الاتّباع’
بسم الله الرحمن الرحيم
.:: الاتِّبَاعُ ::.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين..
أمَّا بعد:
فهذا مقال أنقل فيه كلامًا عن صفة ممدوحة في شرعنا الحنيف، مندوب لها، حذر الله تعالى- أشدَّ التحذير من عدم الاتصاف بها قائلاً: {ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا}...
إنها صفة:
.:: الاتِّبَاعُ ::.
فالاتباع لغة:
مصدر اتّبع المأخوذ من مادّة (ت ب ع) ، وفي معناه دلالة على التّلوّ والقفو، يقال: تبعت القوم تبعًا، وتباعةً بالفتح، إذا مشيْتَ خلفهم، أو مرّوا بك فمضيت معهم، وتبعت الشّيء: سرت في أثره..
وقال أبو عبيد: أتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم.
وقال الفرّاء: أَتْبَعَ أحسن من اتّبع؛ لأنّ الاتّباع أن يسير الرّجل وأنت تسير وراءه. فإذا قلت أتبعته فكأنّك قفوته..
ويأتي الاتبتع بمعنى الائتمام والعمل بالمضمون فتقول:اتّبع فلان- القرآن؛ أي: ائتمّ به وعمل بما فيه..
قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} أي يتّبعونه حقّ اتّباعه، وأراد لا تدعوا تلاوته والعمل به فتكونوا قد جعلتموه وراءكم.
ويعرف الاتباع اصطلاحًا بما ورد عن الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله- من أنه:
« اتباعُ الرّجل ما جاء عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وعن أصحابه، ثمّ هو من بعد في التّابعين مخيّر».
وقال ابن عبد البرّ- رحمه الله تعالى-: الاتّباع ما ثبت عليه الحجّة، وهو اتّباع كلّ من أوجب عليك الدّليل اتّباع قوله.
فالرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- هو المثل الأعلى في اتّباع ما أمر به.
وقال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-: الكتاب (أي القرآن) هو المتّبع على الحقيقة، ومراتب النّاس بحسب اتّباعهم له. إنّ الله تعالى وضع هذه الشّريعة حجّة على الخلق كبيرهم وصغيرهم، مطيعهم وعاصيهم، برّهم وفاجرهم. لم يختصّ بها أحدا دون أحد، وكذلك سائر الشّرائع إنمّا وضعت لتكون حجّة على جميع الأمم الّتي تنزّل فيهم تلك الشّرائع، حتّى إنّ المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها.
فأنت ترى أنّ نبيّنا محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- مخاطب بها في جميع أحواله وتقلّباته ممّا اختصّ به دون أمّته، أو كان عامّا له ولأمّته- فالشّريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلّفين، وهي الطّريق الموصّل والهادي الأعظم.
ألا ترى إلى قوله تعالى:
{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا}[الشورى: 52] .
فهو عليه الصّلاة والسّلام أوّل من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثمّ من اتّبعه فيه، والكتاب هو الهادي، والوحي المنزّل عليه مرشد ومبيّن لذلك الهدى، والخلق مهتدون بالجميع.
ولمّا استنار قلبه وجوارحه عليه الصّلاة والسّلام وباطنه وظاهره بنور الحقّ علما وعملا، صار هو الهادي الأوّل لهذه الأمّة والمرشد الأعظم، حيث خصّه الله تعالى دون الخلق بإنزال ذلك النّور عليه، واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشريّة اصطفاء أوّليّا من جهة اختصاصه بالوحي الّذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خُلقه القرآن،
حتّى قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}وذلك لأنّه حكّم الوحي على نفسه حتّى صار في علمه وعمله على وفقه واقفًا عند حكمه، فقد جاء بالأمر وهو به مؤتمر، وبالنّهي وهو منته وبالوعظ وهو متّعظ، وبالتّخويف وهو أوّل الخائفين، وبالتّرجية وهو سائق دابّة الرّاجين،
وقد صارت الشّريعة المنزّلة عليه حجّة حاكمة عليه، ودلالة على الصّراط المستقيم الّذي سار عليه، فإذا كان الأمر كذلك، فسائر الخلق حريّون بأن تكون الشّريعة حجّة حاكمة عليهم، ومنارا يهتدون بها إلى الحقّ، وشرفهم إنّما يثبت بحسب ما اتّصفوا به من الدّخول تحت أحكامها، والأخذ بها قولا واعتقادا وعملا، فمن كان أشدّ محافظة على اتّباع الشّريعة فهو أولى بالشّرف والكرم، ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشّرف المبلغ الأعلى في اتّباعها، فالشّرف إذا إنّما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشّريعة [انظر: الاعتصام للشاطبي] .
وتستوي (السنن التّركية) في حكم الاتباع مع (السنن الفعلية)، فإذا فعل النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حكمًا أو ترك حكما فهو عبادة في حقّنا إلّا أن يقوم الدّليل على اختصاصه -صلّى الله عليه وسلّم- بذلك الحكم، وكذلك ترك النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لحكم، إذ إنّ التّرك وسيلة لبيان الأحكام كالفعل..
وخلاصة الأمر في هذا، أنّ المسلم واجب عليه أن يتّبع منهج الله وشريعته، كما وردت في القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة المطهّرة؛ لأنّ كمال الإنسان وترقّيه لا يكون إلّا عبر منهاج العبادة الّذي ورد في هذين المصدرين، والّذي يعني إسلام النّفس في كلّ ما تفعل وتذر لما يريده الله ويرضاه عبر الالتزام الكلّي بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وكل هذا بفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم- وعلى طرقتهم ومنهجهم الصافي..
وإذا كان الاتّباع كما سبق هو اتّباع النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فيما جاء عنه وعن أصحابه رضي الله عنهم-، فما جاء عنه أمران: القرآن بوصفه وحيًا من الله تعالى إلى النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، والسّنّة النّبويّة المطهّرة وهي وحي آخر مفسر لما أجمل من القرآن الكريم قال الله تعالى-: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}،
وقال عليه السلام : «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه».
ويلزم اتباع كل ما جاء في الكتاب والسنة؛ لاشتمالهما على المنهاج الكامل وعلى كل ما يحتاجه الفرد المسلم في أمور حياته من عبادات ومعاملات وأحكام وظيفتها تنظيم العلاقة بين الفرد وربه وبينه وبين إخوته من المسلمين وبينه وبين الأمم الأخرى وأفرادها..
والسّنّة النّبويّة جاءت مكمّلة للقرآن، مبينة لما أُجمل منه كالصلاة وأركانها وواجباتها وسننها، وكالزكاة وأنصبتها، إلى غير ذلك من التوضيحات والتفسيرات المهمة لحياة الناس.
وقد أوجب الله على النّاس طاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم- و قبول ما شرعه لهم وامتثال ما أمرهم به، ونهاهم عنه.
فواجب على الأمة أن تؤدي حقان للرسول صلى الله عليه وسلم- هما:
· الطّاعة فيما أمر به ونهى عنه.
· والتبليغ لدينه الذي جاء به.
فالسّنّة أقوال وأفعال وتقريرات، وجب على المسلم اتباعها ما لم يأت صارف، أو مخصص به عليه السلام.
«الاتباع دليل المحبة»
ومن زعم محبة النبي صلى الله عليه وسلم- مع خلوه من الاتباع فهو كاذب في دعواه، ولما كان الاتباع دليل محبة الله عزّ وجلّ ومحبة رسوله -صلّى الله عليه وسلّم-:
كان للمحبّة طرفان هما: المحبّ والمحبوب، وفيما يتعلّق بمحبّة الله -عزّ وجلّ- فإنّ طرفيها هما:
· محبّة العبد لربّه.
· ومحبّة الرّبّ لعبده.
ودليل الأولى هي اتّباع المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- لأنه مأمور بذلك في القرآن والسنة.
وأمّا الثّانية فهي ثمرة ذلك الاتّباع ويؤكّد ذلك قول الله تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] ،
وقد نقل الإمام ابن القيم في (مدارج السالكين) عن أبي سليمان الدّارانيّ أنه قال:
«لمّا ادّعت القلوب محبّة الله عزّ وجلّ أنزل الله هذه الآية محنة»؛ -يعني اختبارًا لصدق دعواهم-.
وقد نزلت هذه الآية لوفد نجران لمَّا زعموا أنهم يحبون الله، وانظر تفسير الطبري.
قال سهل بن عبد الله: علامة حبّ الله حبّ القرآن وعلامة حبّ القرآن حبّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وعلامة حبّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حبّ السّنّة، وعلامة ذلك كلّه حبّ الآخرة .
وهذه الآية الكريمة حاكمة على كلّ من ادّعى محبّة الله وليس هو على الطّريقة المحمّديّة بأنّه كاذب في نفس الأمر حتّى يتّبع الشّرع المحمّديّ والدّين النّبويّ في جميع أقواله وأفعاله، والمراد بـ {يُحْبِبْكُمُ اللهُ} أنّه يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبّتكم إيّاه وهو محبّته إيّاكم وهذا أعظم من الأوّل إذ ليس الشّأن أن تحبّ إنّما الشّأن أن تحبّ [تفسير ابن كثير] .
«الآيات الواردة في «الاتباع»»
ورد الاتّباع في القرآن الكريم مأمورًا به ومنهيّا عنه، فالمنهيّ عنه هو اتّباع الهوى والشّيطان والظّنّ والكفّار وما أشبه ذلك، أمّا المأمور به فقد ورد على صور عديدة منها اتّباع الرّسل، ومنها اتّباع الوحي والشّريعة والهدى وصالح المؤمنين، إلى غير ذلك..
وهذا سرد لبعض الآيات الواردة في هذا المعنى:
قال الله عز وجل-:
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35 ].
«الأحاديث الواردة في (الاتباع)»
عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- أنّه أتى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فغضب فقال: «أمتهوّكون فيها يابن الخطّاب؟ والّذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به أو بباطل فتصدّقوا به، والّذي نفسي بيده لو أنّ موسى -صلّى الله عليه وسلّم- كان حيّا ما وسعه إلّا أن يتبعني».
وعن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «إنّ مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إنّي رأيت الجيش بعينيّ. وإنّي أنا النّذير العريان، فالنّجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم -وفي البخاريّ على مهلهم- وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني واتّبع ما جئت به. ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحقّ» أخرجه الشيخان .
وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: خطّ لنا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- خطّا، ثمّ قال:
««هذا سبيل الله» ثمّ خطّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثمّ قال: «هذه سبل» قال يزيد: «متفرّقة على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه»، ثمّ قرأ: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}»
أخرجه الإمام أحمد والحاكم وابن أبي عاصم في السنة وقال الشيخ الألباني في تخريج السنة: إسناده حسن والحديث صحيح.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» أخرجه مسلم .
وعن أبي رافع- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «لا ألفينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدناه في كتاب الله اتّبعناه».
وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: جاءت ملائكة إلى النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وهو نائم، فقال بعضهم: إنّه نائم وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إنّ لصاحبكم هذا مثلا. قال: فاضربوا له مثلا. فقال بعضهم: إنّه نائم، وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيًا، فمن أجاب الدّاعي دخل الدّار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الدّاعي لم يدخل الدّار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا:
أوّلوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنّه نائم، وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: فالدّار الجنّة،
والدّاعي محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-. فمن أطاع محمّدا -صلّى الله عليه وسلّم- فقد أطاع الله، ومن عصى محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- فقد عصى الله، ومحمّد فرّق بين النّاس» أخرجه البخاري، والترمزي في الأمثال .
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلّا من أبى» قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟. قال: «من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى» أخرجه البخاري .
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «ما من الأنبياء نبيّ إلّا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» ) .
ومن الأمثلة التطبيقية لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم- في زمنه ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: اتّخذ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- خاتما من ذهب فاتّخذ النّاس خواتيم من ذهب فقال النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: «إنّي اتّخذت خاتمًا من ذهب» فنبذه، وقال: «إنّي لن ألبسه أبدًا» فنبذ النّاس خواتيمهم.
«آثار وأقوال للسلف في معنى (الاتباع)»
ومن الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في معنى (الاتباع) ما أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: أنّه جاء إلى الحجر الأسود فقبّله فقال: «إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقبّلك ما قبّلتك».
وفي البخاري عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد، قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا فقال: «هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء أي الذهب والفضة- إلّا قسمتها بين المسلمين. قال: ما أنت بفاعل. قال: لم؟
قلت: لم يفعله صاحباك: قال هما المرآن-النبي وأبو بكر- يقتدى بهما».
وفي صحيح مسلم عن أبي الهيّاج الأسديّ قال: بعث عليّ ابن أبي طالب- رضي الله عنه- أبا الهيّاج الأسديّ وقال له: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؟. أن لا تدع تمثالا إلّا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلّا سوّيته».
وفي الاعتصام للشاطبي رحمه الله- عن عليٍّ- رضي الله عنه- قال: «إيّاكم والاستنان بالرّجال؛ فإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الجنّة ثمّ ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النّار فيموت وهو من أهل النّار، وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل النّار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنّة فيموت وهو من أهل الجنّة، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فبالأموات لا بالأحياء وأشار إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه الكرام».
وعن أبيّ بن كعب- رضي الله عنه- قال: «عليكم بالسّبيل والسّنّة، فإنّه ليس من عبد على السّبيل والسّنّة ذكر الرّحمن ففاضت عيناه من خشية الله- عزّ وجلّ- فتمسّه النّار. وليس من عبد على سبيل وسنّة ذكر الرّحمن فاقشعرّ جلده من مخافة الله، إلّا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذ أصابتها الرّيح فتحاتّ عنها ورقها، إلّا تحاتّت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن تلك الشّجرة ورقها. وإنّ اقتصادا في سبيل وسنّة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنّة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنّتهم» [انظر أصول الاعتقاد] .
وعن أبي إدريس الخولانيّ: «أنّ يزيد ابن عميرة، وكان من أصحاب معاذ بن جبل، أخبره، قال كان لا يجلس مجلسا للذّكر حين يجلس إلّا قال:
الله حكم قسط. هلك المرتابون. فقال معاذ بن جبل يوما: إنّ من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتّى يأخذه المؤمن والمنافق، والرّجل والمرأة، والصّغير والكبير، والعبد والحرّ، فيوشك قائل أن يقول: ما للنّاس لا يتّبعوني وقد قرأت القرآن؟. ما هم بمتّبعيّ حتّى أبتدع لهم غيره، فإيّاكم وما ابتدع، فإنّ ما ابتدع ضلالة، وأحذّركم زيغة الحكيم؛ فإنّ الشّيطان قد يقول كلمة الضّلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحقّ. قال: قلت لمعاذ: ما يدريني- رحمك الله- أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضّلالة، وأنّ المنافق قد يقول كلمة الحقّ؟. قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، الّتي يقال: ما هذه؟ ولا يثنينّك ذلك عنه؛ فإنّه لعلّه أن يراجع، وتلقّ الحقّ إذا سمعته، فإنّ على الحقّ نورا» [صحيح الإسناد موقوفًا كما قال الشيخ الألباني] .
وقال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: «قد أصبحتم على الفطرة وإنّكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدى الأوّل» ) [انظر فتح الباري] .
وقال - رضي الله عنه- : «من كان منكم مستنّا فليستنّ بمن قد مات، إنّ الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمّد كانوا أفضل هذه الأمّة: أبرّها قلوبا وأعمقها علما، وأقلّها تكلّفا. اختارهم الله لصحبة نبيّه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتّبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنّهم كانوا على الهدى المستقيم» ) [اغاثة اللهفان].
وقال الحسن البصريّ- رحمه الله تعالى-: «السّنّة، والّذي لا إله إلّا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإنّ أهل السّنّة كانوا أقلّ النّاس فيما مضى، وهم أقلّ النّاس فيما بقى:
الّذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنّتهم حتّى لقوا ربّهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا» [المصدر السابق] .
وقال - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله}. قال: «وكان علامة حبّه إيّاهم اتّباع سنّة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-» وفي موضع آخر: «فقد جعلت علامة حبّهم الله اتّباع رسوله»[انظر أصول الاعتقاد].
وقال محمّد بن سيرين: كانوا يرون أنّه على الطّريق ما كان على الأثر.
وقال مجاهد- رحمه الله تعالى-: «في قول الله تعالى: {وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً} يعني أئمّة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا» [البخاري]
وقال الأوزاعيّ- رحمه الله تعالى-:
«كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمّد والتّابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتّباع السّنّة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله» [أصول الاعتقاد] .
وقال أيضا: «ندور مع السّنّة حيث دارت» [المصدر السابق] .
وقال أبو الزّناد- رحمه الله تعالى-:
«إنّ السّنن ووجوه الحقّ لتأتي كثيرا على خلاف الرّأي، فما يجد المسلمون بدّا من اتّباعها»[البخاري].
وقال سفيان- رحمه الله تعالى-:
«اسلكوا سبيل الحقّ ولا تستوحشوا من قلّة أهله» [الاعتصام] .
وقال أبو شامة- رحمه الله تعالى-:
«حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحقّ واتّباعه، وإن كان المتمسّك به قليلا والمخالف له كثيرا» ) [إغاثة اللهفان] .
وقال أبو عثمان الحيريّ: «من أمّر السّنّة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}» [الاعتصام] .
وقال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-:
«إنّ الصّحابة كانوا مقتدين بنبيّهم -صلّى الله عليه وسلّم- مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم، وأثنى على متبوعهم محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- وإنّما كان خلقه -صلّى الله عليه وسلّم- القرآن، فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فالقرآن إنّما هو المتبوع على الحقيقة، وجاءت السّنّة مبيّنة له، فالمتّبع للسّنّة متّبع للقرآن. والصّحابة كانوا أولى النّاس بذلك، فكلّ من اقتدى بهم فهو من الفرقة النّاجية الدّاخلة للجنّة بفضل الله، وهو معنى قوله عليه الصّلاة والسّلام «ما أنا عليه وأصحابي» فالكتاب والسّنّة هو الطّريق المستقيم، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشيء عنهما» [الاعتصام] .
وقال أيضًا- رحمه الله تعالى-:
«كلّ صاحب مخالفة من شأنه أن يدعو غيره إليها، ويحضّ سؤّاله بل سواه عليها، إذ التّأسّي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلّة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق الموافقة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين» [الاعتصام] .
وقال ابن القيم رحمه الله- في إغاثة اللهفان ناقلًا عن بعض السّلف- رحمهم الله تعالى جميعا-: «لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتّى يتربّع في الهواء فلا تغترّوا به، حتّى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنّهي وحفظ الحدود».
* ومن فوائد (الاتباع) أنّه:
(1) دليل المحبّة الكاملة ويجلب محبّة الله لعبده.
(2) الاتّباع مجلبة لرحمة الله تعالى- ومغفرته ورضوانه.
(3) الاتّباع دليل الفلاح والهداية وقبول التّوبة.
(4) يجلب التّأييد والنّصر والتّمكين والعزّة والفلاح.
(5) يحصل للعبد به السّعادة وطيب العيش في الدّارين.
(6) الخروج من هوى النّفس وعبادة الذّات.
(7) ضمان السّلامة والأمن من الخطأ لعصمة المتبوع -صلّى الله عليه وسلّم-.
(8) السّلامة من الاعتراض والأمن من الانتقاد.
(9) صاحبه من أئمّة الهدى فيكثر أجره بمقدار ما يكثر تابعه.
(10) الاتّباع فيما تركه -صلّى الله عليه وسلّم- حكمه كحكم اتّباعه فيما فعله -صلّى الله عليه وسلّم-.
(11) الاتّباع لا يكون إلّا للصّالحين المتّقين الّذين يقرؤون القرآن ويعملون به.
(12) لا يجوز اتّباع الكذّابين وطلّاب السّلطة الّذين يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم.
قال أبو موسى:
هذا ما تيسر من نقله عن موضوع (الاتباع) والأمر يحتاج مزيد بسطٍ، ولزيادة الفائدة والتوسع في النقول انظر كتاب : «نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم»، فمنه استللت هذا المقال بتصرف وزيادة.
والله أسأل أن يميتنا ويحيينا على الإسلام والسنة، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله رب العالمين
وكتب:
الفقير إلى عفو ربه الكريم
أبو موسى الأردني
أحمد بن عيَّاش بن موسى الغرايبة
-غفر الله له ولوالديه-
آمين
.:: الاتِّبَاعُ ::.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين..
أمَّا بعد:
فهذا مقال أنقل فيه كلامًا عن صفة ممدوحة في شرعنا الحنيف، مندوب لها، حذر الله تعالى- أشدَّ التحذير من عدم الاتصاف بها قائلاً: {ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا}...
إنها صفة:
.:: الاتِّبَاعُ ::.
فالاتباع لغة:
مصدر اتّبع المأخوذ من مادّة (ت ب ع) ، وفي معناه دلالة على التّلوّ والقفو، يقال: تبعت القوم تبعًا، وتباعةً بالفتح، إذا مشيْتَ خلفهم، أو مرّوا بك فمضيت معهم، وتبعت الشّيء: سرت في أثره..
وقال أبو عبيد: أتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم.
وقال الفرّاء: أَتْبَعَ أحسن من اتّبع؛ لأنّ الاتّباع أن يسير الرّجل وأنت تسير وراءه. فإذا قلت أتبعته فكأنّك قفوته..
ويأتي الاتبتع بمعنى الائتمام والعمل بالمضمون فتقول:اتّبع فلان- القرآن؛ أي: ائتمّ به وعمل بما فيه..
قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} أي يتّبعونه حقّ اتّباعه، وأراد لا تدعوا تلاوته والعمل به فتكونوا قد جعلتموه وراءكم.
ويعرف الاتباع اصطلاحًا بما ورد عن الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله- من أنه:
« اتباعُ الرّجل ما جاء عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وعن أصحابه، ثمّ هو من بعد في التّابعين مخيّر».
وقال ابن عبد البرّ- رحمه الله تعالى-: الاتّباع ما ثبت عليه الحجّة، وهو اتّباع كلّ من أوجب عليك الدّليل اتّباع قوله.
فالرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- هو المثل الأعلى في اتّباع ما أمر به.
وقال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-: الكتاب (أي القرآن) هو المتّبع على الحقيقة، ومراتب النّاس بحسب اتّباعهم له. إنّ الله تعالى وضع هذه الشّريعة حجّة على الخلق كبيرهم وصغيرهم، مطيعهم وعاصيهم، برّهم وفاجرهم. لم يختصّ بها أحدا دون أحد، وكذلك سائر الشّرائع إنمّا وضعت لتكون حجّة على جميع الأمم الّتي تنزّل فيهم تلك الشّرائع، حتّى إنّ المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها.
فأنت ترى أنّ نبيّنا محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- مخاطب بها في جميع أحواله وتقلّباته ممّا اختصّ به دون أمّته، أو كان عامّا له ولأمّته- فالشّريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلّفين، وهي الطّريق الموصّل والهادي الأعظم.
ألا ترى إلى قوله تعالى:
{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا}[الشورى: 52] .
فهو عليه الصّلاة والسّلام أوّل من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثمّ من اتّبعه فيه، والكتاب هو الهادي، والوحي المنزّل عليه مرشد ومبيّن لذلك الهدى، والخلق مهتدون بالجميع.
ولمّا استنار قلبه وجوارحه عليه الصّلاة والسّلام وباطنه وظاهره بنور الحقّ علما وعملا، صار هو الهادي الأوّل لهذه الأمّة والمرشد الأعظم، حيث خصّه الله تعالى دون الخلق بإنزال ذلك النّور عليه، واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشريّة اصطفاء أوّليّا من جهة اختصاصه بالوحي الّذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خُلقه القرآن،
حتّى قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}وذلك لأنّه حكّم الوحي على نفسه حتّى صار في علمه وعمله على وفقه واقفًا عند حكمه، فقد جاء بالأمر وهو به مؤتمر، وبالنّهي وهو منته وبالوعظ وهو متّعظ، وبالتّخويف وهو أوّل الخائفين، وبالتّرجية وهو سائق دابّة الرّاجين،
وقد صارت الشّريعة المنزّلة عليه حجّة حاكمة عليه، ودلالة على الصّراط المستقيم الّذي سار عليه، فإذا كان الأمر كذلك، فسائر الخلق حريّون بأن تكون الشّريعة حجّة حاكمة عليهم، ومنارا يهتدون بها إلى الحقّ، وشرفهم إنّما يثبت بحسب ما اتّصفوا به من الدّخول تحت أحكامها، والأخذ بها قولا واعتقادا وعملا، فمن كان أشدّ محافظة على اتّباع الشّريعة فهو أولى بالشّرف والكرم، ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشّرف المبلغ الأعلى في اتّباعها، فالشّرف إذا إنّما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشّريعة [انظر: الاعتصام للشاطبي] .
وتستوي (السنن التّركية) في حكم الاتباع مع (السنن الفعلية)، فإذا فعل النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حكمًا أو ترك حكما فهو عبادة في حقّنا إلّا أن يقوم الدّليل على اختصاصه -صلّى الله عليه وسلّم- بذلك الحكم، وكذلك ترك النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لحكم، إذ إنّ التّرك وسيلة لبيان الأحكام كالفعل..
وخلاصة الأمر في هذا، أنّ المسلم واجب عليه أن يتّبع منهج الله وشريعته، كما وردت في القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة المطهّرة؛ لأنّ كمال الإنسان وترقّيه لا يكون إلّا عبر منهاج العبادة الّذي ورد في هذين المصدرين، والّذي يعني إسلام النّفس في كلّ ما تفعل وتذر لما يريده الله ويرضاه عبر الالتزام الكلّي بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وكل هذا بفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم- وعلى طرقتهم ومنهجهم الصافي..
وإذا كان الاتّباع كما سبق هو اتّباع النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فيما جاء عنه وعن أصحابه رضي الله عنهم-، فما جاء عنه أمران: القرآن بوصفه وحيًا من الله تعالى إلى النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، والسّنّة النّبويّة المطهّرة وهي وحي آخر مفسر لما أجمل من القرآن الكريم قال الله تعالى-: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}،
وقال عليه السلام : «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه».
ويلزم اتباع كل ما جاء في الكتاب والسنة؛ لاشتمالهما على المنهاج الكامل وعلى كل ما يحتاجه الفرد المسلم في أمور حياته من عبادات ومعاملات وأحكام وظيفتها تنظيم العلاقة بين الفرد وربه وبينه وبين إخوته من المسلمين وبينه وبين الأمم الأخرى وأفرادها..
والسّنّة النّبويّة جاءت مكمّلة للقرآن، مبينة لما أُجمل منه كالصلاة وأركانها وواجباتها وسننها، وكالزكاة وأنصبتها، إلى غير ذلك من التوضيحات والتفسيرات المهمة لحياة الناس.
وقد أوجب الله على النّاس طاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم- و قبول ما شرعه لهم وامتثال ما أمرهم به، ونهاهم عنه.
فواجب على الأمة أن تؤدي حقان للرسول صلى الله عليه وسلم- هما:
· الطّاعة فيما أمر به ونهى عنه.
· والتبليغ لدينه الذي جاء به.
فالسّنّة أقوال وأفعال وتقريرات، وجب على المسلم اتباعها ما لم يأت صارف، أو مخصص به عليه السلام.
«الاتباع دليل المحبة»
ومن زعم محبة النبي صلى الله عليه وسلم- مع خلوه من الاتباع فهو كاذب في دعواه، ولما كان الاتباع دليل محبة الله عزّ وجلّ ومحبة رسوله -صلّى الله عليه وسلّم-:
كان للمحبّة طرفان هما: المحبّ والمحبوب، وفيما يتعلّق بمحبّة الله -عزّ وجلّ- فإنّ طرفيها هما:
· محبّة العبد لربّه.
· ومحبّة الرّبّ لعبده.
ودليل الأولى هي اتّباع المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- لأنه مأمور بذلك في القرآن والسنة.
وأمّا الثّانية فهي ثمرة ذلك الاتّباع ويؤكّد ذلك قول الله تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] ،
وقد نقل الإمام ابن القيم في (مدارج السالكين) عن أبي سليمان الدّارانيّ أنه قال:
«لمّا ادّعت القلوب محبّة الله عزّ وجلّ أنزل الله هذه الآية محنة»؛ -يعني اختبارًا لصدق دعواهم-.
وقد نزلت هذه الآية لوفد نجران لمَّا زعموا أنهم يحبون الله، وانظر تفسير الطبري.
قال سهل بن عبد الله: علامة حبّ الله حبّ القرآن وعلامة حبّ القرآن حبّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وعلامة حبّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حبّ السّنّة، وعلامة ذلك كلّه حبّ الآخرة .
وهذه الآية الكريمة حاكمة على كلّ من ادّعى محبّة الله وليس هو على الطّريقة المحمّديّة بأنّه كاذب في نفس الأمر حتّى يتّبع الشّرع المحمّديّ والدّين النّبويّ في جميع أقواله وأفعاله، والمراد بـ {يُحْبِبْكُمُ اللهُ} أنّه يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبّتكم إيّاه وهو محبّته إيّاكم وهذا أعظم من الأوّل إذ ليس الشّأن أن تحبّ إنّما الشّأن أن تحبّ [تفسير ابن كثير] .
«الآيات الواردة في «الاتباع»»
ورد الاتّباع في القرآن الكريم مأمورًا به ومنهيّا عنه، فالمنهيّ عنه هو اتّباع الهوى والشّيطان والظّنّ والكفّار وما أشبه ذلك، أمّا المأمور به فقد ورد على صور عديدة منها اتّباع الرّسل، ومنها اتّباع الوحي والشّريعة والهدى وصالح المؤمنين، إلى غير ذلك..
وهذا سرد لبعض الآيات الواردة في هذا المعنى:
قال الله عز وجل-:
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35 ].
«الأحاديث الواردة في (الاتباع)»
عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- أنّه أتى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فغضب فقال: «أمتهوّكون فيها يابن الخطّاب؟ والّذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به أو بباطل فتصدّقوا به، والّذي نفسي بيده لو أنّ موسى -صلّى الله عليه وسلّم- كان حيّا ما وسعه إلّا أن يتبعني».
وعن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «إنّ مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إنّي رأيت الجيش بعينيّ. وإنّي أنا النّذير العريان، فالنّجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم -وفي البخاريّ على مهلهم- وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني واتّبع ما جئت به. ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحقّ» أخرجه الشيخان .
وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: خطّ لنا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- خطّا، ثمّ قال:
««هذا سبيل الله» ثمّ خطّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثمّ قال: «هذه سبل» قال يزيد: «متفرّقة على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه»، ثمّ قرأ: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}»
أخرجه الإمام أحمد والحاكم وابن أبي عاصم في السنة وقال الشيخ الألباني في تخريج السنة: إسناده حسن والحديث صحيح.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» أخرجه مسلم .
وعن أبي رافع- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «لا ألفينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدناه في كتاب الله اتّبعناه».
وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: جاءت ملائكة إلى النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وهو نائم، فقال بعضهم: إنّه نائم وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إنّ لصاحبكم هذا مثلا. قال: فاضربوا له مثلا. فقال بعضهم: إنّه نائم، وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيًا، فمن أجاب الدّاعي دخل الدّار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الدّاعي لم يدخل الدّار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا:
أوّلوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنّه نائم، وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: فالدّار الجنّة،
والدّاعي محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-. فمن أطاع محمّدا -صلّى الله عليه وسلّم- فقد أطاع الله، ومن عصى محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- فقد عصى الله، ومحمّد فرّق بين النّاس» أخرجه البخاري، والترمزي في الأمثال .
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلّا من أبى» قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟. قال: «من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى» أخرجه البخاري .
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «ما من الأنبياء نبيّ إلّا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» ) .
ومن الأمثلة التطبيقية لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم- في زمنه ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: اتّخذ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- خاتما من ذهب فاتّخذ النّاس خواتيم من ذهب فقال النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: «إنّي اتّخذت خاتمًا من ذهب» فنبذه، وقال: «إنّي لن ألبسه أبدًا» فنبذ النّاس خواتيمهم.
«آثار وأقوال للسلف في معنى (الاتباع)»
ومن الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في معنى (الاتباع) ما أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: أنّه جاء إلى الحجر الأسود فقبّله فقال: «إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقبّلك ما قبّلتك».
وفي البخاري عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد، قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا فقال: «هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء أي الذهب والفضة- إلّا قسمتها بين المسلمين. قال: ما أنت بفاعل. قال: لم؟
قلت: لم يفعله صاحباك: قال هما المرآن-النبي وأبو بكر- يقتدى بهما».
وفي صحيح مسلم عن أبي الهيّاج الأسديّ قال: بعث عليّ ابن أبي طالب- رضي الله عنه- أبا الهيّاج الأسديّ وقال له: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؟. أن لا تدع تمثالا إلّا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلّا سوّيته».
وفي الاعتصام للشاطبي رحمه الله- عن عليٍّ- رضي الله عنه- قال: «إيّاكم والاستنان بالرّجال؛ فإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الجنّة ثمّ ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النّار فيموت وهو من أهل النّار، وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل النّار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنّة فيموت وهو من أهل الجنّة، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فبالأموات لا بالأحياء وأشار إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه الكرام».
وعن أبيّ بن كعب- رضي الله عنه- قال: «عليكم بالسّبيل والسّنّة، فإنّه ليس من عبد على السّبيل والسّنّة ذكر الرّحمن ففاضت عيناه من خشية الله- عزّ وجلّ- فتمسّه النّار. وليس من عبد على سبيل وسنّة ذكر الرّحمن فاقشعرّ جلده من مخافة الله، إلّا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذ أصابتها الرّيح فتحاتّ عنها ورقها، إلّا تحاتّت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن تلك الشّجرة ورقها. وإنّ اقتصادا في سبيل وسنّة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنّة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنّتهم» [انظر أصول الاعتقاد] .
وعن أبي إدريس الخولانيّ: «أنّ يزيد ابن عميرة، وكان من أصحاب معاذ بن جبل، أخبره، قال كان لا يجلس مجلسا للذّكر حين يجلس إلّا قال:
الله حكم قسط. هلك المرتابون. فقال معاذ بن جبل يوما: إنّ من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتّى يأخذه المؤمن والمنافق، والرّجل والمرأة، والصّغير والكبير، والعبد والحرّ، فيوشك قائل أن يقول: ما للنّاس لا يتّبعوني وقد قرأت القرآن؟. ما هم بمتّبعيّ حتّى أبتدع لهم غيره، فإيّاكم وما ابتدع، فإنّ ما ابتدع ضلالة، وأحذّركم زيغة الحكيم؛ فإنّ الشّيطان قد يقول كلمة الضّلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحقّ. قال: قلت لمعاذ: ما يدريني- رحمك الله- أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضّلالة، وأنّ المنافق قد يقول كلمة الحقّ؟. قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، الّتي يقال: ما هذه؟ ولا يثنينّك ذلك عنه؛ فإنّه لعلّه أن يراجع، وتلقّ الحقّ إذا سمعته، فإنّ على الحقّ نورا» [صحيح الإسناد موقوفًا كما قال الشيخ الألباني] .
وقال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: «قد أصبحتم على الفطرة وإنّكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدى الأوّل» ) [انظر فتح الباري] .
وقال - رضي الله عنه- : «من كان منكم مستنّا فليستنّ بمن قد مات، إنّ الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمّد كانوا أفضل هذه الأمّة: أبرّها قلوبا وأعمقها علما، وأقلّها تكلّفا. اختارهم الله لصحبة نبيّه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتّبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنّهم كانوا على الهدى المستقيم» ) [اغاثة اللهفان].
وقال الحسن البصريّ- رحمه الله تعالى-: «السّنّة، والّذي لا إله إلّا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإنّ أهل السّنّة كانوا أقلّ النّاس فيما مضى، وهم أقلّ النّاس فيما بقى:
الّذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنّتهم حتّى لقوا ربّهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا» [المصدر السابق] .
وقال - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله}. قال: «وكان علامة حبّه إيّاهم اتّباع سنّة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-» وفي موضع آخر: «فقد جعلت علامة حبّهم الله اتّباع رسوله»[انظر أصول الاعتقاد].
وقال محمّد بن سيرين: كانوا يرون أنّه على الطّريق ما كان على الأثر.
وقال مجاهد- رحمه الله تعالى-: «في قول الله تعالى: {وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً} يعني أئمّة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا» [البخاري]
وقال الأوزاعيّ- رحمه الله تعالى-:
«كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمّد والتّابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتّباع السّنّة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله» [أصول الاعتقاد] .
وقال أيضا: «ندور مع السّنّة حيث دارت» [المصدر السابق] .
وقال أبو الزّناد- رحمه الله تعالى-:
«إنّ السّنن ووجوه الحقّ لتأتي كثيرا على خلاف الرّأي، فما يجد المسلمون بدّا من اتّباعها»[البخاري].
وقال سفيان- رحمه الله تعالى-:
«اسلكوا سبيل الحقّ ولا تستوحشوا من قلّة أهله» [الاعتصام] .
وقال أبو شامة- رحمه الله تعالى-:
«حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحقّ واتّباعه، وإن كان المتمسّك به قليلا والمخالف له كثيرا» ) [إغاثة اللهفان] .
وقال أبو عثمان الحيريّ: «من أمّر السّنّة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}» [الاعتصام] .
وقال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-:
«إنّ الصّحابة كانوا مقتدين بنبيّهم -صلّى الله عليه وسلّم- مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم، وأثنى على متبوعهم محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- وإنّما كان خلقه -صلّى الله عليه وسلّم- القرآن، فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فالقرآن إنّما هو المتبوع على الحقيقة، وجاءت السّنّة مبيّنة له، فالمتّبع للسّنّة متّبع للقرآن. والصّحابة كانوا أولى النّاس بذلك، فكلّ من اقتدى بهم فهو من الفرقة النّاجية الدّاخلة للجنّة بفضل الله، وهو معنى قوله عليه الصّلاة والسّلام «ما أنا عليه وأصحابي» فالكتاب والسّنّة هو الطّريق المستقيم، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشيء عنهما» [الاعتصام] .
وقال أيضًا- رحمه الله تعالى-:
«كلّ صاحب مخالفة من شأنه أن يدعو غيره إليها، ويحضّ سؤّاله بل سواه عليها، إذ التّأسّي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلّة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق الموافقة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين» [الاعتصام] .
وقال ابن القيم رحمه الله- في إغاثة اللهفان ناقلًا عن بعض السّلف- رحمهم الله تعالى جميعا-: «لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتّى يتربّع في الهواء فلا تغترّوا به، حتّى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنّهي وحفظ الحدود».
* ومن فوائد (الاتباع) أنّه:
(1) دليل المحبّة الكاملة ويجلب محبّة الله لعبده.
(2) الاتّباع مجلبة لرحمة الله تعالى- ومغفرته ورضوانه.
(3) الاتّباع دليل الفلاح والهداية وقبول التّوبة.
(4) يجلب التّأييد والنّصر والتّمكين والعزّة والفلاح.
(5) يحصل للعبد به السّعادة وطيب العيش في الدّارين.
(6) الخروج من هوى النّفس وعبادة الذّات.
(7) ضمان السّلامة والأمن من الخطأ لعصمة المتبوع -صلّى الله عليه وسلّم-.
(8) السّلامة من الاعتراض والأمن من الانتقاد.
(9) صاحبه من أئمّة الهدى فيكثر أجره بمقدار ما يكثر تابعه.
(10) الاتّباع فيما تركه -صلّى الله عليه وسلّم- حكمه كحكم اتّباعه فيما فعله -صلّى الله عليه وسلّم-.
(11) الاتّباع لا يكون إلّا للصّالحين المتّقين الّذين يقرؤون القرآن ويعملون به.
(12) لا يجوز اتّباع الكذّابين وطلّاب السّلطة الّذين يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم.
قال أبو موسى:
هذا ما تيسر من نقله عن موضوع (الاتباع) والأمر يحتاج مزيد بسطٍ، ولزيادة الفائدة والتوسع في النقول انظر كتاب : «نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم»، فمنه استللت هذا المقال بتصرف وزيادة.
والله أسأل أن يميتنا ويحيينا على الإسلام والسنة، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله رب العالمين
وكتب:
الفقير إلى عفو ربه الكريم
أبو موسى الأردني
أحمد بن عيَّاش بن موسى الغرايبة
-غفر الله له ولوالديه-
آمين