أسباب استجلاب النصر من الله عزَّ وجلَّ
يعتقد المسلم الصادق في إيمانه أن النصر بيد الله سبحانه وتعالى، وأن الأمور كلها تسير وفق تدبيره ومشيئته، فلا يقع في كون الله إلا ما أراده الله سبحانه وتعالى.
فحينما تترسَّخ هذه العقيدة في قلب المؤمن تكسبه ثقةً فيما عند الله- سبحانه وتعالى- فيركن إليه، ويتوكل عليه، ويطلب منه المدد والتوفيق، والنصرة والتمكين، قال تعالى: ?وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)? (آل عمران: من الآية )، وقال تعالى: ?إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) ? (آل عمران)، وقال تعالى: ?وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)? (النساء).
فهذه الآيات تبيِّن في وضوح وجلاء أن الذي يملك إعطاء النصر في جميع المعارك إنما هو الله- سبحانه وتعالى- فهو يعطيه لأوليائه، نصرةً وتمكينًا لهم، وقد يؤخِّره عن المؤمنين؛ ليختبرهم في إيمانهم وصبرهم، وهذا لون من التربية والتمحيص قال تعالى: ?ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)? (محمد)، وقال تعالى: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)? (آل عمران)، وقال تعالى: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)? (البقرة).
ومن أسماء الله الحسنى القوي الناصر، فمن ركن إليه- سبحانه وتعالى- فقد أوى إلى ركن شديد، إلى القوة التي لا تُقهَر، والملك الذي لا يهزم، قال تعالى: ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)? (الأنعام).
فثقة الأمة بأن النصر بيد الله- سبحانه وتعالى- يجعلها تُقبِل عليه، وتتودد إليه، وتلتمس منه النصرة على الأعداء في أدعيتها وصلواتها، في يسرها وعسرها، في رخائها وشدتها؛ ذلك لأن من يعرف الله تعالى في الرخاء عرفه الله في الشدة.
1- أسباب النصر قبل المعركة:
هناك عدة أسباب لا بدَّ منها قبل المعركة؛ حتى ينزل النصر من الله- سبحانه وتعالى- فهو لا ينزل النصر على قوم ينتسبون إليه، ولا يطيعون أوامره، ولا يقيمون حدوده، ولا يتنزل النصر على أمة تقصي تعاليم القرآن والسنة عن واقع الحياة العامة في كل شئون حياتها، ولا يتنزل النصر على أمة تخالف هدي النبي- صلى الله عليه وسلم- وتقف من السنة موقف العداء والخصومة، ولا يتنزّل النصر على أمة تستورد القوانين البشرية، والفلسفات المادية الأرضية في تنظيم حياة الناس وشئونهم.
ولا يتنزَّل النصر على أمة تعيش في بطالة، وأفرادها كسالى يعتمدون على غيرهم، في طعامهم وشرابهم ومواصلاتهم وأسلحتهم، ولا يعتمدون على كدِّ يمينهم، وعرق جبينهم، وكدح سنينهم.
ولا يتنزل النصر على أمة لا تأخذ بأسباب القوة والعقيدة والإيمان، أو الوحدة والأخوة، أو الساعد والسلاح.
إنما يتنزل النصر إذا توفر شرطان أساسيان هما:
الأول: أن تكون الأمة كلها على طاعة لله- عز وجل- فتنصر دينه وهدي نبيه في كلِّ شئون حياتها قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)? (محمد)، وقال تعالى: ?إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)? (غافر).
فالنصر لا يتنزَّل إلا على المؤمنين الصادقين الذين تاجروا مع الله- عز وجل- بالغالي والنفيس، قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)? (التوبة).
وكانت دائمًا وصية الخلفاء الراشدين إلى جنودهم: "إن أخوف ما أخاف عليكم ذنوبكم فإذا تساويتم مع الأعداء في المعصية كانت الغلبة للأقوى"، ولقد رأينا في معركة العاشر من رمضان حينما عادت الأمة كلها إلى الله، القادة والجند، والأمة من ورائهم في المساجد، وصيحة الله أكبر في الميدان، فلاحت بوادر النصر قبل العصر؛ لأن منزِّل النصر ومدبِّره إنما هو الله عزَّ وجلَّ.
الثاني: إعداد القوة على قدر الوسع والطاقة قال تعالى: ?وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ? (الأنفال: من الآية 60)، أن نأخذ بجميع الأسباب المتاحة والميسَّرة في إعداد القوة المادية من أصغرها مثل الحجر، إلى أعلاها من الوسائل الحديثة المعاصرة.
والإسلام في جميع معاركه لم يعتمد على العدد أو العتاد، ولا على كثرة الأسلحة والمعدات، وإنما ينظر إلى طاعة المسلمين وأخذهم بالأسباب المتاحة قال تعالى: ?كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)? (البقرة).
وفي "بدر" نصر الله الصحابة وهم قلة، ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً، على الكثرة من المشركين، ألف رجل، ونزل القرآن بعدها لينسب النصر إلى صانعه الحقيقي وهو الله-سبحانه وتعالى: ?وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)? (آل عمران)، ?وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى? (الأنفال: من الآية 17).
فيعطي المسلمين درسًا في التواضع، وينسب النصر إلى صاحبه ومنزِّله ومدبٍّره وهو الله- سبحانه وتعالى: ?وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)? (الأنفال).
ولما رأى المسلمون كثرة الروم في غزوة مؤتة قال أحدهم: "ما أكثر الروم وما أقل المسلمين؟!" فرد عليه ابن رواحه قائلاً: "بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين، إنما ننتصر عليهم بطاعتنا لله، ومعصيتهم له، والله إن الذي تكرهون لهو الذي من أجله خرجتم".
وفي حطين نصر الله القائد البطل صلاح الدين الأيوبي وهو يقود كتائب الإيمان والتوحيد في جيش قوامه (اثنا عشر ألف) على الصليبيين في جيش قوامه (ستون ألف) وقتل المسلمون من الصليبيين ثلاثين ألفًا وأسروا ثلاثين ألفًا، والأمثلة كثيرة في كتب التاريخ والسير والمغازي.
2- أسباب النصر أثناء المعركة:
كما أن هناك أسبابًا للنصر أثناء المعركة لا بدَّ من الأخذ بها؛ حتى يكون الجيش محلَّ عناية الله ورعايته، ونصره وتمكينه، وهذه الأسباب يلخصها قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)? (الأنفال).
فلا بد من العناصر الخمسة التي في الآية وهي:
الثبات: إذ كيف ينزل النصر على قوم فروا من الميدان، وولوا ظهورهم للأعداء، والله- عز وجل- يقول عن يوم بدر: ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)? (الأنفال).
الذكر: إذ كيف يتنزل النصر على أمة غافلة، أو مُعرِضة عن الطاعة، أو ملطخة بالمعصية.
الطاعة: إذ كيف يتنزل النصر على أمة تبارز الله بالذنوب والمعاصي، وتعلي من شأن الفنانين ولاعبي كرة القدم، وتُنزل من شأن العلماء والصالحين.
عدم التنازع: إذ كيف يتنزل النصر على أمة متفرقة مختلفة، بأسها بين أبنائها شديد، والله تعالى- يقول: ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا? (آل عمران: من الآية 103).
الصبر: إذ كيف يتنزل النصر على أمة لا تتحلى بالصبر والثبات، والله تعالى يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)? (آل عمران).
فحينما انهزم المسلمون في "أُحد" نزل القرآن؛ ليعطي المسلمين درسًا في أسباب الهزيمة، قال تعالى: ?أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ? (آل عمران: من الآية 165).
2- من سنن الله في النصر والتمكين:
إن لله سننًا لا تتغير ولا تتبدل في هذا الكون، ومنها سنة الله في النصر والتمكن لأوليائه منها.
1- أن يكون للحق أنصار يحملونه ويدافعون عنه، ويضحون في سبيله ويسترخصون الحياة، ويطلبون ما عند الله سبحانه وتعالى بالغالي والنفيس، فالحياة كلها صراع بين الحق والباطل، فإذا تمسَّك أصحاب الحق بحقهم ودافعوا عنه هيئوا أنفسهم لنصر الله- عز وجل- قال تعالى: ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)? (الأنبياء)، وقال تعالى: ?ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)? (المائدة).
2- مع اشتداد الأزمة والشدة يكون الفرج القريب قال تعالى: ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)? (يوسف)، وقوله تعالى: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)? (الحج).
3- أن النصر لا يتنزّل إلا على من يستحقه، قال تعالى: ?وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)? (الصافات).
4- أن النصر الحقيقي حينما تنتصر الفكرة التي يحملها المسلم وإن تعرض في سبيلها للأذى والاضطهاد، فلقد وقع بعض المسلمين شهداء في مكة مثل ياسر أبو عمار وسمية بنت خياط، دون أن يروا للإسلام دولة، وكتب الله لهم الشهادة، وانتصر الإسلام، وقامت له دولة باقية إلى قيام الساعة إن شاء الله-عز وجل- فالمؤمن بين نصر وتمكين، إن كتب الله له الحياة، وبين دخول الجنة إن نال الشهادة في سبيل الله، قال تعالى: ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)? (الأحزاب).
نسأل الله أن ينزل علينا نصرًا قريبًا من عنده.
فحينما تترسَّخ هذه العقيدة في قلب المؤمن تكسبه ثقةً فيما عند الله- سبحانه وتعالى- فيركن إليه، ويتوكل عليه، ويطلب منه المدد والتوفيق، والنصرة والتمكين، قال تعالى: ?وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)? (آل عمران: من الآية )، وقال تعالى: ?إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) ? (آل عمران)، وقال تعالى: ?وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)? (النساء).
فهذه الآيات تبيِّن في وضوح وجلاء أن الذي يملك إعطاء النصر في جميع المعارك إنما هو الله- سبحانه وتعالى- فهو يعطيه لأوليائه، نصرةً وتمكينًا لهم، وقد يؤخِّره عن المؤمنين؛ ليختبرهم في إيمانهم وصبرهم، وهذا لون من التربية والتمحيص قال تعالى: ?ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)? (محمد)، وقال تعالى: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)? (آل عمران)، وقال تعالى: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)? (البقرة).
ومن أسماء الله الحسنى القوي الناصر، فمن ركن إليه- سبحانه وتعالى- فقد أوى إلى ركن شديد، إلى القوة التي لا تُقهَر، والملك الذي لا يهزم، قال تعالى: ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)? (الأنعام).
فثقة الأمة بأن النصر بيد الله- سبحانه وتعالى- يجعلها تُقبِل عليه، وتتودد إليه، وتلتمس منه النصرة على الأعداء في أدعيتها وصلواتها، في يسرها وعسرها، في رخائها وشدتها؛ ذلك لأن من يعرف الله تعالى في الرخاء عرفه الله في الشدة.
1- أسباب النصر قبل المعركة:
هناك عدة أسباب لا بدَّ منها قبل المعركة؛ حتى ينزل النصر من الله- سبحانه وتعالى- فهو لا ينزل النصر على قوم ينتسبون إليه، ولا يطيعون أوامره، ولا يقيمون حدوده، ولا يتنزل النصر على أمة تقصي تعاليم القرآن والسنة عن واقع الحياة العامة في كل شئون حياتها، ولا يتنزل النصر على أمة تخالف هدي النبي- صلى الله عليه وسلم- وتقف من السنة موقف العداء والخصومة، ولا يتنزّل النصر على أمة تستورد القوانين البشرية، والفلسفات المادية الأرضية في تنظيم حياة الناس وشئونهم.
ولا يتنزَّل النصر على أمة تعيش في بطالة، وأفرادها كسالى يعتمدون على غيرهم، في طعامهم وشرابهم ومواصلاتهم وأسلحتهم، ولا يعتمدون على كدِّ يمينهم، وعرق جبينهم، وكدح سنينهم.
ولا يتنزل النصر على أمة لا تأخذ بأسباب القوة والعقيدة والإيمان، أو الوحدة والأخوة، أو الساعد والسلاح.
إنما يتنزل النصر إذا توفر شرطان أساسيان هما:
الأول: أن تكون الأمة كلها على طاعة لله- عز وجل- فتنصر دينه وهدي نبيه في كلِّ شئون حياتها قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)? (محمد)، وقال تعالى: ?إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)? (غافر).
فالنصر لا يتنزَّل إلا على المؤمنين الصادقين الذين تاجروا مع الله- عز وجل- بالغالي والنفيس، قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)? (التوبة).
وكانت دائمًا وصية الخلفاء الراشدين إلى جنودهم: "إن أخوف ما أخاف عليكم ذنوبكم فإذا تساويتم مع الأعداء في المعصية كانت الغلبة للأقوى"، ولقد رأينا في معركة العاشر من رمضان حينما عادت الأمة كلها إلى الله، القادة والجند، والأمة من ورائهم في المساجد، وصيحة الله أكبر في الميدان، فلاحت بوادر النصر قبل العصر؛ لأن منزِّل النصر ومدبِّره إنما هو الله عزَّ وجلَّ.
الثاني: إعداد القوة على قدر الوسع والطاقة قال تعالى: ?وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ? (الأنفال: من الآية 60)، أن نأخذ بجميع الأسباب المتاحة والميسَّرة في إعداد القوة المادية من أصغرها مثل الحجر، إلى أعلاها من الوسائل الحديثة المعاصرة.
والإسلام في جميع معاركه لم يعتمد على العدد أو العتاد، ولا على كثرة الأسلحة والمعدات، وإنما ينظر إلى طاعة المسلمين وأخذهم بالأسباب المتاحة قال تعالى: ?كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)? (البقرة).
وفي "بدر" نصر الله الصحابة وهم قلة، ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً، على الكثرة من المشركين، ألف رجل، ونزل القرآن بعدها لينسب النصر إلى صانعه الحقيقي وهو الله-سبحانه وتعالى: ?وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)? (آل عمران)، ?وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى? (الأنفال: من الآية 17).
فيعطي المسلمين درسًا في التواضع، وينسب النصر إلى صاحبه ومنزِّله ومدبٍّره وهو الله- سبحانه وتعالى: ?وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)? (الأنفال).
ولما رأى المسلمون كثرة الروم في غزوة مؤتة قال أحدهم: "ما أكثر الروم وما أقل المسلمين؟!" فرد عليه ابن رواحه قائلاً: "بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين، إنما ننتصر عليهم بطاعتنا لله، ومعصيتهم له، والله إن الذي تكرهون لهو الذي من أجله خرجتم".
وفي حطين نصر الله القائد البطل صلاح الدين الأيوبي وهو يقود كتائب الإيمان والتوحيد في جيش قوامه (اثنا عشر ألف) على الصليبيين في جيش قوامه (ستون ألف) وقتل المسلمون من الصليبيين ثلاثين ألفًا وأسروا ثلاثين ألفًا، والأمثلة كثيرة في كتب التاريخ والسير والمغازي.
2- أسباب النصر أثناء المعركة:
كما أن هناك أسبابًا للنصر أثناء المعركة لا بدَّ من الأخذ بها؛ حتى يكون الجيش محلَّ عناية الله ورعايته، ونصره وتمكينه، وهذه الأسباب يلخصها قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)? (الأنفال).
فلا بد من العناصر الخمسة التي في الآية وهي:
الثبات: إذ كيف ينزل النصر على قوم فروا من الميدان، وولوا ظهورهم للأعداء، والله- عز وجل- يقول عن يوم بدر: ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)? (الأنفال).
الذكر: إذ كيف يتنزل النصر على أمة غافلة، أو مُعرِضة عن الطاعة، أو ملطخة بالمعصية.
الطاعة: إذ كيف يتنزل النصر على أمة تبارز الله بالذنوب والمعاصي، وتعلي من شأن الفنانين ولاعبي كرة القدم، وتُنزل من شأن العلماء والصالحين.
عدم التنازع: إذ كيف يتنزل النصر على أمة متفرقة مختلفة، بأسها بين أبنائها شديد، والله تعالى- يقول: ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا? (آل عمران: من الآية 103).
الصبر: إذ كيف يتنزل النصر على أمة لا تتحلى بالصبر والثبات، والله تعالى يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)? (آل عمران).
فحينما انهزم المسلمون في "أُحد" نزل القرآن؛ ليعطي المسلمين درسًا في أسباب الهزيمة، قال تعالى: ?أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ? (آل عمران: من الآية 165).
2- من سنن الله في النصر والتمكين:
إن لله سننًا لا تتغير ولا تتبدل في هذا الكون، ومنها سنة الله في النصر والتمكن لأوليائه منها.
1- أن يكون للحق أنصار يحملونه ويدافعون عنه، ويضحون في سبيله ويسترخصون الحياة، ويطلبون ما عند الله سبحانه وتعالى بالغالي والنفيس، فالحياة كلها صراع بين الحق والباطل، فإذا تمسَّك أصحاب الحق بحقهم ودافعوا عنه هيئوا أنفسهم لنصر الله- عز وجل- قال تعالى: ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)? (الأنبياء)، وقال تعالى: ?ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)? (المائدة).
2- مع اشتداد الأزمة والشدة يكون الفرج القريب قال تعالى: ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)? (يوسف)، وقوله تعالى: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)? (الحج).
3- أن النصر لا يتنزّل إلا على من يستحقه، قال تعالى: ?وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)? (الصافات).
4- أن النصر الحقيقي حينما تنتصر الفكرة التي يحملها المسلم وإن تعرض في سبيلها للأذى والاضطهاد، فلقد وقع بعض المسلمين شهداء في مكة مثل ياسر أبو عمار وسمية بنت خياط، دون أن يروا للإسلام دولة، وكتب الله لهم الشهادة، وانتصر الإسلام، وقامت له دولة باقية إلى قيام الساعة إن شاء الله-عز وجل- فالمؤمن بين نصر وتمكين، إن كتب الله له الحياة، وبين دخول الجنة إن نال الشهادة في سبيل الله، قال تعالى: ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)? (الأحزاب).
نسأل الله أن ينزل علينا نصرًا قريبًا من عنده.