حماد باشا الصوفي
الأمير حماد باشا الصوفي أمير جنوب فلسطين، صاحب العقلية النادرة في السلم والحرب، الذي استطاع توحيد العربان كلّها تحت رايته. أتكلم عنه ليس لأني حفيد الأمير حماد باشا الصوفي، بل سأتكلم عن جدّي لأن العربان كلها تتكلم بمجده وبطولاته إلى يومنا هذا.
هو الشيخ حماد بن محمد بن حمدان بن حميد بن ثابت الصوفي، وهو الباشا الثاني لجنوب فلسطين زمن الأتراك بعد أبيه محمد الصوفي.
تولى منصب أول قائم مقام لمدينة بئر السبع وجنوب فلسطين (والي جنوب فلسطين)، وقائد الفرقة السادسة والعشرين في الجيش العثماني، وكلها من قبائل بئر السبع تحت قيادة الشيخ حماد الصوفي.
جيش الجنوب والبادية الفلسطينية
أمدّت الدولة العثمانية حماد باشا الصوفي بالفرقة السادسة والعشرين من الفيلق العشرين لتعمل تحت قيادته في الحرب العالمية الأولى سنة 1914م.
ولما استعدّ حماد باشا للحرب أبقى الشيخ جدوع عودة الصوفي في فلسطين للقيام بمهام مسؤوليته تجاه القبيلة. واجتمع مع أركان حربه وحدّدا ساعة الانطلاق.. في حملة كبيرة.
وكلما مرّت الحملة بقرية كان رجالها يتبعون الحملة، حتى صاروا خلقًا كثيرًا، وقد جاءوا بأسلحة استولوا عليها من الجيش البريطاني وجاءوا ببعض الأسرى السودانيين إلى فلسطين.
كان حماد باشا قائد الحملة التي ذهبت إلى القناة لضرب القوات الإنجليزية الغازية وكان قوام تلك الحملة 2500 فارس من البدو. وقال 'بدّيع' (شاعر) من الملالحة حين رأى الحملة متجهة من النقب إلى السويس:
عمري كله ما بكيت... بضحك على الناس الضعوفي
بكـْوني الخلق الكثيرة... مثل الجراد الزحوفي
قبـْل بيهم على العريش... قايدهم حماد الصوفي
وحّّدت هذه الحربُ قبائلَ فلسطين عندما جاء الخطر الأكبر إلى فلسطين. توحّد البدو لمواجهة الإنجليز ونسوا حروبهم القديمة، وتوجّهوا لمحاربة عدوهم الأكبر الإنجليز.
خرجت أربعُ فرق من البدو، وهم فرقة الترابين وشيوخها: حماد الصوفي، سليم الزريعي، سليمان أبو ستة، علي أبو عويلي، عرار الوحيدي، حماد أبو شباب، جميعان بن جرمي، عبد ربه أبو عيادة.
الفرقة الثانية التياها ومن شيوخها:
حسن الهزيل
سلامة أبو شنار
حسن أبو عبدون
إبراهيم أبو رقيق
عبد الكريم الصانع
سالم أبو ربيعة
ذياب العطاونة
الفرقة الثالثة العزازمة ومن شيوخها:
مسلم بن سعيد
سلمان أبو جخيدم
فريج بن حمد
مسلم أبو خضيرة
الفرقة الرابعة الجبارات، شيوخها:
مسعود الوحيدي
حرب الدقس
نمر أبو العدوس
تجمّعتِ الفرقةُ الأولى في ضفاف الشلالة والثانية حول مقام أبو هريرة والثالثة في الخلصة والرابعة بالقرب من وادي الحسي، على أن تلتقي الفرق الأربع في خانيونس.
وهناك عند اجتماع الفرق، عُهد بقيادة الجيش كله إلى حماد باشا الصوفي شيخ الترابين وشيخ مشايخ العربان.
سار الجيش حتى وصل العريش ومن العريش إلى المزار فبئر الحرب، وفي قطيّة كانت الواقعة الأولى في 15/ تشرين الثاني سنة 1914.
اصطدم الجيش بكتيبتين من الجيش الإنجليزي غالبيتهم من الهنود والسودانيين، وانتصر البدو في هذه المعركة. فقد دمّر الجيشُ البدوي كتيبتين في الجيش الإنجليزي كان معظم جنودهما من الهنود، وعبر الجيش قناةَ السويس ووصل إلى حدود محافظة الشرقية. وبدو سيناء يقولون مثل في هذه الوقعة 'حماد دقّ أبواب مصر'.
عندما اصطدم حماد بالإنجليز في منطقة الشرقية تفوّق الجيش الإنجليزي لوجود المدفعية بحوزته، فأمر الشيخ حماد الجيش بالتفرّق والتجمّع في منطقة حدّدها ليخرج بأقلّ الخسائر. وبالفعل تجمعوا وقال لهم: 'أخاف أن يحاصرنا الجيش الإنجليزي عن طريق القناة بالبوارج البحرية فيقضون علينا'، وأشار أن يعبر جيشُه قناة السويس إلى سيناء ويرسل في طلب المدد من الأتراك، وبالفعل حدث هذا، فبعد عبورهم وجدوا البوارج الإنجليزية في القناة ثم انسحبوا بعد أن علموا بعبور جيش البادية إلى سيناء، وهنا قال حماد باشا إن 'البوارج الإنجليزية انسحبت ونحن الآن في القنطرة، فإن رست بوارجهم في بئر العبد فلن تقوم لنا قائمة، والحلّ أن نذهب إلى قلعة العريش ونحتمي بها ونكون بقرب المدد الذي سيأتي من الأتراك، وإن حاصرَنا الإنجليز هناك فسيكون لنا خط رجعة وسنحتفظ بقوتنا'، وبالفعل كان توقعه في محلّه، فبعد عبورهم بئر العبد رست البوارج الإنجليزية هناك، وفي النهاية وصلوا إلى قلعة العريش واحتموا بها. وجاء الرسول الذي أرسله إلى الأتراك وخيّب ظنهم عندما رفض الأتراك مدّهم بأسلحة ثقيلة خوفًا من أن يهزموا الإنجليز ثم يحاربوهم؛ وكانت هذه من أكبر أخطاء الأتراك؛ وما حدث يدلّ على عقلية حماد باشا الصوفي، بأنها عقلية حربية فذة. وعلى إثر تلك الحادثة دمرت المدفعية الإنجليزية مدينه العريش سنة 1914 بحثًا عن حماد باشا لقتله انتقامًا لمقتل جنود الإنجليز.
يتنافسون من يُعدَم أولا!!
كان الشيخ حماد شيخ مشايخ بئر السبع، ليس على قبيلة الترابين فحسب بل على غيرها. أرسى دعائم النظام العشائري في محاكم وأمور عشائرية أخرى.
وفي عهد حماد باشا عين الشيخ حميد الصوفي (أبو عيدة) شيخًا للترابين وأعفاه من منصبه بعد ذلك وعيّن الشيخ جدوع عودة الصوفي.
بعد ذلك قام الأتراك بخديعة للقضاء على حماد باشا الصوفي وعلى الشيخ صقر بن دهشان أبو ستة وفاعور الوحيدي، ولهؤلاء الأبطال قصة جميلة. فقد أرادت الدولة العثمانية إعدامهم، وعندما حان موعد الإعدام بعد اعتقال دام 14 عامًا وجد السلطان الثلاثة يتسابقون، كلّ واحدٍ منهم يريد أن يُعدم قبل الآخر، فاندهش السلطان
وفكّ أسرهم.
وهناك قصة زادت من اندهاش السلطان منهم حيث قدّم لهم الـ'يرغول' لشرب الدخان، وعندما كان يضع الخادم الجمر وقعت جمرة على قدم الشيخ فاعور الوحيدي وكان يلبس حذاء فرسان، فنظر السلطان وإذا بالبساط الذي تحت أقدامهم يحترق، فأمر السلطان بإطفاء النار، ونظر إلى رِجل الشيخ فاعور الوحيدي وإذا بها مخرومة من الجهتين من الجمرة، فقال السلطان لفاعور: إن قدمك تحترق! فقال فاعور: يا سلطان عبد الحميد هذه شريرة، يعني شي بسيط، فاندهش السلطان منهم وقال: هؤلاء الذين أستعين بهم في حربي ضد الإنجليز. واستعان بهم السلطان في حربه ضد الإنجليز وأثبتوا أن دمائهم رخيصة من أجل الإسلام والعروبة.
توفي حماد باشا عام 1923. ولكن هناك بعض النقاط التي أريد توثيقها: بعض الذين كتبوا هنا عن حماد باشا تطرقوا إلى موضوع اعتقاله في تركيا، وذكر كلُّ واحد أسماء تختلف من مقال إلى آخر. ولذلك أوضّح وأقول إن كتابتكم صحيحة، وإن هؤلاء الشيوخ اعتقلوا مع جدّي لكن أود أن أبين أن جدي اعتقل مرتين وليس مرة واحدة ومن هنا أتى الخلط.
اعتُقل في المرة الأولى سبع سنين وكان معه كل من رأت فيه الدولة العثمانية خطرًا على دولتها، بسب قوتهم والتفاف الناس من حولهم لجرأتهم، فقد حاول الأتراك أن يقضوا على الترابين لأن العزازمة تظلّموا للباب العالي في تركيا من الترابين وأتى الأتراك لنجدة العزازمة إلا أن الترابين انتصروا على الأتراك في منطقة قوز النصر، الذي سمي بذلك لأن الترابين انتصروا على العزازمة والأتراك ودمروا جيش الأتراك.
بعد ذلك لجأ الأتراك لخديعة للقضاء على حماد باشا الصوفي وكلٍّ من الشيخ صقر بن دهشان أبو ستة والشيخ جمعان بن جرمي الذي تنازل عن مشيخة عشيرة النبعات لابن أخته الشيخ مصلح بن جرمي في ذلك الوقت وأصبح من بعدها حسيب قبيلة الترابين، والشيخ حسين أبو شباب والشيخ جدوع الصوفي والشيخ فاعور الوحيدي والشيخ موسى أبو جليدان، بأن استدعاهم السلطان لزيارة تركيا، وهناك قبض الأتراك على الباشا ورفاقه إلا أن الترابين وأبناء فلسطين قاموا بتمرّد في أرجاء فلسطين من أجل الضغط على تركيا للإفراج عن الشيوخ. وبعد سبع سنوات من الاعتقال والتمرّد أفرج السلطان عن الباشا ورفاقه.
بعد خروجهم من السجن أراد حماد باشا أن يقوم بطرد الأتراك من فلسطين وتكوين أمارة في فلسطين حتى سيناء حتى حدود الشرقية بعد القناة. كان مساعداه في تنفيد مخططه كلٌّ من الشيخ فاعور الوحيدي والشيخ صقر أبو ستة. وعندما وصلت معلوماتٌ إلى السلطان غدر بهم السلطان فبعث لهم بموافقة على تكوين أمارة واستدعاهم ثانيةً إلى تركيا فذهب الثلاثة وقام السلطان باعتقالهم؛ وعندما علم الترابين بذلك لم يبقَ أي جندي تركي في ديرة بئر السبع والنقب. وكان نائب حماد باشا الصوفي في غيابه الشيخ جدوع الصوفي الذي استطاع صفّ الصفوف وطرد الجنود الأتراك انتقامًا لما فعله السلطان. وبعد اعتقال دام أربعة عشر سنة أراد السلطان إعدام الباشا ورفاقه، ثم حصلت القصة التي أوردتُها سابقاً، وقام السلطان عبد الحميد بإصدار فرمان عثماني موجود إلى يومنا هذا ومكتوب باللغة العثمانية، بتعيين حماد باشا بن محمد بن حمدان الصوفي أميرًا لجنوب فلسطين.
بعد انهزام الدولة العثمانية وغياب شمسها جاء قادة العثمانيين إلى حماد باشا يريدون أن يحملوه معهم، فأدوا التحية له في مراسم معروفة كلما زاروه... وطلبوا منه أن يتجهز للرحيل، فقال لهم كلمته المشهورة: 'هذي بلادي مغطس راسي، ما بخليها وربعي حولاي، نموت مع بعضنا ولا يقولوا الصوفي هجّ مع العثمانيين'... أدوا له التحية وودّعوه معجبين به .
www.trabeen.net*
تقييم:
3
0