أضواء من بعيد
رساله يكتبها السيد قطب لأخته قبل إعدامه
أختي الحبيبة.. هذه الخواطر مهداة إليك..
إن فكرة الموت ما تزال تخيَّل لك، فتتصورينه في كل مكان، ووراء كل شيء، وتحسبينه قوةً طاغيةً تظل الحياة والأحياء، وترين الحياة بجانبه ضئيلةً واجفةً مذعورةً.
مدّ الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي!.. : كل شيء إلى نماء وتدفق وازدهار.. الأمهات تحمل وتضع.. الناس والحيوان سواء.. الطيور والأسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن أحياء وحياة.. الأرض تتفجَّر بالنبت المتفتح عن أزهار وثمار.. السماء تتدفق بالمطر، والبحار تعج بالأمواج.. كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد!
بين الحين والحين يندفع الموت، فينهش نهشةً ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!.. والحياة ماضية في طريقها، حيَّة متدفِّقة فوَّارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه!..
لقد تصرخ مرةً من الألم، حين ينهش الموت من جسمها نهشةً، ولكنَّ الجرح سرعان ما يندمل، وصرخة الألم سرعان ما تستحيل مراحًا.. ويندفع الناس والحيوان، الطير والأسماك، الدود والحشرات، العشب والأشجار، تغمر وجه الأرض بالحياة والأحياء!.. والموت قابع هنالك ينهش نهشةً ويمضي.. أو يتسقَّط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!!.
الشمس تطلع، والشمس تغرب، والأرض من حولها تدور، والحياة تنبثق من هنا ومن هناك.. كل شيء إلى نماء.. نماء في العدد والنوع، نماء في الكم والكيف.. لو كان الموت يصنع شيئًا لوقف مدّ الحياة!.. ولكنه قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة..!.
من قوة الله الحي.. تنبثق الحياة وتنداح!!
2
عندما نعيش لذواتنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرةً ضئيلةً، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود! أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة؛ فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتدُّ بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض!..
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقةً لا وهْمًا، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا، وليست الحياة بعدد السنين، ولكنها بعداد المشاعر، وما يسميه "الواقعيون" في هذه الحالة "وهمًا" هو في "الواقع" "حقيقة" أصح من كل حقائقهم؛ لأن الحياة ليست شيئًا آخر غير شعور الإنسان بالحياة.. جرد أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحسَّ الإنسان شعورًا مضاعفًا بحياته، فقد عاش حياةً مضاعفةً فعلاً.
يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال!.. إننا نعيش لأنفسنا حياةً مضاعفةً حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!
3
بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر؛ إن الأولى ترتفع في الفضاء سريعًا، ولكن جذورها في التربة قريبة، حتى لتَحجِب عن شجرة الخير النورَ والهواءَ، ولكن شجرة الخير تظل في نموها البطيء؛ لأن عمق جذورها في التربة يعوِّضُها عن الدفء والهواء..
مع أننا حين نتجاوز المظهر المزوَّر البراق لشجرة الشرّ، ونفحص عن قوتها الحقيقة وصلابتها، تبدو لنا واهنةً هشَّةً نافشةً في غير صلابة حقيقية!.. على حين تصبر شجرة الخير على البلاء، وتتماسك للعاصفة، وتظل في نموِّها الهادئ البطيء، لا تحفل بما ترجُمُها به شجرةَ الشرّ من أقذاء وأشواك!!
4
عندما نلمس الجانب الطيِّب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرًا كثيرًا قد لا تراه العيون أول وهلة! لقد جربت ذلك.. جربته مع الكثيرين.. حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور.. شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم.. شيء من الود الحقيقي لهم.. شيء من العناية- غير المتصنِّعة- باهتماماتهم وهمومهم، ثم ينكشف لك النبع الخير في نفوسهم، حين يمنحونك حبَّهم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، متى أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص.
5
عندما تنمو في نفوسنا بذورُ الحب والعطف والخير، نُعفِي أنفسَنا من أعباء ومشقات كثيرة.. إننا لن نكون في حاجة إلى أن نتملَّق الآخرين؛ لأننا سنكون يومئذٍ صادقين مخلصين إذ نزجي إليهم الثناء، إننا سنكشف في نفوسهم عن كنوز من الخير، وسنجد لهم مزايا طيبة نثني عليها حين نثني ونحن صادقون؛ ولن يعدم إنسان ناحية خيرة أو مزية حسنة تؤهله لكلمة طيبة.. ولكننا لا نطلع عليها ولا نراها إلا حين تنمو في نفوسنا بذرة الحب!!
كذلك لن نكون في حاجة لأن نحمِّل أنفسنا مؤونة التضايق منهم، ولا حتى مؤونة الصبر على أخطائهم وحماقاتهم؛ لأننا سنعطف على مواضع الضعف والنقص، ولن نفتش عليها؛ لنراها يوم تنمو في نفوسنا بذرة العطف! وبطبيعة الحال لن نجشِّم أنفسنا عناء الحقد عليهم، أو عبء الحذر منهم، فإنما نحقد على الآخرين؛ لأن بذرة الخير لم تنمُ في نفوسنا نموًّا كافيًا، ونتخوف منهم لأن عنصر الثقة في الخير ينقصنا!!
كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الآخرين عطفَنا وحبَّنا وثقتَنا، يوم تنمو في نفوسنا بذرةُ الحب والعطف والخير!..
6
حين نعتزل الناس لأننا نحسُّ بأننا أطهر منهم روحًا، أو أطيب منهم قلبًا، أو أرحبُ منهم نفسًا أو أزكى منهم عقلاً.. لا نكون قد صنعنا شيئًا كبيرًا، لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة!.
7
عندما نصل إلى مستوى معيَّن من القدرة نحسُّ أنه لا يعيبُنا أن نطلب مساعدة الآخرين لنا، حتى أولئك الذين هم أقلُّ منا مقدرةً! ولا يغض من قيمتنا أن تكون معونةُ الآخرين لنا قد ساعدتْنا على الوصول إلى ما نحن فيه..
عندما نصل إلى مستوى معين من القدرة، سنستقبل عون الآخرين لنا بروح الشكر والفرح.. الشكر لما يقدَّم لنا من عون.. والفرح بأن هناك مَن يؤمِن بما نؤمِن به نحن.. فيشاركنا الجهد والتبعة.. إن الفرح بالتجاوب الشعوري هو الفرح المقدس الطليق!..
8
إننا نحن إن "نحتكر" أفكارنا وعقائدنا، ونغضب حين ينتحلُها الآخرون لأنفسهم، ونجتهد في توكيد نسبتها إلينا، وعدوان الآخرين عليها! إننا إنما نصنع هذا كله، حين لا يكون إيماننا بهذه الأفكار والعقائد كبيرًا، حين لا تكون منبثقةً من أعماقنا، كما لو كانت بغير إرادة منا، حين لا تكون هي ذاتها أحب إلينا من ذواتنا!
"التجَّار" وحدهم هم الذين يحرصون على "العلاقات التجارية" لبضائعهم كي لا يستغلها الآخرون، ويسلبوهم حقهم من الربح، أما المفكرون وأصحاب العقائد فكل سعادتهم في أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم، ويؤمنوا بها إلى حدِّ أن ينسبوها لأنفسهم لا إلى أصحابها الأولين!.
9
الفرق بعيد.. جدًّا بعيد.. بين أن نفهَمَ الحقائق، وأن ندركَ الحقائق، إن الأولى: العلم.. والثانية هي: المعرفة!..
في الأولى: نحن نتعامل مع ألفاظٍ ومعانٍ مجردةٍ.. أو مع تجارب ونتائج جزئية..
وفي الثانية: نحن نتعامل مع استجابات حية، ومدركات كلية..
في الأولى: ترد إلينا المعلومات من خارج ذواتنا، ثم تبقى في عقولنا متحيزة متميزة..
وفي الثانية: تنبثق الحقائق من أعماقنا، يجري فيها الدم الذي يجري في عروقنا وأوشاجنا، ويتسق إشعاعها مع نبضنا الذاتي!..
في الأولى: توجد "الخانات" والعناوين: خانة العلم، وتحتها عنواناته، وهي شتى.. خانة الدين وتحتها عنوانات فصوله وأبوابه.. وخانة الفن وتحتها عنوانات منهاجه واتجاهاته!...
وفي الثانية: توجد الطاقة الواحدة، المتصلة بالطاقة الكونية الكبرى.. يوجد الجدول السارب، الواصل إلى النبع الأصيل!..
10
نحن في حاجة ملحَّة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية، أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامع وأديرة!.. ويهبون حياتهم للفرع الذي تخصصوا فيه، لا بشعور التضحية فحسب، بل بشعور اللذة كذلك!.. شعور العابد الذي يهب روحه لإلهه وهو فرحان!..
ولكننا مع هذا يجب أن ندرك أن هؤلاء ليسوا هم الذين يوجهون إلى الحياة، أو يختارون للبشرية الطريق.
هؤلاء الروَّاد همُ الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة، المتعددة المظاهر في: العلم والفن، العقيدة، والعمل، فلا يحقرون واحدًا منها ولا يرفعونه فوق مستواه!..
الصغار وحدهم هم الذين يعتقدون أن هناك تعارضًا بين هذه القوى المتنوعة المظاهر؛ فيحاربون العلم باسم الدين، أو الدين باسم العلم..
ويحتقرون الفن باسم العمل، أو الحيوية الدافعة باسم العقيدة المتصوفة!.. ذلك أنهم يدركون كل قوة من هذه القوى منعزلةً عن مجموعة من القوى الأخرى الصادرة كلها من النبع الواحد، من تلك القوة الكبرى المسيطرة على هذا الوجود!.. ولكن الرواد الكبار يدركون تلك الوحدة؛ لأنهم متصلون بذلك النبع الأصيل، ومنه يستمدون!..
11
الاستسلام المطلق للاعتقاد في الخوارق والقوى المجهولة خطر؛ لأنه يقود إلى الخرافة.. ويحوِّل الحياة إلى وهم كبير!.. ولكن التنكُّر المطلق لهذا الاعتقاد ليس أقلَّ خطرًا؛ لأنه يغلق منافذ المجهول كله، وينكر كل قوة غير منظورة، لا لشيء إلا لأنها قد تكون أكبر من إدراكنا البشري في فترة من فترات حياتنا!
وبذلك يصغر من هذا الوجود، مساحة وطاقة، وقيمة كذلك، ويحده بحدود "المعلوم"، وهو إلى هذه اللحظة حين يقاس إلى عظمة الكون ضئيل.. جدّ ضئيل!..
إن حياة الإنسان على هذه الأرض سلسلة من العجز عن إدراك القوى الكونية، أو سلسلة من القدرة على إدراك هذه القوى، كلما شبَّ عن الطوق وخطا خطوةً إلى الأمام في طريقه الطويل!.
12
من الناس في هذا الزمان من يرى في الاعتراف بعظمة الله المطلقة غضًّا من قيمة الإنسان وإصغارًا لشأنه في الوجود، كأنما الله والإنسان ندَّان يتنافسان على العظمة والقوة في هذا الوجود!.
أنا أحسُّ أنه كلما ازدَدْنا شعورًا بعظمة الله المطلقة زِدْنا نحن أنفسنا عظمةً؛ لأننا من صنع إله عظيم!.
إنهم يعرفون أن مجال عظمتهم إنما هو في هذه الأرض، وبين هؤلاء الناس، فهي لا تصطدم بعظمة الله المطلقة في هذا الوجود.
13
أحيانًا تتخفَّى العبودية في ثياب الحرية، فتبدو انطلاقًا من جميع القيود.. انطلاقًا من العرف والتقاليد.. انطلاقًا من تكاليف الإنسانية في هذا الوجود!.
إنها حرية مقنعة؛ لأنها في حقيقتها خضوع وعبودية للميول الحيوانية، تلك الميول التي قضت البشرية عمرَها الطويل وهي تكافحها لتخلص من قيودها الخانقة إلى جوِّ الحرية الإنسانية الطليقة..
لماذا تخجل الإنسانية من إبداء ضروراتها؟! لأنها تحس بالفطرة أن السموَّ مع هذه الضروريات هو أول مقومات الإنسانية، وأن الانطلاق من قيودها هو الحرية، وأن التغلب على دوافع اللحم والدم وعلى مخاوف الضعف والذل كلاهما سواء في توكيد معنى الإنسانية!.
14
لست ممن يؤمنون بحكاية المبادئ المجرَّدة عن الأشخاص؛ لأنه ما المبدأ بغير عقيدة حارة دافعة؟! وكيف توجد العقيدة الحارَّة الدافعة في غير قلب إنسان؟!
آمِن أنت أولاً بفكرتك.. آمن بها إلى حدِّ الاعتقاد الحارّ! عندئذٍ فقط يؤمن بها الآخرون!! وإلا فستبقَى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة!..
لا حياة لفكرة لم تتقمَّص روحَ إنسانٍ، ولم تصبح كائنًا حيًّا دبَّ على وجه الأرض في صورة بشر!.. كذلك لا وجود لشخص- في هذا المجال- لا تعمر قلبَه فكرةٌ يؤمن بها في حرارة وإخلاص..
كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان! أما الأفكار التي لم تطعم هذا المقدس فقد وُلِدَت ميتةً ولم تدفع بالبشرية شبرًا واحدًا إلى الأمام!.
15
من الصعب عليَّ أن أتصوَّرَ كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة!! إن الغاية النبيلة لا تحيا إلا في قلب نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة؛ بل كيف يهتدي إلى استخدام هذه الوسيلة؟! حين نخوض إلى الشطِّ الممرَّغ ببركة من الوحل، لا بد أن نصل إلى الشطِّ ملوثين.. إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا، وعلى مواضع هذه الأقدام، كذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة.
بل لن يهتدي إلى استخدامها بطبيعته! "الغاية تبرر الوسيلة!؟": تلك هي حكمة الغرب الكبرى!! لأن الغرب يحيا بذهنه، وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات!!
16
بالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف، الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الرضى، الثقة أو الأمل أو الفرح إلى نفوس الآخرين!.
إنها لذةٌ سماويةٌ عجيبةٌ ليست في شيء من هذه الأرض، إنها تجاوب العنصر السماوي الخالص في طبيعتنا، إنها لا تطلب لها جزاءً خارجيًّا، لأن جزاءها كامن فيها!.
هنالك مسألة أخرى يُقحمها بعض الناس في هذه المجال، وليست منه في شيء؛ مسألة اعتراف الآخرين بالجميل!.
لن أحاول إنكار ما في هذا الاعتراف من جمال ذاتي، ولا ما فيه من مسرة عظيمة للواهبين، ولكن هذا كله شيء آخر.
17
لم أعُد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة! لقد أخذت في هذه الحياة كثيرًا، أعني.. لقد أعطيت!!.
أحيانًا تصعب التفرقة بين الأخذ والعطاء؛ لأنهما يعطيان مدلولاً واحدًا في عالم الروح! في كل مرة أعطيت لقد أخذت، لست أعني أن أحدًا قد أعطى لي شيئًا؛ إنما أعني أنني أخذت نفس الذي أعطيت؛ لأن فرحتي بما أعطيت لم تكن أقل من فرحة الذين أخذوا.
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة؛ لقد عملت بقدر ما كنت مستطيعًا أن أعمل! هناك أشياء كثيرة أودُّ أن أعملها لو مُدَّ لي في الحياة، ولكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع؛ إن آخرين سوف يقومون بها.. إنها لن تموت إذا كانت صالحةً للبقاء؛ فأنا مطمئن إلى أن العناية التي تلحظ هذا الوجود لن تدع فكرةً صالحةً تموت..
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة! لقد حاولت أن أكون خيرًا بقدر ما أستطيع.. أما أخطائي وغلطاتي فأنا نادم عليها! إنني أكِلُ أمرها إلى الله، وأرجو رحمته وعفوه.
أما عقابه فلست قلقًا من أجله، فأنا مطمئنٌ إلى عقاب حق، وجزاء عدل، وقد تعوَّدت أن أحتمَّل تبعة أعمالي، خيرًا كانت أو شرًّا.. فليس يسوءُني أن ألقَى جزاءَ ما أخطأت حين يقوم الحساب!!
------------------
* أصل هذا الكتاب رسالة بعث بها سيد (رحمه الله إلى أخته أمينة قطب)، وكانت مجلة (الفكر) التونسية قد نشرته في عددها السادس من السنة الرابعة، مارس 1959م، بعنوان: (أضواء من بعيد).
تقييم:
0
0
أختي الحبيبة.. هذه الخواطر مهداة إليك..
إن فكرة الموت ما تزال تخيَّل لك، فتتصورينه في كل مكان، ووراء كل شيء، وتحسبينه قوةً طاغيةً تظل الحياة والأحياء، وترين الحياة بجانبه ضئيلةً واجفةً مذعورةً.
مدّ الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي!.. : كل شيء إلى نماء وتدفق وازدهار.. الأمهات تحمل وتضع.. الناس والحيوان سواء.. الطيور والأسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن أحياء وحياة.. الأرض تتفجَّر بالنبت المتفتح عن أزهار وثمار.. السماء تتدفق بالمطر، والبحار تعج بالأمواج.. كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد!
بين الحين والحين يندفع الموت، فينهش نهشةً ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!.. والحياة ماضية في طريقها، حيَّة متدفِّقة فوَّارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه!..
لقد تصرخ مرةً من الألم، حين ينهش الموت من جسمها نهشةً، ولكنَّ الجرح سرعان ما يندمل، وصرخة الألم سرعان ما تستحيل مراحًا.. ويندفع الناس والحيوان، الطير والأسماك، الدود والحشرات، العشب والأشجار، تغمر وجه الأرض بالحياة والأحياء!.. والموت قابع هنالك ينهش نهشةً ويمضي.. أو يتسقَّط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!!.
الشمس تطلع، والشمس تغرب، والأرض من حولها تدور، والحياة تنبثق من هنا ومن هناك.. كل شيء إلى نماء.. نماء في العدد والنوع، نماء في الكم والكيف.. لو كان الموت يصنع شيئًا لوقف مدّ الحياة!.. ولكنه قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة..!.
من قوة الله الحي.. تنبثق الحياة وتنداح!!
2
عندما نعيش لذواتنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرةً ضئيلةً، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود! أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة؛ فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتدُّ بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض!..
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقةً لا وهْمًا، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا، وليست الحياة بعدد السنين، ولكنها بعداد المشاعر، وما يسميه "الواقعيون" في هذه الحالة "وهمًا" هو في "الواقع" "حقيقة" أصح من كل حقائقهم؛ لأن الحياة ليست شيئًا آخر غير شعور الإنسان بالحياة.. جرد أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحسَّ الإنسان شعورًا مضاعفًا بحياته، فقد عاش حياةً مضاعفةً فعلاً.
يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال!.. إننا نعيش لأنفسنا حياةً مضاعفةً حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!
3
بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر؛ إن الأولى ترتفع في الفضاء سريعًا، ولكن جذورها في التربة قريبة، حتى لتَحجِب عن شجرة الخير النورَ والهواءَ، ولكن شجرة الخير تظل في نموها البطيء؛ لأن عمق جذورها في التربة يعوِّضُها عن الدفء والهواء..
مع أننا حين نتجاوز المظهر المزوَّر البراق لشجرة الشرّ، ونفحص عن قوتها الحقيقة وصلابتها، تبدو لنا واهنةً هشَّةً نافشةً في غير صلابة حقيقية!.. على حين تصبر شجرة الخير على البلاء، وتتماسك للعاصفة، وتظل في نموِّها الهادئ البطيء، لا تحفل بما ترجُمُها به شجرةَ الشرّ من أقذاء وأشواك!!
4
عندما نلمس الجانب الطيِّب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرًا كثيرًا قد لا تراه العيون أول وهلة! لقد جربت ذلك.. جربته مع الكثيرين.. حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور.. شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم.. شيء من الود الحقيقي لهم.. شيء من العناية- غير المتصنِّعة- باهتماماتهم وهمومهم، ثم ينكشف لك النبع الخير في نفوسهم، حين يمنحونك حبَّهم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، متى أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص.
5
عندما تنمو في نفوسنا بذورُ الحب والعطف والخير، نُعفِي أنفسَنا من أعباء ومشقات كثيرة.. إننا لن نكون في حاجة إلى أن نتملَّق الآخرين؛ لأننا سنكون يومئذٍ صادقين مخلصين إذ نزجي إليهم الثناء، إننا سنكشف في نفوسهم عن كنوز من الخير، وسنجد لهم مزايا طيبة نثني عليها حين نثني ونحن صادقون؛ ولن يعدم إنسان ناحية خيرة أو مزية حسنة تؤهله لكلمة طيبة.. ولكننا لا نطلع عليها ولا نراها إلا حين تنمو في نفوسنا بذرة الحب!!
كذلك لن نكون في حاجة لأن نحمِّل أنفسنا مؤونة التضايق منهم، ولا حتى مؤونة الصبر على أخطائهم وحماقاتهم؛ لأننا سنعطف على مواضع الضعف والنقص، ولن نفتش عليها؛ لنراها يوم تنمو في نفوسنا بذرة العطف! وبطبيعة الحال لن نجشِّم أنفسنا عناء الحقد عليهم، أو عبء الحذر منهم، فإنما نحقد على الآخرين؛ لأن بذرة الخير لم تنمُ في نفوسنا نموًّا كافيًا، ونتخوف منهم لأن عنصر الثقة في الخير ينقصنا!!
كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الآخرين عطفَنا وحبَّنا وثقتَنا، يوم تنمو في نفوسنا بذرةُ الحب والعطف والخير!..
6
حين نعتزل الناس لأننا نحسُّ بأننا أطهر منهم روحًا، أو أطيب منهم قلبًا، أو أرحبُ منهم نفسًا أو أزكى منهم عقلاً.. لا نكون قد صنعنا شيئًا كبيرًا، لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة!.
7
عندما نصل إلى مستوى معيَّن من القدرة نحسُّ أنه لا يعيبُنا أن نطلب مساعدة الآخرين لنا، حتى أولئك الذين هم أقلُّ منا مقدرةً! ولا يغض من قيمتنا أن تكون معونةُ الآخرين لنا قد ساعدتْنا على الوصول إلى ما نحن فيه..
عندما نصل إلى مستوى معين من القدرة، سنستقبل عون الآخرين لنا بروح الشكر والفرح.. الشكر لما يقدَّم لنا من عون.. والفرح بأن هناك مَن يؤمِن بما نؤمِن به نحن.. فيشاركنا الجهد والتبعة.. إن الفرح بالتجاوب الشعوري هو الفرح المقدس الطليق!..
8
إننا نحن إن "نحتكر" أفكارنا وعقائدنا، ونغضب حين ينتحلُها الآخرون لأنفسهم، ونجتهد في توكيد نسبتها إلينا، وعدوان الآخرين عليها! إننا إنما نصنع هذا كله، حين لا يكون إيماننا بهذه الأفكار والعقائد كبيرًا، حين لا تكون منبثقةً من أعماقنا، كما لو كانت بغير إرادة منا، حين لا تكون هي ذاتها أحب إلينا من ذواتنا!
"التجَّار" وحدهم هم الذين يحرصون على "العلاقات التجارية" لبضائعهم كي لا يستغلها الآخرون، ويسلبوهم حقهم من الربح، أما المفكرون وأصحاب العقائد فكل سعادتهم في أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم، ويؤمنوا بها إلى حدِّ أن ينسبوها لأنفسهم لا إلى أصحابها الأولين!.
9
الفرق بعيد.. جدًّا بعيد.. بين أن نفهَمَ الحقائق، وأن ندركَ الحقائق، إن الأولى: العلم.. والثانية هي: المعرفة!..
في الأولى: نحن نتعامل مع ألفاظٍ ومعانٍ مجردةٍ.. أو مع تجارب ونتائج جزئية..
وفي الثانية: نحن نتعامل مع استجابات حية، ومدركات كلية..
في الأولى: ترد إلينا المعلومات من خارج ذواتنا، ثم تبقى في عقولنا متحيزة متميزة..
وفي الثانية: تنبثق الحقائق من أعماقنا، يجري فيها الدم الذي يجري في عروقنا وأوشاجنا، ويتسق إشعاعها مع نبضنا الذاتي!..
في الأولى: توجد "الخانات" والعناوين: خانة العلم، وتحتها عنواناته، وهي شتى.. خانة الدين وتحتها عنوانات فصوله وأبوابه.. وخانة الفن وتحتها عنوانات منهاجه واتجاهاته!...
وفي الثانية: توجد الطاقة الواحدة، المتصلة بالطاقة الكونية الكبرى.. يوجد الجدول السارب، الواصل إلى النبع الأصيل!..
10
نحن في حاجة ملحَّة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية، أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامع وأديرة!.. ويهبون حياتهم للفرع الذي تخصصوا فيه، لا بشعور التضحية فحسب، بل بشعور اللذة كذلك!.. شعور العابد الذي يهب روحه لإلهه وهو فرحان!..
ولكننا مع هذا يجب أن ندرك أن هؤلاء ليسوا هم الذين يوجهون إلى الحياة، أو يختارون للبشرية الطريق.
هؤلاء الروَّاد همُ الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة، المتعددة المظاهر في: العلم والفن، العقيدة، والعمل، فلا يحقرون واحدًا منها ولا يرفعونه فوق مستواه!..
الصغار وحدهم هم الذين يعتقدون أن هناك تعارضًا بين هذه القوى المتنوعة المظاهر؛ فيحاربون العلم باسم الدين، أو الدين باسم العلم..
ويحتقرون الفن باسم العمل، أو الحيوية الدافعة باسم العقيدة المتصوفة!.. ذلك أنهم يدركون كل قوة من هذه القوى منعزلةً عن مجموعة من القوى الأخرى الصادرة كلها من النبع الواحد، من تلك القوة الكبرى المسيطرة على هذا الوجود!.. ولكن الرواد الكبار يدركون تلك الوحدة؛ لأنهم متصلون بذلك النبع الأصيل، ومنه يستمدون!..
11
الاستسلام المطلق للاعتقاد في الخوارق والقوى المجهولة خطر؛ لأنه يقود إلى الخرافة.. ويحوِّل الحياة إلى وهم كبير!.. ولكن التنكُّر المطلق لهذا الاعتقاد ليس أقلَّ خطرًا؛ لأنه يغلق منافذ المجهول كله، وينكر كل قوة غير منظورة، لا لشيء إلا لأنها قد تكون أكبر من إدراكنا البشري في فترة من فترات حياتنا!
وبذلك يصغر من هذا الوجود، مساحة وطاقة، وقيمة كذلك، ويحده بحدود "المعلوم"، وهو إلى هذه اللحظة حين يقاس إلى عظمة الكون ضئيل.. جدّ ضئيل!..
إن حياة الإنسان على هذه الأرض سلسلة من العجز عن إدراك القوى الكونية، أو سلسلة من القدرة على إدراك هذه القوى، كلما شبَّ عن الطوق وخطا خطوةً إلى الأمام في طريقه الطويل!.
12
من الناس في هذا الزمان من يرى في الاعتراف بعظمة الله المطلقة غضًّا من قيمة الإنسان وإصغارًا لشأنه في الوجود، كأنما الله والإنسان ندَّان يتنافسان على العظمة والقوة في هذا الوجود!.
أنا أحسُّ أنه كلما ازدَدْنا شعورًا بعظمة الله المطلقة زِدْنا نحن أنفسنا عظمةً؛ لأننا من صنع إله عظيم!.
إنهم يعرفون أن مجال عظمتهم إنما هو في هذه الأرض، وبين هؤلاء الناس، فهي لا تصطدم بعظمة الله المطلقة في هذا الوجود.
13
أحيانًا تتخفَّى العبودية في ثياب الحرية، فتبدو انطلاقًا من جميع القيود.. انطلاقًا من العرف والتقاليد.. انطلاقًا من تكاليف الإنسانية في هذا الوجود!.
إنها حرية مقنعة؛ لأنها في حقيقتها خضوع وعبودية للميول الحيوانية، تلك الميول التي قضت البشرية عمرَها الطويل وهي تكافحها لتخلص من قيودها الخانقة إلى جوِّ الحرية الإنسانية الطليقة..
لماذا تخجل الإنسانية من إبداء ضروراتها؟! لأنها تحس بالفطرة أن السموَّ مع هذه الضروريات هو أول مقومات الإنسانية، وأن الانطلاق من قيودها هو الحرية، وأن التغلب على دوافع اللحم والدم وعلى مخاوف الضعف والذل كلاهما سواء في توكيد معنى الإنسانية!.
14
لست ممن يؤمنون بحكاية المبادئ المجرَّدة عن الأشخاص؛ لأنه ما المبدأ بغير عقيدة حارة دافعة؟! وكيف توجد العقيدة الحارَّة الدافعة في غير قلب إنسان؟!
آمِن أنت أولاً بفكرتك.. آمن بها إلى حدِّ الاعتقاد الحارّ! عندئذٍ فقط يؤمن بها الآخرون!! وإلا فستبقَى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة!..
لا حياة لفكرة لم تتقمَّص روحَ إنسانٍ، ولم تصبح كائنًا حيًّا دبَّ على وجه الأرض في صورة بشر!.. كذلك لا وجود لشخص- في هذا المجال- لا تعمر قلبَه فكرةٌ يؤمن بها في حرارة وإخلاص..
كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان! أما الأفكار التي لم تطعم هذا المقدس فقد وُلِدَت ميتةً ولم تدفع بالبشرية شبرًا واحدًا إلى الأمام!.
15
من الصعب عليَّ أن أتصوَّرَ كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة!! إن الغاية النبيلة لا تحيا إلا في قلب نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة؛ بل كيف يهتدي إلى استخدام هذه الوسيلة؟! حين نخوض إلى الشطِّ الممرَّغ ببركة من الوحل، لا بد أن نصل إلى الشطِّ ملوثين.. إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا، وعلى مواضع هذه الأقدام، كذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة.
بل لن يهتدي إلى استخدامها بطبيعته! "الغاية تبرر الوسيلة!؟": تلك هي حكمة الغرب الكبرى!! لأن الغرب يحيا بذهنه، وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات!!
16
بالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف، الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الرضى، الثقة أو الأمل أو الفرح إلى نفوس الآخرين!.
إنها لذةٌ سماويةٌ عجيبةٌ ليست في شيء من هذه الأرض، إنها تجاوب العنصر السماوي الخالص في طبيعتنا، إنها لا تطلب لها جزاءً خارجيًّا، لأن جزاءها كامن فيها!.
هنالك مسألة أخرى يُقحمها بعض الناس في هذه المجال، وليست منه في شيء؛ مسألة اعتراف الآخرين بالجميل!.
لن أحاول إنكار ما في هذا الاعتراف من جمال ذاتي، ولا ما فيه من مسرة عظيمة للواهبين، ولكن هذا كله شيء آخر.
17
لم أعُد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة! لقد أخذت في هذه الحياة كثيرًا، أعني.. لقد أعطيت!!.
أحيانًا تصعب التفرقة بين الأخذ والعطاء؛ لأنهما يعطيان مدلولاً واحدًا في عالم الروح! في كل مرة أعطيت لقد أخذت، لست أعني أن أحدًا قد أعطى لي شيئًا؛ إنما أعني أنني أخذت نفس الذي أعطيت؛ لأن فرحتي بما أعطيت لم تكن أقل من فرحة الذين أخذوا.
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة؛ لقد عملت بقدر ما كنت مستطيعًا أن أعمل! هناك أشياء كثيرة أودُّ أن أعملها لو مُدَّ لي في الحياة، ولكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع؛ إن آخرين سوف يقومون بها.. إنها لن تموت إذا كانت صالحةً للبقاء؛ فأنا مطمئن إلى أن العناية التي تلحظ هذا الوجود لن تدع فكرةً صالحةً تموت..
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة! لقد حاولت أن أكون خيرًا بقدر ما أستطيع.. أما أخطائي وغلطاتي فأنا نادم عليها! إنني أكِلُ أمرها إلى الله، وأرجو رحمته وعفوه.
أما عقابه فلست قلقًا من أجله، فأنا مطمئنٌ إلى عقاب حق، وجزاء عدل، وقد تعوَّدت أن أحتمَّل تبعة أعمالي، خيرًا كانت أو شرًّا.. فليس يسوءُني أن ألقَى جزاءَ ما أخطأت حين يقوم الحساب!!
------------------
* أصل هذا الكتاب رسالة بعث بها سيد (رحمه الله إلى أخته أمينة قطب)، وكانت مجلة (الفكر) التونسية قد نشرته في عددها السادس من السنة الرابعة، مارس 1959م، بعنوان: (أضواء من بعيد).
تقييم:
0
0