ميـــــــــــــــــلاد كاتب..
قصــــــــــة قصيرة
ميلاد كـــــــــــــــــاتب
من أسرة متواضعة في قرية مترامية يولد صاحبنا ..تنبعث من البيت زغاريد النسوة ..يعلو صراخ الصبي الجديد ..تهاني النسوة تصل تباعا إلى النفساء ..صحون الرفيس المصنوع خصيصا لهذه المناسبة تقدم لكل ضيف ..تلك عادة متوارثة عند الناس هناك..القابلة كانت عجوزا في القرية لها مكانتها الخاصة ..تلك الأرملة التي مات زوجها " الطالب " منذ سنتين فقط ..ودرَس بالقرى المجاورة إبان عهد الاستعمار الفرنسي للجزائر..نعم كانت ذات شخصية وهيبة وتقدير من طرف الجميع لما عرفت به من استقامة واتزان ووفاء..يشتري لها الأب بعض الهدايا عرفانا بما قدمته من جميل ..إنهم هنا يفرحون لميلاد الذكور...في الليلة الثالثة تقام على شرف القادم الجديد للأسرة مأدبة عشاء يحضرها كبار القوم رجالا ونساء..وتتداول كثير من الأسماء المقترحة لتسمية الصبي..يقع الإختيار أخيرا على إسم " بشير " ..تجلس النسوة على شكل دائري ..تتوسطهم النفساء ..تحتضن وليدها ..ترضعه ..ترعاه..
تستمع إلى دعواتهن لها بالصحة والعافية وللصبي طول العمر..
تمر الشهور والسنين ..يكبر الصبي ويدخل المدرسة ..كان يقول لأمه قبل النوم من كل ليلة ..احكي لنا أحجية من أحجيات الزمن الغابر..تقول له ولأخوته ..لنطفئ القنديل و نبدأ في الحكاية ،وانتم استمعوا جيدا ولا تتكلموا ..تلك هي خطتها في تنويمهم بنسجها لهم قصصا من الخيال عساهم ينامون ويكفونها شر الضجيج والخصام مع بعضهم بعضا ..تحكي قصص ذلك الرجل الذي يركب جوادا ..يحمل سيفا..وكانت تقول :"يخلي بلاد ويعمر بلاد" ..يضرب هذا الظالم بسيفه.. يعين هذه الأرملة..يقي هؤلاء القوم شر الغول ذو السبعة رؤوس..! إنه يتخيل دائما أنه بطل من أبطال أحجيات أمه ..وكل يوم وتشده إلى الليل قصة من أمه..
في ليلة شتوية باردة نهض باكرا مع أمه..بقي في فراشه ينظر اليها وهي تشعل النار ، والدخان يتطاير من حولها ،تعيد الكرة الى ان تشعل النار في "الكانون "تضع إبريق القهوة على الأخشاب ،تجلس أمام النار وهي تتهادى تحت الإبريق ترسل نورا ودفءا ،وقبل أن يغسل وجهه يسأل أمه وماذا صنع سكان تلك القرية لذلك الرجل الذي قتل الغول وكفاهم شره؟ يا بني وهل نمت البارحة قبل أن تكمل سماع القصة ؟
نعم يا أمي ...كان الطفل قليل الخصام مع إخوته وكانت تحبه ولا ترفض له طلبا مادام هادئا.. وتجيبه على سؤاله بقولها ..لقد زوجوه ابنتهم وأصبح لهم صهرا،وبنوا له مسكنا وجعلوه عليهم ملكا ..كان الطفل يتصور أن طريق ان طريق الزواج ونيل المكانة بين الناس يمر حتما عبر قتل الغول ..وهل توجد الآن اغوال ياأماه ؟؟
يابني الآن لا توجد أغوال ..انقرضت منذ مدة بعيدة ..كم كان يجد الأنس والمتعة وهو يتذكر الصور الجميلة والمواقف الجليلة التي يحياها في ثنايا تلك الأحجيات الخيالية...
يتعلم صاحبنا الكتابة في المدرسة ..لقد أعجبته قصة لأخيه مكتوبة في كراس صغير ، فصنع لنفسه كراسا بجمعه للأوراق القديمة..وشرع يدون القصص التي يسمعها من أمه أو أقرانه الذين بدورهم ينقلونها عن أمهاتهم أو جداتهم...لم يكن يسمع بجهاز التلفزيون ، أبوه يملك مذياعا صغيرا ، تخبئه الأم وتعطيه إياه يوم الخميس عند رجوعه من عمله في نهاية الأسبوع يستمع إلى صوت فلسطين آنذاك ، ويجلس بالقرب منه الأبناء ..ذات يوم يرجع إلى البيت يحمل قلمه ، ويشرع في كتابة قصة رواها له صديقه عن " مكيدش " بعد المغرب كانت الأسرة مجتمعة حول الطعام ...يقول الطفل لأخوته.لقد كتبت قصة " مكيدش "فاسمعوها مني ...يبدأ في سردها مبرزا حيل مكيدش ودهاءه وكيفية تغريره بأهل العنزة ..؟ أفراد الأسرة معجبون ، يبتسمون وهم يداعبونه بين الحين والحين بالأسئلة حول أشخاص قصته ..
هاهو يكبر الفتى ..يبحث عن كراسته القديمة حين شده الحنين إلى كتاباته الأولى التي بدأها ..لقد ضاعت ...ربما تكون أمه التي لا تعرف القراءة والكتابة قد أشعلت بها النار...يكبر الفتى وتكبر قصص أمه له ويعرف ان كل ما قيل عن " الغول " وعرف في الأحجيات ليس صحيحا ...إن قصصها اليوم أكثر واقعية ، لأن إبنها أصبح يدرك الواقع من حوله ، كانت أمه لعطفها وحنانها تحكي قصصا لزميلاتها وهو يستمع ويتعلل بأي عمل لكي يبقى قريبا منهن وهن تتبادلن أحاديث الأنس والمواساة ...تلك امرأة ماتت بحملها..وتلك مهمومة بحال ابنها الذي استدعي للخدمة الوطنية بعيدا عنها..تقدم لهذه القهوة ولتلك الطعام ...تبعث طفلها وإخوته لزيارة خالتها العجوز الأرملة للاستطلاع على حالها... الكتابة كانت حلما يراوده وهو يقرأ كتب المنفلوطي وغيره..فمن الله عليه بصديق يحب القراءة ويطلب منه في كل مرة مراسلته وما سلم من كتاباته إلا تلك التي بعث بها إلى صديقه ...تمر السنوات ،تتعاقب الأحداث فينتقل في دراسته من مستوى إلى مستوى ومن مدينة إلى مدينة وتترسب في أعماقه الكثير من الأحداث فيتذكر قصته الأولى مع الكتابة ، فيهب من جديد للقلم باحثا عن ورقة ليروي فيها قصة أم تصاب في فلذتي كبدها بعدما شب حريق في بيتها ...
ــ النهــــــــــــــــــاية ـــ
ابو عبد الله ( المديـــــــــــة)
تحية للجميع ...تعليقاتكم وتصويباتكم تبهجني ...وبارك الله فيكم جميعا ايها الاحباب ....