بلبيس قديما
ديسمبر 2009
11
بلبيس..طريـق الأنبيــاء عمرها يسبق القاهرة بنحو 3 آلاف عام وكانت عاصمة للشرقية قبل الزقازيقالمصدر: الأهرام اليومى
بقلم: محمد عبدالحميد
كانت مدخل الإسلام إلي مصر وأول موطيء قدم لعمرو بن العاص الذي قاتل علي أرضها جنود الروم
تقول السير الشعبية عنها بلد تبيع العيش بالميزان والمش بالفنجان وهو أسلوب لم يعهده من قبل سكان الباديةعلي أرضها التقي يوسف بأبيه يعقوب..وتجلت معجزات المسيح.. وزارها نبي الله إبراهيم
حين تطأ قدماك أرض بلبيس اترك التساؤلات وعلامات الاستفهام تتقاطر علي ذهنك ولا تخجل فكل من أتي قبلك منذ آلاف السنين مر بتلك التجربة، واعلم أنك بقدر ما تنهل من إجابات لأسئلتك ستذهب وبداخلك تساؤل حائر عن سر تفرد تلك المدينة الضاربة في عمق التاريخ بأشياء قلما تجدها في مكان آخر؟!
بلبيس التي تنتمي جغرافيا لمحافظة الشرقية، وتقع في نقطة استراتيجية هامة بين ثلاث مدن هي القاهرة من جهة الشرق ويفصلها عنها نحو 55 كيلو متر وعن الزقازيق غربا بنحو20 كم ونفس المسافة أيضا عن مدينة العاشر من رمضان شمالا، ولذا فلا تتعجب إذا ما زرت بلبيس ووجدت نفسك تجلس علي أحد المقاهي وقت الظهيرة وحيدا، تمر الدقائق والنادل ينظر لك عجبا والحيرة تملأ عقله ولا يهدأ إلا بعد أن يعلم بأنك زائر للمدينة ولست من أبنائها، ولا تندهش عندما تسأله عن رواد المقهي أين ذهبوا؟!..ولماذا يندر تواجدهم الآن؟!
عاش بها الإمام البوصيري.. ونظم علي أرضها رائعته "البردة السنية"
في مـدح الرســـول .. وكتب فيها المتنبي شعرافيجيبك باستنكار: وهل مطلوب أن يتواجد الناس علي المقاهي بالنهار..الناس هنا منقسمون ما بين العمل في المصانع وورش الحرفيين وفلاحة الأرض، لذا فتواجدهم علي المقاهي يبدأ عادة في المساء!
وقبل أن تتلفت لتسال عن ما يقصده بالمصانع لاسيما وأن بلبيس ليست قلعة صناعية كالمحلة الكبري أو كفر الدوار.. دعني أخبرك بأن المصانع هنا ليست في بلبيس ولكن يقصد بها مصانع مدينة العاشر من رمضان والتي تعتمد بنسبة كبيرة علي أبناء بلبيس كقوة عاملة، إلي جانب مصانع أخري في مدينة العبور التي تبتعد عن بلبيس أيضا بنحو18 كيلومترا، وهناك من أبنائها من يفضل العمل في حرف يدوية تعج بها شوارع المدينة كسمكرة السيارات والأثاث، وفريق ثالث في منتجات الألبان والحلويات أوفي فلاحة الأرض الزراعية، ومن هنا يندر أن تجد من بين أبناء بلبيس عاطلا يجلس في البيت بدون عمل.
إحذر قبل أن تمضي في شوارع المدينة وأزقتها، فرغم بساطة مبانيها إلا أنك في كل خطوة قد تضع قدمك في مكان سبق أن مر عليه نبي أو رسول من قبل أو سالت عليه دماء أحد صحابة رسول الله ، فالمدينة التي جاءت إلي الوجود قبل القاهرة بثلاثة آلاف عام علي الأقل شهدت الكثير من الأحداث الهامة بداية من نشأتها حيث كانت عرفت في عهد الدولة القديمة للفراعنة باسم " بل بس" أي بيت الإله بس وهو القطة .. حيث كانت مع " تل بسطة " مركزا لعبادته في ذلك الزمان وبها مر نبي الله ابراهيم وزوجته سارة، وفطن لحقيقة عبادة المصريين لغير الله، ومن بعده في عهد الدولتين الوسطي والحديثة للفراعنة شهدت لقاء نبي الله يوسف بأبيه النبي يعقوب، والذي استقر هو و70 فردا من أهله، علي أرضها حيث كانت تسمي آنذاك بأرض" جاشان " بناء علي وصية ملك مصر " الريان " لوزيره"يوسف" كنوع من التكريم له ولأهلة، وجاء ذكر ذلك في التوراة في سفر التكوين.
وعلي أرضها توفي نبي الله يعقوب بعدما أوصي أبنائه بضرورة نقل جثمانه ليدفن إلي جوار أبيه إبراهيم داخل مغارة "عفرون" بفلسطين وهو ما قام به بالفعل نبي الله يوسف ومثبت تاريخيا.
وبعد سنوات توفي يوسف هو الآخر علي أرضها وأوصي بني إسرائيل بضرورة أن يحملوا رفاته معهم عند خروجهم من مصر ليدفن إلي جوار والده وجده ، ولذا فقد تباركت أرضها بجثمانه الشريف لسنوات ، ولد خلالها نبي الله موسي والذي اختلفت الروايات بشأن مكان مولده بالتحديد فقيل في إحداها ولد في بلبيس وفي رواية أخري أن بني إسرائيل كانوا قد تكاثروا ، وانتقل فريق منهم للعيش بقرية" قنتير" بمدينة فاقوس التي تبعد عن بلبيس بنحو 04 كم شمالا.
تبدل اسم بلبيس في عهد الرومان وانتشار المسيحية في مصر، فذكر المؤرخ "إميلينو" أنها كانت تسمي في المخطوطات القبطية وكانت مركزا دينيا هاما لوجود أسقفية مسيحية بها في المكان الذي شهد معجزات السيد المسيح وقت رحلة العائلة المقدسة الي مصر. كما ورد في خطط المقريزي أنها كانت تسمي قديما فلبيس وفلابيس وقيل: أنها كانت تسمي بيس نسبة الي امرأة من ملوك الفراعنة عاشت هناك فسمي المكان باسمها ثم أضيفت إليها بل قصارت بل بلاس أي: "القصر الجميل" وبعد الفتح العربي صارت بلبيس وعلي أرضها استشهد 120 من جنود عمرو بن العاص في أثناء قتاله وحصاره للمدينة الذي استمر شهرا قبل أن تسقط وينطلق منها عمرو إلي فتح بقية مدن مصر وتسبقه سيرته العطرة في بلبيس وما قام به من شيم القادة الكرام مع الاميرة أرمانوسة ابنة المقوقس حاكم مصر. آنذاك. ولاتقتصر سيرة بلبيس كمدينة ومكان هام في تاريخ مصر عند هذا الحد وإنما جاء ذكرها في الكثير من كتب المؤرخين والرحالة العرب في مختلف العصور فوردت في كتاب" المسالك " لابن حوقل، أنها من مدن مصر الهامة ومدخلا للفسطاط وفي كتاب" صبح الأعشي" قال عنها أنها مدينه متوسطة بها المساجد والمدارس والأسواق وهي محطة رحال الدرب الشامي وهي " قصبه الحوف" أي قاعدة إقليم الشرقية وبها والي الحرب وبها أيضا جامع ومدارس وأسواق وفنادق وبساتين ونخيل وهي مسوره ويمر بها نهر النيل أيام زيادته، وقد كانت مدخل العرب إلي مصر عند الفتح الإسلامي فقد فتحت ذراعيها لاستقبال جنوده حتي يخلصوا مصر من ظلم الرومان.
وذكرها أبو الطيّب المتنبي في بيت شعر قائلا:
"جزي عرباً أمْسَتْ ببَلْبَيْسَ رَبُّها
بمَسْعَاتها تقْرَرْ بذلك عيُونُهَا"
ومناسبة هذا البيت أن بلبيس كانت من الأماكن المحببة في نفوس أبناء القبائل في شبه الجزيرة العربية يسعون إلي الهجرة إليها والاستقرار بها لقربها من الفسطاط ، وذلك في القرون الأولي من الفتح العربي ، وتذكر كتب التاريخ أن قبائل:العزازية والعابد وبني سليم وقيس وعبس والطحاوية وبني هلال وبني نصير وبني عامر وبني عليم قد انتقلت الي بلبيس والقري المحيطة بها واستقرت واختلطت بأهلها كما سميت قري عدة في بلبيس بأسماء تلك القبائل إلي اليوم.
ومن الطرائف التي يتندر بها أهل المدينة اليوم حالة الاختلاف الحضاري التي فوجيء بها أبناء تلك القبائل في بداية عيشهم في بلبيس ومازالت تروي الي اليوم بعضها اختزلت السيرة الشعبية في بضعة أمثلة أبرزها ماجاء علي لسان شخصية ابو زيد الهلالي :" فتنا علي بلبيس ياما جري لنا .. بلد تبيع العيش بالميزان والمش بالفنجان " وقصة ذلك المثل الأقرب لبيت الشعر ترجع إلي أن بني هلال عندما حضروا الي بلبيس فوجئوا بنظام الموازين والمكيال في البيع والشراء لكل مقدار وسلعة ثمنها وهو أسلوب لم يعهده من قبل في حياة البادية! كما عاش الإمام البوصيري في بلبيس قبل 800 عام ونظم علي أرضها رائعته "البردة السنية" في مدح رسول الله صلي الله عليه وسلم وتوجد عائلة كبيرة في بلبيس إلي الآن تحمل اسم البوصيري ربما تعود جذروها إلية.
كانت بلبيس واحدة من المدن القليلة التي اجتمع علي أرضها أصحاب الديانات السماوية الثلاث وعاشوا في سلام متحابين فإلي جانب المسلمين والمسيحيين كان هناك أيضا جالية يهودية.
عاصمة الشرقية
لسنوات طوال ظلت بلبيس عاصمة لإقليم الشرقية إلي أن أصدر والي مصر محمد علي باشا سنة1832 م أمرا بنقل ديوان المديرية والمصالح الأميرية الأخري إلي " الزقازيق " تلك المدينة الجديدة التي أمر ببنائها لتكون عاصمة للمديرية، وذلك لتوسطها بين بقية مدن وقري المديرية، ومن ذلك التاريخ تراجع دور بلبيس وأهميتها في الحياة السياسية لإقليم الشرقية إلي أن بنيت علي أرضها الكلية الجوية المصرية في منتصف القرن الماضي ودورها الفعال في حرب أكتوبر المجيدة عام1973 مما أعاد تذكير العالم بأهمية موقعها الاستراتيجي.
الجامع الكبير
علي الرغم من صغر مساحة مدينة بلبيس التي لا تتجاوز12 كم وما تعرضت له من تخريب وتدمير وإهمال علي مر العصور لأسباب مختلفة، إلا أنها لا تزال تحوي العديد من الشواهد الأثرية والمزارات الدينية ، فهناك المسجد الكبيرـ المنسي ـ الذي بناة الخليفة الفاطمي العزيز بالله والذي كان يحرص علي زيارة بلبيس باستمرار والصلاة فيه وقد وافته المنية في حمام قريب من المسجد ونقل جثمانه إلي قرافة القاهرة.
شيخ الأزهر
يعد مسجد وضريح شيخ الجامع الأزهر الراحل الإمام الأكبر د. عبد الحليم محمود واحدا من أشهر المزارات الدينية في بلبيس لمكانته كأحد أقطاب الصوفية في العالم الإسلامي ولنسبه للإمام الحسين، وكراماته العديدة ، فقد كان أول من بشر بنصر أكتوبر المجيد عندما رأي في المنام أن رسول الله صلي الله علية وسلم يعبر مع الجيش المصري قناة السويس، وهو يردد: الله أكبر، وعندما استيقظ اتصل بالرئيس السادات وأخبره بما رآه وأوصاه أن يوصي الجنود عند بدء الحرب بترديد نداء: "الله اكبر".
كرامات الأولياء
لا تشكل رؤية ضريح ولي يتجمهر عليه الناس في بلبيس أمرا غير عادي، فأينما ولّي المرء وجهه في شوارعها وميادينها يصادف قبة ضريحٍ، تروي عنه قصص وحكايات كثيرة عن قدرات هؤلاء الأولياء الخارقة والكرامات غير العادية، ولهذا يُقبل الناس علي زيارة أضرحة هؤلاء طلبا للبركة والعون، أشهرها ضريح الشيخ "سعدون السطوحي" بحي سعدون، ويقال إنه يجتمع مع العارف بالله أحمد البدوي في النسب، وهو مزار مشهور به حيث يتقاطر الزوار كباراً وصغاراً علي الضريح من كل أنحاء قري وعزب بلبيس وأيضا من مناطق متفرقة من محافظات مصر خاصةً في المناسبات الدينية المختلفة.
معجزات العائلة المقدسة
تذخر بلبيس أيضا بمزارات دينيه مسيحية هامه تتمثل في كنيسة مار جرجس بشارع جمال عبدالناصر وبها ثلاثة مذابح: الأوسط للسيدة العذراء والبحري للملاك ميكائيل والآخر للقديس مار جرجس وفيها أيقونة للشهيد الجليل تادرس وهي من الكنائس الهامة في مصر نظرا لكون بلبيس قد استقبلت العائلة المقدسة في اثناء الرحلة الشهيرة إلي مصر وحسب ما يروي فإن العائلة بعد مغادرتها "مسطرد" قصدت "بلبيس" وعندما اقتربت من مدخل المدينة صادف أن كانت هناك جنازة لطفل محمولا في نعش علي الأعناق وكانت أمه أرملة تبكي بحرقة لفراقه وتجلت معجزة كبري عندما لمس الطفل يسوع النعش فأعاد الروح للطفل بأذن الله وقام من النعش وتكلم مع المشيعين مما أثار إعجابهم بقدرات المسيح وقربه من الله عز وجل فآمنوا به وحظي يسوع وأمه بحب أهل المدينة واستقبالهم الرائع.
وشهدت بلبيس معجزة أخري خاصة بشجرة زيتون كانت استظلت تحتها العائلة المقدسة، وأطلق عليها سكان بلبيس أسم شجرة العذراء مريم، وكان يجلها المسيحيون والمسلمون من أهل المدينة,
ويروي سكان بلبيس أن عسكر نابليون بونابرت عندما مروا من بلبيس في رحلاتهم لغزو عكا، أرادوا قطع هذه الشجرة ليستفيدوا بخشبها ويطبخون عليه طعامهم، فلما ضربوها بالفأس أول ضربة، بدأت الشجرة تدمي دما، فأرتعب العسكر، ولم يجرؤوا أن يمسوها.
وقد باركت العائلة المقدسة بلبيس بالزيارة مرتين فقد ذكر البابا ثاؤفيلس وكذلك الأسقف الأنبا زخارياس( أسقف سخا في القرن السابع) أن العائلة المقدسة رجعت مرة أخري إلي بلبيس أثناء عودتهم من مصر إلي الناصرة.
ويقول تاريخ أبو المكارم: "أن بلبيس كانت مقرا لأسقفية حتي القرن الثاني عشر الميلادي" وأيد ذلك المؤرخ "لوكوين" وقال إن بلبيس كانت مركز أسقفية قبطية.