دشرتنا القديمة...
دشرتنا القديمة....
دشرتنا جميلة جدا...
مجموعة من البيوت الطينية المتراصة على شكل دائري يمثل حصنا منيعا ضد الأعداء تحفّها بساتين النخل من جميع جوانبها كأنها توّيجات زهرة حضنتها الأكمام ، تخترقها جداول من الماء الرقراق دائمة التدفق، لطالما استحممنا فيها ونحن صغار، وكنا نصطاد سرطان الماء فيطبخه بعضنا و يأكله و يستلذ طعمه ، أنا شخصيّا لم أجرب ذلك ولا أعلم السبب إلى الآن وقد شارفت على الخمسين من العمر.
ربّما صاح بعضكم وقال إنّ السّرطان حيوان بحري لا يعيش إلا في المياه المالحة فأقول له: لا تتعجل ، زر دشرتنا أو واحتنا الصغيرة وسوف ترى بأمّ عينيك ما زعمته لك ، لعلّ جداول واحتنا تستمد ماءها من بحار عظيمة في أعماق تجاويف الأرض ، من يدري ؟
لن تندموا أبدا إذا زرتم واحتنا وبالرغم من التغيير الشديد الذي بدل بعض ملامحها على مرّ السنين إلا أنها ما تزال تحتفظ بنظارتها وسحرها.
لم تعد واحتنا مكتظة بالسكان كما كانت من قبل ، الطوفان هو السبب، ليس طوفان الأمطار فلقد مر عليها أكثر من طوفان فما زادها إلا رسوخا في الجمال وفي التاريخ وفي تربتها " السمراء " إنّ الطوفان الذي أقصده هو طوفان الإسمنت والحديد.
يروي الشيوخ الكبار عن واحتنا حكايات عجيبة وأحاديث تذهل لها الألباب.
في صغري كنت أستطيبها كثيرا وكانت تعوّضني وأترابي عن هذا الجهاز المرعب الذي سموه " التلفاز "
وممّا علق بذهني من تلك الحكايات قصة لا أنساها أبدا ما حييت... وسأبقى أرويها وأحدث بها إلى أن تعجز شفتاي عن الكلام ولا تقوى الأصابع على مداعبة القلم.
قال الراوي يا سادة يا كرام... ولا يحلو الكلام إلا بعد الصلاة والسلام على خير الأنام.
فقال جميع الحضور وكنت أصغرهم سنا في ما أذكر:
- عليه الصلاة والسلام.
فصمت الراوي هنيهة متخشعا ثم قال:
زار واحتنا وفد مهيب من معمري " الفرنسيس " برفقة الآباء البيض تحفهم ثلة من عساكر فرنسا الآنذال ، ولأول مرة نحظى من أبناء الرومية الكفرة بالتحيات والبسمات.. وبعض الهدايا التي طرنا لها فرحا شيوخا وفتية وصبايا.
وكان " القائد " دليلهم الهمام إلى أرض الجنان ، وبعد جولات في الواحة و"عرضات " شبعوا فيها من لحس العسل وأكل التمور والبط والإوزات ، جمعونا في الساحة الكبرى التي نسميها " الجماعة " ؛ وتلك تسميتها إلى الآن لا تزال وتكلم " القائد " الذي لا نراه إلا كما نرى هلال رمضان ، والحقيقة أنه في ذلك اليوم أحسن القول وتوزيع البسمات ولولا شدة احمرار وجناته المكتنزة ، وبروز بطنه المكور رغم إحكامه شدّ سرواله العربي بالشاش الأصفر المطرز ؛ لقلنا الرجل مظلوم وهو دائم الصلاة والصوم.. ولكن كما قال الشاعر الحكيم:
مخطىء من ظنّ يوما أنّ للثعلب دينا..
ملخص الكلام حتى لا أطيل عليكم ويصيبكم الملال وترمونني بالاستثقال، فقد قدم لنا " القائد " أحد الآباء البيض ، ولا أكتمكم كان الرجل أشد بياضا من زبدة الماعز الطازجة ولحيته أكثر بياضا منه ، علاه سمت من التواضع والخشوع كأنه أحد الأولياء الصالحين أو أصحاب " الخطوة " المكشوف لهم الحجاب..
وتكلم الرجل ، فأرهفت الأسماع وتطاولت الأعناق واستند الصبية على الركب - إذ كنا جميعا جلوسا ليروا هذا الشيخ العجيب ، ومال أحدهم عليّ وسألني:
ـ عمّي ، من يكون هذا الشيخ الكبير ؟
فزجرته في غلظة وغضب وقلت:
- أسكت ولا تكثر الشغب ، هذا إمام النصارى فلا يأمر إلا بالإشارة.
واستمعنا إلى الخطيب العجيب ذي النطق الغريب ، إذ كان يلوي لسانه بالعربية فيجعل من الراء غينا ومن القاف كافا... حتى كاد الصبية يستلقون على البطون من الضحك ، لولا غمز الأمهات ونظرات الآباء الرادعات.
ومما أذكر من كلام الخطيب الموشح صدره بالصليب:
يا أبنائي أحبّوا فرنسا وطنكم الجديد.. يا أبنائي أحبّوا أباكم الذي في السماوات.. أحبّوا المخلّص الذي مات فداء لأبنائه المخطئين.
هو واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد " الآب والابن وروح القدس ".
إن طلبتم الغذاء أعطاه لكم السيّد المسيح ( وأشار إلى" القائد " بعينيه )، فأمّن الأخير بغباوة على كلامه كثور يهز قرنيه ويزفر بمنخريه إذا رأى العلف الذهبي والعشب السندسي.
ثم أضاف كبير النصارى قائلا:
- وإن أردتم لباسا أو أغطية أو حلوى لأبنائكم.. فاطلبوا كل ذلك من أبيكم الذي في السماوات السيّد المسيح.. يا يسوع المخلص ( وضم كفيه إلى بعضهما وأدناهما من وجهه مشيرا إلى السماء ) فالتفتّ حولي فألفيت الصبية يحاولون تمثيل هذه الحركة بأيديهم كأنها لعبة طريفة ، وبعضهم ينظر إلى بعض كاتمين الضحكات التي تكاد تفجر الصدور.
ثم زاد وقال:
يا سادة يا كرام:
أنتم أبناء السيّد المسيح.. أنتم أحباؤه ، فأحبّوه يخلصكم ، وأطيعوا فرنسا فإنها جاءتكم بالأكل واللباس والحلوى لأطفالكم ثم أشار بيده إلى رأسه وصدره وكتفيه وقال:
- " آمان "
فقلت في نفسي هذه فهمتها هذه من عندنا مسروقة إنها: آمين.
وفي نهاية الجلسة بعدما أفاض الخطباء وتباروا في فنون الكلام.. قام فينا شيخ طاعن في السن بعدما ران الصمت على الجمع الغفير.. فقال:
يا جماعة صلوا على النبيّ محمد.
فقلنا بصوت مدوّ:
- صلى الله عليه وسلم...
ثم انطلقنا متفرقين...
أبو تقي الدّين
دشرتنا جميلة جدا...
مجموعة من البيوت الطينية المتراصة على شكل دائري يمثل حصنا منيعا ضد الأعداء تحفّها بساتين النخل من جميع جوانبها كأنها توّيجات زهرة حضنتها الأكمام ، تخترقها جداول من الماء الرقراق دائمة التدفق، لطالما استحممنا فيها ونحن صغار، وكنا نصطاد سرطان الماء فيطبخه بعضنا و يأكله و يستلذ طعمه ، أنا شخصيّا لم أجرب ذلك ولا أعلم السبب إلى الآن وقد شارفت على الخمسين من العمر.
ربّما صاح بعضكم وقال إنّ السّرطان حيوان بحري لا يعيش إلا في المياه المالحة فأقول له: لا تتعجل ، زر دشرتنا أو واحتنا الصغيرة وسوف ترى بأمّ عينيك ما زعمته لك ، لعلّ جداول واحتنا تستمد ماءها من بحار عظيمة في أعماق تجاويف الأرض ، من يدري ؟
لن تندموا أبدا إذا زرتم واحتنا وبالرغم من التغيير الشديد الذي بدل بعض ملامحها على مرّ السنين إلا أنها ما تزال تحتفظ بنظارتها وسحرها.
لم تعد واحتنا مكتظة بالسكان كما كانت من قبل ، الطوفان هو السبب، ليس طوفان الأمطار فلقد مر عليها أكثر من طوفان فما زادها إلا رسوخا في الجمال وفي التاريخ وفي تربتها " السمراء " إنّ الطوفان الذي أقصده هو طوفان الإسمنت والحديد.
يروي الشيوخ الكبار عن واحتنا حكايات عجيبة وأحاديث تذهل لها الألباب.
في صغري كنت أستطيبها كثيرا وكانت تعوّضني وأترابي عن هذا الجهاز المرعب الذي سموه " التلفاز "
وممّا علق بذهني من تلك الحكايات قصة لا أنساها أبدا ما حييت... وسأبقى أرويها وأحدث بها إلى أن تعجز شفتاي عن الكلام ولا تقوى الأصابع على مداعبة القلم.
قال الراوي يا سادة يا كرام... ولا يحلو الكلام إلا بعد الصلاة والسلام على خير الأنام.
فقال جميع الحضور وكنت أصغرهم سنا في ما أذكر:
- عليه الصلاة والسلام.
فصمت الراوي هنيهة متخشعا ثم قال:
زار واحتنا وفد مهيب من معمري " الفرنسيس " برفقة الآباء البيض تحفهم ثلة من عساكر فرنسا الآنذال ، ولأول مرة نحظى من أبناء الرومية الكفرة بالتحيات والبسمات.. وبعض الهدايا التي طرنا لها فرحا شيوخا وفتية وصبايا.
وكان " القائد " دليلهم الهمام إلى أرض الجنان ، وبعد جولات في الواحة و"عرضات " شبعوا فيها من لحس العسل وأكل التمور والبط والإوزات ، جمعونا في الساحة الكبرى التي نسميها " الجماعة " ؛ وتلك تسميتها إلى الآن لا تزال وتكلم " القائد " الذي لا نراه إلا كما نرى هلال رمضان ، والحقيقة أنه في ذلك اليوم أحسن القول وتوزيع البسمات ولولا شدة احمرار وجناته المكتنزة ، وبروز بطنه المكور رغم إحكامه شدّ سرواله العربي بالشاش الأصفر المطرز ؛ لقلنا الرجل مظلوم وهو دائم الصلاة والصوم.. ولكن كما قال الشاعر الحكيم:
مخطىء من ظنّ يوما أنّ للثعلب دينا..
ملخص الكلام حتى لا أطيل عليكم ويصيبكم الملال وترمونني بالاستثقال، فقد قدم لنا " القائد " أحد الآباء البيض ، ولا أكتمكم كان الرجل أشد بياضا من زبدة الماعز الطازجة ولحيته أكثر بياضا منه ، علاه سمت من التواضع والخشوع كأنه أحد الأولياء الصالحين أو أصحاب " الخطوة " المكشوف لهم الحجاب..
وتكلم الرجل ، فأرهفت الأسماع وتطاولت الأعناق واستند الصبية على الركب - إذ كنا جميعا جلوسا ليروا هذا الشيخ العجيب ، ومال أحدهم عليّ وسألني:
ـ عمّي ، من يكون هذا الشيخ الكبير ؟
فزجرته في غلظة وغضب وقلت:
- أسكت ولا تكثر الشغب ، هذا إمام النصارى فلا يأمر إلا بالإشارة.
واستمعنا إلى الخطيب العجيب ذي النطق الغريب ، إذ كان يلوي لسانه بالعربية فيجعل من الراء غينا ومن القاف كافا... حتى كاد الصبية يستلقون على البطون من الضحك ، لولا غمز الأمهات ونظرات الآباء الرادعات.
ومما أذكر من كلام الخطيب الموشح صدره بالصليب:
يا أبنائي أحبّوا فرنسا وطنكم الجديد.. يا أبنائي أحبّوا أباكم الذي في السماوات.. أحبّوا المخلّص الذي مات فداء لأبنائه المخطئين.
هو واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد " الآب والابن وروح القدس ".
إن طلبتم الغذاء أعطاه لكم السيّد المسيح ( وأشار إلى" القائد " بعينيه )، فأمّن الأخير بغباوة على كلامه كثور يهز قرنيه ويزفر بمنخريه إذا رأى العلف الذهبي والعشب السندسي.
ثم أضاف كبير النصارى قائلا:
- وإن أردتم لباسا أو أغطية أو حلوى لأبنائكم.. فاطلبوا كل ذلك من أبيكم الذي في السماوات السيّد المسيح.. يا يسوع المخلص ( وضم كفيه إلى بعضهما وأدناهما من وجهه مشيرا إلى السماء ) فالتفتّ حولي فألفيت الصبية يحاولون تمثيل هذه الحركة بأيديهم كأنها لعبة طريفة ، وبعضهم ينظر إلى بعض كاتمين الضحكات التي تكاد تفجر الصدور.
ثم زاد وقال:
يا سادة يا كرام:
أنتم أبناء السيّد المسيح.. أنتم أحباؤه ، فأحبّوه يخلصكم ، وأطيعوا فرنسا فإنها جاءتكم بالأكل واللباس والحلوى لأطفالكم ثم أشار بيده إلى رأسه وصدره وكتفيه وقال:
- " آمان "
فقلت في نفسي هذه فهمتها هذه من عندنا مسروقة إنها: آمين.
وفي نهاية الجلسة بعدما أفاض الخطباء وتباروا في فنون الكلام.. قام فينا شيخ طاعن في السن بعدما ران الصمت على الجمع الغفير.. فقال:
يا جماعة صلوا على النبيّ محمد.
فقلنا بصوت مدوّ:
- صلى الله عليه وسلم...
ثم انطلقنا متفرقين...
أبو تقي الدّين