسم “الرافقة” عام 155 هجرية 772 ميلادية. وأوكل المنصور لابنه المهدي مهمة بنائها، معتمداً على خطة أدهم بن محرز في هندسة المدينة، وجعل مخططها بيضوياً على شكل مدينة بغداد، ولكن وجود نهر الفرات قطع الشكل ليظهر على شكل نعل الفرس فجعل للمدينة سورين وأقام على الأسوار ثلاثة أبواب كبيرة تعلوها الأبراج وخندقاً محيطاً بالأسوار، وفي الوسط المسجد الجامع وعاشت الرافقة أوج ازدهارها وغناها بالقصور والرياض والأديار، إلى أن اجتاحها المغول في القرن الثاني عشر، وعاثوا فيها فساداً، ولم يبق إلا بقايا قصور كانت في القرن التاسع من الأماكن المفضلة للعباسيين، وبخاصة هارون الرشيد الذي يذكر التاريخ أنه كان يستظل بأشجار النخيل المصطفة على جانبي الطريق بين الرقة وبغداد فلا تراه الشمس، وجعل الرقة عاصمته في السنوات الثلاث عشرة الأخيرة من خلافته، كما كانت قاعدته التي غزا منها الروم فهدم أسوار حاضرتهم هرقلة ومن هنا حُق له أن يدعوها أحد منازل الدنيا الأربعة بعد دمشق والري وسمرقند.
نكبات الأزمنة: مثل غيرها من بلاد الشام تعرضت الرقة إلى الكثير من النكبات والغزوات عبر الأزمنة، وكان أشدها عام 657 للهجرة 1259 للميلاد حين سار هولاكو إلى الجزيرة بعد استيلائه على بغداد، وتقويضه خلافة بني العباس فيها، فهجر أهل الرقة إلا القليل منهم مدينتهم قبل أن تبلغها جيوش السفّاح المغولي، وحين دخلها أنزل فيها الحريق والدمار، وذبح القلة الباقية من السكان فيها، وبعد هولاكو جاء تيمورلنك فأجهز عليها، وتحولت المدينة الزاهرة إلى أطلال مهجورة، ولم يبق من بنيانها إلا الخرائب القائمة آثارها حتى اليوم وأهمها السور الأثري الضخم الذي يبلغ طوله 5 كيلومترات وهو مبني من اللبن المجفف ومكسي من الداخل والخارج بالآجر الجميل، والمسجد الجامع العتيق الذي بناه أبو جعفر المنصور سنة 155ه/772م.
ومن معالم الرقة العباسية الشهيرة التي لا تزال ماثلة إلى اليوم، أسوار الرافقة، وهي مشيدة بشكل مضاعف، فهناك السوران الداخلي والخارجي وبينهما الفيصل، وهو مسافة من الأرض أشبه ما تكون بشارع يفصل بينهما.
وهناك قصر البنات الذي يبعد حوالي 400 متر إلى الشمال من باب بغداد وهو يُعد من الأوابد الأثرية الضخمة الموجودة في الرقة، بالإضافة إلى قصر هرقلة، وقلعة جعبر، ورصافة هشام بن عبد الملك التي تقع على بعد 40 كيلومتراً إلى الجنوب من الرقة، ومجموعة التلال الأثرية في حوض البليخ كتل حمام التركمان، وتل الأسود، صهلان، المفش، جدلة الحمام، الخويرة، الفري، وممباقة، والعبد، وموقع عناب السفينة، وتل المريبط الذي كان نقطة الانطلاق لأول استيطان مدني منذ الألف التاسع قبل الميلاد وأطلال قصور الرقة العباسية وهي تدل على ضخامة واتساع هذه القصور التي لا يزال معظمها تحت التراب، وتم الكشف عن عدد منها من أيام هارون الرشيد مثل قصر هرقلة، وعثر خلال الحفريات على نماذج رائعة من الفخار والخزف والبرونز والنحاس والإطارات الجصية المزخرفة، وعلى مجموعة من النقود العربية والبيزنطية الموجودة في متحفي الرقة ودمشق، كما تضم متاحف “المتروبوليتان” في نيويورك و”فرير جاليري” في واشنطن وغيرهما مجموعة رائعة من المصنوعات الزجاجية والخزفية التي اشتهرت بها الرقة في العصر العربي الإسلامي وخاصة في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
في مبنى جميل يتسم بطابع تاريخي في وسط الرقة وكان سابقاً “السرايا القديمة”، يقع متحف الرقة ويتألف من طابقين تم افتتاح أربعة أقسام منها، وعند مدخل المتحف يرى الزائر لوحة فسيفساء جميلة تعود إلى القرن الخامس الميلادي، عُثر عليها في منطقة حويجة حلاوة في محافظة الرقة، ويضم الطابق الأول قسم الآثار القديمة، والكلاسيكية، وزيّن البهو الكبير في الطابق الأرضي بلوحات فوتوغرافية لأهم المواقع الأثرية في سوريا